|
عن التاريخ الذي سيقول كلمته الأخيرة
كثيرًا ما يُحيل مفهوم التاريخ عندنا نحن العرب على ذاك الماضي الذي مضى، وليس على ذاك الذي سيأتي، كما لو أن الحاضر الذي غيَّبته الديكتاتوريات العربية بمختلف أنظمتها وأشكالها ومساوئها أفرغ التاريخ من مبناه كما من معناه بل جعله تاريخًا لا يُحيل إلا على ما أنجز في زمن سابق، وما صُنع في ماض غابر. حتى هذا الذي حدث في الماضي لا يمر مرور الكرام فيتم إخضاعه للحذف، والتقشير ومقص الرقابة لأن الغاية من هذا الماضي التاريخي هو أن يمتثل لضرورات الحكم المسيطر، وسياسات الاستبداد المفروضة. لم يكن يهم الديكتاتور العربي (بصورته الكاريكاتورية طبعا) من الماضي إلا أن يكون في هذا الماضي المطلق المصنوع للتسبيح بجلالة قدره، أي أن يكون التاريخ هو صورته الحاضرة بقوة حضورها، والتي لم تكن تعني إلا تاريخ الاستبداد والقهر. لا يهم تسمية المستبد هل هو معاوية، أم الحجاج؟ بل هذه النفحة المستمرة التي تغلب القوة على العدل، والوصاية على الحرية، والسلطة على غيرها. كان التاريخ هو تاريخه، أو تاريخ ما يُشبهه، التاريخ التي تصنعه غلبة القبيلة، أو العشيرة، أو الطائفة، أو العسكرية على الجميع، تاريخ الامتثال للسلطة بالسيف دائمًا، تاريخ الأسئلة التي درجنا على طرحها كلما نظرنا إلى الوراء، وقلنا لماذا هذا هو تاريخنا؟ لماذا انتصر الظلم على الحق؟ لماذا لم تكن هناك حرية؟ ولماذا كل من دافع عن حريته نكِّل به بأشد أنواع التنكيل بشاعة، وضُرب به المثل لكي لا يتبعه أحد، لكي لا يكون هذا تاريخ أحد، فأصبح التاريخ هو تاريخهم، تاريخ سلطانهم، تاريخ انقلاباتهم، تاريخ زيفهم فقط، لا تاريخ أولئك الذين حملوا أجمل الأماني في التغيير والبناء، وصناعة المستقبل. لكن التاريخ عند الشعوب العربية كان يجمع بين الماضي بالفعل وما جرى فيه من حوادث ووقائع للعبر والتفاخر بالهوية والانتماء، إلى جانب أنه كان يشكل منفذًا للمستقبل. فالشعبي البسيط كان يرى في التاريخ دائمًا حلاً للآتي، أو عزاء عن وضع يستغلق عليه فهمه، أو تفسيره ما دام يعيشه كإكراه فوقي يشبه سلطان القدر على رقاب العباد المؤمنين به. كان الإنسان العربي البسيط يقول بكل عفوية وبساطة عن هذا الظالم، أو ذاك المستبد إن التاريخ سيحاكمه، أو إن التاريخ سينتقم منه. كان التاريخ بالنسبة إليهم وإلينا هو الحَكَم الحقيقي على هؤلاء المجرمين، الظلمة، والمفسدين، فإن لم يكن للواقع حل، أو حلول ممكنة، أو فكاك من هذه الوضعيات الكريهة، فلا بد أن التاريخ سيدوِّن عارهم ما دمنا محكومين بقانون الموت، وأننا راحلون حتمًا عن هذه الحياة، وهم سيرحلون مثلنا، وسيقول حينها التاريخ كلمته. كان التاريخ يعني في ذهن الإنسان الشعبي البسيط، الماضي زائدًا المستقبل، أما الحاضر فلم يكن يحضر بل يُلغى لأنه البؤرة التي يتمركز فيها العجز والضعف، وعدم القدرة على التغيير. الحاضر هو لهم، كما فعلوا مع التاريخ الذي امتلكوه بكمَّاشاتهم. لم يبق المنفذ إلا في هذا الذي سيأتي، في هذا المستقبل المحلوم به، والمنتظر منه أن يحاكمهم، لأنه التاريخ. من أقوى من التاريخ؟ حتى هذا الوقت كان الإنسان العربي البسيط يعتقد ويحلم بالمستقبل لأنه الوحيد الذي من شأنه فعل شيء ما له، ولهذه الأمة، لأن الماضي كان مقبوضًا عليه، والحاضر ملغى، ثم جاء الوقت ليعلن الإنسان العربي البسيط انتفاضته على الحاضر، ثورته التي منها تبدأ كتابة التاريخ الجديد. وهو يدرك في معمعان هذه الحركة التي يقوم بها، والتي تكلفه الكثير من الأرواح كل يوم، أنه للمرة الأولى لا يكتفي بتمني أن يحكم التاريخ ذات يوم، ذات حلم، على هؤلاء المستبدين المجرمين، بل أنه يمكنه أن يصنع التاريخ في الحاضر حتى يغيِّر شكله في المستقبل. فكل شيء يحدث الآن، في هذه اللحظة التي تصبح المثالية شكلاً من أشكال الواقعية الممكنة، والبطولات الجماعية كما الفردية واقعًا مجسَّدًا في ميدان التاريخ التي تصنعه الوجوه المكشوفة التي تخرج الى الشارع منددة بالوضع، مكسِّرة قانون الثبات، غير عابئة بقوة البطش، ولا قسوة التعنيف الذي يواجهها به هذا الجدار الحديدي الذي يطوِّق به الديكتاتور نفسه، تخرج صارخة، معلنة زمن ولادتها الجديد. إن التاريخ الذي تصنعه الشعوب العربية بعيدًا عن كل وهم قومي، ينفخ في نرجسية النحن التي دأبنا عليها من دون أن نكون في مستواها دائمًا، هو تاريخ حقيقي اليوم، فلم يعد التاريخ حلمًا ستتحقق فيه الأماني المكبوتة من عهود غابرة، بل هو الحاضر، وقد صاغته إرادة الحلم والتغيير، وهي تذهب إلى الأبعد حيث تقطف ثمرتها في تونس ومصر، وتنتظر هذا القطف الرائع للحرية في ليبيا واليمن وسوريا وكل الدول العربية التي لا تزال تحكمها أنظمة الفساد والظلم. تلك التي تشعر على رغم أنفها، وعلى رغم جبروتها، أن نهايتها أوشكت على الرحيل، وأنها تعيش في الرمق الأخير. لا نحتاج الى فكر عميق لنقدِّر مدى ما أنجزته هذه الشعوب على رغم ما يعوزها من وعي نقدي أو فكري لفهم أبعاد التجربة التاريخية التي تنخرط فيها بروحها وجسدها، وهي تقلع عنها كل ما وسم إنسانيتها من ضعف وتخاذل، لم تكن هي مسؤولة مسؤولية مباشرة عنه بقدر ما كانت ضحية له، ولسياسات الطغيان والأحادية التي برمجت الإنسان العربي على أن يبقى محتجزًا ضمن دائرة الشعور بالنقص والعجز والخوف. ها هو التاريخ يقول كلمته في اللحظة التي وهن فيها وعي مثقفينا على استشراف هذه اللحظة، بل عجزهم حتى عن قراءتها قراءة صحيحة ودقيقة. طبعًا يجد المثقف المسكون بهاجس الحرية نفسه معجبًا بهذا الانخراط الجماهيري في تغيير المنطق السائد للأشياء، وقلب الطاولة على الاستبداد، لكن تبقى الأسئلة والمخاوف مطروحة عند الإنسان العربي البسيط في الشارع كما نجد ما يماثلها عند من يستعملون الكلمات لانجاز لحظتهم التاريخية، أولئك الذين يمنحون هذا التاريخ معناه الكامل والدقيق. غير أن الإشكال يظل في أن الوعي بالتاريخ الجديد وتكلفة الحرية الباهظة يجعلاننا من جهة نؤمن بالخيار الجماهيري الشعبي في صناعته لتاريخه وفي قدرته على التصرف بنضج وحكمة تعيد إلينا الثقة في شعوبنا العربية التي لم تستطع سنوات الاستبداد والتطرف إفراغها من حسها الإنساني وميلها الى الحرية والسلم، مختارة الصراع الديموقراطي الحر من دون أن تسقط في متاهات الحرب الطائفية أو الأهلية المسلحة، كما لو أنها تدرك أن خيار المستبد أن يجرَّها الى هذا المسلك الذي سيهدم كل شيء على رؤوس الجميع ولن يبقى لا الوطن ولا الحلم، ولا حتى التاريخ الذي نثق الآن في حكمه المستقبلي على المرحلة الحالية. إن المتخوفين، وأنا واحد منهم، يشعرون بأن اللحظة مفتوحة على كل شيء، وبأن هناك أسئلة يجب عدم حجبها مهما تكن الظروف (إن التسلح بالروح النقدية في مثل هذه اللحظات المؤلمة هو ديدان الوعي النقدي دائمًا) وبأن الصراع هو صراع من أجل فوز الحركة التاريخية التي يجب أن تذهب إلى ممكنات الحلم فتحققه، وتقفز بنا من حال فقدنا فيها الرغبة في العيش، إلى حال يحلو لنا فيها العيش. كيف يتحقق ذلك؟ لا أدري. لأن لا أحد يعرف ما هي الاحتمالات الآن. غير أننا ندرك أن صفحة ما تُطوى من تاريخنا العربي الجديد، وأن شيئًا آخر يولد مكانها، صفحة جديدة نريدها في طبيعة الحال أن تستجيب لقوانين العصر لكي ننبعث مرة أخرى في حركة التاريخ العالمي التي لم تتوقف في غيابنا عنها وتركتنا متعثرين في لحظة الاستبداد تلك. مثلما كتب فرنسيس فوكوياما كتابه الشهير نهاية التاريخ بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وحرب الخليج الأولى، كتب باحث عربي في الفترة نفسها تقريبًا عن "خروج العرب من التاريخ"، وها هو التاريخ الذي ظننا بيأس شبه تام أننا خرجنا منه، نعود إليه برغبة في أن لا نسلب حق المكوث فيه، حق الاستمرار في داخله، ولنصنع فيه تجربتنا العربية الجديدة. إن الأجيال العربية الجديدة لا تحمل ربما أحلام الأجيال العربية السابقة نفسها، بل ربما ليس لديها أحلام، لكنها على عكس السابقين لا تعيش بأوهام، وهي لهذا تترجم كل ذلك في مواجهة حقيقية مع الواقع، وعلى أرض الميدان ليقول التاريخ العربي للمرة الأولى ربما كلمته الأخيرة. *** *** ***
|
|
|