الطريق إلى الحوار

نحو كائن أرضيٍّ وكونيٍّ بآنٍ واحد

 

مصطفى علوش

 

المثالية ليست قضية "غيبية"، بمعنى غياب العقل عن نطاق المعرفة، أي انعدام عقلانية المفاهيم والقيم في جوهرها. لذا تُعَد المثاليةُ تعديلاً للواقع الاجتماعي والإنساني وتطويرًا له إلى المستوى الذي يصبح فيه الواقعُ كما يجب أن يكون؛ فالمثالية تشير إلى تطوير الوجود إلى وجوب. هكذا ينظر الفيلسوف ندره اليازجي إلى المثالية. وهو بهذا المعنى يقول: "تهدف المثالية إلى رفع الواقع إلى ما يجب أن يكون"، أي إلى جعله "مثاليًّا بامتياز".

وحين يشرح المفاهيم والقضايا الفلسفية في المجلد السادس من "أعماله الكاملة"، الذي يحمل عنوان الطريق إلى الحوار[1]، فإنه يأخذ من التراث الفلسفي والفكري الإنساني ما يدعم رؤيته الفكرية وطروحاته. وهذه المناقشات في قضايا "التاريخ"، "الخير والشر"، "المثالية"، "الحضارة والمصير"، "الثقافة"، "الفقر والغنى"، "التقنية والعدوانية"، "مأساة الإنسان"، "محيي الدين بن عربي"، "علم النفس التكاملي"، إلخ، تأخذ طريقَها إلى الحوار في هذا المجلد لتخدم الرؤى الفكرية الخاصة به.

والمتابع لما يكتبه اليازجي سيلاحظ رؤية واسعة للإنسان، بعيدًا عن العنف والحروب والدماء والصراعات. يقول الباحث داعمًا رؤيته إلى الإنسان:

عندما أتعمق في تأمل وجودي وفهمه ووعي كياني، أعلم أنني كائن تتمثل فيه الحياة الطبيعية والكونية بأسمى طاقاتها، وأدرك أنني كائن أرضي وكوني في آنٍ واحد. وعندما أتأمل الوجود الذي أحياه وأعاين العمق المستتر في كياني، أعلم أن الحياة تستحق الجهد، وأن المعرفة هي السبيل الوحيد للولوج إلى محراب الحقيقة. وعندما أعلم أنني غاية بذاتي ولست مجرد وسيلة، أفهم الغايات العادية والبسيطة التي تسعى إلى تحقيقها النفوسُ المحتجَزة ضمن قوقعة الأنا، والتي لا تقلِّل من أهمية وجودي ولا تلقي بي في أحضان الإحساس بالنقص وعدم الشعور بالقيمة والمعنى، في حال عدم حصولي عليها. وعندما أعلم أن الطبيعة والكون بذلا طاقة كبرى ليبدعا وجودي، أعلم، في الوقت ذاته، أنني الغاية العظمى التي سعى الكونُ إلى تحقيقها، وبالتالي أعتبر نفسي غاية الغايات.

صرف ندره اليازجي الكثير من السنوات في متابعة آخر تطورات الفيزياء الحديثة ومناهج علم النفس. ولعله يأخذ من تلك العلوم بما ينسجم وبناءه الفكري، الروحي، ويطعِّم تلك الطروحات بطروحات الحكمة الشرقية، الصينية واليابانية والعربية، ويجهد بفكره ليلحظ القَرابات الفكرية بين جوهر تلك الحكمة ومنجزات الفيزياء الحديثة.

وأظن أن المستقبل سيحرض الكثير من متابعي الفلسفة على مناقشة أفكار اليازجي، لأن أهمية رؤاه تنبع من ذلك التوق المعرفي الكبير إلى بناء عالم تسوده المحبة والرحمة، وتتلاقح في طروحاته الأبعادُ الأخلاقية مع الأبعاد الإنسانية، لتشكِّل نواةً لرؤية إنسانية واسعة الطيف، غايتُها الإنسان، سعادته وسلامته ومستقبله.

وإذا قاربنا بعض القضايا والمفاهيم في هذا الكتاب، نجد أن رؤيته للتاريخ قد ميزت بين "التأريخ" و"التاريخ": في التأريخ historiography، نجد المؤرِّخ العادي الذي يهتم بالأشخاص، بحيث إن الجماعة تتقلَّص أو تُختزَل لصالح الفرد الحاكم أو أيِّ فرد في شتى المجالات. بينما في التاريخ history، نجد المؤرِّخ العاقل، العارف، الذي يحلِّل الأحداث، لكي ينتقل إلى مرحلة أسمى من الوعي يطبق فيها المبادئ العقلية والكونية والاجتماعية والإلهية. "التأريخ" هو العقيدة المهيمنة على عقول الناس المكوَّنة، الأمر الذي يجعلها منفعلة في تمجيد "الفرد" أو العقيدة.

ويميز الباحث في مسيرة التاريخ بين تاريخ المعرفة والحكمة والوعي وبين تاريخ العقل المتدني، "العقل التحتي"، الذي يسود فيه الظلام. وقد سادت في هذا التاريخ الحروبُ الدينية والسياسية والاقتصادية وسفكُ الدماء.

يطلب اليازجي من العقل العربي، في إطار حواره الخاص مع الفلسفة العربية، أن يكون مكوِّنًا، منفتحًا، ضالعًا في العرفان، ومطَّلعًا على النظريات العلمية التي هي، في مضمونها، فلسفة أو حكمة مطروحة على مستوى التجربة والاختبار.

ويسبر الباحثُ عالَم ابن عربي، الحكيم الذائع الصيت، الذي يعتبر أن العدم، أو "اللاشيء" الميتافيزيائي، متميز بإرادة أكيدة تحثه على الدوام على الكشف عن ذاته في مراحل أو مستويات متتابعة من الفيض والإبداع والتكوين. وبحسب نظرية ابن عربي، فإن كلَّ شيء في هذا العالم ينبض بالحياة وتحييه روح؛ والعالم كله مشبَع بالحياة مادام انعكاسًا للوعي الإلهي. وقد دعا ابن عربي إلى اختراق الحجاب الذي غايته عَزْل الإنسان وإبعاده عن معرفة حقيقته الأرضية والكونية. وبذلك، أسقط ابن عربي التعصب وضيق الأفق الفكري والتفسير الحرفي والتنكر للآخر، وبرهن على أن جميع المبادئ والعقائد تمثلت الحقيقةَ الواحدة في تنوعات التعبير. وقد ألقى الباحث الضوء على القرابة الفكرية بين ابن عربي وحكمة تشو تزو، أعظم فيلسوف وحكيم صيني في الكونفوشية المحدَثة، كما ناقش القرابة الفكرية مع اللاهوت المسيحي.

يتضمن الكتاب حوارات حول علم النفس التجاوزي Transpersonal Psychology [العبرشخصي]، وحول الفقر والغنى، والأنانية، وتسيد الإنسان على الطبيعة، ومركزية الأنا الفردية، ومركزية الوجود الأرضي. ويهدف اليازجي من جَمْع هذه الحوارات في مجلد واحد إلى تأسيس بنية عقلية منفتحة ومكوِّنة، تصلح لإجراء حوار بين أبناء وبنات الإنسان، وتتجاوز الأطُر التي قيدت الإنسان وحالت دون تطوره.

من هذا المنظور، يسعى اليازجي إلى تقريب وجهات النظر ومعرفة الطريق المؤدي إلى التفاهم والتلاقي والاعتراف بالتنوع المضمون والكامن في جوهر المبادئ الطبيعية والمبادئ الكونية التي أبدعها الوعي الكوني، في سبيل تحقيق تأليف بينها، يشير إلى تكاملها وتألقها في حقيقة سامية.

*** *** ***

تنضيد: نبيل سلامة


[1] ندره اليازجي، الطريق إلى الحوار، دار أمواج، 2004.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود