آدون

 

معن عبد السلام

 

بينما كانت الجبال تحوك ظلالَها وكهوفَها كان آدون وأمه من أوائل المستوطنين في تلك الجبال الجميلة، وكان وحيد أمه التي تعمل في غزل الصوف.

-       أرجوكِ أمي، حتى اسمه لا تريدين البوح به؟

كثيرًا ما سأل آدون عن والده وعن نشأته. فذاكرتُه لا تحمل بين طياتها أية لوحة تُفهِمُه ذاك الحنين الغامض في داخله.

-       أمي الحبيبة... سمِّه يا أمي، فأنا أحب الأسماء!

-       اسمه الريح، بنيَّ.

-       كيف؟ وهل هناك أبٌ اسمه ريح؟!

-       نعم صغيري. أَوَليس اسمك آدون؟ كذا هي الأسماء غريبة ومتنوعة.

عندما سمع آدون اسم أبيه يتردَّد بين شفتي أمه خُيِّلت إليه ريحٌ هوجاء قاتمة أتت في منتصف ليل لتسحب القطط من أذيالها وتدق أعناق الأشجار، يمتطيها رجلٌ أشيب بعينين زرقاوين يتطاير منهما رعد وبرق مهول. ذُعِرَ آدون لدرجة أنه أخفى وجهه بيديه الصغيرتين.

*

طلعَّ الفجر برائحته الطيبة كرائحة الفجر، ممسكًا آدون من أذنه، جارًّا إياه إلى مغطس الماء ليغسل وجهه ويمشط شعره استعدادًا للفطور مع أمه المستيقظة أبدًا.

-       أمي، ألا تنامين؟

-       بلى، بنيَّ. وهل يوجد كائن لا ينام!

-       لكني لم أرك يومًا إلا صاحية تعملين، تحوكين، تكنسين!

-       ماذا؟! ألا تريد أن تأكل وأن ترى الأشياء من حولك نظيفة؟

تُسكِتُه أمُّه بهذه الكلمات المباشرة؛ وهو، بقدرته البسيطة على المحاورة، لا يستطيع أن يجادلها، فيصمت ويرحل إلى مدرسته.

*

- انتظرنا، آدون، أيها الشقي! لا تركض بسرعة، تعبنا!

لم يكن آدون يمشي إلا قليلاً. فغالبًا ما كان يركض حتى يُرهِق رفاقه ويرميهم ورائه واحدًا تلو الآخر في خطٍّ شبه مستقيم.

-       إنني سريع أمي! لقد ربحت اليوم مسابقة العَدْوِ في المدرسة.

-       لا تسرع كثيرًا، آدون، فقد تقع وتأكلك عمتك الأرض.

-       وهل الأرض عمتي؟! ولها فم وأسنان أيضًا؟! لا... لا بدَّ أن أمي تسخر مني.

وينام آدون الذي تخيفه هذه الكلمات حتى الموت، ويرى في أثناء نومه أشباحًا خضراءَ طويلة القامة تركض وراءه، وهو يهرب بأقصى سرعته. ولكن قدميه تخونانه هذه المرة، فيقع أرضًا ويشجُّ رأسه، ويسيل منه دمٌ أحمر قانٍ تتطاير عليه فراشات نارية مشتعلةً يشعر بوهجها على وجهه وهي تقترب وتقترب نحو الجرح المفتوح.

وبصوت مخنوق يصرخ:

-       أمي... أمي... أبي... النجدة أيها الريح!

-       بنيَّ! ما لك بنيَّ؟!

يستيقظ آدون على صوت أمه، ومن عينيه يتفجر رعب هائل.

-       لقد رأيته، يا أمي، مرارًا رأيته! إنه أبي يأتي أحيانًا ليحميني من شريرات الليل. وأحيانًا أخرى يظهر لي بوجهه الحانق الذي يشبه لمعة الصاعقة... خائف يا أمي، إني خائف!

-       اهدأ، اهدأ بنيَّ. أضغاث أحلام وقد ذهبت.

ولكن خوف آدون وعذابه يربكانه لدرجةً لا توصف. ويزيده إرباكًا تفكيرُه الدائم بوالده الريح ووالدته المتكتمة أبدًا.

*

-       أمي، أريد أن أركض.

-       هيا بنيَّ، لعلك تفرِّج عن نفسك.

-       لا ليس كذلك! بل أريد أن أركض ولا أتوقف أبدًا. أحيانًا، أمي، وبينما أكون في أقصى سرعتي ومغامرتي، أشعر وكأن زغبًا ينمو على كامل جسدي، فأتمنى لو أخلع ملابسي وأطلق قدميَّ للريح فلا أعود البتة.

-       إنك تُتعِبُ قلبي بكلامك هذا، آدون. كيف تستطيع أن تنسى أمك المنتظرة، وهي لا تتوقف عن التفكير بآلامك واحتياجاتك!

ينفطر قلب آدون، ويحزن أكثر وأكثر. ويله أمه وويله! لذة جامحة تطارده من داخله، تناديه نحو الأفق، نحو البعيد البعيد، وأبوه – ذاك الخيال القاتم – يأتيه في الليل مهددًا داعيًا إياه:

-       أي بنيَّ، يا ابن الريح، اركض... اركض!

*

في يوم مشرق – وكان قد مرَّ وقتٌ طويل لم تأتِه في الليل أشباح – كان آدون متجهًا مع الفجر إلى مدرسته، حين رأى قطيعًا من الخراف والماعز مع راعيها العجوز الذي يحمل عصًا في يد ومزمارًا في اليد الأخرى. توقف آدون، ومن خلفه توقفت الشمس التي مازالت برتقالة شبه ناضجة تقشِّرها أنصال السحب البيضاء، يتأمل الخراف الصغيرة، وراعيها يلملم شتاتها، وهي شاردة هنا وهناك، يضرب الكبير منها والصغير يداعبه.

وفي رمشة جفن، تنطلق قطعة غيم بعيدة بأقصى سرعة متجهةً نحو حبة البرتقال، وكأن ذئبًا شرسًا يلاحقها يريد افتراسها. انتبه الراعي إلى الحَمَل الصغير الهارب وراح يسرع وراءه. ولكنه كان بطيئًا جدًّا بالمقارنة معه – وآدون المشدوه يتأمل لهفة الحَمَل الكبيرة، وفي نفسه ينمو توقٌ هائل إلى مقارعته في الركض وسبقه إلى بؤرة الضوء.

وفي لمحة خاطفة، يمضي الحَمَلُ قاطعًا آدون من شروده وطمأنينته، تاركًا إياه في حرقة شديدة وحنين عميق نحو الركض والحرية، ما لبث أن دفعه لترك قدميه للريح، ناشرًا ذراعيه، مسابقًا الهواء المتغلغل في شعره وتحت إبطيه، قاذفًا بنفسه وراء الحَمَل المختفي في هاوية من الضوء الغامر.

بدأ الزغب الناعم الأبيض ينتصب ويشتد ليصبح ريشًا ناريًّا يلهب الأعشاب والهواء الذي صار أقل كثافة وأكثر حرية.

وآدون – العقاب الناري – اتحدَّ مع بؤرة النور، حتى لم تعد أعين البشر قادرة على التحديق فيه.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود