الفراغ الثابت

في العلاقة بين الذات والموضوع

رؤية تساؤلية حول طبيعة "الأنساق" وإشكالية الشر

 

ممدوح رزق·

 

تمثِّل العلاقة بين الذات والموضوع مدخلاً جوهريًّا إلى مناقشة علاقة الفرد بنفسه وعلاقته بالعالم، وما ينتج عن هاتين العلاقتين من قضايا وإشكاليات ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمفاهيم والأفكار التي تحكم الوجود الفعلي للإنسان في هذا الكون. وحينما نتعرض لهذا الأمر، ينبغي الوقوف على العديد من تلك القضايا التي تبدو مسلَّماتٍ وبديهياتٍ اعتقادية تشكِّل، في مختلف الأحوال التي تتبنَّاها، ما يمكن تسميته بـ"اليقينيَّات السائدة"، التي تحدِّد، بدورها، فكرة الإنسان عن نفسه وعن الأشياء المحيطة به.

حينما أفكر في الأشياء، ما الذي يعمل في تلك اللحظة؟

التفكير لا يُبنى على اختيار أو التزام، معلَن أو ضمني، بين الأنا وما هو خارج عنها. الأنا المفكِّرة تفكر أساسًا بالطريقة التي ينبغي – ولا بدَّ أن تفكِّر بها. كيف؟ إذا أمكن تجاوُز الطبائع المشتركة أو المختلفة لمفاهيم من نحو "النفس" و"العقل" و"الروح" و"الوجدان"، وتمَّ الاتفاق فقط على تحليل النتيجة التي ينتهي إليها رصدُ حركة التفكير الدائبة للأنا تجاه الأشياء، سنتمكن حينئذٍ من التوصل إلى صيغة تكاد تكون واحدة لماهية التفكير عند الإنسان تجاه الأشياء بشكل عام.

لماذا هي واحدة؟ هل لأن الإنسان – أيَّ إنسان – مجهَّز أصلاً بمكوِّنات وُجِدَتْ لتعمل بطريقة معيَّنة وثابتة؟ – مهما اختلفت الخبرات أو المعارف أو الظروف المعيشية والتاريخية. ما هي هذه المكوِّنات؟ وما أثر تواجدها المشترك بين مختلف الذوات على طبيعة التفكير التي تنتج عنها؟

هناك نوعان من الغياب يشكلان المكوِّن الجوهري لدى الإنسان وهما:

1.    غياب الاكتمال

2.    غياب مفهوم الاكتمال

وهذان النوعان من الغياب ثابتان، منذ بداية حياة الإنسان وحتى نهايتها؛ وهما اللذان يوفران الإحساس بالألم – "الشر" – كما يسوِّغان المجاهدة التي لا تهدأ للخلاص منه، أملاً في تحقُّق "الخير".

يحدِّد دياكريشنا التحليل الذي قدَّمه الهنود الأقدمون للموقف البنياني للإنسان؛ ومفاده أن الإنسان قد توصَّل إلى النتيجة التي تقول بأن المرء يكون دائمًا غريبًا عن نفسه – اللهم إلا في الأحوال النادرة التي يصل فيها إلى تحرير ذاته وهو حي (حالة موكشا).[1] وعلى هذا، وكما يؤكد دياكريشنا، فإن مشكلة الاغتراب

يجب أن تُفهَم خارج أيِّ نطاق ديني، وبعيدًا عن أيِّ حَصْر لها، وذلك لأنها ليست مشكلة بعض الطبقات التي تنتمي إلى بعض المجتمعات بالتزامن مع مراحل معينة من التاريخ؛ إنها تتصل بالأحرى بالطبيعة البشرية ذاتها.[2]

فمفهوم غياب الاكتمال هو ما يعني النقص الأزلي، وعدم وجود الإشباع النهائي، والاحتياج الدائم إلى معالجة الخلل والعجز؛ وهو ما يحدِّد للإنسان طريقة التفكير التي ينبغي أن يتبنَّاها في هذه المواجهة. أما غياب مفهوم الاكتمال، فهو ما يعني عدم العثور على "الوصفة" الحقيقية، أو القانون الواضح والثابت، للقضاء على هذا العجز أو النقص الذي يضع نهاية مضمونة للألم ويحقِّق للإنسان الإشباع النهائي:

لم تواتِني الدنيا لأكون من الخائضين فيها، والآخرةُ لم تَغلِبْ عليَّ لأكون من العاملين لها.[3]

يمكن للراصد أن يصف طريقة التفكير لدى الإنسان على النحو التالي مثلاً: حينما أفكر، فالذي يعمل فيَّ في تلك اللحظة هو غريزة السعي المحموم لتفادي الأذى وترويض الألم. والغريزة هنا ليست الغريزة التقليدية المشتركة بين مختلف الكائنات، التي تقوم بأداء مهمتها في محاولة تنفيذ الواجب التقليدي في البقاء والتكاثر في مواجهة الفناء؛ بعبارة أخرى، إن الغريزة التي نتحدث عنها هي شكل متطور للصورة المألوفة المقترِنة بمفهوم الغريزة: الغريزة هنا تعمل دائمًا عن طريق التفكير ضد ما هو "شر" – الذي هو نسبي بالتأكيد – بإرجاع الأمر إلى الموروث المختلف والخبرة المختلفة المتلقاة منذ النشأة الأولى في تحديد ما هو "شر" عند الإنسان. ولكن الأمر الثابت هنا هو ذلك الوجود الدائم للشر المتمثل في الأذى – أيًّا كان – وأيضًا في ضرورة القضاء عليه أو تفاديه بأية طريقة كانت.

هذا يقودنا، بطبيعة الحال، إلى العودة إلى المكوِّن الإنساني المرتبط بتلك الصورة من التفكير. فمادام هناك ذلك الوعي بضرورة الخلاص من الألم، لا بدَّ أن تسبق ذلك عمليةُ الوعي بوجود الألم أصلاً. وبالتالي، فالمكوِّنات التي تشكِّل ذلك الجوهر الإنساني مجهَّزة أساسًا للشعور بأن هناك أمرًا سيئًا يُسمَّى "الألم"؛ وهو ما تطلق عليه الأنا صفةَ "الشر" الذي يعمل ضدها.

ما أثر التواجد المشترك للإحساس بالألم بين مختلف الذوات على طبيعة التفكير التي تنتج عنه؟

هنا ينبغي العودة إلى تثبيت الاقتران بين مفهوم "الألم" ومفهوم "النقص"، الذي يعني عدم الاكتمال والحاجة إلى القضاء على الاحتياج. وبهذه الطريقة، يمكن التوصل إلى أن "العجز"، الذي أصبح صفةً ملازمة للإنسان، يقتضي منه الشعور بالضآلة وبالخوف، ويقتضي أيضًا، بطبيعة الحال، السعي إلى التغلب على هذه الضآلة وذاك الخوف. كما يقتضي هذا السعيُ، هو الآخر، اتخاذَ الإنسان وسائل تمكِّنه من هذه المواجهة وتُعينُه عليها، مع عجزه وغياب اكتماله. فما هي هذه الوسائل؟ ما علاقتها برغبة الإنسان الغريزية في السعي إلى الخير والتغلب على الألم (الشر)؟ ولماذا هذه الوسائل بالذات؟ وهل حقَّقتْ ما كان يفترضه الإنسانُ من رغبات؟

التبنِّي الإجباري لأنساق الغريزة

حينما يولد الطفل ويبدأ في المرور بمراحل اكتساب الحواس للمدرَكات المعرفية والشعورية، تبدأ مجموعة من الأنساق المحدَّدة في تثبيت قواعدها داخل المدرَكات الحسِّية والفكرية للطفل. من الأمثلة على هذه الأنساق ما يلي: الله، الأب، الأم، الأشقاء، الأقارب، الجيران، الأصدقاء، المدرسة، الوطن، الديانة، الغرباء، إلخ – فضلاً بالتأكيد عن مجموعة من الأنساق الضرورية، القائمة على الاحتياجات المباشرة، كالأكل والشرب والنوم وقضاء الحاجة إلخ.

أما عن الرغبات الطفولية التي تعني آمال الطفل لنفسه وللآخرين للمستقبل، فلا تخرج عن هذه الدائرة من الأنساق. فأجوبة الطفل عن الأسئلة التي تُطرَح عليه عادةً ما تكون أن يحفظ الله أُسرتَه من كلِّ سوء، وأن يحتفظ بصداقاته أو يقيم صداقات جديدة، وأن ينجح في دراسته ويعمل ويتزوج وينجب، وأن يحتفظ بولائه لوطنه، وأن يؤدي طقوس العبادة ليُدخِلَه الله الجنة بعد أن يموت.

هل يمكن أن نصطلح، إجمالاً، على تسمية هذه "الأنساق" التي عرضنا أمثلةً عليها باسم "موضوعات الإنسان"؟ أو، بعبارة أخرى، هل يمكن أن نعتبر هذه "الأنساق" تدابير الإنسان في السعي إلى مواجهة العجز وغياب الاكتمال؟

التناول هنا لا يُطلَق على ما هو شاذ أو ما يبدو استثنائيًّا – على الرغم من أن هذا "الشاذ" أو "الاستثنائي" ليس مقياسًا، بل يندرج، بطريقة أو بأخرى، داخل هذه التفاعلات بين الإنسان والأنساق؛ التناول هنا يتم انطلاقًا مما هو عادي، أي مما هو طبيعي وملحوظ ومهيمن ومسيطر وواضح، ومن السهل جدًّا رصده واكتشافه: أي ما يمثل الوضع الطبيعي العام للحالة الإنسانية وعلاقتها بأشياء هذا العالم.

وبالعودة إلى الأسئلة السابقة نسأل مجددًا: ما هذه الوسائل؟

نقول إنها مجموعة من الأنساق المتوارَثة والمتسعة، الناتجة عن عمل المكوِّن الإنساني الساعي إلى مواجهة العجز (تحقيق الخير) والتغلب على الألم (الشر). طيب! لماذا تنتج عن المكوِّن الإنساني هذه الأنساق بالذات وليس غيرها؟ المكوِّن الإنساني، بتركيبته غير البسيطة، يعمل، أولاً وأخيرًا، على تفادي الأذى وتحقيق الخلاص؛ وهو، في سعيه الدائم إلى مواجهة العجز، يستوعب القصور الأصلي لدى الإنسان، الذي يعني غياب الاكتمال. وغياب الاكتمال هنا يفترض، بالضرورة، ذلك الإدراك المبهم بأن هناك شيئًا اسمه "الاكتمال".

وفكرة "الاكتمال" هنا ليست فكرة دينية فحسب، بل هي خاصية جوهرية من الخصائص التي تشكِّل مدرَكات الغريزة لدى الإنسان، والتي ينتج عنها تبنِّي الأنساق. فمن بدء اليقين بوجود المطلق الكامل (الإله)، وما يترتب على ذلك اليقين من الأداءات المختلفة تجاه الحصول من "الكامل" على ما يسد ثغراتِ العجز اللامنتهية لدى الإنسان "غير الكامل" (مرورًا بدرجاتِ تراتبيةٍ من الأشخاص "القريبين من الاكتمال" والمفاهيم عنهم، كالأب والأم والأخ والمعلِّم والوطن والجمال والحق والخير والأخلاق إلخ، وحتى المطلق النهائي "الكامل" في الحياة، وهو الموت)، يظل الإنسان خاضعًا لفكرة خالدة، هي فكرة ضعف "غير الكامل" حيال "الكامل" – أيِّ كامل – لأن غير الكامل في احتياج دائم و"غريزي" للحصول على ما يُعِينه على مواجهة عدم اكتماله بإزاء الكامل – الكامل كإله، كديانة، كمعتقد، كموروث، كفكرة، كمبدأ، كشخص، إلخ. المهم أن يكون هناك ما يحتفظ بتلك الصفة (الكمال) مادام هناك، دائمًا وطوال الوقت، كائنٌ ما يعاني لأنه "غير مكتمل". وفي هذا الصدد، يصنِّف ديكارت فكرة "الله" في مقدمة الأفكار الفطرية، ويعدُّها:

"حقيقةً موضوعية" تقع خارج فكر الإنسان، وتتجاوز كلَّ أفكاره، لأن فكرة الله تعادل تمامًا فكرة الموجود الكامل الذي لا نهاية لكمالاته. فبالضرورة، لا يكون الإنسان – الناقص – هو مصدر هذه الفكرة، ويتعيَّن، بالضرورة أيضًا، أن تكون هذه الفكرة في ذهن الإنسان انعكاسًا لموجود – بالفعل – كامل كمالاً مطلقًا، وهو الله – تعالى.[4]

يمكن لنا، إذن، التوصل إلى اكتشاف صيغة تَوافُق بين المكوِّن الجوهري للإنسان (الذات) – المتمثل في غريزة تفادي الألم (الخير) والخلاص من العجز (الشر) الناتج عن إدراك غياب الاكتمال، وعن إدراك غياب مفهوم الاكتمال، وعن اليقين الراسخ بوجود المكتمل – وبين الأنساق الحياتية الناتجة عن أداءات هذا المكوِّن، التي – أي الأنساق – تعتمد على وجود ثوابت ويقينيات "كاملة" ينبغي اعتناقُها للحصول، من خلالها، على ما يعالِج الخلل الناجم عن "عدم اكتمال" الإنسان.

ولكن... هل أصبح الإنسان كاملاً؟ هل نجح في تفادي الألم (الحصول على الخير النهائي) والقضاء على العجز (الشر)؟

الأنساق التي أضفى عليها الإنسانُ رغبتَه في الخلاص، بوصفه "غير مكتمل" يسعى باتجاه الاكتمال، وتحت وطأة غريزته المقدَّرة عليه بفعل مكوِّنه الجوهري، جعلت الألم (الشر) هو العالَم الحقيقي والواقعي للفرد؛ حيث إن الأنساق التي تبنَّاها الإنسان لم توفر له الحماية، بل، على العكس، كانت هي المسؤولة عن رُكام من الإخفاق يمتد بعمر العالَم؛ الأمر الذي يعني أن الغريزة فرضتْ على الإنسان اعتناق "النسق" المفترَض كماله لمواجهة عدم اكتماله، لتُمعِن في ترسيخ حقيقة أن الإنسان تبدأ حياته وتنتهي وهو غير مكتمل، ولا يعرف ماذا يعني الاكتمال سوى أن هناك فقط "مطلقات كاملة" لا بدَّ من السعي إليها، موفِّرة له كلَّ السبل الأكيدة لتفاقُم الألم (الشر). والأمر يبدأ، ببساطة متناهية، من جسم الإنسان، حيث:

إن ما يعرف الأشياء كلَّها ولا يُعرَف بإحداها هو الذات. وكل فرد يجد نفسه ذاتًا فقط إلى الحدِّ الذي يعرف فيه، لا إلى الحدِّ الذي يصبح فيه موضوعًا للمعرفة. ولكن جسمه يكون موضوعًا، لأن الجسم موضوع من بين الموضوعات، وهو مشروط بقوانين الموضوعات. والجسم، كشأن كلِّ موضوعات الإدراك الحسِّي، يقع داخل الصور العامة للمعرفة، أي الزمان والمكان والعِلِّية، وهي الصور التي تُعَدُّ شروطًا للكثرة.[5]

فجسم الإنسان، باعتباره موضوعًا، هو، بالتالي، محلُّ فكرة للذات عنه (أي الجسم). واستيعاب الذات للجسم هنا تتمثَّل في ذلك الوعي بقصوره وضعفه، وبالحاجة الدائمة إلى معالجة الخلل الذي يتَّسم به مكوِّنُه الأساسي. ومن الممكن الانطلاق هنا في الحديث عن مسبِّبٍ معتاد للألم، كالمرض مثلاً. والمرض هنا، باعتباره مسبِّبًا للألم، هو "شر"، والتداوي منه طبيًّا ليس بالأمر المستمر؛ لذا فسطوة الحضور الطاغي للألم يقف كتعبير عن حقيقة النسق (المفترَض كماله) ووجوب وحتمية اعتناقه أملاً في الخلاص، وعدم مَنْح هذا النسق الخلاصَ، بل تكريسُه للعجز عن مواجهة النقص (الألم):

إن أجزاء البدن يجب أن تُناظِرَها تمامًا الرغباتُ الأساسية التي من خلالها تكشف الإرادةُ عن نفسها. فهذه الأجزاء هي ضرورة بمثابة التعبير المرئي عن هذه الرغبات: فالأسنان والبلعوم والأمعاء هي جوع متجسِّد، وأعضاء التناسل هي رغبة جنسية متجسِّدة، والأيدي المتشبِّثة والأقدام المسرعة تُناظِر رغباتِ الإرادة المباشرة التي تعبِّر عنها.[6]

لذا فإن الطبيعة العادية للجسم البشري هي، في حدِّ ذاتها، أرضٌ خصبة لحضور الألم. وهذه الطبيعة، عاديَّتُها تعني خلودَها، أي صفاتِها التي لا تتغيَّر مادامت الحياة.

العالم الحسي المجهَّز للإنسان

المقصود بالعالم الحسِّي هنا تلك الأشياء المادية التي تكون محلَّ أفكار الإنسان عنها في شتى صور وجودها، والتي سبقت وجود الإنسان، والتي تمثل أيضًا "موضوعات" فهمه للكون. فكيف يمكن اعتبار هذه الأشياء "أنساقًا"؟

تمثل هذه الأشياء أحد أوجُه "الوجود المكتمل"، باعتبار أن هذه الأشياء لم يصنعها الإنسان بنفسه، ولا يعرف كيفية صنعها؛ لذا لا بدَّ أن تتخذ تلك الصبغة من ضرورة التبنِّي والاعتناق اللازم، واستخدامها بالطبع لمواجهة ما هو "غير مكتمل" و"ناقص" لدى الإنسان. قد يبدو، للوهلة الأولى، أن هذا هو دور هذه الأشياء الواجب والمفترَض في تحقيق رغبات الإنسان. لكن هذه الأشياء كان لها في الواقع دور مختلف: ففضلاً عن أنها نجحت بكفاءة في ترسيخ مفهوم العجز لدى الإنسان عن التوصل إلى ماهية "المكتمل"، نجحت كذلك في تثبيت حقيقة هذا الوجود المكتمل، غير المفهوم في نظر الإنسان، وعدم الخروج من دائرة الخضوع له من أجل تحقيق الخلاص عن طريقه. مرة أخرى، يمثل هذا صيرورةً تظل باقيةً بقاءَ الحياة: فعدم العثور على الخلاص من هذا الخضوع ليست له أية نتيجة سوى المزيد من الألم – مع الاستمرار الحتمي بالطبع لتبنِّي هذه الأشياء التي تمثِّل موضوعات العالم الحسِّي للإنسان كفكرةٍ مثالية عن "الكمال"، وبمبرِّر أسهل من أيِّ تصور، وهو عدم وجود أشياء أخرى يدركها الإنسان بِسِماتٍ أخرى يمكن لها أن تمنحه القدرة على التخلص من العجز الناجم عن عدم اكتماله.

المعرفة واليقين والجدوى

المعرفة التي تقع في نطاق الذات، وتخرج إلى حيث الوجود الخارجي كفاعل، ليست معرفة مدعومة بحرية من أيِّ نوع؛ حيث إن هذه المعرفة تقتضي الانطلاق من حاجة إلى الإثبات أو النفي أو الاستفهام داخل مجمل التحول من حالة الاحتياج إلى حالة الإشباع. والاحتياج هنا ليس أمرًا اختياريًّا، بل هو إدراك حتمي لطبيعة النقص؛ وبالتالي، فإن السعي إلى الإشباع عن طريق هذه المعرفة ليس اختياريًّا هو الآخر، بل يمثل ردَّ فعل بديهي بمحرك الغريزة الساعية إلى قتل الألم أو تفاديه.

أما عن المعرفة ذاتها، فهي استيعاب أصلي للقصور، يتشارك في صنعه الوعيُ بغياب الاكتمال ووجودُ فكرة الاكتمال ذاتها كوجود مستقل غائب، حتى لو اتخذتْ هذه المعرفةُ صفاتِها الموضوعية:

أما في نظرية المعرفة، فإن الذاتية تعني أن التفرقة بين الحقيقة والوهم لا تقوم على أساس موضوعي. فهي مجرد اعتبارات ذاتية؛ وليس ثمة حقيقة مطلقة. أما الموضوعية فترى إمكانية التفرقة. وفي علم الأخلاق، تذهب الذاتية إلى أن مقياس الخير والشرِّ إنما يقوم على اعتبارات شخصية؛ إذ لا توجد معيارية متجاوِزة. أما الموضوعية فترى إمكانية الوصول إلى معيارية.[7]

الموضوعية، إذن، لا تفقد نسبيَّتها هي الأخرى بالمقارنة مع الذاتية في التعامل مع موضوعات العالم؛ حيث إن تفكير الإنسان لا بدَّ له أن يواجه حقيقةَ تفكير أخرى من إنسان آخر ينطلق من الأسُس نفسها، لكنه يتبنَّى عوامل مغايرة، محكومة بأداءات الموروث والطبيعة المعيشية المختلفة. وهذا يمنحنا إدراكًا إضافيًّا لمدى الألم الناجم عن هذا الاختلاف تحت مظلة نسق واحد، ألا وهو الوصول إلى سدِّ الفجوات الدالة على عدم الاكتمال وتثبيت النقص. يرى كانط أنه يجب على كلِّ كائن بشري

... أن يتصرف بحيث يشعر بنفسه كـ"موضوع ومشروع" في الوقت نفسه. ذلك أنه، بالنظر إلى كونه الإنسان المطلق، فهو لا يستطيع الخضوع في سلوكه لأية قاعدة خارجية، بل يخضع للقواعد النابعة عن إرادته الذاتية فحسب. ولكن يجب على هذه الإرادة أن تتذكر أن الأشخاص الآخرين هم أيضًا مطلقون؛ فلا يستطيعون، بالتالي، الشعور بالالتزام تجاه قانون أخلاقي إلا إذا كان صانعُه ذاته – وهو المساوي لهم – يشعر بالخضوع له.[8]

فما جدوى الخضوع ليقين أخلاقيٍّ أصلاً؟ بالطبع، الحديث وارد في تلك اللحظة عن "الفضيلة" كطوق نجاة أو كوجود أرقى. ولكن الأرق بجدوى القانون الأخلاقي يعطي تفسيراتٍ متجددة على الدوام حول العلاقة بين النسق، كنمط فَهْمٍ للعالم، وبين معنى الالتزام بيقين نهائي تنتهي عنده كلُّ الأجوبة، حتى لو كان القانون الأخلاقي يتوقف عند حدِّ التعامل الذاتي الأحادي الجانب مع الطبيعة، في الشكل الباحث عن الكينونة المتآلفة مع ذاتها أو مع الآخرين.

وفي النهاية، يظل التساؤل عن الجدوى وعلاقتها بالألم طريقًا إلى البحث عن ماهية الأنساق التي لا بدَّ أن تكون دائمًا هي الأساس لكلِّ شيء – هي ونقائضها التي تدخل، هي الأخرى، في صميم خصائصها التي لا تعترف عمليًّا بالخلاص.

*** *** ***


· كاتب وباحث في الفلسفة وشاعر من مصر؛ البريد الإلكتروني: mamdouhrizk@yahoo.com؛ الموقع على الشبكة: www.mamdouhrizk.jeeran.com.

[1] عن: فاروق وهبة، ظاهرة الاغتراب في فن التصوير المعاصر، القاهرة، مكتبة الأسرة؛ ص 19.

[2] عن: فاروق وهبة، المصدر السابق، ص 19.

[3] عن: المصدر السابق، ص 21.

[4] عن: د. عائشة يوسف المناعي، "نظرية المعرفة في فلسفة السيد محمد باقر الصدر". راجع:

http://www.alkhoei.org.uk/s7.htm

[5] شوپنهاور، ميتافيزيقا الفن، ص 57.

[6] السابق، ص 58.

[7] د. عبد الوهاب المسيري، "الموضوعية والذاتية". راجع:

http://alwihdah.com/view.asp?cat=1&id=1220

[8] عن: السيد محمد تقي المدرسي، "التجاوز والإضفاء"، عن: عمانوئيل كانط، مقدمة لفلسفة الحق. راجع:

http://www.almodarresi.com/books/708/hk0rsqlw.htm

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود