التجديد والتهديد بالسطو

 

السيد هاني فحص

 

منذ خمس عشرة سنة تقريبًا اشتبكتُ مع صديق كان يبادلني المودة، وكنت أرى فيه وعدًا علميًّا غنيًّا، لم يعتم أن تحققتْ بواكيرُه. وكان في ما جذبني إليه أنه مهموم بالتوفيق بين الحَوْزَوِية والجامعية. وكان مميَّزًا، ويزداد تميُّزًا باستمرار، وما زال يتميز حتى الآن، خصوصًا بعدما تمايز عن رهطه السياسي، وأصبح أشد عناية بمعارفه وعقله. واستمر الاشتباك، أو آثاره، أي القطيعة أو ما يقرب منها، سنوات. وكان سبب هذا الاشتباك، ككلِّ الاشتباكات التي وقعنا فيها، أو أكثرها، متأتيًّا من جهة "الحزبية"، التي يقع كثيرٌ من الممانعين لها في ما هو أضيق منها، أي في الفردية. وأنا أحيانًا أشكو من هذا.

لقد دعاني الصديق إلى ندوة حول "المقاومة والثقافة"، في ما أذكر، فوافقت؛ ولم أشارك، لأني اكتشفت أنها منظمة بناءً على تعميم حزبي وموضوعة في سياقٍ دعاويٍّ تعودتُ على النفور منه لما فيه من إضرار. فأغضبه ذلك؛ فعمد إلى إغضابي بطريقة مألوفة لدى المتحزِّبين؛ ولم ينفع معه توضيحي بأني لست معاديًا للأحزاب أو حزبه، ولكني أصرُّ على أنه – حتى أجَلٍ غير مسمَّى، وقد يطول – سوف تبقى هناك ضرورة ملحَّة للفصل بين الثقافي والسياسي، وبالأخص الحزبي – إلى أن ترقى السياسة في بلادنا والأحزاب إلى مستوى الهمِّ الثقافي الحقيقي، الذي لا يتحقق بالمصادرة أو الاستلحاق. ولن يتم ذلك إلا بمزيد من الابتعاد عما تبقَّى من مؤثرات التجربة الحزبية اللاثقافية في لبنان والوطن العربي وغيره، امتدادًا إلى المنظومة الاشتراكية، التي فقدتْ نواظمَها لأنها صادرت الثقافة واستتبعتْها، لم تسترشد بها وعملت على "إرشادها"، أي تضليلها؛ فضلَّ منها المتحدِّر من عقل الحزب وقوله، وغاب مَن آثَرَ الغياب على الحضور الممجوج أو الوقوف على رأسه، وانحاز إلى الأسئلة المفتوحة والحرية كفضاء لتحقيق الذاتية والغيرية على نسق تكاملي، والحدِّ من استشراء الاستلاب أو الألْيَنَة التقدمية (؟) التي لم يغيِّر التغيير في اسمها شيئًا من مضمونها الرجعي.

ثم التقينا على متن طائرة متجهة إلى الخرطوم للمشاركة في لقاء حول حوار الأديان. اختار الدكتور الشيخ الصديق غير المعمَّم، الذي اختار مبكرًا أن يعتاش من كدح يمينه ويساره – اختار مقعده إلى جانبي، وقال بشفافية العالِم الذي لا يعاف التغيُّر والتغيير: "أنا تحررت... اكتشفت أن الثقافة والحزبية حتى الآن متضادان، ولا أدري متى يُحَلُّ هذا التضاد." وقد تكون إحدى أهم وظائفنا المشتركة هو أن نؤسِّس للحلِّ، بدل أن نكابر بإصرارنا على إلغاء الأحزاب. وهنا طاب لي أن أذكِّره بأني في أوائل الثمانينيات قلت وكتبت حول كسل حركة التحرر العربي في قراءة مجتمعها أو مجتمعاتها من دون مؤثرات خارجية، لتكتشف خصوصياته الثقافية والبنيوية والعلائقية، وتعدَّ له التنظيم الملائم، بدل أن تفرض عليه وصفات مجربة وغير مجربة وغير ناجعة، وصلتْ إلى أزمتها مبكرًا، من دون أن ننتبه إلى ذلك، لنتلافى تكرار الأخطاء مضخمةً. وأضفت بأن حركات الإسلام السياسي ليست بمنجى من غائلة هذا المسار الملتوي؛ بل هي مهددة أكثر من غيرها بسبب سقفها الإيديولوجي العالي الذي يهدِّد بعاهات أشد فتكًا وبانهيارات أعمق أثرًا، لأنها تتماهى مع الإسلام، فلا تقتصر مضاعفاتُ انهيارها على أُطُرِها، بل ربما تعدَّتْها إلى التأثير السلبي في التزام الناس بدينهم.

أمِنَ على وجهة نظري بعد نقاش توخَّى منه التسديد والتصويب. ولم يمضِ زمن طويل على الرجل الخارج من دون عُقَدٍ من شباك الحزبية حتى تحوَّل باحثًا وكاتبًا مميزًا، لا ينسى في أسئلته وفرضياته المسلَّمات المضافة إلى فكرنا وأنظمة معرفتنا الإسلامية عمومًا، والشيعية خصوصًا، ومن دون هوس بالمخالفة – وإن كان يقع أحيانًا في إغراء طُرُز ("موديلات") فكرية غربية، لا تكاد تصلنا تأثيراتُها، ونأخذ بالكتابة على مقتضاها وقياساتها، حتى يكون المثقف الغربي قد اكتشف الخلل فيها وشرع يستبدل بها أخرى ناقضة لها.

فقد استباحتْنا "البنيوية" أو استبحناها، أو سبحنا فيها أو سبَّحناها، وسبَّحنا لها وبها زمنًا، ثم أفُلَتْ ("إني لا أحب الآفلين"). ثم اكتشفنا بعدها كوكبًا معرفيًّا آخر مازال آخذًا في التغلغل فينا ("التفكيكية") التي سيَّلها علي حرب من دون أن يرفعها إلى مصاف الإيديولوجيا؛ وربما احتوت كتاباتُه على إشارة إلى أنها مسألة تداولية، أي أنها قد "تدول"، أي تزول. وإلى أن تدول ليس ثمة بأس في الاستفادة منها في التعامل مع النصوص، لما فيها من نفع استكشافي أو كشفي قد لا يخلو من ضرر؛ وهي تمسي ضارة تمامًا عندما تُعتمَد كطريقة نهائية ومُلزِمة في التعامل مع النص.

أذكر أن صديقًا مدنيًّا تخرج من السوربون جاءني يومًا مندهشًا من إلحاح شيخ شاب عليه أن يشرح له فوكو لأنه معجب به! وفي أوساطنا الآن بعض من المشايخ الشباب، الذين لحقت بهم لدغاتٌ من تجارب سياسية وحزبية وحَوْزَوِية ومعاشية، فتحوَّلوا إلى اللدغ، ومعه شيء من اللثغ بمحمد أركون! وعبثًا تحاول معهم أن يعرفوا أن الرجل قد أدرك أزمته أخيرًا وأخذ يبحث عن مخرج، معترفًا بأنه مارس نقدًا ("نقضًا") للتجربة الإسلامية ومتراكماتها في المعرفة والعمل بحساسية غربية، فلم يحقِّق صدقيَّته في الغرب، لأنه ينقل التمر إلى هَجَر، ولم يحقق صدقيَّته في الشرق الذي لا يطيق النخبوية المنفصلة المتعالية، وليشعر بالحاجة إلى طليعية متصلة، عضوية، تعلِّمه وتتعلَّم منه لتعلِّمه.*

وعرفت، فيمن عرفت من إخواني رجال الدين الشيعة، عددًا من المشغوفين بالدكتور حسن حنفي والدكتور محمد عابد الجابري – وهما، كما يعرفهما الجميع، يفيضان علمًا ومتابعة وإنتاجًا. ولكن إخواننا المشايخ آتون إلى الحداثة والمنهج النقدي ردًّا على الإصرار على إبقاء المرجعية الدينية على مركزيتها وإضافة المسوِّغات السياسية لهذه المركزية على حساب المقاييس العلمية المتعارفة والمتوارثة التي تحتاج إلى تطوير، لا إلغاء أو استبدال بما هو أدنى – وأخوانا العالمان حنفي والجابري رفعا مقامهما ونتاجهما إلى مستوى البديل المرجعي المطلق، غير متنبهين إلى أن ماركس نفسه تنصَّل من المشهد الماركسي في حياته، مما يعني أنه لم يصبح مرجعًا كما رغب (ندوة فيينا)، لتأتي من بعد كتابات لوفيفر وغرامشي وفيشر وغارودي ورُويْ الهندي وسلطان علييف ردًّا وتفنيدًا لدعوى المرجعية الماركسية في لحظة تحويلها إلى إيديولوجيا معمَّمة ومستحكمة على أيدي الأرثوذكسيين الروس وتوابعهم في غير روسيا، ما امتد أثرُه إلى الشيوعية الأوروبية (إسبانيا كاريلو وإيطاليا تولياتي وفرنسا) التي نقضت أو ناقضت عمومياتٍ مسلَّمًا بها في الفكر الماركسي؛ وغير مستفيدين – حنفي والجابري والبعض من أمثالهما – من مغامرة البديل التي سبق لروجيه غارودي أن خاضها عندما وصف بديلاً من الشيوعية في كتابه البديل بعد منعطف الاشتراكية الخطير، وبعدما كان قد بدأ بداية صحيحة في كتابه واقعية بلا ضفاف. ولكن غارودي عاد وأنقذ نفسه في كتابه حوار الحضارات الذي قرَّبه من الإسلام، فأسلم وأعفى نفسه من وظيفته التاريخية – وإن كان قد التزم ببديل هو الإسلام، طَرَحَه علاجًا للغرب وأزماته بصدق لا يخلو من تبسيط.

لقد استمتع القراء بـبديل غارودي، كما استمتعوا بنقد غورباتشوف للتجربة السوفييتية في "البيريسترويكا"، من دون أن يقتنعوا أو نقتنع بمشروعه أو بديله الهلامي الذي أوصل روسيا إلى هلامية مثيرة. هذا في حين أن أفكار هربرت ماركوزي البدائلية لم تثمر في موطنها الأمريكي، وأثمرت في فرنسا التي عاد روَّادٌ في حركتها الطالبية النقدية اليسارية الثورية في الثورة (أيار 1968) إلى صفوف اليسار التقليدي (روكار وكوشنير إلخ). وذهب كوهن بانديت إلى الإليزيه أو الكي دورسيه (الخارجية) مستشارًا للدولة وأجهزتها في شؤون حركات التحرر.

وهنا يحسن الالتفات إلى أن المثقفين العرب والمسلمين قد أعادوا تقييم الإمام محمد عبده بعدما قصَّبوه طويلاً لأنه فارق أستاذه جمال الدين الأفغاني، وانعطف إلى منطقة أخرى في فكره وعمله، أي كفَّ عن الثورية المتعجلة والانقلابية إلى العمل فكريًّا من داخل الفكر، بعيدًا عن إلزامات السياسة الحزبية: دخل في الحزب الوطني، وظل وكأنه خارج منه؛ انعطف نحو التجديد من الداخل، أي على مقتضى التقليد أيضًا، حذرًا من القطيعة والحداثة القاطعة، أي الخروج من الذات للذهاب في سديم الهوية، وحذرًا من الوقوع، عبر إيحاءات التحديث، في تجربة الغرب.

ولا ننسى هنا طه حسين بعد كتابيه في الشعر الجاهلي ومستقبل الثقافة في مصر، حيث عاد من شطحه، المشحون بتأثيرات باريس وديكارت ومرغليوت، إلى التوازن والتجديد الموصول بالأصول، بعيدًا عن نداءات النجومية الفاقعة، فكتب في سيرة الرسول (ص) وكتب مرآة الإسلام إلخ. حتى جمال الدين الأفغاني، من الظلم له ولنا أن ننسى أنه انعطف، أي اعتدل، فعاد من أوروبا، من الغرب إلى الشرق، إلى إسلامبول وإلى عبد الحميد، الذي كان وعاؤه أضيق من احتواء نهر السين.

إن بين أيدينا وأعيننا ومحطات ذاكرتنا – إن شئنا أن ننتصر – أمثلة ساطعة على أن المجدِّد الحقيقي، أو المصلح الحقيقي، هو الذي يدقِّق، فلا يندفع ليتراجع، يشتغل على مثال يعيد تشكيله على المستجد في المعرفة وفي الحياة، أي لا يعدمه – فعل الوعي الذي ينطح الصخرة ليوهنها ("فأوهن قرنه الوعك")، تطبيقًا للمأثور النبوي: "إن هذا الدين لمتين، فأغلوا فيه برفق، ولا تكونوا كالراكب المنبت، لا ظهرًا أبقى ولا أرضًا قطع." من دون نسيان المتغيِّر في الزمان والمكان والإنسان ("أبناؤكم أشبه بزمانهم منهم بآبائهم") – "أشبه"، ليس إلا – وهو كثير يقتضي العناية به (أي "الأشبهية")؛ ولكنهم يشبهون آباءهم أيضًا، وإلا كانوا أدعياء.

أليست أزمة حداثتنا العربية تكمن في ما تكمن في الاندفاعات والطفرات والقفزات فوق واقعنا وما يتحمله وموروثنا وما يحمله؟ مما يقتضي نقدًا لا نقضًا، لأن النقد ينفي والنقض يلغي؛ والذي يلغي ذاته تضيع بداياته ونهاياته.

وهنا يحلو لي الوفاء لمنبتي (النجف الأشرف) بتقديم سريع لنماذج ممَّن تصدَّى للإصلاح والتجديد المتروِّي المتبصِّر من علمائها، منذ أربعينيات القرن الماضي، وأتيح لجيلي أن يتذوق أخريات ثمارهم السائغة، قبل الهتك والفتك الذي أصاب النجف وحوزتها والعراق وعقله وجسده الدامي. كان الأبرز في هؤلاء العلماء الشيخ محمد رضا المظفر، الذي اجتهد – وكان بإمكانه أن يتسنَّم سدة المرجعية الدينية العامة لو أراد، ولكنه لم يُرِدْ، مؤثرًا على بريقها عنايته في استثمار مقامه العلمي المتنوع في الإصلاح والتجديد النظري والتطبيقي في المجال المعرفي والميداني. فماذا فعل؟

اختار ثلة من زملائه آنَسَ فيهم رغبة وأهلية كرغبته وأهليَّته، مع ثلة أخرى من تلاميذه الذين آنَسَ فيهم نضجًا وميلاً إلى مشاركته ومتابعته (في طليعتهم السيد محمد تقي الحكيم والشيخ محمد مهدي شمس الدين)، فأسَّسوا جمعية "منتدى النشر". ولا أريد أن أطيل هنا؛ فقد كانت الجمعية أكثر من جمعية: كانت رافعة لمستقبل علمي وتنظيمي حَوْزَوِي من داخل الحوزة؛ فتفتَّح على الحداثة والتحديث والحقول المعرفية المختلفة والمعارف المستجدة، من دون مسبَّقات أو حساسيات ملتهبة، أي على حساسية علمية شكَّلتْ شرطًا في تأسيس الوصلة بين الواقع والمرتجى، وشكَّلتْ وقاية من تحوُّل الماضي أو الحاضر أو المستقبل إلى عقدة أو هوامة.

وفي كلِّية الفقه والمدارس التي أسَّستْها الجمعية والكتب التي حقَّقتها، مع النقد أو من دونه، وفي الكتب التي ألَّفتْها، كانت حريصة على التأنِّي وعدم الذهاب في المساءلة والنقد إلى الوعيد والتوعُّد والبرق والرعد، مصرَّة على الوعد والوفاء بالعهد، من دون التوهُّم بإمكان تحقيق معجزة، أو اختزال الزمان من خلال تحقيق ما يحتاج إلى قرن في عقد، ومع حرص قويٍّ على تجنب القطع أو القفز أو الرقص على إيقاع الحداثة. من هنا فإنها لم تُحدِث صدمة إلا عند الذين أدركوا عمق توجُّهها وخافوا على مصالحهم من نهجها. أما التقليديون الأتقياء والتجديديون العقلاء فقد التفوا حول التجربة ومحضوها ثقتَهم، وفي مقدمتهم مراجع التقليد (الإمام محسن الحكيم والإمام أبو القاسم الخوئي).

وتراكمت الخبرات والإنجازات العلمية – إلى أن قرر النظام العربي "التقدُّمي" أن يقطع سياق الإبداع المجزي على قاعدة الاتِّباع المنجِّي. ومن يقرأ كتب الشيخ المظفر في الأصول والفقه والفلسفة يقدِّر له جهده في فتح الطريق أمام العربة. تناول النصوص الموروثة وعَصْرَنَها، من دون تقويض لمبانيها؛ فذاق الطلبةُ في الكلِّية والحوزة طعمَ لغة جديدة وبناء استدلالي جديد، عميق وغير مدوَّر؛ مما أتاح للسيد محمد تقي الحكيم أن ينجز بدائله المنهجية التي لم تتوهم إمكان إلغاء الموروث أو جوازه، ولكنها حدَّثتْه طولاً وعرضًا وعمقًا، ومسَّتْ مسًّا منهجيًّا بكثير من المسلِّمات والمتحجِّرات غير المنهجية؛ فكان كتابا الأصول العامة للفقه المقارن والقواعد الفقهية طلعتين في تاريخ المنهج النقدي الإيجابي الذي يبني قبل أن يهدم، لينهدم غيرُ القابل للحياة.

هذا المتحوِّل الغني والجريء والعاقل صَدَمَ البعض، فواجهوه بالاعتراض والتنديد، مع إصرارهم على احترام مقترفيه وعدم الشك في تديُّنهم أو نيَّاتهم، لتعود الحوزةُ في النجف، وفي قُمْ لاحقًا، فتعتمد آثار الرجلين كمشروع تطوير في عقل الحوزة.

لقد عرف الرجلان، المظفر والحكيم، كيف يصبَّان عنايتهما في التجديد والإصلاح المتأنِّي، عارفين بقيمة الوسطية والاعتدال والتروِّي؛ ما ذقناه وطعمناه في امتدادهما في لبنان، الشيخ محمد مهدي شمس الدين، الذي كان يساوره القلق من كلِّ كلمة يقولها حذرًا من المخاطرة، من دون أن يكفَّ عن إبداعه على مثاله المحفوظ في عقله وقلبه وذاكرته.

إذن، فمَن يقرر أن يجترح معجزة لأن الآخر أو الماضي لا يروق له لن ينتهي إلا إلى ترسيخ الماضي – سلبه قبل إيجابه – ويساهم في إقفال الأسئلة بدل فتحها على الأجوبة، بالشرع والادعاء والغرور والشغل على غير مثال ومن دون مثال.

إن ثقافتنا الشعبية، أي التي لا فضل لنا في تكوينها – وقصارانا أن نتنبه إلى معانيها ومبانيها ومناشئها وما تختزن من حكمة وإضاءة للوقائع والحقائق – هذه الثقافة الدالة، تلتقط المفارقات بعمق وعفوية وخبث لمَّاح أحيانًا، وتركِّب لها أو عليها رؤيتها المختلفة من أجل أن تضمن دخولها في الموروث. ولكن الاختلاف – وكلُّ فنٍّ هو اختلاف – لا يقلِّل من أهمية حكاية الرؤية أو الحكاية الشعبية للواقع والحقيقة والحق. يُحكى بأن أهل قرية مسيحية في لبنان أصابهم ضيقٌ شديد من كاهن الكنيسة، في سلوكه وجهله وتسلُّطه ورغبته في مصادرة كلِّ شيء من الكنيسة إلى المدرسة، فشكوه إلى مطران المنطقة، طالبين استبدال آخر به. وتكررت الشكوى؛ ولكن المطران لم يغيِّر الكاهن، ولا تغيَّر الكاهن. فذهب وفدٌ من أهل القرية إلى مفتي المسلمين وأعلنوا إسلامهم، وطالبوه بإمام للكنيسة بعد تحويلها مسجدًا. فاستمهلهم أيامًا، وبعدها أرسل إليهم الكاهن ذاته، وقد أصبح شيخًا بعمَّة بيضاء، ومن دون تبديل في جبَّته أو عقله أو سلوكه!

إن تبسيط مسألة التجديد، في الفكر الديني خصوصًا، وإدخالها في قائمة الاجتياحات التعبوية الطارئة للأحزاب القابضة، من شأنه أن يضع مصيرنا في أيدٍ راجفة لا تقوى على حمله. وحينئذٍ ننتهي إلى تأييد تخلُّفنا – ومتى؟ في هذا القرن الذي لا يبدو أنه سوف يتسع للألاعيب ("هذا أوان الشدِّ فاشتدِّي زِيَمُ"). أما المعوقون الذين يركبون الموج ليعوقوه فإنه، أي القرن – من دون حماسة له، بل مع الخوف منه؛ وإلى جانب الخوف لدينا رجاء مشروط – سوف يرميهم من شباكه طعمًا للحيتان والسردين.

حذارِ من تحويل همِّ الإصلاح والتجديد، الذي سيبقى مطروحًا مادام هناك سؤال مستجد ومعرفة مستجدة، إلى مدعاة للجمود.

حذارِ من السطو.

*** *** ***

عن النهار، الجمعة 26 تموز 2002


* آخر ما قاله في محاضرة له في بيروت: "كثيرون من الكتَّاب والمفكرين العرب أساءوا فهم أطروحاتهم."

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود