|
مثل لؤلؤة في وسط حجارة صمَّاء سوداء
تناقلت وسائل الإعلام خبرًا مفاده أنَّ عائلة الأمير عبد القادر الجزائري وجَّهت إلى الرئيس عبد العزيز بوتفليقة رسالة تطالبه فيها بالتدخل لدى السلطات السورية لإنقاذ حياة خلدون الحسني، أحد أحفاد الأمير عبد القادر، بعدما أصدرت إحدى المحاكم العسكرية السورية حكمًا عليه بالإعدام بتهمة التعدِّي على "حقوق الأمة السورية". أعاد هذا الخبر إلى الذاكرة اسم الأمير الجزائري والدور الذي لعبه في الدفاع عن مسيحيي دمشق أثناء الأحداث الطائفية التي امتدت من جبل لبنان إلى سوريا في صيف 1860. يُعتبر الأمير عبد القادر من كبار رجال الدولة الجزائريين في التاريخ المعاصر، فهو رائد المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي بين 1832 و1847، ومؤسس الدولة الجزائرية الحديثة. إلى ذلك، برز الأمير في التصوف والشعر والأدب، وكان من دعاة السلام والتآخي بين الناس على اختلاف أجناسهم وأديانهم، بشهادة كل الذين عاصروه. وُلد عام 1807 في قرية القيطنة الواقعة على وادي الحمام، غرب مدينة معسكر، وحمل اسم جده الذي جاء من المغرب إلى الجزائر حيث أسس زاوية صوفية تتبع طريقة الإمام الولي عبد القادر الجيلاني. تلقَّى تربيته في هذه الزاوية التي كان يتكفلها أبوه محيي الدين، ثم تابع دراسته في أرزيو ووهران على أيدي عدد من كبار العلماء. من الجزائر، توجَّه عبد القادر مع أبيه حاجًّا إلى مكة عبر تونس عام 1825، ومرَّ بمصر، وأعجب بالإصلاحات والمنجزات التي تحققت في عهد واليها محمد علي باشا، ثم انتقل إلى الشام ليتابع دراسته في الجامع الأموي، وتوجَّه بعدها إلى بغداد، وتوقف عند ضريح الولي عبد القادر الجيلاني، وعاد إلى الجزائر بعد وقفة ثانية في مكة في 1828. في تموز 1830، وقعت الجزائر تحت الحكم الفرنسي بعد استسلام حاكمها العثماني، وانضم عبد القادر إلى صفوف المقاومة في مرحلة مبكرة، وعُرف باسم الأمير، وبدأ مسيرته في النضال ضد الاستعمار وهو في عنفوان شبابه، فدخل في مواجهة مفتوحة مع المستعمرين انتهت بأسره في فرنسا حتى عام 1852 حيث أطلقه نابوليون الثالث، فتوجه إلى اسطنبول، ومنها إلى دمشق عام 1856، وتفرَّغ للقراءة والفقه والتصوف، كما عمل مدرِّسًا في المسجد الأموي، وتوفي في دمَّر عام 1883، ودُفن بجوار ضريح الشيخ محيي الدين بن عربي الأندلسي عند سفح جبل قاسيون. عاصر الأمير الجزائري المعارك الطائفية الدامية التي امتدت من جبل لبنان إلى العمق السوري في 1860، وكان له الدور الأكبر في الدفاع عن مسيحيي دمشق في تلك المحنة، كما تجمع المصادر المحلية والأجنبية على اختلاف توجهاتها السياسية والاجتماعية. نكبات الشام تختلف القراءات في تحديد أسباب الفتنة التي عصفت بالمشرق منذ أكثر من مئة وخمسين عامًا، ولا نجد قراءة موحَّدة لمجرياتها حتى يومنا هذا. قديمًا، ألَّف فؤاد إفرام البستاني وأسد رستم كتاب تاريخ لبنان الموجز، واعتبرا فيه حرب 1860 أشبه بـ"محاولة للقضاء على الاستقلال الذاتي اللبناني عبر ضرب المسيحيين وخصوصًا الموارنة". في المقابل، وضع زكي نقاش وعمر فروخ تاريخ سوريا ولبنان المصور، وقدَّما من خلاله قراءة أخرى ترى في هذه الأحداث الأليمة "ردة فعل عثمانية على سياسة التدخل الغربي في شؤون السلطنة الداخلية، ولا سيما السياسة الفرنسية التي اعتمدت على حلفائها الموارنة". تتعدَّد التحليلات التي تتناول هذه الأحداث، والثابت أن التداخلات الخارجية ساهمت في تأجيج العوامل الداخلية التي تسبَّبت باندلاع الحرب بين الدروز والموارنة في جبل لبنان وامتدادها سريعًا إلى سوريا حيث صارت حملة "إسلامية" عنيفة طالت المسيحيين كافة. وصف الكثير من الشهود هذه الحرب، ودوَّن بعضهم مشاهداته في كتابات سجَّلوا فيها الوقائع الفظيعة التي عاينوها، ومنهم مخائيل مشاقة وشاهين مكاريوس. انتهى مشاقة من كتابة شهادته في 22 تشرين الثاني 1873، ونُشرت هذه الشهادة في القاهرة عام 1908 تحت عنوان مشهد العيان بحوادث سوريا ولبنان. في المقابل، استعاد مكاريوس مجريات الحوادث عام 1895، وطُبعت هذه الشهادة في ذلك العام كذلك في مصر، وحملت عنوانًا يقول: حسر اللثام عن نكبات الشام، وفيه مجمل أخبار حوادث 1860 الطائفية في لبنان وسوريا ومقدِّماتها وذيولها مع تمهيد تاريخي جغرافي. يشهد كل من الكاتبين للدور الكبير الذي لعبه الأمير عبد القادر في الدفاع عن مسيحيي دمشق، وتتكامل الشهادتان في تقديم صورة توثيقية حيَّة لهذا الدور. يقول مشاقة في ختام كتابه إنه لا يقصد به الحطَّ من مقام الدولة العثمانية ولا لإشهار ملامتها بما أوقعته على رعاياها من مسلمين ودروز ونصارى من المحن والمصائب، لأن كل ما فعلته كانت تعتقد به واجبًا لبقاء سلطتها وحفظ البلاد لها بدون منازع، بل لإشهار سوء تصرفها معهم على تلك الطريقة، طريقة الخداع والنفاق، ولملامة ذلك الشعب الذي ساعدها على تنفيذ غايتها. تدين هذه الشهادة في الدرجة الأولى، والي دمشق أحمد باشا ووالي بيروت خورشيد باشا، وتشدِّد على دورهما الأساسي في إشعال هذه الأحداث. في المقام الثالث، يبرز مبعوث الأستانة و"أدهى رجالها فؤاد باشا"، وقد أوفدته الدولة العثمانية إلى الشام بعد حوادث دمشق للتمويه إثر وصول الفرنسيين للنظر في هذه الأحداث. يصف الكاتب اندلاع الفتنة في دمشق في الفصل المئة والسابع والخمسين، ويخصِّص الفصل التالي لـ"مدافعة الجزائري عن النصارى" كما يقول العنوان. وفقًا لهذه الرواية، تعمَّد الحاكم أحمد باشا إثارة المسلمين ودعاهم "إلى الفتك والتحرُّش بالنصارى"، ونجح في ذلك، فكانت "المذبحة العظمى والمصيبة الكبرى والنكبة التي ليس فوقها تكبة، عمَّت نصارى المدينة، وكادت تكون القاضية عليهم". تصدَّى الأمير عبد القادر لهذا الهجوم، واجتمع بأحمد باشا وأعضاء مجلس الشورى وطلب منهم المساعدة لوقف هذه المذبحة، وساعده في ذلك مفتي الولاية طاهر أفندي، غير أن الحاكم خذله، وامتنع عن ضرب المعتدين، فـ"حوَّل اهتمامه لتخليص من يقدر على خلاصه من العيال والرجال، بيَّض الله وجهه". بعث عبد القادر برجاله، وأوصاهم "أن يحضروا إليه من النصارى رجالاً ونساءً وأطفالاً وكلَّ من يقدرون على الوصول إلى تخليصه". وسار على مثاله أسعد أفندي حمزة، فسار مع رجاله "وأغاث الألوف". وكذلك فعل الشيخ سليم العطار وصالح أغاشور وسعيد آغا النوري وعمر آغا العابد، فجاؤوا إلى حي الميدان، "ودافعوا عن سكانه دفاعًا مشكورًا". "وكان هؤلاء الأبطال يتباهون بكثرة ما تحضره رجالهم من النصارى. وقد اجتمع عند صالح آغا بضع مئات وكان يقدم لهم كسوة وطعامًا. وكان الحشد في بيت الجزائري عظيمًا". يقدم شاهين مكاريوس رواية مشابهة، ويصف واليي دمشق وبيروت بـ"الوحشين الظالمين"، ولا يرى في توجه فؤاد باشا لمعاقبة المتسببين في هذه الفتنة سوى خطوة تضليلية من جانب السلطنة للتمويه فحسب. يقول الراوي، إن علَّة الحرب كانت "طمع بطريرك الموارنة في مد نفوذه وتعصبه على كل من خالفه مذهبه"، وقد أوقد نار هذه الحرب "الدروز الذين رأوها خير واسطة للدفاع عن استقلالهم ولقهر الأعداء وإذلالهم"، وشدَّد وطأتها "الأتراك بدسائسهم ومكرهم وعدائهم للطائفتين، ولو لم يقم الدروز يومئذ على النصارى بإغراء الحكام، لأغرى الأتراك النصارى أن يقوموا على الدروز ويذبحوهم". اشتعلت الحرب عام 1845، و"هجم الموارنة على كافة القرى التي اجتمع فيها الدروز ما خلا المختارة"، وكانت لهم الغلبة في أول الأمر في الشوف، فتقدموا إلى "أعظم مواقع الدروز، وهي المختارة مقر آل جنبلاط، يريدون بلوغ المراد من أعدائهم"، غير أنهم انهزموا، وتتالت من بعدها هزائمهم. يخصص الكاتب فصلاً لـ"دير القمر ومذابحها"، ويتبعه بفصل "في مذابح المتن والساحل"، وبعده صيدا ونواحيها، ثم "واقعة زحلة" و"ما أصاب بيروت ونواحيها". يلي هذا المسلسل حديث عن "مذبحة دمشق"، وفيه يمتدح الراوي الأمير الجزائري ببلاغة وإطناب قلَّ مثيلهما. السيد السند يربط مكاريوس بين أحداث حاصبيا وأحداث دمشق، وينقل مشاهد "القتل والذبح والتعذيب والهتك التي أتاها الأتراك ومن ساعدهم"، ويضيف: على أنَّ الأرض لم تقفر من الكرام في ذلك الزمان المرِّ، ولا يخلو زمان مهما كثر توحُّش أهله من بقية تبقى من أهل الفضل والمروءة، فقد وُجد في وسط أولئك الوحوش الظالمين رجل عظيم المقام، رفيع القدر، عالي الهمة، كثير التمسك بفضائل الإسلام، شريف في الحسب والنسب، أمير ساد بالسيف وساد بالأدب، بطل مغوار وليث كرار شهد الحروب والأهوال وفعل فيها فعال الأبطال، وكان أخصامه في أيام عزه أناس من المسيحيين، فحاربهم كما يحارب الرجل الرجال، ولما خانه الدهر وضاعت مملكته من يده، آثر الانزواء في دمشق ليقضي بقية عمره الشريف في ما يرضي الله، وكان يكره قتل الضعفاء بالدسيسة والغدر، وينهي عما يحرمه دين المسلمين، فظهر من بين تلك الجموع المنحطَّة مثل لؤلؤة في وسط حجارة صماء سوداء، وعلت نفسه علوًا كبيرًا عن دسائس الأتراك ومكايد المفسدين وأفعال المتوحشين. هو السيد السند والفرد الأمجد والبطل الأوحد، الأمير الخطير والمليك الشهير عبد القادر الحسني الجزائري. هذا هو الرجل العظيم الذي اشتهر بالمروءة والنخوة بين جماعة من المفسدين والجبناء والساقطين واللؤماء والغادرين. يخبرنا الكاتب كيف بعث الأمير برجاله ليلاً في كل ناحية من أنحاء دمشق ليقودوا النصارى إلى السرايا ويردُّوا عنهم جموع الهاجئين، وكيف جمع الأمير هؤلاء المساكين في داره وأخذ "يطعمهم ويسقيهم من ماله ويواسيهم ويلطف أحزانهم ويعدهم بتخفيف الكرب ويهدِّئ روعهم، وما سمع الناس بأشرف من هذا السيد العظيم". أثار هذا الموقف المعتدين، فتجمهروا حول داره وطالبوه بتسليم النصارى، فنزل إليهم، وواجههم ببسالة، وأنَّبهم بشدَّة، فعادوا إلى أعقابهم. مثل مخائيل مشاقة، يذكر شاهين مكاريوس طائفة من "كرام المسلمين وأصحاب العقل" دافعوا ما استطاعوا عن المسيحيين، منهم الشيخ سليم العطار والشيخ مسلم الكزبري وصالح آغا المهابني وعمر آغا العابد والعلامة الشيخ عبد الغني الميداني. بلغت شهرة الأمير عبد القادر الآفاق، وظهرت صورته كمخلِّص للمسيحيين في عدد من الرسوم الطباعية الأوروبية تناولت أحداث 1860. وجدت هذه الصورة تعبيرها المثالي في لوحة زيتية أنجزها الرسام المستشرق البلجيكي جان باتيست هويسمان، وفيها بدا الأمير منتصبًا في حلَّة بيضاء أمام جمع من الرجال والنساء والأطفال حملهم رجاله إلى داره لإنقاذهم من المحنة، بينما احتل مشهد المذبحة الرهيب البعد الخلفي للوحة.
*** *** *** |
|
|