|
المقدِّمة "سيرة ذاتيَّة فلسفيَّة" ... حيث إن الفلسفة تأتي دائمًا في غير وقتها!
منذ أكثر من ربع قرن (في العام 1977 تحديدًا)، أصدر شارل مالك القسم الأول من "المقدمة" لآثاره العربية الكاملة التي كانت ستشمل، بعد المجلدين الأولين (وهما "المقدمة" بقسميها)، بضعة عشر مجلدًا تتناول: - أولاً: العلم (مجلد واحد)؛ - ثانيًا: الفلسفة (أربعة مجلدات: مدخل تمهيدي، الميتافيزيقا والأخلاق، بعض المفكرين القمم في التاريخ، الحرية والإنسان)؛ - ثالثًا: السياسة (أربعة مجلدات)؛ - رابعًا: لبنان (مجلدان)؛ و - خامسًا: الإيمان (خمسة مجلدات) من البضعة عشر مجلدًا الموعودة هذه لم يظهر حتى الآن سوى بعض القسم الثاني من "المقدمة" الذي وُجِدَ مخطوطًا بين أوراق مالك المتوفى بالعام 1987 والذي يشكِّل، من ثَمَّ، جديد الطبعة الثانية للـ"مقدمة"، وقد صارت الآن: المقدمة: سيرة ذاتية فلسفية[1].
لعل وصف الناشر لهذا الكتاب الضخم بـ"السيرة الذاتية الفلسفية" خير حلٍّ لمأزق تصنيف هذا الكتاب الذي ليس مجرد "سيرة" وليس تأليفًا فلسفيًّا بحتًا – أو قُلْ إنه من الظلم معاملته كمؤلَّف فلسفيٍّ بحت، على الرغم من اشتداد الحاجة بقارئ العربية إلى الفلسفة. ولك أن تضعه في سياق التمهيد لتلبية هذه الحاجة التي باتت "تلوب بنا ونلوب بها". كان شارل مالك، في القسم الأول، قد أثبت أن الإنسان "كائن غريب ومتغرِّب في آن": غريب في كونه يعقل ويفهم ويضحك ويحاور وينتحر أو يقرر البقاء، عن وعي أو عن غير وعي، أي يختار وجوده على موته؛ ومتغرب في أن لا شيء يرضيه، ولا هو يستقر على شيء: فهو "دائمًا قلق، دائمًا مهموم، دائمًا يفتش... دائمًا يطلب شيئًا لم يكنْه أو يحن إلى شيء كانه وقد نأى عنه". أو قل إن "غرابة" الإنسان هي في توقه إلى "الحقيقة" فوق أيِّ شيء، و"تغرُّبه" أنه ليس "في" "الحقيقة"، أيًّا كانت "الأسباب"! وكان مالك رفض أن تكون "الصدفة" متحكمة في المصائر، وفرَّق بين القائل بها وبين المؤمن بأن "كل شيء مرده آخر الأمر إلى الشيء الذي هو كمال وجود الكائن، الذي هو الله، مهما أغلق عليه أمرُ هذا المرد". وكان بحث في دور الحسد والقدوة في الحياة وفي التاريخ، وأكَّد أننا "إذ نعيش بالضرورة في مجتمع كائن حي، نكون دائمًا حاسدين ومحسودين، مقتدين ومقتدى بنا"، وأن ذلك "قد يكون في النهاية الأمر الحاسم لمصيرنا". وقد أثبت أن الذات لا تُعرَف على حقيقتها بمجرد التأمل والنظر، بل بانكسار ذاتي أمام الوجود الكامل المعطى. وكان تناوَل الفلسفة الظهورية (الفينومينولوجيا، أو ما أعرِّبه بـ"الفيمياء") بشيء من الإسهاب، وذلك لأهمية هذه الفلسفة في حدِّ ذاتها، و"لأثرها الواسع في الفكر ولتأثري الشخصي بها"، على حدِّ ما يقول – وهو كان تتلمذ على أحد أعظم أركانها: مارتن هيدغِّر. وكان ميَّز بين "الفاعل" و"المفعول" و"فعل الفعل" و"المادة المنفعلة بالفعل"، من جهة، وبين "العاقل" و"المعقول" و"فعل العقل" و"مادية العقل"، من جهة ثانية، وبين "الواجد" و"الموجود" و"فعل وجدان الموجود" و"مادته"، من جهة ثالثة. كما كان حدَّد معاني العبارات "الظهورية" التقنية، فقال: "الظهورة" و"الظهور" و"الحضور" و"المثول"، وشرح شعار الظهورية "إلى الأشياء ذاتها"، بمعنى التحرر التام من النظريات والفلسفات والتحكمات "التي تستعبدنا وتغسل دماغنا"، والوثوق بأن الأشياء "تستطيع هي، بحدِّ ذاتها، ومن ذاتها، أن تفصح عن نفسها لنا إذا نحن أحببناها واقتربنا منها برقة وانفتاح". وكان طرح شعارًا للظهورية يقول إنه وَضَعَه هو، وصيغتُه: "قفْ! اصغِ! احفظْ! اشهدْ!"، وخلص إلى أن الظهورية هي "البلسم الشافي لداء العصر" (وإنْ لم يذكر بالاسم ما هو "داء العصر" ذاك!). وكان توقف طويلاً عند "وصف ظهوري" تمهيدي أيضًا لظهورات الحس والزمن والتقرير والحسد والموت، واستنتج أن الظهورات هي "الحقائق والمعطيات الأولى والأخيرة الثابتة التي لا يمكن تحليلها أو تبسيطها أو تذويبها في ما عداها"، ولا يمكن تعليلها بالأسباب والعوامل والعلل والنوازع والظروف الاقتصادية والمجتمعية، ولا تخضع لأية نسبية، من أيِّ نوع كانت، بل إنها، خلافًا لذلك كلِّه، تفسِّر وتعلِّل كلَّ شيء غيرها يمت إليها بصلة. أما الفصل الجديد التي أتت به الطبعةُ الثانية فيحمل عنوان "الكيانية" – وكان مالك وَضَعَه مخطوطًا بإزاء اللفظ الأجنبي existentialism الذي نتداوله بالعربية، منذ ستين عامًا على الأقل، بلفظ "الوجودية"، في غفلة ألمَّت بنا وجعلتْنا نأتي بتعريبنا هذا عملاً سطحيًّا مفتعَلاً، كعادتنا في تعريبات عديدة أخرى، كتعريب nation بـ"الأمة"، وnationalism بـ"القومية"، وsocialism بـ"الاشتراكية". لم نتوقف، إذن، على ما يقول مالك، لنسبر غور الأصل الغربي، ولم نلم بمضامين قرينته، فقبضنا، كـ"المتخبِّطين في الليل"، على أول لفظ عربي وقعتْ عليه أيدينا، ولم ننتبه – قاتلنا الله! – إلى "هذه السطحية الارتجالية الشرعية" التي "تميِّز معظم التفكير العربي المعاصر في شتى الشؤون".
شارل مالك (1906-1978) يزعم مالك، إذن، أنه غاص إلى أعماق الأصل الغربي وسَبَرَ غوره، فإذا بـ"الكيانية" هي اللفظ المناسب، لأن فعل "كان" التام أشد عراقة وعمقًا من فعل "وَجَدَ" أو "أوْجَدَ" أو "وُجِدَ": "الموجود" يحتاج إلى "موجِد"؛ أما "الكائن" فلا يرتبط بالضرورة بـ"موجد" أو "واجد": إنه "كائن بذاته"، سواء أوُجِدَ له موجِد أو واجد أم لم يوجد! أقول: لا تقوم أهمية كتاب شارل مالك على ما أورده من معلومات أولية أرادها "تمهيدية" في صدد الفيمياء (أو ما يسمِّيه "الظهورية") وفي صدد الحلولية والمثالية وبعض ممثِّلي الوجودية (أو ما يسمِّيه "الكيانية")؛ ولا تقوم على ما فصَّل وأجمل في الفلسفة الظهورية، وعلى ما نبَّه إليه من لمحات وجودية في مزامير داوود ومدينة أغسطينوس، وعلى ما استخلصه من وصف وجوديٍّ مكين للإنسان في القرآن، وعلى ما أشار إليه عند كلٍّ من شكسپير وغوته وپاسكال وكِركِغور ودوستويفسكي وبرديايف. فالإشارات التي أشار إليها والتلخيصات التي قدَّمها لا تستوي قيمتُها إلا كتمهيد لما سيُبنى عليها ولما لم يظهر حتى الآن؛ وهي تصح في وضعها الحالي، بالأحرى، كشروح تبسيطية في الفلسفة لغير الفلاسفة الذين كانوا سيطالبون مالك بالتأكيد بأن يشرح، مثالاً لا حصرًا، الفرق بين نعت الحقيقة الحقة بـ"المليئة" ونعتها بـ"المشبعة"، بين نعتها بـ"الثابتة" ونعتها بـ"الباقية"، والفرق بين "شغفه" و"نشوته" في سعيه إلى ذلك الخفي المنشود، والفرق بين "فانون" و"مائتون" في قوله: "إن البشر كلَّهم فانون مائتون." فهل هذه الأزواج من النعوت تشير إلى غنى في التفصيل وإلى تعيُّن ظهورات مختلفة لا بدَّ من التمييز بينها، أم أنها مجرد مترادفات إنشائية تهدف إلى التأثير في القارئ، لا إلى الكشف عن أوجُه أخرى للحقيقة – أي تندرج في البلاغة، وليس في طلب الحقيقة، كما هو مقدَّم في صدر الكتاب؟ أقول، إذن، إن الكتاب موجَّه إلى الجمهور العريض، لا إلى الفلاسفة، بحديث عن الفلسفة ممتع غالبًا، قلق أحيانًا، وتكراري بالنسبة إلى الفيلسوف، أولاً، أو لا لزوم له في "مقدمة". تقوم أهمية كتاب مالك، إذن، لا في ما يقدِّمه من معلومات تمهيدية، بل في ما يثيره من مشكلات لغوية، وتحديدًا من مشكلات اصطلاحية – وهي اليوم المسألة الأهم المطروحة على التفكير الفلسفي بالعربية. كيف لنا أن نقول الفلسفة بالعربية اليوم؟ كيف نقول Phänomenologie وPhänomen وnoèse وnoème وKonstitution وIn-der-Welt-sein و“In”-einandersein وSchon-sein؟ بل كيف نقول Sein وseiend وExistenz وexistent؟ بل كيف نعبِّر عن مجرد "السؤال"؟: كيف نترجم fragen وfrage وsich fragen وgefragt؟ بل كيف نقول بالعربية univers وcosmos وchaos؟ كيف نتكلم بالعربية على فلسفة تنهمُّ بالكون أو بالكائن أو بالكينونة، – أو بالموجود والوجود، إن شئت، – حين نضمر هذا الفعل ومشتقاته بالعربية، فنقول مباشرة: "السماء زرقاء"، بدلاً من قول الأجانب: "السماء (تكون) زرقاء"، ونقول: "أنا سعيد"، حيث يقول الأجانب: "أنا (أكون) سعيدًا"، فنضمر فعل الكون أو الوجود، ونحسب أن الخبر يتعلق بالمبتدأ من دون رابطة، وإذن، من دون كلِّ هذه الأدبيات الناجمة عن التأمل في طبيعة الرابطة المنطقية في مثل قولنا: "الإنسان (هو) حيوان عاقل". كيف يمكن للقول الفلسفي المنهمِّ بالكون والوجود والهوية أن يكون، إذن، في لغة تُضمِر هذه الأفعال والمكونات؟ – هذه "الظهورات"، على حدِّ تعبير مالك. هذا السؤال يبدو لي أنه السؤال المحوري الذي يبدأ منه كلُّ فعل تفلسُف بالعربية اليوم، مثلما يبدو لي أن الفعل الفلسفي الوحيد الممكن بالعربية اليوم هو الترجمة الفلسفية، أي تمرين القول الفلسفي على أن يقول نفسه بالعربية اليوم. على هذا الأساس، أرى لكتاب مالك أهميةً قصوى تعادل ما خصَّصه من مناقشات لكلمات مثل "ظهورة" و"جوهر" و"كائن" و"كايوس" و"وجود" و"كائن" و"كيانية" و"معقول" و"عاقل" و"مادة العقل" و"مادة الفعل" و"ما يختص به" و"الشيء" و"الأمر" و"الشأن" و"الأپريوري" a priori. أقول هذا على الرغم من عدم موافقتي على ما اجتهد فيه في شأن "الكيانية" و"الوجودية". فاللفظ ليس فقط ما كان معناه في الأصل (أين الأصل؟)، بل ما صار في التداول. ولا يمكن لنا التخلِّي عن "الوجودية"، مثلاً، واستبدال "كيانية" بها – ليس فقط لسبق استعمالها، بل لأن التسويغ الذي يعطيه مالك يظل غامضًا وغير مقنع؛ بل هو نفسه لا يلتزم به، حيث يكتب: "كما يزعم سارتر وغيره من الوجوديين" (ص 305)، وحيث يتخلَّى عن هذا الوصف ليصير "كيانيين" على امتداد 130 صفحة هي كل الإضافة إلى الطبعة السابقة. لا نعرف، إذن، من مالك كيف نفرِّق بين "الوجود" و"الكيان" أو "الكون"، أو كيف نجمع ترجمته لـ"أوسية" ουσία (اللفظ اليوناني) بـ"كائن"، بدلاً من "جوهر" أو "ماهية"، مع الاشتقاق من "كان" الذي هو "كيان". ألا يدل "الكون" و"الكيان" و"الكائن" و"المكوَّن"، بالأحرى، على ما هو "في الذات"، في "الكنِّ" و"المكنون"؟ ألا يشير "الوجود" و"الموجود" و"التواجد" و"الانوجاد" و"إثبات الوجود"، بالأحرى، إلى "الوجود مع" آخر Mitsein، إلى الآخر الذي "يجد"، فيكون ما يجده، ما يلقاه، موجودًا أمامه؟ ألا يتوافق هذا المعنى، بالأحرى، مع اللفظ اللاتيني existentia وما تعنيه ex- من إشارة إلى "البران"، لا إلى "الجَوَّان"؟! يكفي، إذن، كتاب شارل مالك أنه يثير هذا النقاش – وفي المحل الأساس من مهمة "التمهيد" للقول الفلسفي بالعربية اليوم. إلى ذلك، أحسب أن هذا الكتاب، في طبعته الجديدة، سيُقرأ على نطاق أوسع بكثير مما قُرِئَتْ طبعته الأولى (1977)؛ وأحسب أن التوسع المحتمل في نطاق القراء لن يكون بسبب الإضافة الجديدة، بل بسبب ما تبدَّل، خلال ربع القرن الفاصل بين الطبعتين، من أوضاع في استقبال الفلسفة والإقبال عليها. فقبل ربع قرن، لم يكن لدينا وقت، لم يكن للعالم كلِّه وقتٌ يصرفه على قراءة "مجانية" لنصوص وتأملات لا تقدم نفعًا مباشرًا! كانت النصوص منحازة بالضرورة، أو هي استُقبِلَتْ على هذا الأساس. و"سيرة ذاتية فلسفية" تغرق في تأمل "مراتب الوجود"، أو تتلهى بشرح المفردات والتمهيد وما إلى ذلك من التجريدات. تأملات كهذه لم تأتِ في وقتها "التاريخي"، فلم تحظَ، إذن، بالوقت اللازم لها. كان ينبغي أن تهدأ النفوس – هل هي تهدأ حقًّا؟! –، كان ينبغي أن يفك العقلُ أسرَه من السياسي، كان ينبغي أن يدرك أن الأخلاق Ethics تتقدم على السياسة، حتى يصير لديه نظريًّا وقت للتأمل، وقت لـ"طلب الحقيقة" أو لمجرد التفكير – حتى يتوفر، إذن، وقت للفلسفة، فيه ينصرف العقلُ إليها. لكن الفلسفة تأتي أبدًا في غير وقتها... لأن "الحس المشترك" common sense له أبدًا مشاغله "التاريخية". لا يصح القول، إذن: "قد حان وقت الفلسفة"، بل ينبغي الانتباه إلى أن ما كان يشغل محلَّ الفلسفة قد رحل الآن وتبدَّد في الريح، وأن على الفلاسفة أن ينهضوا، إذن، إلى محلِّهم ليملأوه. *** *** *** تنضيد: دارين أحمد [1] شارل مالك، المقدمة – سيرة ذاتية فلسفية، دار النهار للنشر، بيروت 2001، 648 ص.
|
|
|