الدين السياسي: بديل عن الدين، أم أنه دين جديد؟*

إميليو جينتيل**

 

من المعروف أنَّ جهازنا المنطقي هو عبارة عن آلة ناقصة وعاجزة. فالكلمة، تلك الأداة التي لا غنى عنها، كانت دائمًا لديها الميل لخداعنا وتضليلنا بإظهارها البرَّاق للحقيقة اللامعة والمباشرة، وكلما ازداد اهتزاز ميزان الزمن أو الوقت، كلما عظمت مخاطر الكلمات التي تدَّعي انضواء الحقيقة بين حروفها. من جهةٍ أخرى، يجب أن يكون نقاشنا بسيطًا قدر الإمكان. إذ أننا سنترك مهمة الدراسة العميقة للآخرين.
جوان هوزينغا

دين عَلماني

تنتمي الديانات المدنية والسياسية إلى ظاهرة أكثر عمومية وشمولية: "الدين العلماني" Secular Religion. ويستخدم هذا المصطلح لوصف نظام متطور بدرجة أكبر أو أقل من المعتقدات، الأساطير الطقوس، والرموز التي تخلق هالة من القداسة حول كينونة تنتمي في الأصل إلى هذا العالم، وتحوِّلها إلى طائفة وموضوع للعبادة والتكريس. والسياسة ليست وحدها في هذا الأمر، فأي نشاط إنساني من العلم حتى التاريخ أو من التسلية والترفيه حتى الرياضة يمكن أن يُستثمر في مجال "القداسة الدنيوية أو العلمانية" Secular Sacredness، وأن يصبح موضوعًا للعبادة والتقديس عند طائفة علمانية معينة، وهذا ما يدعى "دينًا علمانيًا". في مجال السياسة، غالبًا ما يؤخذ مصطلح "الدين العلماني" كمرادف لمفهوم الدين المدني أو الدين السياسي.

قد لا يبدو هناك أي شك حول نسب مفهوم "الدين المدني" لجان جاك روسو Jean Jacques Rousseau، الذي قدَّمه لتعريف دين المواطن الجديد الذي اعتبره عنصرًا أساسيًا من عناصر الديمقراطية. كان هذا الدين المدني متميِّزًا ومختلفًا عن المسيحية، وبطريقة ما كان معاديًا لها. وخلال القرنين التاسع عشر والعشرين، تم تبني تعبير الدين العلماني بوضوح لتعريف الإيديولوجيات والنماذج التي حاولت استبدال الأديان الميتافيزيقية التقليدية بالمفاهيم الإنسانية الجديدة التي خلقت منظومة عقائدية خاصة بالإنسانية، التاريخ، الأمة، والمجتمع. من جهةٍ أخرى، تم إرجاع مفهوم "الدين العلماني" بشكلٍ عام إلى عالم الاجتماع الفرنسي رايموند آرون Raymond Aron، الذي استخدمه في مقالة له كتبها عام 1944 لتعريف المذاهب التي تعِد بالخلاص للجنس البشري في هذا العالم. في الحقيقة، استخدم هذا المصطلح منذ بواكير الثلاثينات. محرِّر مجموعة المقالات التي تتناول الدكتاتورية، التي نشرت عام 1933، لاحظ أنَّ الطرافة غير المألوفة للدكتاتورية المعاصرة المتعلِّقة بدكتاتوريات العالم القديم كان يمكن إيجادها في

التقنيات القوية والفعَّالة في السيطرة على الجماهير من خلال وسائل الدعاية عن طريق الراديو، السينما، الصحافة، التعليم والديانات العلمانية التي قاموا بصنعها وقولبتها بأنفسهم.

في عام 1936 كتب عالم اللاهوت البروتستانتي أدولف كيللير Adolf Keller يقول إنَّ البلشفية حوَّلت النظام الفلسفي العلمي الذي تمتاز به الماركسية إلى "دين علماني". وبعد عامين، أجرى الصحفي الإنكليزي فريدريك فويت Frederick A. Voigt تحليلاً مقارنًا بين الماركسية والاشتراكية القومية، آخذًا بمعالجتهم كأديان علمانية.

إذًا، كان مفهوم الدين العلماني قيد الاستخدام خلال فترة الثلاثينات كتعريف معترف به للأشكال التي خلقت فيها الأنظمة الاستبدادية طوائف وشيع سياسية. أما بالنسبة لمصطلح "الدين السياسي" Political Religion، فيُنسِب بشكلٍ عام إلى الفيلسوف النمساوي إيريك فوغلين Eric Voegelin، الذي نشر كتابه الأديان السياسية The Political Religions عام 1938. هنا مرةً أخرى، تمَّ استخدام المصطلح قبل نشر كتاب فوغلين: استعمله كوندورسيه Condorcet في زمن الثورة الفرنسية. وعرَّف أبراهام لينكولن Abraham Lincoln تبجيل وتوقير القوانين التي وردت في الدستور وإعلان الاستقلال بأنه "الدين السياسي للدولة". كما أطلق لويجي سيتيمبريني Luigi Settembrini على حركة "إيطاليا الشابة" Giovine Italia - الحركة الوطنية - تسمية "الدين السياسي الجديد". واستخدمت الفاشية المصطلح بشكل واضح منذ العشرينات لتحديد وتعريف وجهة نظرها التوتاليتارية الفاشية في السياسة. وفي عام 1935، قام المؤرخ النمساوي كارل بولانيي Karl Polanyi بدراسة "الميل نحو الاشتراكية القومية لإنتاج الأديان السياسية"، في حين أنَّ اللاهوتي الأمريكي راينولد نيبور Reinhold Neibuhr طبَّق هذا المصطلح على الماركسية والشيوعية.

ومع أنَّ هذه المصطلحات كانت مستخدمة منذ زمن ليس بقليل، إلا أنه لم يحدث حتى منتصف الستينات أن أصبحت الأديان المدنية والسياسية موضوعًا للبحث المنظَّم والنقاشات الجادة التي يمكن أن تثار أحيانًا. ويمكننا تذكُّر الجدال الويل الذي أثارته مقالة تناولت موضوع الدين المدني الأمريكي والتي قام بنشرها عالم الاجتماع الأمريكي روبرت بيلاه Robert Bellah عام 1967. فبعد تعريف الدين بأنه "مجموعة من المعتقدات، الرموز، والطقوس بالإضافة إلى احترام وتبجيل عميق للأشياء المقدَّسة والمؤسَّسة في مجموع الشعب ككل" صرَّح بيلاه أنه كان هناك بعد ديني للسياسة إلى جانب الديانات التقليدية لكنه متميز ومختلف عنها. مستعيرًا المصطلح من روسو، قام بتعريفه على أنه دين مدني، تطوَّر وتأسَّس من خلال منظومة متكاملة من المعتقدات، الرموز، والطقوس التي منحت بعدًا دينيًا للتجربة القومية الأمريكية.

في الفترة الأكثر حداثةً، ازداد الانتباه إلى الدين العلماني وأصبح موضوع دراسات جديدة كإحدى الظواهر في عالم السياسة. ركَّزت تلك الدراسات بشكل أساسي على معالمها الطقسية والرمزية، وغالبًا ما عزلتها عن الاعتقادات، الأساطير، والدوغما التي كانت مجرد تعبير، من أجل معالجتها بشكل مجرد أو مبدئي كأدوات سياسية نافعة في الغزو والحفاظ على القوة. اليوم يمكننا الرجوع إلى العديد من الأبحاث والدراسات التي تحتوي على أوصاف مفصَّلة وتحليلات مقارنة للعلامات الرئيسية للتقديسات السياسية في كل من الدول الديمقراطية والشمولية أو التوتاليتارية، بالرغم من أنَّ تعريف الدين العلماني ما زال موضوع نقاش حاد. يتضمن الخلاف حتميًا أيضًا ديانات مدنية وسياسية وسماتها ومميزاتها الخاصة.

أيضًا أُبديت بعض الشكوك حول الوجود الفعلي لدين مدني أمريكي. ورفعت أيضًا الاعتراضات في وجه مفهوم الدين العلماني، وهناك أيضًا أولئك الذين يرفضون فكرة أنَّ أية ظاهرة سياسية يمكن تعريفها كدين أو كظاهرة دينية. على سبيل المثال، هؤلاء الذين يقولون إنَّ النظم العقائدية التي تشير إلى وجود كائن خارق ومفارق للعالم يمكن اعتبارها ديانات صحيحة وحقيقية يجادلون بأنه لا يمكن أن يكون هناك شيء يمكن تسميته بالدين العلماني. فبالنسبة لهم يبدو مصطلح "الدين العلماني" نوعًا من المصطلحات التصورية التي تتكوَّن من لفظتين متناقضتين على غرار "دائرة مربعة". يجادل آخرون بأننا يجب أن نتجنَّب استعمال مصطلح "الدين" عندما نصف حركات سياسية تتبنى أشكالاً معينة من الكلمات، الطقوس، والرموز الدينية، وبأقصى الحالات الرغبة في التسليم بأنَّ تلك الحركات يمكن تعريفها "كأديان مزيفة أو كاذبة" Pseudo-religions لأنها ببساطة ظاهرة سياسية ترتدي عباءة دينية من أجل خداع وتضليل الجماهير. ومع ذلك يدَّعي آخرون أنَّ اعتبار الحركة السياسية ديانةً ليس أكثر من مجرد استعمال كناية أو استعارة لفظية من نوع ما. وهذا يعني أنه لا يمكن اعتبار الحركة السياسية ديانة أصلية ودراستها من هذا المنظور. نستنتج من ذلك أنَّ وجهات النظر هذه تقترح أنَّ الدين العلماني – وبذلك الدين المدني أو السياسي – غير موجود ببساطة؛ فأي إنسان يقول أي شيء غير ذلك يكون قد أساء فهم الكناية أو المجاز الذي يعبِّر من خلاله عن هذا العالم وبذلك لم يعرف حقيقة الدين، عوضًا عن ذلك يصبح ضحية وهم قاده إلى الاعتقاد "بدين الرفض".

من الواضح أنَّ تعريف الظاهرة الدينية يلعب دورًا مضللاً ضمن هذا الخلاف والجدال الدائر حول ما إذا كان هناك ما يسمى بالدين العلماني في العالم الحديث. على سبيل المثال، إذا كان تعريفك للدين مستندًا على وجود لاهوت خارق للطبيعة ومفارق للعالم، فإنك ستنكر حقيقة أنَّ أي نظام عقائدي يمتلك كيانًا دنيويًا مقدسًا يمكن أن يكون ظاهرة دينية. على أيَّة حال، إذا قبلنا بهذا التعريف، فسنكون ملزمين بأن ننكر البوذية كظاهرة دينية، لأنها لا تسمح بوجود الله، بينما يمكن اعتبار الدين السياسي النازي ظاهرةً دينية، لأنه لم ينكر وجود إله، بالرغم من أنه قولب ذلك الإله وفق عقيدته الخاصة. على أية حال، لا يربط جميع العلماء والباحثين الظاهرة الدينية بوجود كيان لاهوتي خارق للطبيعة. إذ لا يُعتبر أن هذا الوجود لا غنى عنه من قبل علماء الاجتماع وعلماء الإنسانيات، الذين ينظرون إلى الدين كظاهرة اجتماعية وثقافية، بمعنى منظومة مكوَّنة من اعتقادات، أساطير، طقوس، ورموز تعبِّر عن المبادئ العامة والقيم الشائعة بين أفراد المجتمع الكلي. أساسًا، هناك مجموعة ضخمة ومتنوعة من التفسيرات والتأويلات للظاهرة الدينية، والبعض منها يجعل من الممكن أن تتضمَّن بعض الظواهر السياسية ضمن سياق أوسع للظاهرة الدينية.

تضليل الجماهير

في نهاية القرن التاسع عشر، زودنا غايتانو موسكا Gaetano Mosca، أحد مؤسِّسي علم السياسة، بصياغة كلاسيكية لما يمكن أن يطلق عليه "تضليل الجماهير" Crowd manipulation كتفسير للدين وتقديس السياسة أدرِك كمجرد وسيلة أو حيلة مخترعة من أساطير دينية على ما يبدو، ورموز وطقوس تمَّ تبنيها بشكل شعوري لأسباب دعائية وديماغوجية. في مقالة الطبقة الحاكمة The Ruling Class (العنوان الأصلي لهذه المقالة هو: Elementi di scienza politica, 1895) يناقش موسكا، في الفصل نفسه، الكنائس، الشيع والمذاهب الدينية، والأحزاب السياسية، ويضع مؤسِّسي الأديان ومؤسِّسي المدارس الاجتماعية-السياسية ضمن الفئة نفسها. فقد لاحظ أنَّ المجموعة الأخيرة هي "أنصاف أديان خالية من العنصر القدسي". وهو يرى أنَّ المذاهب الدينية والأحزاب السياسية تتصرف بالطريقة نفسها، و"طالما أنَّ أتباعها مخلصين لها وللعَلَم، فإنهم يتسترون عنها ويبرِّرون أعمالهم الخبيثة السيئة". طالما أنهم مهتمون، من يأخذ العادة يتحوَّل إلى شخص مختلف تمامًا. موسكا يرى أنَّ السمات الطقسية والرمزية للحركات السياسية كانت شكلاً علمانيًا ودنيويًا من أشكال المكر اليسوعي التي تستخدم لخداع وتضليل الجماهير:

يمكن لأي مدقق أن يلاحظ – عند التدقيق القريب – أنَّ الحيل التي تُستخدم لإقناع الجماهير متشابهة تقريبًا في جميع الأزمان والأماكن، بما أنَّ المشكلة هي دائمًا محاولة استغلال نقاط الضعف نفسها عند الإنسان. فكافة الديانات، وحتى تلك التي تنكر وجود كيانات خارقة، لها أسلوبها الحماسي الخاص بها، وطقوسها التي تميزها عن غيرها، نصوصها، وخطاباتها التي تحمل أفكارها ومكوِّناتها. كل منها لديها طقوسها وعروضها المبهرة والبرَّاقة التي تستثير الخيال. بعضها يقدِّم استعرضه بالشموع الموقدة وبإنشاد الابتهالات والتضرُّعات. وأخرى تسير خلف أعلام ورايات حمراء على نغمة النشيد الوطني الفرنسي Marseillaise. كل الأديان وكل الأحزاب التي تأسَّست مع جرعة خفيفة أو ثقيلة من الحماسة الخالصة لتقود الإنسان نحو أهداف معينة قد استخدمت – بدرجات متفاوتة – أساليب مماثلة للأساليب اليسوعية الماكرة، وفي بعض الأحيان أسوأ بكثير؛ إذ أنَّ المذاهب والأحزاب السياسية في يومنا هذا ماهرة جدًا في خلق السوبرمان، البطل الأسطوري، الرجل النزيه بالمطلق، الذي يسعى – بدوره – إلى الحفاظ على بريق العصابة ويجلب الثروة والقوة للماكرين ليستخدموها.

لا وجود لأيِّ دراسات أو اعتبارات أخرى حول طبيعة الدين السياسي أو المدني مطلوبة لأولئك الذين يشتركون في هذا التفسير: إنه وببساطة شديدة وسيلة ديماغوجية للسيطرة على الجماهير. فقد طبَّق المؤرخ ألفونس أولارد Alphonse Aulard هذا التفسير على المظاهر الدينية للثورة الفرنسية، كطائفة تؤلِّه العقل والكائن الخارق. فقد قال إنَّ المذاهب أو الطوائف الثورية لم تكن سوى حلول مؤقتة فرضتها الحرب، وكان حلمها هو نشر النزعة الوطنية بين الجماهير وحثهم على القتال ضدَّ أعداء الثورة في الداخل والخارج. بالشكل نفسه، ترجم غوغليلمو فيريرو Guglielmo Ferrero عام 1942 عملية تقديس وتأليه السياسة كعملية شرعنة وتبرير للسلطة عن طريق إحاطتها "بحالة تأجُّج ديني تمجِّدها وتقدسها وتضفي عليها قيمة متعالية":

هذا الإعلاء والتعالي لا يمكن إدراكه إلا من خلال عملية بلورة عاطفية من الإعجاب، الامتنان، الحماس، والحب حول مبدأ الشرعية الذي يحوِّل نقائصها، قيودها وعجزها وافتقارها للقواعد والمبادئ العامة إلى شيء آخر مطلق وملهم ومتعال. هذا التأجج وهذا الاعتراف الكلي والقوي والخالص والممتع – لكن الواهم – للسلطة المتفوقة هو صاحب الفضل في إضفاء الشرعية على تحقيق أنضج وأكمل درجة من الفعالية، والتي بدورها تحوِّل تلك الشرعية إلى نوع من أنواع السلطة الأبوية.

ما هي الغاية لتحقيق هذا الاكتمال للشرعية؟ هناك العديد من الأدوات التي يمكن استخدامها، إلا أنَّ الفن كان أحد أهم تلك الأدوات وأقواها. الرسم، النحت، والهندسة لم تكن متعاونة فقط مع الحكومات الملكية والأرستقراطيات التي كانت سائدة في العهد القديم، بل مع كافة أشكال الحكومات وفي جميع الأزمنة والعهود، عن طريق تقديم الأعمال الرائعة للجماهير والتي تستعرض عظمة وتفوُّق السلطة فيما يتعلَّق بكونها نقطة مركزية في العالم وفي حياة الناس الدنيوية التي يجب أن نضيف إليها هذه الاستعراضات، الآراء العسكرية، عروض الانتصار، جمعيات المحاربين، المهرجانات العظيمة العامة، بهاء العظمة الدينية، والاحتفالات العامة ومراسيم أخرى من هذا النوع.

حسب ما ورد في هذا التفسير، تمثيل السياسة من خلال الأساطير، الطقوس، والرموز لا يمكن اعتباره ظاهرة دينية على الإطلاق، بل ينبغي تفسيره وبشكل حصري في سياق الابتكار الواعي للأساطير والممارسات الشعائرية لطبيعة نفعية وذات فاعلية جوهريًا. فهي وسائل ديماغوجية تحتاج إلى طرق جديدة لتأسيس شرعية السلطة وصونها وتأكيدها في مجتمع الجماهير.

الكثير من الأمثلة التاريخية يمكنها أن تؤكِّد أنَّ هذا في الحقيقة كان مصدر وطبيعة بعض علامات ومظاهر تقديس السياسة وتبجيلها. من جهة أخرى، النظرية التي تقول إنَّ كل المظاهر التي تدل على تقديس السياسة يمكن تفسيرها من خلال ظاهرة التلاعب بالجماهير أو تضليل الجماهير، هي نظرية غير مقنعة، وخصوصًا إذا طبِّقت على المظاهر أو السمات الدينية للحركات الجماهيرية، والتي ثبت أنها ليست في جميع الأحيان غايات نهائية. فبتحديد نفسها كتفسيرات نفعية لحالة التقديس السياسية، يسعى تفسير التلاعب بالجماهير بشكل فعال إلى أن يجد حلاً بالغ البساطة لتبسيط السؤال المعقد والثقيل الذي يتعلَّق بالبعد اللاعقلاني للإيمان Faith والاعتقاد Beliefe في السياسات الجماهيرية وبشكل أكثر عموميةً في التجربة الإنسانية ككل.

الحاجة إلى الإيمان

هذا التفسير الإيماني للدين، كما عبَّر عنه غوستاف لوبون Gustave Le Bon في نهاية القرن التاسع عشر، جاعلاً وجود الديانات السياسية والمدنية من الأمور التي تبدو معقولة. فحسب قول لوبون إنَّ مفهوم الدين لا يفترض بالضرورة وجود كيان لاهوتي متعال. فالآلهة ما هي إلا من ابتكار خيالنا:

من دون شك أن الإنسان هو من اخترع الآلهة، لكنه سرعان ما أصبح فيما بعد خاضعًا لها بعد أن اخترعها بفترة جد قصيرة. فهي ليست نتاج الخوف، كما يزعم لوكريتيوس Lucretius، بل هي نتيجة الأمل، ولذلك يتحوَّل تأثيرهم إلى تأثير أبدي... طبعًا، الآلهة ليست خالدة، لكن جوهر الدين هو الأزلي والأبدي. هذا الجوهر يتحوَّل إلى جوهر بليد لفترة، ثم يستيقظ من جديد ما أن يخترع كيان مقدَّس جديد.

لوبون، الذي درس سيكولوجية الجماهير، اعتبر أنَّ الدين بأي شكلٍ كان فإنه يظهر نفسه على أنه تعبير عن مشاعر إنسانية لم يقدر على كبتها. إذ ينشأ الدين من أكثر الغرائز الإنسانية تحتُّمًا، ويطلق عليها تسمية "الحاجة إلى إخضاع الذات لعقيدة دينية، أو سياسية أو اجتماعية، مهما كانت الظروف".

هذه العاطفة الوجدانية تتمتع بخصائص بسيطة جدًا، كالخوف من كائن يفترض بأنه خارق، الخوف من القوة التي يفترض أنَّ ذلك الكائن الخارق يمتلكها، الخضوع الأعمى لأوامره ونواهيه، عدم مساءلة أو مناقشة نواقصه، الرغبة في نشرها، والميل إلى اعتبار جميع الذي لا يقبلون بها أعداء أزليين وأبديين. وسواء أكان هذا الشعور ينطبق على إله غير مرئي، أو على وثن مصنوع من الخشب أو من الحجر، على بطل أو على فكرة أو مفهوم سياسي، فجوهره يبقى دائمًا دينيًا. فالفرد لا يعد متدينًا فقط عندما يعبد إلهًا أو كينونة مقدَّسة ما، بل عندما يضع كل مصادره وطاقاته العقلية، ويخضع بإرادته الكاملة، وحماسته الروحية الكاملة وتعصُّبه الأعمى في خدمة قضية أو فرد يمثل الهدف والمشروع الأساسي لأفكاره وأفعاله.

المعتقدات الدينية التي ظهرت نتيجة هذا الشعور الوجداني هي القوى الأساسية والمبدئية التي تخلق وتؤسِّس الإمبراطوريات والحضارات. فقوة الدين يمكن إيجادها في قدرته على قولبة وتشكيل شخصية الجماهير بتلقينهم المشاعر والاهتمامات والأفكار المشتركة، وزرعها في أذهان الأفراد الذين يتمثلونها بدورهم. وهذا ما ينتج عنه قوة هائلة لتوليد الحماس والفعل ولتوجيه الطاقات الفردية والجماعية باتجاه هدف واحد وغاية واحدة، الانتصار لمعتقداتهم. فغالبية الأحداث التاريخية خلقت بشكل غير مباشر من خلال تنوع الأفكار الدينية واختلافها. فالتاريخ الإنساني يسير بشكلٍ متوازٍ مع تاريخ الآلهة. إذ إنَّ ولادة آلهة جديدة حدَّد فجر حضارة جديدة.

استخدم لوبون مثال الثورة الفرنسية لدعم تفسيراته عن تقديس السلطة السياسية، حين رأى العالم عندها "ما الذي تقدر الروح الدينية على فعله، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه كان دينًا جديدًا ذلك الذي تمَّ تأسيسه، والإلهام الذي كان يقدِّمه لجميع الناس. الإلهيات التي كانت تزدهر حينذاك كانت من دون شك هشَّة للغاية لكي تستمر، لكن خلال فترة وجودها، كانت تطبق سيطرتها الكاملة". كان يرى أنَّ المجتمع الحديث أو المعاصر، حيث كان يدور في صراع بين الأديان التقليدية البائدة وبين التطلُّعات الجماهيرية لإيجاد كيانات إلهية وعقائد جديدة، سيكون بمثابة تربة خصبة لخلق وترسيخ الديانات العلمانية الجديدة والقوية. كان لوبون يؤمن أنَّ الاشتراكية هي التي ستكون المثال.

المفكرون الآخرون الذين درسوا الاشتراكية خلال العقود الأولى من القرن العشرين تبنوا أيضًا هذه النظرة. فعندما كان روبرت ميتشيلز Robert Michels يدرس سوسيولوجية الأحزاب السياسية، لاحظ أنَّ الجماهير

تختبر نوعًا من الحاجة الماسَّة إلى إسقاط وتحطيم أنفسهم، ليس ببساطة أمام مذبح الأفكار والنماذج العظيمة، بل أيضًا أمام الأفراد الذين يعكسون في أعينهم تلك النماذج. إنَّ إعجابهم بهذه الكيانات الإلهية الدنيوية هو الجزء الأكثر عماءً بالنسبة لحياتهم البسيطة.

هنري دي مان Henri De Man، المفكِّر والناشط الاشتراكي، اعتبر ترسيخ الاشتراكية ديانةً جماعية جديدة قائمة على الإيمان، الذي كان يمثِّل "حاجة سيكولوجية" عميقة عند الجماهير. فقد نشأت وسحبت بشكل مستمر صفة الاستمرارية والحماس من "الغريزة الغيبية" Eschatological Instinct التي حوَّلت تماسك الطبقة وتكافلها من مجرَّد حافز اقتصادي بحت إلى "قضية للحماسة والاتقاد والثورة". أضاف دي مان أنه ما إن يحدث هذا التحوُّل، فإنه يتبع "بظواهر من السيكولوجيا الجماهيرية – أو علم النفس الجماعي – تكون انبثاقات الوعي العقلاني في الفرد لمصالحه صغيرة جدًا" ولا يمكن وصفها إلا من خلال "استخدام مصطلح تاريخ الأديان the history of religions وسيكولوجية المعتقدات Psychology of beliefs". أهم شيء في هذه الظواهر هو الغريزة الغيبية، "الحنين إلى أوضاع وظروف أفضل في المستقبل"، والتي تعبِّر عن نفسها على هيئة "خير مطلق" Absolute Good"، وكان هذا هو "الميل أو الاتجاه نحو المطلق الذي أفعم حركة العمَّال الاشتراكيين بطبيعتها الغيبية الدينية". حسب ما يرى دي مان، هذا التلهُّف الغيبي كان "الأساس العام والمسيحي لكافة منظومات الأساطير والرموز التي تعبِّر عن الحياة العاطفية للحركة الاشتراكية"، بالاجتماع مع الأسطورة الأساسية للثورة، التي "حفَّزت بشدة المشاعر التي تسترجع الرؤى الغيبية الأخروية للنهاية التنبؤية الانكشافية، نهاية العالم، الحكم الأخير، مملكة الرب، وما إلى هنالك".

يقترب التفسير الإيماني من دراسة السمات الدينية للحركات السياسية من الناحية المقابلة الأخرى، لأنه لا يدَّعي أنَّ القادة دائمًا هم وحدهم المعنيون في عملية الإنتاج الاصطناعي للأساطير والطقوس السياسية لخداع وتضليل الجماهير والتحكُّم بهم. بالمقابل، إنه يتقبَّل حقيقة أنَّ الأساطير والطقوس يمكن أيضًا أن تكون وسيلة التعبير التلقائية والعفوية للجماهير، والناتجة عن حاجتهم إلى الإيمان والمعتقدات، والتي يشبعونها حينئذِ عن طريق خضوعهم وإخلاصهم لقائد ما أو إيديولوجيا تعدهم بحياة أفضل وبالخلاص. الدين المدني أو السياسي، الذي جرى إدراكه وفهمه بهذا الأسلوب، ليس مجرد حيلة، ويمكن في الحقيقة أن يشكِّل نواة ديانة جديدة تستجيب لحاجة الجماهير إلى الإيمان والمعتقدات الجديدة لتسيير حياتهم وتوجيهها، كما يحدث خصيصًا أثناء فترات الجيشان العميق عندما تكون المعتقدات القديمة في حالة انحدار ويصبح الأمل في عالم أفضل وأكثر أمنًا هو الحالة الملحة.

آلهة المجتمع

النظرية الوظيفية Functionalist Theory للدين التي طوَّرها إيميل دوركهايم Emile Durkheim عام 1912 تتعلَّق في جزء منها بالنظرية الإيمانية للظاهرة الدينية. فقد رأى أنَّ الدين هو عبارة عن

نظام موحَّد من المعتقدات والممارسات المتعلِّقة بأشياء وأمور مقدَّسة، بمعنى آخر، أشياء مميزة ورفيعة ومحاطة بمنظومة من التابوهات والمحرَّمات – معتقدات وممارسات توحِّد أتباعها في مجتمع أخلاقي واحد يدعى الكنيسة.

ووظيفتها تتمثل في رفع الناس إلى ما وراء أنفسهم ومساعدتهم على عيش حياتهم بمستوى رفيع داخل المجتمع الكلي الذي ينتمون إليه. الدين هو الحالة التي يدخل فيها الفرد، في حالة نفسية "انفعالية"، في حالة نشوء أو حماس، حيث يتجاوز نفسه أو نفسها من خلال الانغماس العميق والكلي في الجموع ككل التي ينتمي هو أو هي إليها. في هذا السياق أو المعنى، التجربة الدينية

هي قبل كل شيء دفء، حياة، حماس، إعلاء لكل النشاطات العقلية، انتقال الفرد إلى ما وراء ذاته.

بالنسبة لدوركهايم، لا يتطلَّب الدين وجود كائن متعال وخارق للطبيعة، لأنَّ التجربة الدينية عنده ليست أكثر من مجرَّد تعبير عن جملة أو كلية الحياة الجمعية. أمَّا المقدَّس فهو المجتمع ذاته، والمجتمع يبجِّل نفسه.

الصور الدينية هي صور جمعية تعبِّر عن عوالم جمعية، والطقوس هي طرق أو أساليب تمثيلية تتولَّد فقط ضمن جماعات مجتمعة والقصد منها الاستثارة والتحفيز لإعادة خلق حالات عقلية وذهنية معينة في هذه الجماعات.

الأشخاص الذين يؤسِّسون مجموعة يشعرون بأنهم موحَّدون ويحافظون على تلك الوحدة قدر الإمكان طالما أنهم يتشاركون مجموعة من الأعراف والمعتقدات ويمارسون بانتظام الطقوس والشعائر اللازمة لتلك المعتقدات.

وقوة الدين هي الشعور بالإلهام الجمعي الذي يفعل فعله في أفراده، الإلهام المتوقع من الخارج والمجسَّم عن طريق العقول التي تشعر به. فهو يصبح مجسَّمًا من خلال رسوّه في الجسم الذي سيصبح عندئذ مقدسًا، لكن يمكن لأي جسم أو شيء أن يعلب الدور نفسه.

تعبِّر المعتقدات الدينية عن وحدة وهوية المجتمع الكلي، في حين أنَّ الطقوس هي أشكال من السلوك التي تلعب دورًا في تحفيز، الحفاظ، وتجديد وحدة وهوية الجماعة من خلال رجوعهم إلى كيانات دينية مشتركة، والتي يمكن أن تتمثل في أشياء، حيوانات [طوطم]، أشخاص أو أفكار. فعملية مشاركة الأفكار والمعتقدات المتعلقة بأشياء مقدَّسة، كالأعلام أو الرايات مثلاً، الأرض الأم، الوطن، شكل من أشكال المنظمات السياسية، بطل، أو حادثة تاريخية هي معتقدات إلزامية لن تتمكَّن أي جماعة من رفضها أو تدنيسها.

فبالنسبة لنا يمثل الوطن الأب، الثورة الفرنسية، جان دارك كيانات مقدَّسة ورموز مبجَّلة ولن نسمح لأيِّ أحد أن يهينا أو يدنسها.

لذلك حسب دوركهايم، حتى منظومات المعتقدات الجمعية أو الكلية وأساطيرها وطقوسها التي تمَّ تأسيسها لكي تعيد التأكيد وبانتظام على وحدة وهوية الجماعة السياسية ما هي إلا ظواهر دينية أو، بمعنى أكثر تحديدًا، هي دين علماني ليس مرتبطًا بالضرورة بعقيدة أو إيمان بوجود كائن مفارق وخارق للطبيعة. إنه يستخدم مصطلح الثورة الفرنسية ليبيِّن ميل جماعة معينة، وبشكل أخص خلال فترات "الانفعال والجيشان الجماعي" Collective Effervescence إلى خلق كيانات لاهوتية جديدة عن طريق تقديس معتقداتها وأفكارها. خلال السنوات الأولى للثورة، وتحت تأثير النزعة الحماسية التي انتشرت كالنار في الهشيم، وُجد نوع من الدعم الشعبي للدين الجديد وكل ما يتعلَّق به من المعتقدات، الأفكار، الرموز، المراكز، والنشاطات التي أنتجت بشكل تلقائي مثل هذه الكيانات المقدَّسة كالوطن، الحرية، والعقل، والتي كانت مجرد أمور ومفاهيم علمانية ودنيوية بحتة. مالت الثورة إلى مكافأة هذه "التطلُّعات العفوية أو التلقائية" بشكل رسمي عن طريق التأسيس لمذهب العقل والكائن الأعلى.

يزعم دوركهايم بأنَّ الدراسات التي أجريت على الطوائف أو الشيع الثورية على يد المؤرِّخ ألبرت ماثييز Albert Mathiez أكدت اعتباراته الخاصة بالثورة الفرنسية، وهذه الدراسات بدورها استخدمت مفهوم دوركهايم للدين. بعكس أولارد، اعتبر ماثييز الطوائف الثورية علامات عفوية وتلقائية لديانة جديدة ولدت من رحم التجربة السياسية للثورة. وقد عرَّفها بأنها "الدين الحقيقي" True Religion، لكنه دين عابر، لأنه يتضمَّن كل العناصر الأساسية الشائعة التي تشترك فيها جميع الأديان: الإيمان faith، بمعنى آخر، مجموعة من المعتقدات الإلزامية التي تمَّ التصريح عنها كعناصر وأفكار دوغمائية غير قابلة للجدل؛ والعبادة worship، بمعنى، مجموعة من الرموز والشعائر التي تعبِّر عن تلك المعتقدات والأفكار. إنَّ الجوهر السياسي لهذا الدين تمثَّل في الوطنية patriotism والأمل أو التوقع المسيحي في إعادة التجديد أو الانبعاث من جديد regeneration، أمَّا الدوغما الخاصة به فتمثلت في القانون Law، الدستور The Constitution، المساواة Equality، التحرُّر Liberty، وسيادة الشعب Sovereignty of the People.

يعتبر التفسير الوظيفي أنَّ أصل أي ظاهرة دينية هو نتاج أصولي تلقائي لأي جماعة موحدة، ولذلك فإنه لا يستثني إمكانية أن تكون ولادة الأديان الجديدة التي تؤلِّه المجتمع والسياسة هي في الواقع ظاهرة دينية. طبعًا، غالبية العلماء والباحثين الذين يجرون دراساتهم على ظاهرة الأديان المدنية، يرون أنه يمكن ملاحظتها كمنظومات عقائدية، أساطير، مبادئ، وأنماط من التصرفات الرمزية تعبِّر عن القيم الأساسية والمتطرِّفة في المجتمع، وتخضع للنظرية الأصولية.

علامات القداسة في العالم المعاصر

في النهاية، إنَّ وجود الدين السياسي أو المدني يبدو معقولاً، إذا كنا نشير إلى مفهوم "المقدَّس" sacred الذي طوَّره اللاهوتي الألماني رودولف أوتو Rudolf Otto عام 1917. فحسب هذه النظرية، المقدَّس، والذي يعتبر بأنه "نوع من التأويل والتقدير الخاص بمجال الدين"، هو تجربة روحية متعذَّر وصفها ولا يمكن استيعابها وفهمها بطريقة عقلانية ويمكن خوضها أثناء الخشوع. هذا المصطلح، الذي صاغه أوتو، يشير إلى مظاهر القوة الهائلة، الغامضة، والجليلة التي، من خلال سحرها وطبيعتها الملهمة، تستثير مشاعر التبعية المطلقة في كل من يختبرها، لكن في الوقت نفسه نلاحظ أنها تنتج طاقة غير عقلانية "تشغل مشاعر الإنسان، تقوده إلى حالة من التأجُّج الدؤوب، وتملأه بشعور من التوتر الديناميكي غير المحدود، وكلا الحالتين في سياق الزهد والحماس مقابل العالم واللحم، وفي سياق السلوك البطولي حيث ينفجر الحماس الداخلي نحو وإلى العالم الخارجي". والأديان تتولَّد من التجربة الخشوعية الروحية للمقدَّس.

الأمر هنا يستلزم افتراضًا نظريًا للزعم بأنَّ البعد السياسي لا يمكن أن يكون بمثابة مرحلة التجارب الخشوعية الروحية والمظاهر التي يتمثَّل فيها المقدَّس. فعلى مرِّ التاريخ، استغِلَّت القوة أو السلطة السياسية ذات الطبيعة المقدَّسة، وحتى عندما لم ترتبط بلاهوت مفارق بشكل مباشر. فحسب علم الأجناس البشرية الديني Religious Anthropology، القوة المطلقة هي من أهم خواص المقدَّس، في حين أنَّ علم الأجناس البشرية السياسي Political Anthropology يوضِّح أنَّ هالة من القداسة تنبثق دائمًا من أولئك الذين يملكون القوة أو السلطة. في العصر الحديث، قد تظهر الدولة – بعد أن حرَّرت نفسها من التقديس الذي منحها إياه الدين التقليدي – كواقع روحي وكقوة مطلقة وملهمة تستثير مشاعر التبعية الكاملة. وحتى الحرب الحديثة يمكن إدراكها كتجربة مقدَّسة عنيفة وبذلك تسهيل عملية تشكُّل معتقدات دينية جديدة موجَّهة نحو كيانات دنيوية، كالأمة على سبيل المثال، الشعب، أو العرق. على الأرجح أنه ليس من قبيل الصدفة أنَّ كتاب أوتو عن المقدَّس قد نشر خلال فترة الحرب العالمية الأولى وقد حقق نجاحًا فوريًا. الفيلسوف الإيطالي أدريانو تيلغير Adriano Tilgher اتجه بشكل واضح إلى نظرية الخشوع numinous ليفسِّر عوامل انتشار الأديان العلمانية الجديدة التي أخذت بعد الحرب العالمية الأولى مكان الأديان الإنسانية، التطوُّر، والعلم، "من خلال محاولة الحضارة الغربية ملء الفراغ الذي حلَّ بالروح جرَّاء انحدار الديانة المسيحية وهبوطها". في بداية الحرب العظمى، وعقب انحدار الديانات العلمانية للقرن التاسع عشر، كتب تيلغير عام 1938 يقول:

هامت المشاعر الروحية في حالة من الحرية والنقاوة بحثًا عن أهداف ومصطلحات جديدة لتفرغ نفسها فيها، تمامًا كما تهيم الشحنة الكهربائية في الغيوم حتى تجد لنفسها مكانًا مناسبًا تفرغ نفسها فيه. وبعد الحرب مباشرةً، أفرغت نفسها داخل أهداف جديدة: الدولة، الوطن، الأمة، العرق، الطبقة، والتي كانت بدورها كيانات يجب الدفاع عنها ضدَّ الأخطار الأخلاقية أو أحد تلك الأخطار التي يتوقع منها كل شيء.

فترة ما بعد الحرب [الحرب العالمية الأولى] شهدت إحدى أكثر الفترات التي انتشر فيها التوجُّه الروحاني على الإطلاق. فقد شهدنا ولادة آلهة جديدة بأمِّ أعيننا. ولا بدَّ أن تكون أعمى وأصم عن كافة العوالم الحالية إذا لم تكن قادرًا على أن تدرك حقيقة أنَّ العديد من دولنا وأوطاننا وأعراقنا وطبقاتنا المعاصرة ليست مجرَّد موضوعات لحماسنا التبجيلي والتقديسي فحسب بل هي أيضًا موضوعات لتبجيلنا الخرافي. فهي عبارة عن مصطلحات تنتمي في الأصل إلى عالم المشاعر الروحية؛ إذ يتم إدراكها كحالة حضور يتعالى على حياتنا اليومية وهي بذلك تحفِّز وتستثير كافة المشاعر المتناقضة والأحاسيس الجياشة، ولا يمكن ملاحظتها إلا في حالات الخشوع الروحي numinous: الحب والرعب، الإلهام والخوف. فهي تولِّد الدوافع التي تقود إلى التبجيل والتقديس والإخلاص. يعدنا القرن العشرين بإضافة بعض الفصول الجديدة في تاريخ الحروب والصراعات الدينية (حيث يعتقد أنَّ القرن التاسع عشر قد انقضى وبأننا قد تجاوزناه): تلك هي نبوءتي التي قد يثبت صحتها في جميع الحالات.

المواقف الروحية في عالم السياسة الحالي تحدث خلال الثورات، عندما تتحوَّل السياسة إلى مكان "للجيشان الجماعي" العنيف، والتي ترتبها بنفسها لتسيطر عليها بنجاح يمكن الافتراض بأنها شرارة مقدَّسة، لأنها تظهر كعلامة لقوة جبارة ورهيبة. في العصر الحديث، أصبحت الثورة بذاتها عبارة عن كيان دنيوي مقدَّس في الحالة التي يتم تخيُّلها بها، الرغبة فيها، السعي ورائها، واختبارها.

أخيرًا، يمكن للحداثة أن تكون المكان المفضَّل لولادة أديان جديدة، لدرجة أنها فترة الغليانات والانتفاضات التي تحطِّم كافة اليقينيات الألفية وتجرُّ الإنسانية إلى دوامة التغيير الدائم. "العالم المعاصر بأسره هو – من جديد – في حالة بحث عن ديانة"، كتب بينيديتو كروك Benedetto Croce في بداية القرن العشرين، فقد قال إنَّ مشكلة الحضارة المعاصرة كانت فوق كل المشاكل الدينية: إذ ينبع الشعور الديني من الحاجة إلى مفهوم جوهري عن الحياة والعالم، ولتوجيه وإرشاد العلاقة بينهما. فمن دون الدين وبغياب إرشاداته، لا يعود بمقدورك عيش حياتك، أو أنك ستعيش حياةً تفتقر للسعادة، وستعاني روحك من التشتت والاضطراب. طبعًا، من الأفضل أن يكون لدينا ديانة تتوافق مع الحقيقة الفلسفية إلى حدٍ ما، على أن تكون لدينا ديانة قائمة على الأساطير والرموز. لكن من الأفضل أن يكون لدينا أي ديانة قائمة على الأساطير، على ألا يكون لدينا دين على الإطلاق. مع الأخذ بعين الاعتبار أنه لا أحد يتمنى أن يقضي حياته تعيسًا، فكل إنسان يسعى جاهدًا – بشكلٍ واعٍ أو من دون وعي – إلى خلق دين من أجله.

خلال الفترة نفسها، ارتأى دوركهايم أنَّ الحداثة ستفضِّل عملية خلق أديان جديدة حتى خارج الميدان التلقيدي للأديان التاريخية، كما حدث بالضبط خلال الثورة الفرنسية، لأنَّ الحداثة تفرز مواقف كثيرة من التفتت والتصدُّع، وعدم اليقين، وحالات الاضطراب الدائم. فكل مجتمع يشعر بالحاجة لإعادة تأكيد وإعادة تجديد "المشاعر والأفكار الجماعية التي تشكِّل وحدته وهويته وشخصيته".

الآن، هذه الرؤيا الأخلاقية يمكن تحقيقها من خلال وسائل اللقاء، الاجتماع أو الجمهرة والتجمُّعات، حيث يتواصل الأفراد فيما بينهم بشكلٍ أقرب، ويؤكِّدون بشكل عام على مشاعرهم المشتركة: لذلك تلك المناسبات لا تختلف أهدافها، نتائجها، وأساليبها عن المناسبات الدينية. ما الاختلاف الجوهري بين تجمُّع للمسيحيين وهم يحيون ذكرى لحظة معينة من حياة المسيح، أو اليهود الذين يحتفلون إمَّا بعيد الخروج من مصر أو يحيون ذكرى مناسبة إعطائهم الوصايا العشر، ولقاء بين المواطنين الذين يحيون ذكرى تشريع أخلاقي ما أو قانون معين أو ذكرى حدث عظيم في تاريخ الأمة؟

لقد فقد الإنسان المعاصر إيمانه بالديانات التقليدية، إلا أنَّ حاجته للدين بقيت حية وموجودة وتفرض نفسها بقوة. على أية حال، المحاولات المبذولة لإرضاء تلك الحاجة، كالأحزاب الثورية أو مشروع لتأسيس دين علماني للإنسانية تمُّ تنظيمه على يد الفيلسوف الوضعي أوغست كونت August Comte الذي علَّم دوركهايم أنَّ كل يقين أو إثبات هو قصير الأجل، وبسبب هذه الحاجة الملحة، توصَّل عالم الاجتماع الفرنسي إلى نتيجة مفادها أنَّ بني البشر لن يتوقفوا أبدًا عن اختراع آلهة جديدة وأديان جديدة.

في اختصار، الآلهة القديمة تكبر، تهرم، أو تموت، وأخرى لم تولد بعد، لكنَّ هذه الحالة من اللايقين الهياج المشوَّش لا يمكن أن تستمر إلى الأبد، إذ سيأتي يوم حيث ستختبر فيه مجتمعاتنا مرة أخرى أوقاتًا من الانفعال الخلاَّق، وستظهر أشكال جديدة على السطح، وتشكيلات جديدة تقود الإنسانية مدَّة من الزمن. وهناك بشر عاشوا خلال تلك الفترة وعاصروها، سيختبرون بشكلٍ دائم الحاجة لإعادة إحيائهم من خلال الفكر الآن ولاحقًا، وذلك لحفظ ذكرى عنهم من خلال الاحتفالات والمهرجانات التي تعيد اختلاق ثمارهم من جديد. فقد شاهدنا مسبقًا كيف أنَّ الثورة الفرنسية أسَّست دورة كاملة من المهرجانات والاحتفالات للحفاظ على المبادئ التي استمدت إلهامها منها في حالة من الشباب الدائم. فإذا ماتت المؤسَّسة بسرعة أو اندثرت، فذلك بسبب أنَّ الإيمان أو المعتقد الثوري دام لفترة قصيرة نسبيًا، ثم تتالت الخيبات والإحباطات وراء بعضها البعض وبسرعة بعد انقضاء اللحظة الأولى من الحماس. لكن وبالرغم من أنَّ العمل قد تمَّ إجهاضه، إلا أنه يفتح الباب أمامنا لنتصوَّر ما الذي كان يمكن أن يحدث تحت ظروف أخرى مغايرة، وكل شيء يقودنا للتفكير أنه عاجلاً أم آجلاً سيعاود الكرَّة مرةً أخرى. ليس هناك نصوص مقدَّسة خالدة، ولا يوجد أي سبب يدفعنا للاعتقاد بأنَّ الإنسانية منذ الآن فصاعدًا غير قادرة على خلق نصوص جديدة. أمَّا بالنسبة لمعرفة الرموز التي سيظهر فيها الدين الجديد مسبقًا، إذا كانت تشابه أو لا تشابه الرموز التي كانت في الماضي، إذا كانت كافية لمضاهاة الواقع التي هي خلقت من أجله في الدرجة الأولى لترجمته وتأويله، فهذه مسألة تتجاوز القدرات البشرية في التنبؤ بها.

اليوم، العديد من العلماء والباحثين الذين يدرسون الظاهرة الدينية يعتقدون أنَّ العصر الحديث لا يمر بعملية علمنة غير قابلة للعكس متضمِّنة حالة من الاختفاء التدريجي للمقدَّس من العالم الغارق في تهكُّمه وفكاهيته، إلا أنها حالة تتضمَّن تحوُّلاً مستمرًا ودائمًا للمقدَّس في السياسة وفي أبعاد أخرى من النشاطات الإنسانية. المختص في تاريخ الأديان ميرسيا إلياد Mircea Eliade لاحظ أنَّ تجربة المقدَّس ليست غريبة عن وعي الإنسان المعاصر الذي يزعم الآن أنه قد تحرَّر من المعتقدات الدينية القديمة وأصبح "إنسانًا غير متدين": هذا التحرُّر هو محض وهم للعديد من البشر، لأنَّ هذا "الإنسان غير المتدين" ينحدر من جدِّه الإنسان المتدين Homo Religiosns، وسواءً أحبَّ ذلك أم لم يحب، فإنه نتاج الإنسان المتدين، إذ بدأ تشكُّله من الحالات المفترضة التي وضعها أسلافه من الإنسان المتدين. فالإنسان الحالي أو المعاصر يثور ضدَّ ماضيه ويحاول جاهدًا أن يحرِّر نفسه منه، لكن "ليفعل ما يريد، فإنه مجرَّد وريث. فهو لا يستطيع إلغاء ماضيه ومحوه بشكل كامل، بما أنه هو الذي صنعه بنفسه".

الإنسان غير المتدين في حالته الطبيعية هو ظاهرة نادرة للغاية، حتى في أكثر المجتمعات الإنسانية الحديثة علمانية: فغالبية البشر غير المتدينين ما زالوا يتصرفون بطريقة دينية بشكلٍ أو بآخر، ومع أنهم ما زالوا غير مدركين لحقيقة أنَّ الإنسان المعاصر الذي يشعر ويدَّعي أنَّه غير متدين ما زال يحتفظ بحصَّة كبيرة من الأساطير المموَّهة والطقوس المتحلِّلة على وجه التحديد، فالغالبية العظمى من هؤلاء الزناديق irreligious أو غير المتدينين لم يتحرَّروا من التصرُّفات الدينية كما كانوا يتوهمون، أي من اللاهوتيات والميثولوجيات. باختصار، غالبية البشر "الذين هم بلا دين" ما زالوا متمسِّكين بالأديان والميثولوجيات الدينية الزائفة والمتحلِّلة.

في العصر الحالي، أظهر المقدَّس مقاومة شرسة وحيوية استثنائية. فقد فصلت عملية العلمنة المقدَّس عن الديانات المؤسَّساتية التي خلطته ومزجته في عقائدها وطقوسها، وأطلقته حرًا طليقًا، إذا استخدمنا تعبير عالم الاجتماع روجر باستيد Roger Bastide، حيث أنه كان يعني بتعبير "حر" إيجاد طرق وأساليب جديدة لإظهار نفسه في كافة النشاطات الإنسانية حتى تتمَّ السيطرة عليه في النهاية من قبل عقيدة أو دوغما أخرى. "فموت الآلهة المؤسَّساتية" لا يعني إطلاقًا "زوال التجربة المؤسِّسة للمقدَّس في البحث عن أشكال جديدة يجسِّد فيها نفسه"، وموت الإله، الحدث الذي أعلنه الفيلسوف نيتشه Nietzsche، "لا يعني بالضرورة موت المقدَّس، طالما أنَّ تعبير (المقدّس) يوحي ببعد جوهري للجنس البشري".

من هذه الزاوية، لا تستنزف تجربة المقدَّس ذاتها مع تقدُّم عملية العلمنة. فالذي يسمى عمومًا "بعملية العلمنة" Progress of secularization غالبًا ما يحجب حقيقة الانتشار الوحشي والبربري للتديُّن" يكتب العالم الأنثروبولوجي كلود ريفيير Claude Rivire، إذ إنه من المستحيل إنكار أنَّ "المقدَّس [مرعب termendum ومذهل fascinans] هو بعد أنثروبولوجي متطرِّف، ولا يمكن لمجاله أو حقله أن يتحدَّد من قبل الأديان المؤسَّساتية، ولا حتى لمظاهره أو علاماته أن تتحدَّد بالشعائر أو الممارسات الدينية". كما لاحظ المختص بتاريخ الأديان جيوفاني فيلورامو Giovanni Filoramo، أنه من الصحيح تمامًا أنَّ "عملية العلمنة حرمت أديان تقليدية كثيرة من كافة الحقول عن طريق جعلها دنيوية وثنية ومستقلة بذاتها، لكن يصحُّ القول أيضًا بأنَّ هذه المجالات أو الحقول هي التي خلقت هذا المقدس مرةً أخرى، وباستقلالية تامَّة عن الديانات التقليدية".

في مجتمع حديث ومعاصر، يشكِّل المقدَّس

أحد الطرق الممكنة لوضع الوسائل المشتركة اجتماعيًا بالترتيب وخلق بعض التماسك والترابط بينها. لتوخي الدقة أكثر، فقد انطلقت عملية العلمنة عن طريق منح أفراد أو جماعات من البشر قيمة مطلقة للموضوعات والرموز من أجل استيعاب وإدراك وجودهم الفردي أو الجماعي (فهم يكرِّسونها ومن ثمَّ يعزلونها).

لذا يصبح الحديث أو المعاصر modern جزئيًا "مكانًا لصناعة الأديان"، "في حين أنَّ الحداثة modernity قامت من دون شك بعلمنة الأديان التقليدية، فهي ليست عدائية أو بغيضة بشكل غير قابل للعكس بالنسبة للدين بشكلٍ خاص وللمقدَّس بشكلٍ عام". في المقابل، "إنَّ إعادة هيكلة الحداثة تتطلَّب بدورها ظهور الأسباب والديناميات الجوهرية القائمة على المقدَّس والتديُّن اللذين لم يزولا حتى الآن". فخلال عصر الحداثة، ظهرت أشكال أخرى جديدة من الإيمان بجانب الإيمان بالخارق للطبيعة، وهذه بدورها قدسنت عدَّة خصائص وسمات مختلفة من النشاط الإنساني. فقد لاحظ عالم الاجتماع سالفادور جينر Salvador Giner أنَّ الأوقات أو الأزمنة الحديثة، بالرغم من أنها غير حساسة للخارق للطبيعة وبطرق عدة، استبدلت غالبًا بالتعالي الاجتماعي Social Transcendence مثل:

أساطير الثورة، الأمة، العهود الجديدة، العلموية، الإنسان الجديد، الحرية الكاملة، الصلة مع الكون والطبيعة، الصحة الأبدية، المتعة هي الطريقة الوحيدة للحياة، وأساطير أخرى هي الآن أشكال متنوعة من التعالي، سواء أكانت منفصلة أو متصلة في تشكيلات متنوعة، وسواء أكانت أو لم تكن مرتبطة بالأديان الخارقة للطبيعة. إذ يعود السبب إليهم في أننا واجهنا حاجزًا صلبًا أمام عملية تدنيس العالم، والتي بدأت مع عصر النهضة. هذه الأساطير هي المادة الخام في عملية التحوُّل العلمانية الدنيوية للأساطير القديمة والتي وجدت طريقها إلى العودة إلى الحياة لاستعادة مكانتها.

في الوقت الحالي، إنَّ التعبيرات التي تمثل التقديس الجاري على نواحٍ مختلفة من الحياة الإنسانية قد ازدادت عن طريق التاريخ، الفلسفة، الفن، وأخيرًا وليس آخرًا: السياسة. الفيلسوف السياسي مانويل غارسيا بيلايو Manuel Garcia Pelayo يقول إنَّ هناك عصورًا أو جماعات في حقب معينة لم تفهم السياسة "كنظام تتطوَّر ضمنه حياة الإنسان، وكحقل جوهري كغيره من الحقول، لكنه الأساس الأنطولوجي ومصدر الوجود الإنساني". بناءً على ذلك، كان يتوقع من السياسة ليس فقط أن تجد حلاً لبعض المشاكل العالقة، بل أن تجد حلاً لمشكلة الوجود ككل":

في اختصار، وبتقديم الممارسات الدينية إلى السياسة، فإنهم يختبرون السياسة كحياة كطريقة للخلاص. إمَّا لأنهم يؤمنون كما كان يؤمن العالم القديم، أنَّ الخلاص، بالرغم من أنه عمل إلهي، قد تكشَّف من خلال النظام السياسي الذي تأسَّس على يد زعيم يتمتع بكاريزما معينة ذات طبيعة مقدَّسة، أو لأنَّ الإنسان، بالرغم من أنه فقد إيمانه بالله، لم يفقد حسَّه بأنه عبارة عن روح سيئة الحظ، وأنه ما زال يضع كامل آماله وتطلُّعاته للخلاص في مذهب أو نظام سياسي. هذه الظاهرة أدَّت إلى ظهور ما يسميه البعض "الديانات السياسية". ونحن لن نشغل أنفسنا في الجدال حول صحة أو خطأ هذا المصطلح، لكنه من الواضح على الأقل أنَّ بعض الإيديولوجيات وبعض الحركات الدينية لا يمكن فهمها بشكلٍ كاملٍ بدون مساعدة التعريفات التي كانت دينية في الأصل بالرغم من أنها تترجم الآن وتصنَّف على أنها غير دينية.

لذلك أصبح عالم السياسة المعاصر، وفق ما يرى عالم الاجتماع الديني جان بيير سيرونيو Jean-Pierre Sirroneau، "المكان المفضَّل لاختلاق وانتشار المقدَّس في المجتمعات الدنيوية العلمانية".

إنها حقيقة أنَّ معاصرينا مالوا إلى توجيه جزء من طموحاتهم وتطلُّعاتهم وشغفهم الديني نحو عالم السياسة، وحوَّلوا العقائد والإيديولوجيات السياسية إلى أساطير، ونظروا إلى العديد من الزعماء والقادة السياسيين والطغاة على أنهم شخصيات بطولية أو إلهية. فعالم السياسة المعاصر مليء بالأشخاص "المقدَّسين". هذه الشخصيات مريعة من ناحية [مرعبة tremendum] لأنها تمتلك كافة أساليب القوة والسلطة التقنية والعسكرية والسيكولوجية للدولة المعاصرة وتحتكرها، ولديهم قدرة جبَّارة على فرض إرادتها وسيطرتها، وهي شخصيات مطمئنة وصديقة [مذهلة fascinanse] من ناحية أخرى لأنها تمثل قوة عظمى قد تكون إلهية قادرة على تأمين الحماية والأمان للإنسان الحالي والذي كان مقتلعًا ومثقلاً بالعقد الصناعية والمدنية. السياسة هي التي أنجبت أصنام عصرنا الحالي... وتظهر السياسة بسهولة أكثر التعبيرات التقليدية للديانات، وبالأخص الأساطير، الطقوس، الروابط، والإيمان. إذ أخذت السياسة على عاتقها دور المشرِّع للنظام الاجتماعي، وهو الدور الذي كان يلعبه الدين فيما مضى.

يتضح لنا في النتيجة النهائية أنَّه من المشروع تمامًا اعتبار عملية قدسنة السياسة ككهنوت حديث ومعاصر modern hierophany بمعناه اللاتيني، ويعني ذلك ظهور المقدَّس في عالم الحداثة ودراسة الأديان المدنية والسياسية كأشكال جديدة من التديُّن تولَّدت خلال العصر الحديث وتنتمي إليه.

ماكس فيبر Max Webber، الذي كان بمثابة المنظِّر الذي يساعد على التحرُّر من الأوهام disillusionment التي تملأ عالمنا المعاصر، كتب عام 1890 أنَّ الأديان القديمة لم تكن مبعدة بشكل كامل، بل كانت تعود باستمرار لكن بأشكال مختلفة:

ذهب سحر الآلهة القديمة وفقدت هيبتها، ولذلك تحوَّلت إلى قوى لاشخصية، انبعثت من قبورها ومضت مرة أخرى في الصراع الأزلي الدائر بينها على أمل الحصول على السيادة على الحياة.

إنّ تجربة الأديان التوتاليتارية تسمح لنا بالبرهنة على أنَّ السياسة كانت ساحة الوغى التي خاضت فيها الآلهة الجديدة معاركها لفرض السيطرة والسيادة على حياة البشر في القرن العشرين. وهؤلاء الذين شهدوا قدوم الديانات التوتاليتارية كانوا مقتنعين بذلك، واعتبروا أنَّ هذه الديانات ما هي إلا تهديد مباشر وخطر داهم يواجه الإنسانية جمعاء.

ترجمة: إبراهيم جركس

*** *** ***


 

horizontal rule

* يمثِّل هذا المقال الفصل الأول من كتاب جينتيل السياسة كدين Politics as Religion.

** بروفيسور التاريخ المعاصر في جامعة لاسابينزا La Sapienza في روما، معروفٌ عالميًا بدراساته وأبحاثه التي تتناول موضوع الدين في مجال السياسة. ألَّف أول دراسة شاملة ومستفيضة عن الإيديولوجيات الفاشية ومنظمة الأحداث السياسية والثقافية. يرى الكاتب أنَّ الفاشية كانت التجربة التوتاليتارية الأولى في التاريخ لأنها ولَّدت شكلاً جديدًا من أشكال الحكم السياسي الذي غطَّى كافة نواحي الحياة المدنية للمواطنين.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود