كارل غ. يونغ

حياتُه وأعمالُه

 

جوزف كامبل[1]

 

1. الطفولة وسنوات الطلب

ولد كارل غوستاف يونغ في 26 تموز من العام 1875 في كِسْفِل بسويسرا على بحيرة كونستانزا. كان جده لأبيه، الذي سُمِّيَ باسمه، قد نزح من ألمانيا في العام 1822، عندما حصل له ألكسندر فون هُمبولت على منصب أستاذ في الجراحة بجامعة بازِل. كان أبوه يوهان پول أخيلِس يونغ (1842-1896) قسيسًا، وكانت أمه، برايسفرك يونغ (1848-1923)، ابنةً لأسرة مقيمة في بازِل منذ أمد طويل.

والدا كارل يونغ.

عندما كان الصبي في الرابعة، انتقل أبواه إلى كلاين–هونِنْغِن، على مقربة من بازِل، حيث بدأ تعليمه. علَّمه أبوه اللاتينية، وقرأتْ له أمُّه عن الأديان غير المسيحية من كتاب مصوَّر للأطفال، كان يرجع إليه دائمًا لكي يمتع ناظريه بصور آلهة الهندوس، كما نبَّأنا بذلك في كتاب أملاه في أواخر أيامه بعنوان حياتي: ذكريات، أحلام، تأملات.

كارل يونغ طفلاً.

في مطلع شبابه، كان يفكر بأن يدرس علم الآثار. وكان له اهتمام بعلم اللاهوت أيضًا، لكن ليس بالمعنى الذي يفهمه أبوه – ذلك أن حياة المسيح، من حيث إنها الملمح الوحيد الحاسم في دراما الله والإنسان، كان يعتبرها مخالفةً لتعاليم المسيح نفسه بأن الروح القدس سوف يأخذ مكانه بين الناس بعد موته. كان يسوع في نظره إنسانًا – من هنا، فهو إما خاطئ وإما مجرد ناطق بلسان الروح القدس، الذي كان بدوره تجليًّا "لله الذي لا يُدرَك".

ذات يوم، في مكتبة والد أحد زملاء الصف، وقع نظرُ الفتى الوسيم الطلعة على كتيِّب عن "الظاهرات الروحية" سرعان ما استولى على لبِّه واستغرق اهتمامه – ذلك أن الظاهرات الموصوفة كانت مماثلة للظاهرات التي اشتملتْ عليها الحكاياتُ التي كان يستمع إليها في الريف السويسري في طفولته. ثم علم فيما بعد أن هذه الحكايات تُروى في جميع أنحاء العالم. ولم يكن ممكنًا أن تكون نواتج خرافات دينية، لأن التعاليم الدينية تختلف فيما بينها، بينما هذه الروايات يشبه بعضُها بعضًا. فاستنتج من ذلك أنها يجب أن تكون متصلة بالمسلك الموضوعي الذي تسلكه النفس psyche. انقدح زمامُ اهتمامه، فراح يقرأ الكتاب في نهم شديد. لكنه، في أوساط أصدقائه، لم يجد سوى مقاومة للموضوع، تلك المقاومة الشديدة الغريبة التي أذهلتْه. كان يقول:

كان لدي شعور أنني قد دُفِعْتُ إلى حافة العالم، وما كان ذا أهمية لاهبة عندي كان باطلاً عند الآخرين، بل سببٌ للخوف حتى. خوف ممَّ؟ لم أستطع أن أجد تفسيرًا لهذا. على كلِّ حال، لم يكن هناك ما ينافي الطبيعة أو العقل أو ما يزعزع العالم إذا اعتقد الناسُ بوجود حوادث تتخطَّى مقولات المكان والزمان والسببية المحدودة. فالمعروف عن الحيوانات أنها تحس بهبوب العاصفة والزلزال قبل وقوعهما. وفي الأحلام أحلامٌ استشرفتْ موت أشخاص معينين، وهناك ساعات توقفت في لحظة موت زيد من الناس، وأقداح تكسرت في لحظة حرجة. هذه الأشياء كلها كانت أشياءً مفروغًا منها في عالم طفولتي؛ وها أنا ذا الآن أبدو وكأنني الشخص الوحيد الذي اتفق له أن سمع بها. ساءلت نفسي بكلِّ جدية عن نوع العالم الذي وقعتُ فيه. بكلِّ وضوح، كان عالم المدينة لا يعلم شيئًا عن عالم الريف، العالم الحقيقي، عالم الجبال والغابات والأنهار والحيوانات وأفكار الله (النبات والكريستال). لقد وجدت هذا التفسير مريحًا، وفي كلِّ الأحوال، عزَّز تقديري لنفسي.

أما ما الذي حفز هذا الفتى ذا الميل الفلسفي إلى دخول عالم الطب فيظل أمرًا مجهولاً إلى حدِّ ما بلغه علمُنا. ربما كان ذلك تحت تأثير الاقتداء بجدِّه الذي كان متميزًا جدًّا زمن هُمبولت. لكنه هو نفسه وَصَفَ الحوادث الغريبة التي جعلتْه يتحول في الشهور الأخيرة من دراسته الطبية من الطب والجراحة إلى الطب النفسي.

عندما كان يتابع درس المقررات، كان في أيام الأحد يقرأ في نهم شديد كانط وغوته وهارتمن وشوپنهاور ونيتشه. لكنه، هنا أيضًا، وجد أنه عندما كان يريد أن يتكلم مع أصدقائه عن هؤلاء الفلاسفة لم يكن أحدٌ منهم يريد أن يسمع عنهم. كان كل ما يريده أصدقاؤه هو الوقائع، وكان كل ما عنده لهم هو الكلام – إلى أن كان ذات يوم حدثٌ فيه شيء قاس وبارد كالفولاذ.

كان في غرفته يدرس، والباب نصف مفتوح على غرفة الطعام، حيث كانت أمه تحيك شيئًا لها أو لأولادها قريبًا من النافذة، عندما صدرتْ طلقةٌ عالية، كأنها طلقة مسدس، حين الطاولة الدائرية المصنوعة من خشب الجوز انقصفتْ من الحافة إلى ما بعد المركز – كانت طاولة من خشب الجوز الصلب المجفف والمنشف على مدى سبعين عامًا. بعد أسبوعين، عاد طالب الطب الشاب إلى بيته ذات مساء، فوجد أمَّه وأخته ذات الأربعة عشر عامًا والخادمة في هياج شديد. فقبل حوالى ساعة، صدرتْ طلقةٌ تصم الآذان من جوار "بوفيه" ثقيل من القرن التاسع عشر، فقامت النسوة بفحصها من دون أن يجدن علامةً فيها. لكن كانت بالقرب منها مائدة عليها سلَّة خبز وَجَدَ يونغ سكين الخبز فيها، وكان ذا نصل فولاذي، قد تكسَّر قِطَعًا: كانت قبضته في زاوية من السلة، وفي الزوايا الأخرى كلِّها قطعة من النصل. حتى آخر يوم من حياته، ظل يحتفظ بقِطَع هذه الحادثة الحسِّية.

بعد بضعة أسابيع، علم من أقربائه المهتمين باستحضار الأرواح أن لديهم "وسيطة" medium، وكانت في الخامسة عشر والنصف، كانت تَعرِضُ لها حالاتُ سرنمة [سير في أثناء النوم] وظاهرات روحية. دُعِيَ يونغ إلى المشاركة، وكان تخمينُه الذي بدا له على الفور أن الظواهر التي حدثتْ في بيت والدته ربما لها صلة بهذه الوسيطة. انضم إلى الجلسة، وظل طوال السنتين التاليتين يدوِّن ملاحظاتِه في منتهى الدقة، إلى أن بدأت الوسيطةُ تخدعه بعد أن شعرت بقواها تخونها، فانصرف عنها.

في تلك الأثناء، – وكان لمَّا يزل في مدرسة الطب، – وفي الوقت المناسب، حان وقت امتحان الدولة. لم يكن أستاذه في علم النفس "يثير الاهتمام تمامًا" في تقديره. زِدْ على ذلك أن الطب النفسي في ذلك الزمان كان يُنظَر إليه في ازدراء. ولذلك احتفظ حتى النهاية، من أجل أن يستعد، بكتاب الطب النفسي الموسوم بـالكتاب التعليمي في الطب النفسي من تأليف كرافت إبنغ[2] الذي فتحه بهذه الفكرة غير الواعدة: "لننظر الآن ما ينبغي أن يقوله طبيب نفسي عن نفسه."

مبتدئًا بالمقدمة قرأ ما يلي: "لعل الأمر يرجع إلى غرابة الموضوع وحالته غير المكتملة من البَسْط أنْ وُصِمَتْ كتبُ الطب النفسي بشيء قليل أو كثير من الذاتية." وبعد بضعة أسطر، وصف المؤلف الاختلالاتِ العقليةَ بـ"أمراض الشخصية"؛ فكان أن بدأ قلب القارئ يدق على الفور؛ وكان عليه أن يتوقف ويسحب نفسًا عميقًا. كانت حماسته شديدة، لأنه، كما قال: "اتضح لي، في ومضة تنوُّر، أن الهدف الوحيد الممكن بالنسبة لي هو الطب النفسي." فهنا، وهنا فقط، الميدان التجريبي الذي تجتمع عنده الحوادث الروحية والبيولوجية.

2. الطبيب البحَّاثة: الفترة الأولى (1900-1907)

في 10 كانون الأول 1900، تسلَّم كارل يونغ ذو الخمسة والعشرين عامًا منصبَ طبيب مساعد أول في عيادة بُرغُلزلي للطب النفسي بتسورِش، تحت إشراف أويغن بلويلر الذي يعترف له يونغ بأنه أول اثنين تتلمذ عليهما؛ وكان الثاني پيير جانيه، من مستشفى سالپتريير بباريس، الذي درس عليه فترة من العام 1902. وبإشراف بلويلر، أكمل أطروحته لنيل الدكتوراه، وكانت بعنوان في پسيكوپاثولوجية ما يسمى بالظاهرات الغيبية (الأعمال الكاملة، المجلد 1)، حلَّل فيها الوسيطة والجلسات على مدى سنتين من مغامرته في عالم الغيب، مع مراجعة ما نُشِرَ من دراسات أولى عن السرنمة والصرع الهستيري وفقدان الذاكرة وحالات أخرى ذات صلة بالحالات الشفقية. والذي يلفت الانتباه هنا أن في هذا العمل الباكورة ظهرت على الأقل خمسة موضوعات رئيسية قُدِّرَ لها أن تتكرر كمعالم ثابتة في جميع أعمال يونغ اللاحقة:

الأولى، استقلال المحتويات النفسية الخافية أو غير الموعِيَّة. ففي حالات شبه السرنمة أو الاستغراق، قد يستولي على السلطة مثلُ هذه العناصر المستقلة، محدِثًا "فعاليات ذاتية" من أنواع مختلفة: رؤى هلوسية، أو أحاسيس أو أصوات (قد تفسَّر كـ"أرواح")، أو حركات أو كتابات تلقائية، إلخ. فإذا قوي بمرور الوقت تكوينُ مثل هذه العقدة المستقلة، أمكن نشوء شخصية ثانية "خافية" أو لاواعية، تستطيع أن تتولى القيادة في ظرف ارتخاء الرقابة الواعية. في حالة وسيطته، استطاع يونغ أن يتعرف في اختباراتها الأخيرة إلى مصادر الكثير من شواردها الخيالية، ملاحظًا أنه حتى في سنِّ المراهقة التي تجري فيها عقدةُ الأنيَّة القادمة تحدث انشطاراتٌ مشابهة.

وهذا ما أتاح له طرح فكرة ثانية قُدِّرَ لها أن تظل أساسيةً في تفكيره: وأعني أن لهذا الاضطراب الپسيكولوجي مغزى غائيًّا ووقائيًّا؛ ومع ذلك، يشير إلى الأمام، ويَهَبُ الفردَ "وسيلة الفوز"، التي لولاها لخضع للظروف المهددة.

النقطتان الثالثة والرابعة اللتان تظهران في هذه الورقة تنفيان أن تكون الخافية [= اللاوعي] مجرد حامل ذكريات غائبة عن الواعية، وإنما هي أيضًا عامل استقبال حدسي "يتجاوز كثيرًا ما عند العقل الواعي منه". على هذه النقطة الأخيرة استشهد يونغ بكلمات الطبيب النفسي الفرنسي، ألفرد بينيه، ومُفادها أن "الحساسية الخافية للمريض بالهستيريا تزيد حدَّتها في حالات معينة خمسين مرة على ما لدى شخص عاديٍّ منها".

أخيرًا، بيَّن يونغ في هذه الورقة الأولى، التي جاءت بعد ممارسة وخبرة طويلتين، أن الوسيطة الشابة جاءت في أحد الأيام ووجهها يطفح بِشرًا بما "أوحتْه" إليها الأرواح من مفهوم ميثولوجي غريب عن الكون، شبيه بـ"منظومات" غيبية متفرقة في أعمال ما كان من الممكن أن تصل إليها هذه الفتاة. فقد كانت هذه المنظومات مكونةً من عناصر متشظِّية من مصادر يمكن التعرف إليها؛ أما منظومتها هي فقد ضُمَّ بعضُها إلى بعض فيما دون، أو فيما وراء، ذهنها الواعي، وقدمتْ نفسها إليها صورةً مكتملة التكوين. وقد خَلُصَ يونغ إلى استنتاج، كما بَسَطَه في كتاباته اللاحقة، مُفاده أن في النفس الإنسانية قوة نمذجة موروثة يمكن لها في أزمنة مختلفة، من دون أن تكون ثمة صلة فيما بينها، أن تطلق إطلاقًا عفويًّا مجموعاتٍ متماثلةً من شوارد الخيال، بحيث، كما يبين في عمل لاحق، "لو أن جميع عقائد العالم انقطعت بضربة واحدة، لعادت الميثولوجيا، ولعاد التاريخ الديني برمته مع الجيل التالي".

في العام 1903، أنشأ هذا الشاب الألمعي في عيادة بُرغُلزلي مختبرًا للپسيكوپاثولوجيا [= علم النفس الأمراضي] التجريبية، حيث شرع مع نَفَرٍ من الطلبة، يساعده الدكتور فرانتس رِكْلِن، في درس الرُّجُع [= ردود الأفعال] النفسية بواسطة اختبارات التداعي [= تداعي الخواطر]. المفهوم الأساسي الذي قام عليه هذا المنهجُ هو الشدة العاطفية (بحسب مصطلح بلويلر: "حالة عاطفية يصاحبها تنبُّهٌ عصبي جسماني")، من حيث إنها قوة جامعة تتألف عندها تكوكُبات من الأفكار، سواء في الواعية أو في الخافية، من حيث إن الأنيَّة الواعية نفسها، وكذا جملة الأفكار التي تنتسب إليها، ليست غير هذا "المجمع ذي الشدة الشعورية أو العاطفية".

في مؤلَّفه الموسوم بـپسيكولوجية العَتَه المبكر[3] [= الاسم القديم للفصام schizophrenia] – وهو العمل الذي يتوِّج هذه الفترة، وقد أرسله إلى فرويد فيما بعد – يصرِّح يونغ:

الأنيَّة هي التعبير الپسيكولوجي عن جملة إحساسات البدن التي تجمعت فيما بينها على هيئة عُرًى وثيقة. ولذلك كانت شخصية المرء أقوى مجمع أو عقدة complex، وتثبت أمام العواصف الپسيكولوجية (إن واتتْها صحة جيدة). [لكن] الواقع يحذرنا بأن دورة الأفكار المتمركزة في الأنيَّة تقطعها قطعًا مستمرًّا أفكارٌ ذات شدة شعورية، أي عواطف. فوضع محفوف بالخطر يقذف بلعبة الأفكار الهادئة جانبًا ويضع في مكانها مجمعًا (أو عقدة) من أفكار أخرى ذات شدة شعورية أو عاطفية قوية جدًّا. إذن، المجمع الجديد يلقي بكلِّ شيء آخر إلى الخلف. وهو في الوقت الراهن الأظهر لأنه يحظر كليًّا جميع الأفكار الأخرى. فعندما تمس كلمةُ الاختبار وتنشِّط تداعياتٍ ذات شدة عاطفية لدى الشخص المختبَر، تقوم الكلمةُ المحرِّضة بالكشف عن الخبيء من "حوادث" حياته.

وإنما اكتسب يونغ أول شهرة له في حياته الطبية بفضل بواكير منشوراته المتعلقة بهذا البحث[4].

كارل يونغ وزوجته إمَّا.

كارل وإمَّا يونغ مع ابنه وثلاث من بناته.

في العام 1903، تزوج يونغ من إمَّا راوشنباخ، التي قُدِّرَ لها أن تصبح أمًّا لأربع بنات وابن واحد، وأن تظل مُعينةً لزوجها وثيقة الاتصال به حتى يوم وفاتها في العام 1955. بعد سنتين من زواجه، أصبح يونغ كبير أطباء العيادة، وعُيِّنَ محاضرًا في الطب النفسي بجامعة تسورِش، حيث تعامَل بصفة رئيسية مع التنويم المغناطيسي والأبحاث المتعلقة بالسرنمة والأفعال التلقائية automatisms والهستيريا إلخ. وفي قاعة المحاضرات حدثت معجزةٌ صغيرة أكسبتْ ممارستَه العمليةَ بُعدًا كبيرًا:

امرأة في منتصف العمر تمشي على عكازين تقودها خادم دخلت القاعةَ ذات يوم. كانت تشكو منذ سبعة عشر عامًا من شلل مؤلم في ساقها اليسرى. وعندما أجلسها على كرسي مريح وطلب منها أن تحكي قصتها، مضت في سرد حكايتها في إسهاب ليس له نهاية، حتى اضطر أن يقاطعها أخيرًا: "طيب، الآن ليس لدينا وقت لهذا الكلام الكثير. أنا سأنوِّمك." أغمضت المرأة عينيها وذهبت في غيبوبة عميقة من غير تنويم أبدًا، مسترسلةً، في غضون ذلك، في كلامها، تروي أبرز أحلامها. كان الوضع بالنسبة للمدرس الشاب مربِكًا، غير مريح، وأمام طلابه العشرين كان في غاية الحرج. وعندما حاول إيقاظها، باءت محاولتُه بالفشل، فأصابه ذعرٌ شديد. لم تَصْحُ إلا بعد مرور عشر دقائق. وعندما أفاقت كان بها دوارٌ وارتباك. قال لها: "أنا الطبيب، كل شيء على ما يرام." لم يكد ينتهي من كلامه حتى هتفت فرحة: "لكنني شُفيت!" ثم ألقت بعكازيها بعيدًا وشرعت تمشي. عندئذٍ التفت يونغ إلى تلاميذه، وقد غلى الدم في عروقه ارتباكًا: "الآن رأيتم ماذا يمكن للتنويم أن يفعله!"، على حين أنه لم تكن لديه أدنى فكرة عما حدث. غادرت المرأة المكان وهي في أحسن معنوياتها لكي تعلن شفاءها، وتعلن يونغ ساحرًا على الملأ!

3. الطبيب البحَّاثة: الفترة الثانية (1907-1912)

بدأت معرفة يونغ بكتابات فرويد في العام 1900، وهي السنة التي نَشَرَ فيها هذا الأخير كتابه في تأويل الأحلام الذي قرأه يونغ بناءً على اقتراح بلويلر، لكنه لم يكن يومئذٍ مهيَّئًا لفهمه. بعد ثلاث سنوات، رجع إلى الكتاب، فوجده يقدم له خير تفسير لما كان قد وجده في "آلية" الكبت التي لاحظها في اختبارات تداعي الكلمات. غير أنه لم يستطع أن يسلِّم بردِّ فرويد "محتوى" الكبت إلى رضٍّ جنسي ليس إلا. فقد كان استطاع من ممارسته الشخصية أن يشخِّص حالاتٍ

[...] لعبتْ فيها مسألةُ الجنس دورًا تابعًا، حيث كانت عوامل تقف في المقدمة – مثلاً، مشكلة التكيف الاجتماعي، والغمِّ الناشئ عن ظروف مأساوية في الحياة، واعتبارات الجاه والنفوذ، وهكذا.

افتتح يونغ مبادلةً مع فرويد بأن أرسل إليه في العام 1906 مجموعةَ بواكير أوراقه، وكانت بعنوان دراسات في تداعي الكلمات، لقيت من فرويد استجابةً اتسمت باللطف والكَيْس. ثم ذهب يونغ يزوره في فيينا. تقابلا وليس معهما عُصارى ذلك اليوم أحد، وظلا يتحدثان طوال ثلاث عشرة ساعة من دون انقطاع. في السنة التالية، أرسل يونغ إلى فرويد مقالته حول پسيكولوجية العته المبكر، فدعاه إلى زيارته في فيينا، لكن مع زوجته هذه المرة. وهنا اتخذت الأحوال وجهةً أخرى. يقول يونغ:

عندما وصلت إلى فيينا، وبرفقتي زوجتي الشابة السعيدة، جاء فرويد لاستقبالي في الفندق ومعه طاقة أزهار لزوجتي. كان يحاول أن يكون لبقًا جدًّا. ثم قال لي: "يؤسفني ألا أستطيع استضافتك. ليس عندي في البيت سوى زوجتي العجوز.

ويعلِّق يونغ:

عندما سمعتْه زوجتي يقول هذا، بدت مرتبكة ومحرَجة. في بيت فرويد في ذلك المساء، ونحن على مائدة العشاء، حاولتُ أن أتحدث إلى فرويد وزوجته عن التحليل النفسي وعن نشاطات فرويد، فاتضح لي أن السيدة فرويد لا تعرف شيئًا عما كان يفعله زوجها. لقد كان واضحًا جدًّا أن العلاقة بين فرويد وزوجته كانت علاقةً سطحيةً جدًّا.

ثم قابلتُ شقيقةَ زوجة فرويد الصغرى. كانت جميلة جدًّا، ولم تكن تعرف عن التحليل النفسي معرفة كافية وحسب، وإنما كانت تعرف كلَّ شيء عما كان يفعله زوجُ شقيقتها. بعد بضعة أيام، عندما كنت أزور عيادة فرويد، سألتْني شقيقةُ زوجته إنْ كانت تستطيع أن تتحدث إلي. لقد كانت منزعجة جدًّا من علاقتها بفرويد، وكانت تشعر بالإثم من جرائها. علمتُ منها أن فرويد كان متيمًا بها وأن صداقتهما كانت حميمة جدًّا. لقد صَدَمَني هذا الاكتشاف. وإني، إلى الآن، أتذكر ذلك الألم الذي انتابني يومذاك.

صورة تذكارية للمشاركين في المؤتمر الدولي الأول للتحليل النفسي، يظهر فيها فرويد في الوسط ويونغ إلى يساره.

في السنة التالية، 1908، جاء يونغ إلى فيينا للمشاركة في أعمال المؤتمر الأول للتحليل النفسي، وهناك التقى بالقسم الأعظم من تلك الصحبة المتميزة التي قُدِّرَ لها في السنوات التاليات أن تعرِّف العالمَ بحركة التحليل النفسي. وفي الربيع التالي، 1909، وجد يونغ نفسه مرة أخرى في فيينا؛ وفي هذه المناسبة أنهى إليه فرويد – وكان يكبره بتسعة عشر عامًا – أنه يتبناه ويعتبره "ابنه البكر" وينصِّبه خليفة له و"وليًّا لعهده" Dauphin. لكن يونغ عندما سأل "أباه" رأيه في موضوع الاستشراف precognition والپاراپسيكولوجيا، أجابه في حدة: "لغو لا معنى له." يقول يونغ:

قال هذا بطريقة تتبدى فيها الوضعية Positivism على أضحل ما يكون، حتى لقد وجدت صعوبةً كبيرةً في إيقاف الردِّ الحاد الذي كان على رأس لساني.

يمضي يونغ في رواية أول أزمة حقيقة أصابت صداقتهما، قائلاً:

وبينما كان فرويد ماضيًا في نبذه لهذه الظاهرات، انتابني إحساسٌ غريب. لقد أحسست كأن حاجبي الحاجز قُدَّ من حديد، واحمرَّ من شدة الحرارة، وأصبح قنطرةً متَّقدة. في تلك اللحظة صدرتْ عن خزانة الكتب – وكانت مما يلينا تمامًا – طلقةٌ عالية، حتى انتاب كلينا هلعٌ شديد. قلت لفرويد: "هو ذا مثال على ظاهرة الاستظهار الحفزي Catalytic Exteriorization." فقال فرويد: "هذا هراء محض!" قلت: "ليس كذلك، أنت مخطئ، سيدي البروفيسور. ولكي أثبت لك صحةَ رأيي أستطيع أن أتنبأ الآن أن طلقة عالية أخرى ستصدر بعد لحظة!" وبالفعل، لم أكد أنطق بهذه الكلمات حتى صدرتْ عن خزانة الكتب طلقةٌ ثانية. حتى هذا اليوم، لم أدرِ ما الذي جعلني أستيقن من ذلك؛ كذلك لم أدرِ ماذا كان يجول في خاطر فرويد وقتئذٍ، ولا ماذا كانت تعني نظرتُه إلي. لكن هذه الحادثة استثارت ريبتَه فيَّ، على كل حال. بعد ذلك لم أبحث معه في هذا الموضوع أبدًا.

لا غرو، بعد هذا العَرْض "الشَّمَني"[5] من جانب "الابن" المتبنَّى حديثًا، أن يعاني "الأب" (مع فكرته الثابتة عن الأوديپ)، في مناسبتهما التالية، من أزمة هستيرية. حدث هذا في ذلك الخريف، في بريمن، عندما تقابلا لكي يُبحرا إلى أمريكا، مدعوَّين، كليهما، إلى جامعة كلارك في أمريكا لكي يتسلم كل منهما درجةَ شرف. كان يونغ يقرأ آنذاك عن "جثث مستنقع الخثِّ"، وكان قد كُشف عنها في الدانمرك: وهي جثث من العصر الحديدي، لم تنلها يد البِلى، بل ظلت في حال سليمة، وكان يأمل أن يشاهدها عندما كان في الشمال. وعندما راح يتحدث عن هذه الجثث كان ثمة شيء حول إصراره أخذ يستثير أعصاب فرويد. تساءل فرويد عدة مرات عن سبب اهتمامه بهذه الجثث. وعلى مائدة العشاء، عندما راح يونغ يواصل كلامَه، سقط فرويد مغشيًّا عليه – معتقدًا، كما أوضح بعد ذلك، أن لدى يونغ "رغبة في موته".

كرَّستْ محاضراتُ فرويد ويونغ في جامعة كلارك (1909) التحليلَ النفسي عالميًّا. يشاهَد فرويد ويونغ إلى يمين العميد هول ويساره، على التوالي.

يقول يونغ، كما أنبأ صديقه الدكتور بلنسكي بعد خمسين عامًا:

منذ البداية الأولى لرحلتنا، بدأنا نحلِّل أحلامَ بعضنا بعضًا. رأى فرويد بعض أحلام أزعجتْه كثيرًا، وكانت تدور حول مثلث فرويد وزوجته وشقيقتها الشابة. لم يكن لدى فرويد فكرة عن علمي بالمثلث وعلاقته الحميمة بابنة حميه. ولذلك، عندما أنبأني بالحلم الذي لعبتْ فيه زوجتُه وأختُها دورًا هامًّا، وطلبتُ منه أن يُعلِمَني بشيء عن تداعياته الشخصية المتعلقة بالحلم، نظر إليَّ في مرارة وقال: "أستطيع أن أخبرك بالمزيد، لكني لا أستطيع أن أخاطر بمرجعيَّتي." طبعًا، لقد أنهى قولُه هذا محاولتي التعامل مع أحلامه... لو أن فرويد حاول أن يفهم "المثلث" فهمًا واعيًا، لكان تحسَّن كثيرًا.

الحادثة الرضية التالية حدثتْ في العام 1910، وهي السنة التي انعقد فيها المؤتمر الثاني لجمعية التحليل النفسي، حين اقترح فرويد، بل حتى أصر، على المعارضة المنظمة أن يعيِّن يونغ رئيسًا دائمًا. يقول يونغ:

ألح عليَّ فرويد في هذه المناسبة قائلاً: "عزيزي يونغ، عِدْني ألا تتخلَّى عن النظرية الجنسية. فهي أساسية أكثر من كلِّ شيء. انتبه، لا بدَّ أن نجعل منها دوغما وحصنًا لا يتزعزع.

يتابع يونغ:

قال هذا بعاطفة بالغة وبلهجة أب يقول لابنه: "عدني بشيء واحد، يا بني، أنك سوف تذهب إلى الكنيسة كلَّ يوم أحد." سألته في شيء من الدهشة: "حصنًا... ضد ماذا؟" أجاب: "ضد مدِّ الوحل الأسود..." – وهنا تردد لحظة ثم أضاف: "... للغيبيات Occultism."

يعلِّق يونغ قائلاً:

قبل كلِّ شيء، أجفلتُ من كلمتَي "حصن" و"دوغما"، لأن هذه الأخيرة تعني إعلان إيمان لا مراء فيه. وإنما تُعتمَد الدوغما لقطع دابر الشك نهائيًّا. والدوغما لا علاقة لها بحُكْم علمي، بل بحضِّ سيطرة شخصيٍّ.

يتابع يونغ:

لقد كان هذا الشيء هو الذي أصاب صداقتَنا في الصميم. إذ كنت أعلم أنه لن يكون في وسعي أن أقبل بمثل هذا الموقف. وما بدا لي هو أن فرويد كان يعني بـ"الغيبيات" كلَّ ما تعلِّمه الفلسفة والدين عن النفس، بما في ذلك العلم المعاصر الناشئ، الپاراپسيكولوجيا. وكنت أرى نظرية الجنس، كالفلسفة والجنس، "غيبية" – أي فرضية لم يُقَمْ عليها الدليل، مثلها كمثل غيرها من فرضيات النظر العقلي. وكنت أرى أن الحقيقة العلمية قد تكون مُرضيةً في الوقت الحاضر، لكن لا يصح أن نأخذ بها كما نأخذ برُكْن إيمان يصلح لكلِّ زمان.

كان الاختلاف بين الاثنين كبيرًا. ومع ذلك، صمَّما على العمل معًا حتى انعقاد المؤتمر التالي في العام 1912، في ميونخ، حيث كان فرويد لم تزل تطغى عليه أسطورةُ أوديپ. أدار أحدهم الحديث عن أخناتون، مبيِّنًا أن هذا الأخير، بسبب من موقفه السلبي من أبيه، قام بمحو الكتابات المنقوشة على نُصُبِ أبيه، وأن وراء إبداعه ديانة توحيدية تكمن عقدةٌ أبوية. هنا غضب يونغ، وردَّ بالقول إن أخناتون كان مكرِّمًا لذكرى أبيه [أمنحوتب الثالث] وأن حماسته كانت منصبَّة على اسم الإله "آمن" وحسب. ثم إن الفراعنة الآخرين كانوا يُحِلُّون أسماءهم محلَّ أسماء آبائهم، شعورًا منهم بأن لهم الحقَّ في أن يفعلوا ذلك بما هم تجسيدات لنفس الإله، وهم مع ذلك لم يأتوا بدين جديد. لدى سماعه هذه الكلمات، سقط فرويد عن كرسيه مغشيًّا عليه!

يذهب كثيرون إلى أن انفصام عروة الصداقة بين الاثنين كان سببه قيام يونغ بنشر كتابه المغاير للفرويدية كلَّ المغايرة، وكان بعنوان رموز التحول[6]. غير أن هذا لم يكن رأي يونغ تمامًا، على الرغم من أن الكتاب قد لعب دورًا في هذا الخصوص. يقول يونغ للدكتور بلنسكي:

الشيء الوحيد الذي رآه في عملي هو مقاومة الأب – رغبتي في تحطيم الأب. وعندما حاولت أن أبيِّن له رؤيتي للِّيبيدو، كان موقفه مني يتسم بالمرارة والرفض. غير أن الأعمق من هذا – يمضي يونغ في شرحه – كان معرفتي بمثلَّث فرويد، التي أصبحت عاملاً هامًّا في انفصالي عنه. ثم إنني لم أستطع أن أضع مرجعيةَ فرويد فوق الحقيقة.

بدأ توجُّه يونغ إلى كتابة عمله الحاسم والفاصل رموز التحول في العام 1909، وهي سنة رحلته إلى أمريكا. وكان بدأ لتوه دراستَه للميثولوجيا. وفي سياق قراءته، وقع على كتاب فريدرِش كرويتسِر عن الرمز والأسطورة عند الأقوام القديمة، الذي "ألهب مشاعره"، كما يقول. لقد عمل كمن به مسٌّ على جبل من المادة الميثولوجية، ومضى يقرأ كتاباتِ الغنوصيين، وانتهى إلى اختلاط كلِّي. ثم عثر على شوارد خيالية لآنسة اسمها ميلِّر، وكانت من أهالي نيويورك، تولَّى نشرَها صديقُه المحترم تيودور فلورنوا في مجلة Archives de Psychologie. وقد راعتْه منها صفتُها الميثولوجية التي ألفاها تفعل فعل "الحفَّاز" في أفكاره المختزَنة في داخله. شرع في الكتابة، وكما قال في السنوات اللاحقة على تأليفه لهذا العمل المحوري في حياته:

لقد كان انفجارًا لجميع المحتويات النفسية، التي ما كانت لتجد لها مكانًا ولا متنفَّسًا في ذلك الجوِّ القابض من الپسيكولوجيا الفرويدية ونظرتها الضيقة... كنت أكتب في أقصى سرعة، وسط زحمة ضغط الممارسة الطبية، من دون نظر إلى الزمن أو المنهج. لقد كان عليَّ أن أقذف بمادتي مجتمعةً على نحو سريع مثلما كنت أجدها. لم تكن لدي فرصة أترك فيها المجال لأفكاري لكي تنضج. وقع الشيء كله كانزلاق أرضيٍّ لم يكن في وسعي صدُّه.

لقد جاءتْه المواد، من مصرية وبابلية وهندوسية وكلاسيكية وغنوصية وجرمانية وأمريكية–هندية – جاءتْه تتجمع حول شوارد امرأة أمريكية حديثة على حافة الانهيار الفصامي. لقد غيرتْ خبرةُ يونغ التي حصَّلها في سياق عمله وجهةَ نظره تغييرًا كليًّا في خصوص موضوع تفسير الرموز الپسيكولوجية. يقول يونغ:

لم أكد أفرغ من المخطوط حتى اتضح لي معنى أن تكون لإنسانٍ أسطورة ومعنى ألا تكون له أسطورة. الأسطورة، يقول أحد آباء الكنيسة، هي "ما يؤمن به كل شخص في كل زمان وفي كل مكان". من هنا كان الإنسان الذي يستطيع أن يعيش من دون أسطورة، أو خارجها، هو استثناء. فهو كمن استؤصل من جذوره، لا شيء يربطه بالماضي أو بحياة أسلافه المستمرة فيه، بل وحتى بالمجتمع البشري المعاصر. هذه الألعوبة الذهنية لم تستولِ أبدًا على ذهنه، وربما كانت ثقيلة على معدته أحيانًا؛ ذلك أن المعدة تنبذ منتجاتِ الذهن لأنها لا تُهضَم. النفس psyche ليست بنت اليوم، بل يرجع نسبُها إلى ملايين السنين. وما الواعية الفردية إلا زهرة وثمرة موسمية، نبتتْ من جذمور دائم تحت الأرض، وهي تجد نفسَها على توافُق مع الحقيقة إذا أخذت وجودَ الجذمور في حسبانها، لأن المادة الجذمورية هي أم الأشياء طرا.

لقد كان هذا الانزياح الجذري من التوجُّه الذاتي، والشخصي البيوغرافي بصفة أساسية في قراءة رمزية النفس، إلى توجُّه ميثولوجي، ثقافي–تاريخي، أرحب، هو الصفة المميِّزة لعلم النفس اليونغي. سأل نفسه: "ما الأسطورة التي تحياها أنت؟"، فوجد نفسه لا يدري:

لذلك، بطريقة أكثر طبيعية، أخذتُ على نفسي أن أعرف أسطورتي، واعتبرت هذا مهمة المهمات. ذلك أني – هكذا قلت لنفسي – كيف يمكن لي، وأنا أعالج مرضاي، أن أبيح لنفسي التدخل من أجل معرفة الشخص الآخر [المريض المعالَج] إنْ كنت أنا نفسي لا أعرف نفسي؟ لقد كان علي أن أعرف الأسطورة اللاواعية أو ما قبل الواعية التي كانت تشكِّلني، من أيِّ جذمور انبثقت. قادني هذا القرار إلى تخصيص سنين كثيرة من حياتي أبحث فيها عن المحتويات الشخصية التي هي نواتج سياقات خافية، وأصوغ المناهج التي تتيح لي الكشف عن تبدِّيات الخافية أو تعينني على ذلك الكشف.

إجمالاً وفي اختصار، كانت الأشياء الجوهرية التي اشتمل عليها هذا العمل المحوري هي: أولاً، أن "النماذج البدئية" Archetypes أو قواعد الأسطورة أمورٌ مشتركة بين أفراد النوع البشري؛ لذلك فهي لا تعبِّر عن ظرف اجتماعي محلِّي ولا عن خبرة فردية لأيِّ إنسان فرد، بل عن حاجات بشرية مشتركة، عن غرائز وإمكانيات. ثانيًا، في تقاليد قوم من الأقوام، يتيح الظرفُ المحلِّي الصورَ والأخيلةَ التي تتبدى من خلالها الموضوعاتُ النموذجية–البدئية في أساطير الثقافات الداعمة لها. ثالثًا، إذا خرج نهجُ حياة إنسان أو تفكيرُه عن عرف نوعه، بحيث تعقب ذلك حالةٌ مَرَضية من فقدان التوازن، عصابٌ أو ذهان، فسوف تظهر أحلامٌ وشوارد مشابهة للأساطير المتشظِّية. رابعًا، خير تفسير لمثل هذه الأحلام لا يكون بالرجوع إلى ذكريات الطفولة المكبوتة (اختزال reduction الموضوع إلى سيرة ذاتية)، بل بالمقارنة الخارجية مع الصور الأسطورية المشابهة (التوسيع amplification بحسب الميثولوجيا)، بحيث يتعلم المريض أن يرى نفسه خارجًا عن نفسه أمام مرآة الروح البشري، ويكتشف بطريقة القياس الطريقَ إلى أدائه الأوسع. الأحلام، في مذهب يونغ، هي الرَّجْع الطبيعي الذي تؤديه المنظومةُ النفسية التي تقوم على التعديل الذاتي self-regulation؛ وبما هي كذلك، فهي تشير إلى الأمام، إلى إمكانية صحية أرقى، لا مجرد إشارة إلى الوراء، إلى حيث أزمات ماضية. إن وضع الخافية ذو صفة تعويضية compensatory عن الواعية، وإن نواتجها من الأحلام والشوارد، تبعًا لذلك، ليست تصحيحية وحسب، بل مستقبلية أيضًا: إذ تعطينا، لو قرأناها جيدًا، مفاتيح للوظائف والنماذج البدئية التي تلح، في اللحظة، على الاعتراف بها.

4. الطبيب البحَّاثة: فترة المعلِّم (1912-1946)

كانت الأعوام الواقعة بين بداية الحرب العالمية الأولى ونهاية الحرب العالمية الثانية ذروة النضج عند يونغ. لكن هذه الفترة بدأت مع حقبة عدم التوجُّه. فحتى قبل افتراقه عن فرويد، كانت كتابات يونغ عن الميثولوجيا قد حولت مركز اهتمامه من عالم نور النهار، عالم الزمان والمكان والشخصيات، إلى عالم الظلمة الأبدية، عالم الأساطير، حيث الآلهة والإلهات والحُور والقنطورات[7] والتنين الذبيح. في العام 1909، استقال من منصبه في عيادة بُرغُلزلي؛ والسبب، كما يقول، يرجع إلى أنه كان مثقلاً بالعمل، إذ كان عليه أن يقوم بممارسات خاصة بلغت من الكثرة مبلغًا لم يعد يستطيع معه أداء مهماته.

رسالة "القطيعة" مع فرويد بخط يونغ.

في حوالى خريف العام 1913، طَغَتْ على يونغ وأقلقتْه كثيرًا رؤى مرعبة تغرق فيها أوروبا كلها في بحر من الدماء. وفي آب التالي، نشبت الحرب العالمية: وكان الأمر كما لو أن انفجارًا عامًّا ذا طبيعة فصامية من العقد المستقلة ذاتيًّا والشديدة العاطفية قد حطَّم إلى الأبد السطحَ الذهني من الفكر والحضارة الغربيين. في جزيرة السلام الوحيدة الباقية، قام يونغ، مثل عدد غير قليل سواه، في تلك السنين، بمهمة التنقيب في العمق عن تاريخ الإنسان الأوروبي الروحي، بغية التعرف إلى تشنجات التدمير الذاتي غير العقلاني، وإن أمكن، تجاوُزِها. في غضون ذلك، كانت أحلامه وشوارد خياله تكشف له عن النماذج البدئية من الداخل نفسها التي سبق له أن عرَّف بها باعتبارها ميثولوجيا عالمية، وكانت رسومُه التزيينية تتطور فتصبح مَنَدلات، دوائر سحرية، "كرپتوغرامات"[8] ذات صلة بالنفس المركزية أو الذات the Self، كتلك التي استخدمها الشرق على مدى قرون من حيث هي دواعم للتأمل. وكان يتساءل: "في أية أسطورة يعيش الإنسان في هذه الأيام؟" أو "ألم تعدْ لنا أسطورة؟"

مندلتان حديثتان من رسم يونغ.

ولعل من المناسب أن نلفت إلى أن جيمس جويس كان في تلك السنين في تسورِش يؤلِّف روايته الأشهر عوليس؛ ولينين كان هناك أيضًا يُعِدُّ لثورة عالمية. وكذلك كان هوغو بَلْ وريتشارد هُوِلسنبِك وهانس آرپ وتريستان تزارا يخترعون الدادائية احتجاجًا على النظام العقلاني؛ على حين كان توماس مان في ألمانيا يشتغل على مواد الجبل السحري وأوزفالد شپنغلر ينقح مؤلَّفه النبوئي انهيار الغرب ويزيد فيه. ظهرت ثمرة تفكير يونغ في العام 1921 في عمله التذكاري (هو الآن المجلد السادس من الأعمال الكاملة) الأنماط الپسيكولوجية وفي پسيكولوجية التفردن.

يونغ في مكتبه في بيته بكُسنخت.

يعزو يونغ السبب الرئيسي في تمايز نماذج الأفراد إلى ما أسماه "وظائف الواعية الأربع": فشخص يؤثر وظيفة التفكير دليلاً في أحكامه وقراراته، وآخر يسير وراء الوظيفة الشعورية [العاطفية]، وبينما يجنح ثالث إلى اختبار العالم وأصدقائه معتمدًا على الانطباعات التي تنقلها إليه حواسه نقلاً مباشرًا، نجد آخر يعتمد على قدرته الحدسية والعلاقات الخفية والمقاصد والمصادر الممكنة الأخرى. بحسب هذه النظرة، بالإحساس والحدس ندرك "الوقائع" و"عالم الواقع"؛ أما الشعور والتفكير، فللتقويم والحُكْم. لكن يونغ لحظ وبرهن – وهنا لباب حجَّته – أن واحدة فقط من هذه الوظائف الأربع تأخذ زمام القيادة في حياة الفرد، وفي العادة تؤازرها وظيفةٌ واحدة فقط من الثنائي الآخر. من ذلك، مثلاً: التفكير يؤازرُه الإحساس، أو الإحساس يؤازره التفكير. واجتماع هاتين الوظيفتين (وهما الوظيفتان اللتان اتصف بهما الإنسان الغربي الحديث) يترك الشعور (العاطفة) والحدس مهمَلين، بل مكبوتان في الخافية، قابلان للتفعيل والانفجار كعقدتين مستقلتين، إما على هيئة نوبات شيطانية أو أمزجة لا ضابط لها.

يسمِّي يونغ مثل هذا الانقلاب، مثل هذا التحول في القيادة من عوامل واعية إلى عوامل خافية – يسمِّيه "الانقلاب الضدي" enantiodromia، "الجري في الطريق الآخر" – وهو اصطلاح استعاره من هيراقليطس، الذي علَّم أن كل شيء ينقلب إلى ضده بمرور الزمن. كتب هيراقليطس:

من الحياة يأتي الموت، ومن الموت تأتي الحياة. من الشباب تأتي الشيخوخة، ومن الشيخوخة يأتي الشباب. من اليقظة يأتي النوم، ومن النوم تأتي اليقظة. نهرُ الخلق والتحلل لا يتوقف أبدًا.

هذه الفكرة الأساسية في علم النفس اليونغي تنطبق على جميع أزواج الأضداد: فالمبادلات لا تجري بين الوظائف الأربع وحسب، وإنما أيضًا بين الميلين المتضادين للطاقة النفسية اللذين أسماهما يونغ: "الانبساط" Extraversion و"الانطواء" Introversion.

يذكر يونغ في سيرته الذاتية[9] أنه كان لاحظ ذلك حتى عندما كان عضوًا في حركة التحليل النفسي، حيث كان فرويد قد اعتبر الجنس القوةَ الپسيكولوجية وألفرد أدلر إرادة القوة. كان كل منهما "توحيديًّا" [بالمعنى الديني، يؤمن بإله واحد] إلى درجة أن أيًّا منهما لم يكن يتحمل أيَّ تناقض. أما يونغ فكان "تعدديًّا" [يؤمن بتعدد الآلهة]، وظل كذلك طوال حياته – أي أنه كان يعلم أن "الواحد" المطلق الذي لا يسمَّى [= الله الذي لا يُدرَك] يظهر في صور كثيرة؛ وهذه تظهر على هيئة أزواج متضادة، بحيث إن كلَّ شخص لا يثبِّت عينيه إلا على واحد من زوجين بينما يكون ظهره مفتوحًا على الآخر، في حين أن الحكمة تقتضي أن يتعلَّمهما جميعًا، وأن يعترف بهما جميعًا، أيضًا بحسب كلمات هيراقليطس: "الخير والشر، الحرب والسلام، التخمة والجوع."

اعتمد يونغ اصطلاح الانبساط لكي يدل على وجهة الليبيدو[10] التي تتسم بانفتاح الذات على الموضوع object، تفكيرًا وشعورًا وعملاً، بالنسبة إلى مطالب الموضوع أو جاذبيته، طوعًا أو كرهًا. كما اعتمد اصطلاح الانطواء، ويريد به تركيز الاهتمام على "الذات" subject، تفكيرًا وشعورًا وعملاً، بالنسبة إلى مصالح المرء نفسه – همومه وأهدافه، مشاعره وأفكاره. غير أن كلاً من الموقفين قابِلٌ لأن ينقلب إلى ضده؛ وعندما يحدث هذا تظهر جميع المحتويات الأخرى من الخافية، كلٌّ منها يلوث الأخرى ويقويها ويربكها في "شواش" من العُقَد ذات العاطفية الشديدة، حتى لتُخرِج المرءَ عن طوره.

تقوم فلسفة يونغ على أن هدفَ الإنسان في الحياة، من الناحية الپسيكولوجية، ألا يقمع ولا يكبت الجانبَ الآخر من نفسه، بل أن يعرفه؛ وبذلك يتمتع كلا الجانبين من النفس بكلِّ ما في المرء من قدرات ويضعها تحت رقابته – بامتلاء المعنى، أن "يعرف نفسه". وقد اصطلح على مَلَكة النفس التي يستطيع بها المرء أن يتحرر من مطالب زوج واحد فقط من الأزواج المتضادة – اصطلح عليها اسم "الوظيفة المجاوزة" transcendent function التي يمكن اعتبارها الوظيفة الخامسة (بالإضافة إلى التفكير والشعور والحدس والإحساس)، عند ملتقى الأزواج الأربعة الأخرى. و"الوظيفة المجاوزة" تعمل من خلال الترميز والمَثلَجَة mythologization – أي، بتحرير الأسماء والأشياء من ارتباطاتها المدرَكة والمفهومة؛ وهي إذ تفعل إنما تتعرف إليها وإلى سياقاتها بما هي تمثيلات محدودة لملَكاتنا الخاصة بالمجهول غير المحدود.

يميِّز يونغ بين "الرمز" symbol و"العلامة" sign. فرموز الحياة تصبح علامات عندما نقرؤها بالرجوع إلى شيء معلوم، كما هي الحال، مثلاً، في الصليب بدلالته على الكنيسة أو على صَلْب تاريخي. والعلامة تصبح رمزًا عندما نقرؤها بالرجوع إلى شيء مجهول – "الله" الذي لا يُدرَك من وراء أعمدة الصليب الأربعة – الذي ذهب إليه يسوع عندما ترك جسده على الأعمدة، أو ما هو خير من ذلك، الذي كان كامنًا في الجسد المصلوب على الأعمدة، أو ما هو خير من ذلك بعدُ، الذي هو كامن في جَوَّانية الأجساد عند نقاط تقاطع الخطوط المرسومة من الجهات الأربع. "التفردن" Individuation هو المصطلح الذي وضعه يونغ للدلالة على سياق الإمساك بزمام جميع الوظائف الأربع، بحيث يستطيع المرء، وهو مقيد إلى صليب هذه الأرض المحدودة ("جسد الموت هذا"، بحسب تعبير القديس بولس)، أن يفتح عينيه على المركز لكي يرى ويفكر ويشعر ويحدس التجاوز المستعلي، وأن يعمل بموجب هذه المعرفة. وهذا، في نظري، هو منتهى الخير، بل هو جماع الخير، في فكر يونغ وعمله جميعًا.

في العام 1920، قبل عام من نشره الأنماط النفسية[11]، قام يونغ بزيارة تونس والجزائر، حيث اختبر أول مرة العالم الكبير الذي يعيش فيه أناسٌ دون ساعات جدارية أو يدوية. في انفعال شديد استطاع أن يصل ثمة إلى إدراك جديد في خصوص نفسية الأوروبي الحديث. ثم توسعت هذه التبصرة في عوالم أخرى عندما ذهب في العامين 1924 و1925 إلى نيومكسيكو، حيث تقابل وتحادث طويلاً مع هنود البويبلو الذين مازالت عندهم الشمس والمياه المحلِّية أشياء إلهية. لكن أهم رحلاته كان رحلته في العام 1926 إلى كينيا وجبل إلكون ومنابع النيل، حيث أتيح له أن يعرف معرفةً مباشرةً الجمال والنبل الأزليين وأهوال الليل في الحالة البدئية؛ ورحلة عودته على نهر النيل، وصولاً إلى مصر، أصبحت، كما وصفها هو، "دراما مولِّد للنور".

في العام التالي، أرسل إليه أحدُ كبار العلماء بالصينيات في تلك الحقبة، وهو ريتشارد فلهِلم، مخطوطًا تضمن نصًّا خيمياويًّا من الطاوية الصينية بعنوان سر الزهرة الذهبية[12]، يتناول مشكلة التركيز وسط الأضداد. ومن خلال هذا النص الصيني، يقول يونغ، جاءه النورُ أول مرة على طبيعة الخيمياء الأوروبية والخيمياء الشرقية. فقد وجد أن الخيمياء التي تأسَّست على الفلسفة الطبيعية في القرون الوسطى تشكل جسرًا يوصلنا، من جهة، بالماضي إلى الغنوصية، ومن جهة ثانية، بالمستقبل إلى علم نفس الخافية الحديث. زِدْ على ذلك أن الخيمياء تمثل في الفكر الأوروبي توازُن ما كان يشعر به يونغ دائمًا من تأكيد أبوي [بطريركي] مغالٍ في الذكورة فيما اتُّفِقَ عليه عادة من صيغ اليهودية والمسيحية، بينما يلعب المبدأ المؤنث في الخيمياء الفلسفية دورًا لا يقل أهمية عن دور المبدأ المذكر.

ثم حدث، وسط دائرة يونغ من الأصدقاء المحيطين به، أن فُصِّل له إنبيقٌ خيمياوي alchemical retort جديد وحديث جدًّا في العقود الأخيرة من سني حياته، في هيئة قاعة محاضرات، مفتوحة على السماء الصافية والمياه الزرقاء والقمم العالية من لاغوماجيوري العليا. وابتداءً من العام 1923، دُعيتْ كوكبةٌ من العلماء من جميع أنحاء العالم سنويًّا لكي يقرؤوا ويبحثوا، من مختلف منطلقاتهم العلمية، الأوراقَ المتعلقة بمسائل الفكر اليونغي. فكان من ذلك "محاضرات إرانوس" السنوية التي تُلقى في ضيعة أسكونا التي تملكها مؤسِّستُها السيدة أولغا فروبه–كبتين. كثير من الأوراق الرئيسية التي تعود إلى سنوات يونغ الأخيرة قُدِّمَتْ إبان هذه اللقاءات. وإن إلقاء نظرة عابرة على أسماء العلماء المساهمين تكفي لبيان الهدف الذي كان يونغ يسعى إلى تحقيقه، ألا وهو أن "الأسوار الفاصلة أسوار شفافة"، وحيثما نفذت البصيرةُ إلى ما وراء الخلافات، تلاقت جميعُ الأضداد بعضها ببعض.

يونغ مع مؤرخ الأديان الكبير مرشيا إلياده إبان انعقاد إحدى حلقات "إرانوس" في أسكونا.

5. الشيخوخة والتقاعد (1946-1961)

تطورت هوايةُ طفولته (وكان يهوى بناء البلوكات)، فاتخذت لها شكل تشييد بيت حقيقيٍّ عندما بلغ منتصف سني عمره. في بولِنغِن، على ضفاف بحيرة تسورِش، اشترى قطعة أرض، وراح يمارس عليها هوايتَه على غير عجل، فبنى لنفسه قلعةً حجريةً أسماها "البرج". ظل البرج يتبدل في هيئته على مرِّ السنين. كان بمثابة قلعة الأحلام أو نافذتها على الأبدية. ثم راح يرمِّمه، بعدما استقال من مناصبه التدريسية في العام 1946 من جامعة بازِل، وانصرف إلى أداء المهمات النهائية لحياته التي ما برحت تتطور.

"برج" يونغ في بولِنغِن الذي شيده بيديه في حالته المكتملة.

فقد سبق له، في العام 1909، في أثناء نزوله الخَطِر وحيدًا إلى الهاوية المنتِجة للصور، أن لفت انتباهَه تكرارُ أنماط معينة من أشخاص تأتيه في شوارد الأحلام، وكانت توحي له بأشخاص سبق أن عرفهم في دراسته للميثولوجيا:

صرفت اهتمامًا شديدًا – كما يصرِّح – في محاولة فهم كلِّ صورة على حدة، كلِّ مادة من المواد الروحية أو النفسية، وأن أصنفها علميًّا – كلما كان ذلك ممكنًا – و، فوق هذا كلِّه، أن أجدها في الحياة الفعلية.

ففي جلساته مع مرضاه، عندما كانوا يأتونه بأحلامهم، يومًا بعد يوم، كان يتعرف إلى أدوارها ويصنِّفها ويجهد لأن يقوِّم هذه الأدوار: أفضتْ به، في النهاية، إلى تعرُّفه إلى جملة من الشخوص القديمة التي لا بدَّ أن لعبتْ دورًا على مرِّ الزمان، من خلال أحلام وأساطير النوع البشري قاطبة، في الأوضاع المتغيرة أبدًا وفي المواجهات والأساليب، بحيث يمكن التنبؤ بها بمثل ما يمكن التنبؤ بشخوص مسرح "پَنْشْ وَجودي".

هذه هي الرموز التي اصطلح عليها تارة باسم "الصور البدئية" Primordial Images وطورًا باسم "النماذج البدئية" Archetypes. هذه النماذج البدئية اليونغية أشبه بـ"صور الحساسية" البَدَرية a priori عند كانط (المكان والزمان) التي تُشرِط جميعَ أنواع الإدراك ومقولاتِ المنطق (الكمية والنوعية والعلاقة والكيفية) التي تقيد كلَّ تفكير. وهي صور بَدَرية للشوارد الميثية،

[...] غير متعينة بمضمونها، – كما يصرِّح، – بل بشكلها فقط، ثم إلى درجة محدودة وحسب. والصورة البدئية لا تتعين بمضمونها إلا عندما تصبح واعيةً، وبالتالي تمتلئ بمادة الخبرة الواعية. غير أن شكلها... ربما يمكن مقارنته بالنظام المحوري للكريستال الذي يشيد بنية الكريستالين في السائل الأم، على الرغم من أنه ليس له وجود مادي في حدِّ ذاته. فهذا يظهر، أولاً، بحسب الطريقة النوعية التي تتجمع فيها الإيونات والذرات. النموذج البدئي في ذاته فارغ وشكلي صرفًا، لا شيء غير إمكانية تمثيل أو تصوير أُعطِيَتْ بَدَريًّا a priori. الصور نفسها لا تورَّث، إنما الذي يورَّث هو الأشكال؛ وهي من هذه الناحية تتطابق من كلِّ وجه مع الغرائز، التي تتعيَّن هي أيضًا بالشكل فقط.

كريستال.

في جميع كتابات يونغ التي كَتَبَها طوال حياته المديدة، كانت تبدِّيات النماذج البدئية تظهر مرة بعد مرة. وفي شيخوخته، أجمَلَ أدوارَها في عمله المتقن الموسوم بعنوان Aion (1951)، حيث عالج هنا أيضًا، في شيء من الإسهاب، صورةَ المسيح مرموزًا إليه بالسمكة.

يونغ مع زوجته إمَّا قبيل وفاتها.

بعد وفاة زوجته في العام 1955، التي كانت ضربةً أليمةً له، عمد يونغ إلى العمل على فكرة جديدة لكي يزيد في تشييد "برجه"، أي تشييد نفسه – يريد بذلك تمديد الواعية المتحقِّقة في سن الشيخوخة.

يونغ الشيخ يقطع الحطب في بولِنغِن.

كان يونغ مولعًا بالنحت: نراه هنا ينحت "الحجر المكعب".

كذلك فقد ختم دراسته للخيمياء التي استغرقتْ ثلاثين عامًا بعمله الأخير المعنون: Mysterium Coniunctionis ["سر الجمع"]، حيث، كما يصرِّح في ارتياح:

أعطيت پسيكولوجيتي مكانَها أخيرًا في الواقع، فنهضتْ على أسُسها التاريخية. بذلك انتهت مهمتي، وفرغتُ من عملي، وهي تستطيع أن تقف الآن.

مات يونغ، بعد مرض قصير، في منزله في كُسنخت، تسورِش، في 6 حزيران 1961.

*** *** ***

ترجمة: نهاد خياطة

مراجعة: د. أفييرينوس


 

[1] عالم في الميثولوجيا كبير؛ من مؤلفاته: البطل بألف وجه وأقنعة الله (في أربعة مجلدات).

[2] Krafft-Ebing, Leherbuch der Psychiatrie.

[3] The Psychology of Dememtia Praecox.

[4] جدير بالذكر أن يونغ هو أول مَن أطلق على هذه "المجمعات" اسم "العقد" أو "المركَّبات"، قبل فرويد وغيره. (المحرِّر)

[5] نسبة إلى "الشمنية" Shamans، أو السحرة الأطباء في بعض قبائل آسيا الوسطى وسيبيريا. (المحرِّر)

[6] Symbols of Transformation.

[7] من سكان جبال ثيساليا الأقدمين، صُورتْ ككائنات أسطورية نصفها رجل ونصفها فرس. (المحرِّر)

[8] جاء في المغني الأكبر: Cryptogram شيء قلفطيري: مكتوب بأحرف سرية غير مفسَّرة. (المترجم)

[9] يشير إلى كتاب أملاه يونغ على أنييلا يافيه وأوصى بألا يُنشَر إلا بعد وفاته؛ وقد نُشِرَ تحت عنوان حياتي: ذكريات، أحلام، تأملات. (المترجم)

[10] الطاقة النفسية عمومًا، وليس الجنسية حصرًا، كما عند فرويد. (المحرِّر)

[11] Psychological Types.

[12] انظر: كارل غ. يونغ، سر الزهرة الذهبية: القوى الروحية وعلم النفس التحليلي، بترجمتنا الصادرة عن "دار الحوار"، اللاذقية، 1988. (المترجم)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود