مجتمع الفرجة

 

أميمة الخش

  "تعالوا نتفرج!"

هكذا كنَّا نصيح، حين كنَّا صغارًا، ونحن نتنادى يوم نسمع مَن يقول إن صاحب "صندوق الدنيا" قد توقف في بلدتنا. وحين كنَّا نجتمع لننطلق صوب المكان الذي اختاره محطةً له، كانت خطواتُنا السريعة تسبق أجسامَنا الصغيرة للوصول إلى مكانه.

نرى أبا محمود جالسًا إلى جانب صندوقه الخشبي، وقد اختار مكانًا ظليلاً على مقربة من القلعة القديمة، يرتشف الشاي، وينتظر قدوم الأطفال. وحين يرانا من بعيد، ونحن نتقافز كالغزلان، تتسع ابتسامتُه، لتظهر من وراء شاربيه الكثَّين، وتهتز في يده كأسُ الشاي المخمَّر.

نتدافع أمام صندوقه، وكلٌّ يريد أن يحظى بسبق الجلوس على كرسيٍّ من كراسيه القشِّية الصغيرة، أمام عدسة من عدساته الثلاث، وتثبيت عينيه خلف زجاجها المكبِّر، كيلا تفوتُه أية صورة سوف يعرضها الشريط الذي تتحكَّم فيه يدُ أبي محمود من فتحة جانبية، فتمرِّر الصورة، على مهل، أمام عيوننا المتشوِّقة، وقد توقِفُها للحظات حين يعلو صوتُ أحدنا: "لحظة، يا أبا محمود، لحظة! لم أتفرج على الصورة جيدًا!" وينطلق صوت آخر: "أعِدْ الحكاية الفلانية يا أبا محمود، أرجوك، فهي ممتعة... ممتعة!"

وتتنطَّط الأجسام الصغيرة أمام العدسات، تريد أن تكسرها وتندفع داخل الصندوق الصغير، تتحسَّس باليد وجوه وأجسام الأبطال الذين يحكي أبو محمود سيرة حياتهم، ويعيدها مرارًا، حتى تمتلئ بها النفوسُ الفتيَّة القابعة في ترقُّب وراء العدسات.

كنَّا نرى أحلامنا الصغيرة شاخصةً في وجه عنترة العبسي، "البطل العاشق، وسيفه البتَّار"، كما كان يقول أبو محمود؛ وفي وجه عبلة، "الجميلة، الصابرة"، التي تعلقت بأمل صعب المنال! وفي وجه الزير سالم، "البطل الهُمام، مُشعِل الحروب والغزوات"، وابنة عمَّه جليلة، "المرأة الذكية، المُحِبَّة"؛ وفي وجه كليب، زوجها، الذي كان "غريمًا لأخيها جسَّاس وندًّا له" والذي قاتَلَه زمنًا طويلاً؛ وفي وجه شهرزاد، "الذكية، الحكيمة"، التي كانت تحكي وتحكي قصصًا مسلية، مثيرة، لتلهي مليكها شهريار عن قطع رأسها، كما تعوَّد أن يفعل مع غيرها من النساء في نهاية كلِّ ليلة له معهن.

وتسأل صديقتي أبا محمود، وهي تعدِّل جلستها أمام العدسة، متملِّية من حُسْنِ تلك الأسطورة، والحزن يشعُّ من صوتها البريء: "يا أبا محمود، هل سيقتلها اليوم؟ يا أبا محمود، بربِّك أخبرني!" ويقهقه أبو محمود قائلاً بمرحه المعتاد: "تفرَّجي أنتِ ياصغيرتي، واستمعي إلى الحكاية اليوم، وغدًا سوف تعرفين أشياء جديدة." وكنَّا نغصُّ جميعًا، وتنطلق أصواتنا الرقيقة إلى جانبها، وحواليها: "يا حرام! ربما ستموت شهرزاد غدًا!"

أطفالاً سعداء كنَّا بصندوق فرجتنا، سعداء بأبطاله، سعداء بأحلامنا، وبأبي محمود الذي يأتي ليحرِّكها ويطلِقَها من وقت لآخر.

***

أين هو صندوق فرجتنا الآن؟ – ذلك الهيكل الخشبي الصغير، ذو العيون الزجاجية المكبِّرة والفتحة الجانبية التي تلجها يدُ أبي محمود، لتدير في داخلها شريطًا ملفوفًا على صور كثيرة، متنوعة، لأبطال حرَّكوا عقول الناس، وقلوبهم، وضمائرهم، زمنًا طويلاً.

لقد تغيَّر الصندوق اليوم. كَبُرَ وتوسَّع، توسَّع كثيرًا. صار صندوقنا الآن هو المجتمع بأسره؛ والصور التي كانت تلبث جامدة فيه، حتى تأتي يدُ أبي محمود كي تحرِّرها، وتتحكم في سرعتها، صارت تُدار بقدرة أيدٍ خفية أخرى!

المبكي في الأمر أن الأبطال الذين كنَّا نراهم في صندوقنا القديم ذاك كانوا حقيقيين، عمالقة. كانوا يحرِّكون مخيِّلاتنا، لتنطلق معهم، وتنسج حولهم أحلامًا ورؤى نصدِّقها، نعيش معها، وتمنحنا الشعور بالرضى، والسعادة، والفخار. أما اليوم – في "مجتمع الفرجة" الذي نعيش فيه – فلم يعد هنالك أبطال، ولا عمالقة، نتفرج عليهم، فيحرِّكوا مخيِّلاتِنا وآمالَنا نحو عوالم إنسانية من غير حدود!

"مجتمع الفرجة" اليوم أمسى من غير أبطال! تحوَّل إلى سيرك يلعب فيه مهرِّجون، وأقزام، ودمى، إما شبه عارية، وإما ملفَّعة تمامًا، من الرأس حتى أخمص القدمين. وكلُّ فريق من هؤلاء يقدِّم في هذا السيرك عرضَه الذي لا يتقنه، لأنه ليس له أصلاً؛ ولذا فهو لم يتدرب عليه جيدًا، لم يخترْ له الزيَّ المناسب.

"مجتمع الفرجة" اليوم أفرز أشكالاً تستحق التوقف عندها، ومراقبتها عن كثب – لا لشيء إلا ليتعرَّف واحدُنا إلى الشعور الذي تثيره فينا مثل هذه الفرجة، وليبحث أيضًا عن أجوبة ضائعة ومستعصية!

***

مجموعة "الباربيات"، أو الدمى المتحركة، شبه العارية، تتقدم إلى وسط الحلبة، في غلالات شفيفة، مثيرة، تخلع معظمها حتى قبل أن ينتهي العرض، لتظهر بوضوح الأجزاء المنفوخة من أجسامها.

المجموعة الملفَّعة تتقدم أيضًا إلى الحلبة، في استعراض ثابت الشكل والمظهر؛ وإن اختلفت ألوان الأقنعة وتنوَّعتْ، لكنها، في النهاية علامات تَضامُن ضد كلِّ أشكال وألوان المجموعة الأخرى! وكما نرى ونُحِسُّ فإن التنافس على النجاح في العروض يتحول تدريجيًّا، حتى قبل انتهائها، إلى حرب خفية، لكنها طاحنة!

المهرِّجون يقدِّمون عروضهم أيضًا، وقد غيروا مظهرهم، وأصواتهم، وحركاتهم، حتى غابت أشكالُهم الحقيقية، فلم نعد نميِّز واحدهم عن الآخر. ونكاد نسمع همسًا يقول: إنهم أضاعوا هوياتهم أيضًا لكي ينسجموا تمامًا مع أدوارهم الجديدة!

أما فريق الأقزام فقد مَسَخَ لاعبوه كلَّ شيء ليصير على قدِّ حجومهم. مسخوا الأخلاق، والمبادئ، والقيم، والأفكار، والعقول، والنفوس، والأرواح... فأخذنا، ونحن نتفرج، نحمل سراجًا، نبحث ليل نهار عن كلِّ ما كان كبيرًا ثم مُسِخَ وتقزَّم، لتنمو على حسابه، في الطرف الآخر من الحلبة، معايير أخرى معاكسة تمامًا!

فبأيِّ عرض سنُعجَبُ في سيركنا الكبير هذا، ولأيِّ فريق سنصفق وننتصر؟!

نفكِّر... نحتار... وأحيانًا نملُّ، وقد نُصاب بالإحباط، فننسحب من مقاعدنا، وننزوي في كهوفنا في انتظار المجهول!

***

هل من الممكن أن نظل نعيش على ذكريات قديمة، عفا عنها الزمن، ولم يترك لنا منها إلا وَمَضاتٍ تشعُّ في ذاكرتنا بين الحين والآخر، دون أن تقوى على إزاحة شيء من العتمة التي تحوِّطنا، وتمنعنا من الحركة، بينما شعوبُ العالم تزحف كالسيل نحو النور الذي فَتَحَ عيونَها على رؤية ما لم تكن تحلم برؤيته في مختلف مجالات الحياة؟

الجواب وراء الباب، والبابُ مقفل، مفتاحُه ضائع، لن يعثر عليه إلا مَن يستطيع أن يعثر على هويته، أي على ذاته الحقة. فمن الذات–الجوهر تنبع المعرفة.

هل سنعثر يومًا على الجواب يا ترى؟

30/10/2003

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود