ظلُّ الجليليِّ

بين الموضوعيِّ والذاتيِّ: صورةٌ للإله المتأنِّس

 

أمين مرعي

 

في هذا الكتاب، الذي وُضِعَ أصلاً بالألمانية وتُرجِم إلى عدة لغات (ومنها العربية)، أراد الكاتب غيرد تيسِن أن يرسم لنا صورةً عن يسوع جذابةً وموضوعيةً وقريبةً إلى الأفهام. ألَّف لنا في هذا الكتاب قصةً ترتكز أساسًا على النصوص الموثوقة، ولا تجافي في أيِّ منحى الحقيقةَ التاريخية؛ كما شاء أن يعرض في أسلوب قَصصي صورة بيِّنة يلتقط القراءُ من خلالها في يسر وتميُّز حقيقةَ يسوع.

ولتوخِّي الحقيقة التاريخية، ينبغي علينا التخلِّي عن الميل والهوى والتحلِّي بالنزاهة وبالتجرد، وأن نجدَّ في التنقيب وتحصين الحقيقة بالبراهين وبالأسباب التي أدت إلى حدوثها. ينخرط العقل في دنيا الواقع والموضوعية، ويلجم العاطفةَ والخيالَ الجامح – إلا ما كان في خدمة البحث المحض.

أما في التأليف القَصصي، في معناه الواسع، فتتعاون القوى الثلاث: عقل يركِّز على واقع، فيرتِّب وينسِّق ويُدَوْزِن الجُمَح، ومخيلة تتجاوز الواقع، ربما إلى تضخيم وبعض إسراف، وتغمر بالصور والألوان والرموز الأجواءَ التي تتولد، وعاطفة تندِّي ما يطرأ من جفاف، فتجعل الشمس تمطر والسحاب يشتعل.

عند هذا التباعد بين معطيات الأمرين وخصائصهما – أي بين حقيقة التاريخ وعالَم القصة – يبدو لنا التوافق غير ممكن. لكلٍّ جوُّه ومنطلَقه وقواعده ودروبه، إنما يمكن الوقوف عند حد. فالتباعد لا يخلق تناقضًا بين كليهما؛ إذ ثمة مجالات لقاء وتآخٍ، بل مجالاتُ تلازُم وتعاضُد، فتدخل القصةُ التاريخ، وتطيِّبه وتندِّيه وتقرِّبه إلى الأفهام، ويتجلبب التاريخُ بالقصة، فيقيِّدها عما يسمى انفلاتًا وانزلاقًا إلى الوهم واللاواقع المتهور.

كذا يتآخى العِلمُ والفن، ويلبس الواقعُ الثوبَ المزركش، فنستلذ بالحقيقة، من دون أن نعاني كللاً ومللاً، ونسوح في أجواء العاطفة والمخيلة، من غير أن نسيء إلى قواعد العقل ومناهج البحث والتقصِّي.

ساقني إلى هذا القول كتابُ ظل الجليلي[1]، حيث نتحقق من التآلف بين العِلم والفن، بين حقيقة التاريخ والعرض القَصصي الذي اعتمده المؤلِّف في لباقة ودراية ومهارة. التزم الدقة والأمانة في السرد والإخبار، ولم يُسِئْ إلى الحقيقة التاريخية، بل مَهَرَها بالنداوة، وزيَّنها بألوان زاهية، مع التعمق في جلائها، فأضحت أقرب إلى الاستيعاب والفهم. كما أن في استطاعة القارئ أن يميِّز بين الوهم والواقع؛ فالأحداث الخيالية مبنية على مصادر تاريخية، وما رُوِيَ عن يسوع مدعوم بالوثائق والقرائن.

إلى ذلك، وعلى الرغم من الاعتقاد بأن ثمة تباينًا بين الحقيقة الموضوعية والرواية القصصية المبتكرة، أرى أن من شأن الإخبار والنقاش والحوار أن تبلور لنا هذه الحقيقة وتجلوها؛ بل قد توفر مجالاً لتقليبها على مختلف وجوهها، فتخضع للنقد وللغربلة، وبالتالي، تنتهي إلى طعن أو إلى شكٍّ أو إلى قبول. فالحوار هنا هو حوار العِلم الذي يجري وفقًا لقواعد اللعبة التي نسميها "المنهج التاريخي".

من هذا التزاوج بين الموضوعية والذاتية، بين حقيقة العِلم والإبداع القصصي الفني، يقدم إلينا الكاتب صورةً ليسوع واضحة وحقيقية ونابضة بالحياة، اعتمد فيها الدقة والأمانة، وهي تلائم تماما البحوث الحاضرة. لا شك في أن حبكة القصة مختلفة، لكن الإطار التاريخي واقعي تمامًا. وبذلك نرانا في الحقيقة في عهد يسوع زمانيًّا ومكانيًّا: ها هي خريطة فلسطين تُعرَض لنا بجغرافيتها الكاملة، بسهولها ووديانها وتلالها وكهوفها، دقيقة مفصَّلة. ها هي ديموغرافية البلاد تتجلَّى أمامنا في وضوح، فنتعرف إلى شعب فلسطين في تلك الحقبة، بعاداته وتقاليده ومعتقداته، وإلى المجتمع اليهودي، بمختلف فئاته الدينية والسياسية والاجتماعية، بانتفاضاته التحررية من الاستعمار الروماني، كما نتعرف إلى حكام البلاد ومستعمريها، بتسلطهم وجورهم ودسائسهم ومحاولاتهم الاستيلاء على ثروات البلد ومناوراتهم للكسب والاستغلال.

من خلال الأخذ والردِّ والحوارات واللقاءات، نجدنا في صميم الحدث؛ بل ينتقل الحدثُ إلينا – فإذا يسوع في عالمنا الحاضر، وإذا بنا في حضرته. فالتغلغل في القِدَم، والتعمق والتوسع في الدراسة، واستعراض المشاهد التي تعاقبت، واستعادة الأجواء التي كانت سائدة في ذلك العصر – هذا كله ساهم في تلمس الوقائع والحوادث عن كثب، مما أدى إلى تكوين صورة كاملة عن حقيقة يسوع – الإله المتأنِّس – انتقلت إلينا عبر عشرين قرنًا بخطوطها وألوانها.

*** *** ***

عن النهار، السبت 11 أيلول 2004


[1] صدر في منشورات "جامعة الروح القدس"، الكسليك، 2004.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود