حول الفلسفة والدين والتربية والحداثة والقضايا العربية

لا نزال في الأغلال التي ورثناها ولم نتسلَّح بالفكر والعلم لتحطيمها

ما يحصل في فلسطين والجزائر مأساة مُبرمَجة ولم نتحرَّر من سيطرة الاستعمار

 

حوار مع محمد أركون

 

في الطريق إلى جامعة البلمند لِلِقاء المفكر والمؤرخ الجزائري محمد أركون، كنت منهمكًا في الأسئلة التي سأطرحها عليه في الحوار، فلم أنتبه للبحر كثيرًا. وفي طريق العودة تضاعفت الأسئلةُ في خاطري، وانتبهتُ للبحر كثيرًا، وتيقنتُ من أن أركون يدعو إلى حوار بين الثقافات، على سَعَة أفق وشمولية وتنوُّر، وإلى إنتاج ثقافة الأسئلة، وصولاً إلى اللامُفكَّر فيه. ويحرص أركون على كشف العوائق والعراقيل الذهنية والتاريخية والاجتماعية التي تعوق التقدم. ويقضُّه سؤالُ العقل العربي في شرطيه: المعرفي والتاريخي، وكيفيةُ تجاوُز الواقع واستئناف حداثتنا.

يطرح محمد أركون على الثقافة العربية مهمة مقاومة النسيان والتغييب وإعادة بناء الذاكرة، كي يستقيم الموقف ويبطل الخلل، مشدِّدًا على السوسيولوجيا التاريخية والأُطُر الاجتماعية للمعرفة، محلِّلاً في أسلوب نقدي ما يحصل لنا تاريخيًّا، متقصيًا التحديات التاريخية والفكرية والعلمية التي تجابهنا. والحافز الأكبر لدى أركون هو كَسْرُ الأغلال عبر المناهج التربوية الحديثة وأدوات المعرفة بغية الوصول إلى الحرية.

وفي قراءته للنصوص التاريخية والدينية، يرفض أركون الأساليب التقليدية، معتمدًا منهجية العلوم الاجتماعية؛ وتنطوي أكاديميَّتُه الحديثة على منهجية دقيقة تقيِّم المعيار والتمييز وتبدع المفهوم.

والحوار مع أركون يفتح الباب على نظرة جديدة إلى التراث والحداثة والعلاقة مع الغرب، بغية إيجاد مخرج معاصر من دوامة الجدال الدائر حول القضايا ذاتها منذ بداية القرن الماضي. وعلى الرغم من الألم الذي ينتابه من خيبات الواقع ومحدودية التواصُل، إلا أنه يستمر في جهوده الفكرية من أجل موقف تساؤلي للعقل أمام المعرفة ومعارك من أجل الأنْسَنَة.

سليمان بختي

***

 

كيف كان لقاؤك مع المثقَّفين اللبنانيين؟ وأية انطباعات تكوَّنتْ لديك عن المشهد الثقافي في لبنان وحيويته وقابليته للحوار؟

شعرت، أولاً، بالسرور لأنني حريص جدًّا عندما أزور أيَّ بلد من البلدان – العربية خاصة، والإسلامية عامة – على أن لا ألتقي المثقفين فحسب، بل عامة الناس أيضًا، لأستمع منهم كيف يفكرون، وكيف ينظرون إلى مجتمعاتنا ووضعنا التاريخي. لماذا؟ لأنني عندما أكتب فإني أفعل على نحو ما أسمِّيه "الإسلاميات التطبيقية": أي أنني أستمد مما أسمعه وألاحظه في اتصالاتي العديدة – أستمد من مشاكل الناس وكيفية طرحها، ثم أنقلها إلى لغة تحليلية لأفهم نفسي.

وماذا يمكن أن يقال في هذه الخطابات الجارية السائدة في مجتمعاتنا منذ الخمسينات؟ بدأتُ في العمل والاهتمام بهذه الخطابات منذ الخمسينات، عقد كنت طالبًا في الجزائر العاصمة، ثم في باريس، والتفكير في الصِّدامات بين الخطابات الإيديولوجية، خاصة "إيديولوجيا الكفاح"، كما أسميتها، لأن التاريخ فَرَضَ علينا أن نتحرر من الاستعمار. عشنا فترة طويلة تحت الاستعمار، وكان لا بدَّ لنا تاريخيًّا من أن نتحرر من ذاك الاستعمار وتلك السيطرة.

ولكنني باحث ومؤرخ – والمؤرخ يحاول دائمًا أن يفهم ماهية القوة العاملة في إنتاج تاريخ المجتمع. ثم إنني أنتمي، كجزائري ومسلم، إلى الثقافة العربية والإسلامية؛ كما أنتمي إلى الثقافة الأوروبية لأني تثقَّفتُ وتكوَّنتُ في جامعة فرنسية، فجمعت بين هاتين الثقافتين. ولا أزال أتساءل: كيف أوظف هاتين الثقافتين والتيارين من التفكير لكي نفهم ما حصل لنا طوال التاريخ، منذ ظهور الإسلام في المعارك المتواصلة المترددة، وخاصة في فضاء البحر المتوسط الذي ننتمي إليه كعرب ومسلمين، وتنتمي إليه كذلك البلدان الأوروبية.

تُقارِب هنا، في نظرة مقارنة، فضاء متوسطيًّا واحدًا...

ألحُّ دومًا على نظرة مقارنة للتاريخين. لماذا؟ لكي نبحث عن الأسباب التي جعلت البحر المتوسط منفصلاً إلى عَدْوَيَيْن متصارعتين: العدوة الإسلامية العربية والعدوة الأوروبية، التي أضحت علمانية. وهذا النوع من الاهتمام بتاريخ المجتمعات العربية الإسلامية، من ناحية، والأوروبية المسيحية، من ناحية ثانية، لم يتقيد به معظمُ المؤرخين: فإما أن نكون مؤرخين للعرب والإسلام، وإما نكون مؤرخين للبلدان والثقافة الأوروبية. يبدو لي، بعد سنين من ممارسة هذه المناهج، أن هناك فهمًا أعمق لو اعتمدنا هذه المقاربة–المقارنة للتاريخين، لأن العرب أثَّر على الإسلام وتطوره، على الأقل منذ القرن السادس عشر؛ كما أن الإسلام والثقافة الإسلامية أثَّرا كثيرًا في تطوير الغرب، ثقافيًّا وعينيًّا، وخاصة منذ القرن الرابع الهجري، أي القرن العاشر – إلى أن بدأت مجتمعاتُنا تبتعد عن تراثها الكلاسيكي. وفي حين رحنا نتراجع في ميادين الحياة الفكرية والعلمية كلِّها شَرَعَتْ أوروبا في النهوض؛ وهذا التطور بدأ منذ القرن السادس عشر. لذا يجب أن نقرأ التاريخ من هذه الزاوية، واعتمادًا على مناهج المقارنة. فالمقارنة تقتضي مواقف منهجية خاصة؛ وذاك ما جعلني غير مقتنع بالاعتماد فقط على إيديولوجيا الكفاح والخطاب القومي المسيطر على الفكر، منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية والى اليوم. فمابرح هذا الخطاب مسيطرًا على العقول، حتى إننا عندما نطرح أية قضية تتعلق بتاريخ الدين كدين، أو تاريخ الفكر في فضاء البحر المتوسط، فإن الكثير من العرب والمسلمين يحوِّلون التساؤل من الميدان التاريخي الثقافي الفكري الفلسفي اللاهوتي إلى الميدان الإيديولوجي. ونلاحظ ذلك في كلِّ حوار يدور بين مؤرخين يمنحون التاريخ كلَّ الحقوق التي تقتضيها مناهج التاريخ، وبين العديد من المثقفين العرب الذين يهتمون بالتاريخ، وغالبًا ما يخلطون بين الثقافة العلمية والثقافة الإيديولوجية، أو بين المواقف العلمية والمواقف الإيديولوجية – وذاك ما لاحظته في لقائي مع المثقفين في لبنان. ولكن اللقاء كان شائقًا، وكان ثمة تعمُّق في بعض التحاليل، ولاسيما تحليل الظاهرة الدينية – وهو مفهوم جديد بالنسبة إلينا.

ما هو مفهومك للظاهرة الدينية؟ كيف تفسِّرها؟

لا نمتلك، إلى اليوم، أيَّ خطاب يُعتمَد عليه ويفسِّر لنا ماهية هذه الظاهرة ووظائفها والتوترات التي حصلت تاريخيًّا في كلِّ المجتمعات ومع سائر الأديان. والمسألة بذلك مزدوجة: ظاهرة دينية تستغل السلطة، وظاهرة سلطة تسيطر، بدورها، على الظاهرة الدينية. من هنا الإلحاح على النظر من زاوية أنثروبولوجية والاهتمام بعلوم الإنسان والمجتمع. هذه العلوم تشكِّل المفاتيح التي يمكن لها أن تمهد السُّبُل لفتح طُرُق جديدة. لا يتم بحث الظاهرة الدينية فقط من خلال الحوار بين الأديان – وهذا الحوار تمَّ الاعتناء به، خاصة منذ المجمع الفاتيكاني الثاني؛ إلا أنه لم يصل إلى نتيجة مهمة بغية الخروج من الأحكام المسبقة التي نعيش فيها. المطلوب هو التعرف إلى الظاهرة الدينية التي طَغَتْ على مخيِّلاتنا الاجتماعية والتي توجِّه تأثيراتها كلَّها إلى المخيال l’imaginaire أكثر مما توجِّهه إلى العقل.

الكلام الذي قلتَه، د. أركون، حول العلمي والإيديولوجي يشير إلى مشكلة استشعار الخطر على الهوية والانتماء وما شابه. سؤالي: كيف يمكن تجاوُز ذلك نحو تعايُش وتسامُح، في منأى عن وحشية أصولية واستبداد علماني؟

أجل، أجل، هذا التخوف على الهوية ناجم طبعًا عن وضعنا التاريخي، لأننا ظننَّا أننا تحرَّرنا من سيطرة الاستعمار، واكتشفنا، يومًا بعد يوم، أننا لم نتحرر – حتى سياسيًّا – من سيطرة ما نسمِّيه "الغرب". وأشاهد ذلك في حياتنا اليومية، وخاصة في ما يحصل في فلسطين اليوم، حيث تتم مأساة مُبرمَجة تاريخيًّا.

ماذا تقصد بـ"مأساة مُبرمَجة تاريخيًّا"؟

أعني بذلك أن قوة تاريخية لا تزال تعمل على إنتاج مصيرنا التاريخي وتسييره، ليس بعد سيطرة الاستعمار في القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا فحسب، بل بدأت هذه القوة تعمل في إنتاج تاريخنا، على ما أعتقد، منذ القرن الرابع عشر – وهناك دلالات كثيرة على ذلك. لكني أشير، مثلاً، إلى نقطة مهمة جدًّا لناحية تاريخ الفكر. فلقد توفي ابن رشد في العام 1198 – وتعرف أهمية ابن رشد ومكانته في الفكر الإسلامي؛ إذ كان ينتمي إلى عائلة مشهورة في قرطبة، وكان من القضاة، لا من الفلاسفة فقط، وكان جده قاضيًا، وهو نفسه مارس وظيفة قاضي القضاة في قرطبة. إنه، إذن، مفكِّر مسلم مهم. وقد تلقَّى أيضًا ثقافة وفكرًا مهمَّين، ولعب دورًا عظيمًا في تكوين الفكر الإسلامي، خاصة ما يتعلَّق منه بالعلوم الدينية التي تمتاز عن العلوم النقلية. وابن رشد، كسائر المفكرين، جَمَعَ بين العلوم النقلية والعلوم العقلية. وكان مجال الفكر في هذا الإطار الإسلامي والعربي واسعًا جدًّا. فتلك التيارات تختلف لناحية المواقف التي يتخذها العقلُ حيال قضية المعرفة. هذا هو الأساس: ثمة عقل يتخذ موقفين حيال القضية الدينية، وحيال كيفية فهم الظاهرة الدينية وتفسيرها وتطبيقها في حياتنا الاجتماعية.

وثمة في فضاء البحر المتوسط ذاك التيار الفلسفي الذي يمتاز بموقف خاص بالعقل الفلسفي: إنه موقف التساؤل في قضية المعرفة. معنى ذلك أن العقل لا يقنع بمعرفة ما توصَّل إليها، بل يتساءل ويراجِع ما يُقدَّم إليه ومدى صحة هذه المعرفة. فالعقل يتهم العقل بأغلاط – بالتورط في أغلاط؛ وذاك ما يميز العقل الفلسفي، وما يجعل ابن رشد يجمع بين هذين التيارين ويمارسهما طوال حياته ويُنتِج مؤلَّفات قيِّمة في هذا المجال. والسؤال: ماذا حصل له بعد وفاته؟ ماذا حصل لفكره ومؤلَّفاته؟ حتى في حياته، هاجمه الفقهاء ورفضوا كُتُبه وجعلوا من ابن رشد فيلسوفًا فقط، ونسوا أنه كان قاضي قضاة، وله كتب في الاجتهاد الفقهي الإسلامي المالكي. نسوا هذا الجانب، وألحُّوا فقط على أنه مارس الفلسفة ومال إليها إلى حدٍّ لا تقبله ذهنيةُ الفقهاء آنذاك. إذن، هذا المفكر – هذا الرجل المسلم – صادَرَه النسيان. تاريخ الفكر الإسلامي العربي ذو بعد تأريخي أو تأثير خارجي على قدر كبير من الأهمية؛ لذا علينا أن نؤرخ للنسيان، وليس فقط لما بقي لدينا ونقرأه. فماذا يعني النسيان؟

إنه يدل على صراع اجتماعي داخل المجتمع. والصراع هذا ليس طبقيًّا، كما شهدناه مع الشيوعية، بل هو صراع حول الأفكار، حول المواقف العقلية، إزاء قضية المعرفة. وهو صراع مهم جدًّا لأنه يؤثر على العقل والمعرفة ويقرِّر مصيرهما. لذا ينبغي أن نهتم بالأسباب الاجتماعية والثقافية والتاريخية التي جعلت المجتمعات الإسلامية العربية تهمِّش الفلسفة عامة، ثم تزيلها من المجال الفكري الإسلامي، حتى أمسينا نهتم فقط بما ورثناه في العلوم النقلية الدينية (التقليد) وأهملنا الجانب الآخر إلى يومنا هذا.

الفلسفة في القرون الوسطى لا تعني فقط التفكير الفلسفي، بل تعني التفكير العلمي في صفة عامة. وقد شملت مؤلَّفاتُ أرسطو العلومَ كلَّها، وليس الميتافيزياء أو المنطق أو علم الأخلاق فحسب. إذن، التفكير الفلسفي هو الذي جعل الفكر في نطاق الحكم الإسلامي في القرون الوسطى والعهد الكلاسيكي يتقدَّم على النحو الذي تقدَّم فيه ويكتشف أشياء علمية؛ إذ كان يقف الموقف التساؤلي الذي نتلقَّنه من المنهج الفلسفي وفق ما كان يُستخدَم ويُعتمَد في القرون الوسطى. إذن ثمة نقطة مهمة هي النسيان.

إنك، إذن، تطرح على الثقافة العربية مهمة مقاومة النسيان وإعادة بناء الذاكرة التاريخية كي يستقيم الموقف ويبطل الخلل...

أن نقاوم النسيان، وأن نؤرِّخ له، لا كمؤرِّخين فحسب، بل كسوسيولوجيين. وهذا فرع من التاريخ يدعى السوسيولوجيا التاريخية، ولم يُعرَف بعدُ في نطاق تفكيرنا العربي، لا يزال مغيَّبًا – ولا نزال نغيِّبه – تحت ضغوط التاريخ. فالتاريخ يفرض علينا إيديولوجيا الكفاح. لا يمكن أن نسمح لأنفسنا بمحض جوانب الكفاح كلَّ الأهمية، وننسى البحث والنقد. أتذكر المناقشات مع الطلبة إبان حرب التحرير في الجزائر. كنا نقول إنه يجب الالتزام منذ الآن بإيديولوجيا الكفاح، ونطرح، في الوقت عينه، تلك الأسئلة، كي نمهِّد السُّبل لبناء الأمة الجزائرية الحرة بعد الاستقلال. أتذكر ذلك في وضوح وإلحاحَ البعض على هذه النقطة. وبعد الاستقلال، ماذا حصل – وحتى يومنا هذا؟ كان ثمة قائلون إنه ينبغي أن نؤجل ما نريده من النقد كي نكون مستقلين ونُخرِج العدو من البلد، وعندئذٍ تكون لنا حريةُ التفكير والطرح، ونعتني بهذا الجانب الذي تريدونه. ماذا حصل؟ أجَّلناه. وبعد الاستقلال ماذا حصل؟ أجَّلناه... أجَّلناه... ولم يزل مؤجَّلاً حتى اليوم!

إنها نقطة تاريخية وشهادة أؤديها كعضو من أعضاء الذين خاضوا الكفاح الإيديولوجي الذي لا بدَّ منه. لا أقول إن الكفاح الإيديولوجي أمر هيِّن، بل هو فريضة تاريخية. ولكن يجب أن يكون هناك اليوم في فلسطين فلسطينيون يطرحون الأسئلة في قلب المأساة. علينا أن ننطلق في البحث عن الأُطُر الاجتماعية في المجتمعات العربية بعد القرن الثالث عشر التي أدت إلى فشل الفلسفة في مجتمعاتنا، والبحث، في الوقت نفسه، عن الأُطُر الاجتماعية المسيحية في أوروبا التي جعلت ابن رشد يحتل مكانة عظيمة في تكوين الفكر المسيحي وتطويره، حتى إن علماء الفكر المسيحي يستشهدون به، فيما أهملناه نحن وغيَّبناه. ويمكن لي، لو اتسع الوقت، أن أضع كتابًا في مثل هذه القضايا.

مثل آخر أذكره يتعلَّق بابن خلدون؛ إذ بقيت مقدمته في نقد التاريخ مدفونة. نسيناه هو الآخر! لم تحقَّق تلك المقدمة تحقيقًا علميًّا إلا في العام 1840 على يد المستشرق باترومان في باريس؛ واستعدنا هذا الكتاب، واستأنفنا القراءة في مقدمة ابن خلدون في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بينما توفى ابن خلدون في العام 1406، أي في أوائل القرن الخامس عشر. هذه الأمور لم نؤرخ لها، لأننا لا نكتب التاريخ بحسب المناهج الحديثة للتاريخ، وخاصة ما يتعلق بالسوسيولوجيا التاريخية وعلم نفس التاريخ والتحليل النفساني للتاريخ. وثمة قضية تطور العقل ونطاق العقل العربي من القرن الثامن إلى القرن الثاني عشر – وكان أوسع بكثير من نطاقه الفكري بعد القرن الثالث عشر إلى القرن التاسع عشر. وأشدد في طروحاتي على هذه الأمور، تركيزًا وتحليلاً.

ولكن الذين غيَّبوا حضور العقل في تاريخنا ومجتمعاتنا مستعمِرون أو أصحاب سلطة؟

ليس فقط، ليس فقط! إني مسرور جدًّا برجوعك إلى هذه الأسئلة. فما معنى السؤال الذي تطرحه؟ معناه أنك تردُّنا إلى التحليل السياسي. ننتقد الدول، وننسى البُعد الآخر، أي ما يحصل في المجتمع المدني (ليس بالمفهوم المعاصر). ثمة أناس بعيدون عن الدولة، ولديهم مسؤوليات. مثلاً، لماذا أصبحت الطُّرُق الصوفية (مع الشيوخ و"المرابطين"، كما نسميهم في المغرب) ظاهرة منتشرة ومتمدِّدة في الفضاء العربي؟ لماذا؟ لأن الحكم المركزي ضَعُفَ وما عاد يقوى على إدارة أمور المجتمع، وحلَّتْ هذه الطُّرُق مكان الحكم المركزي. إذن، لا يمكن لنا أن ننظر إلى الدولة ونؤاخذ الدولة وحدها، بل علينا أن ننظر إلى المجتمع ككل، إلى الداخل. ثم إن هذه الطُّرُق تدبَّرتْ أمور الشعوب لأن الشعوب كانت تعيش في نظام قَبَلي، وعلى أساس عقائد وتقاليد بعيدة عن تعاليم الشريعة الإسلامية، وتعود إلى تقاليد أقدم من الإسلام. هذا ما أعنيه بالتفسير السياسي: إذ ننسى المجتمع وسائر أعضائه.

تشكَّل في العقود الأخيرة اتجاهٌ في نقد العقل العربي ونقد العقل الإسلامي. كيف تقوِّم مساهمة هذا الاتجاه في فضاء الفكر في مجتمعاتنا؟

أولاً، بدأنا نطرح قضية "نقد العقل العربي" – وهو ما فعله زميلنا محمد عابد الجابري؛ وكذلك "نقد العقل الإسلامي" – وذاك ما اعتنيت به. نطرح كلانا هذه المقاربة لإعادة التفكير في تاريخ تراثنا الفكري العربي الإسلامي. إنه ما بدأه في أوائل الثمانينات كتابي الذي صدر بالفرنسية في العام 1984؛ وأعتقد أن كتاب الجابري صدر في العام 1983. ولا يتسع لنا الوقت للتمييز بين اتجاه الجابري واتجاهي، ولماذا ألح على العقل الإسلامي، بينما يلح هو على العقل العربي. ثمة أمور مهمة ينبغي أن تُناقَش. على أية حال، ما أنجزتُه وما أنجزه الجابري قليل جدًّا من كثير مطلوب. بيد أننا طرحنا الأسئلة – بعض الأسئلة – وألححنا على ضرورة طرح سؤال العقل العربي الإسلامي لنتعرف إلى تاريخ العقل ومسؤولية العقل كعقل في ممارسته المعرفية، من القرن الثالث عشر إلى يومنا هذا.

أقول من القرن الثالث عشر، لأن ما حصل في تلك الفترة مختلف عما حصل في الفترة السابقة. ما حصل هو النسيان: نسيان ما حصل من قبل. وثمة أمر آخر يفرض علينا نقد العقل العربي الإسلامي، هو أن أوروبا بدأت تفتح آفاقًا جديدة في التفكير، خاصة بعد القرن الرابع عشر في إيطاليا، ثم في أوروبا عمومًا. وأتى القرن السادس عشر لتظهر ثورة فكرية هي الثورة الفينومينولوجية (المنهج الفينومينولوجي) لقراءة النصوص القديمة. والفينومينولوجيا في أوروبا (النهضة الأوروبية) تعني أن الأوروبيين أعادوا اكتشاف سائر النصوص المكتوبة باللاتينية واليونانية – وهي من الأهمية بمكان. تلك المدنية طغت عليها ثقافةُ الكنيسة في القرون الوسطى وغُيِّبَتْ، بالتالي، عن المعرفة. وإذا بالأوروبيين يكتشفون هذه الكنوز من الآداب والحقوق الرومانية، ويطبِّقون عليها المنهج الفينومينولوجي؛ وكذلك على نصوص العهد القديم والعهد الجديد، أي النصوص الدينية. وقامت قيامة الكنيسة يومئذٍ، وقالوا: تمسُّون القداسة! وهذا ما يحصل لعقيدتنا، مثلما نقول اليوم، في أوضاع متشابهة. لكن هناك علماء انطلقوا واستمروا. لماذا؟ لأن العلماء والمفكرين في أوروبا لم يكونوا وحدهم، بل كانت هناك طبقة برجوازية ترفدهم وتعطيهم – وذاك ما أسمِّيه الأُطُر الاجتماعية للمعرفة. هذا التأييد الاجتماعي مفقود عندنا. قرون وقرون والطبقة هذه غائبة والتأييد مفقود. معنى ذلك أنه لو ظهر عندنا مفكر ليس ثمة مَن يتلقَّى كلامَه وينشره ويناقشه ويتفاعل معه.

لذا علينا أن نتساءل: ما هو دور العقل العربي اليوم، ونحن نواجه تحديات الحداثة – ليس في القرن التاسع عشر ولا في القرن العشرين؛ بل إن الحداثة بدأت، كما قلت، منذ القرن الرابع عشر. ولا تزال ثمة عقول تنتج وتبدع وتغيِّر موقف العقل أمام المعرفة. ولا بأس علينا، كما نقول في الجزائر: اعملوا ما تريدون، ونحن ولا يمسنا شيء مما تفعلون. هذا ما حصل. لذا اهتممت بوضع برامج للعمل وقدمت أمثلة. والبرامج هذه ينفِّذها الشبان في الجامعات والأساتذة والحركات الاجتماعية.

إلا أنني أنظر الآن إلى وضع الجامعات في البلدان العربية والإسلامية، إلى وضع العلوم الاجتماعية ووضع التاريخ، فنًّا وعلمًا، وكيف يُدرَّس ويُكتَب إلى يومنا هذا على مستوى الجامعات – وما أدراك بمستوى التعليم الثانوي؟! هذا هو المعنى الكامن خلف الطروحات.

شدَّدتَ في نقدك للعقل الإسلامي على ما أسميتَه العقل الاستطلاعي التواصُلي المستقبلي، وآثرتَه على عقل ما بعد الحداثة. كيف تفسِّر هذا المفهوم؟

هذه قضية أخرى. لا أزال أنتقل في عملي من الميدان الإسلامي العربي إلى الميدان الأوروبي، وبالعكس، وأتساءل: ماذا حصل للحداثة؟ – حداثة الأنوار التي بدأت في القرن الثامن عشر في أوروبا. والواقع أنه، بعد الخمسينات والستينات والسبعينات، بدأ العقل في أوروبا يقفز قفزة أخرى، فينفصل عن عقل الأنوار، ويدرك أن مواقف عقل الأنوار حيال المعرفة ذات نقائص عديدة لناحية المعرفة كمعرفة. فلعقل الأنوار أيضًا تعسفات، أي مواقف تعسفية في إنتاج العلم نفسه: العلموية scientisme، مثلاً؛ الموقف العلموي في القرن التاسع عشر وممارسة الثقافات الأخرى، وكيف كان يُنظَر إلى الثقافات الأخرى غير الثقافة الغربية، وكيف كان يُنظَر في البلدان المستعمِرة إلى ثقافات المجتمعات المستعمَرة حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. كان يُنظَر إليها نظرة الإثنوغرافيا، أي الشعوب المتخلفة، الشعوب البدائية! بعد الحرب العالمية الثانية، وعقب تحرر المجتمعات من سيطرة الاستعمار، كان لا بدَّ لعقل الأنوار من أن يتساءل عما فعله، أن يراجع فَشَلَه.

لهذه الأسباب ننظر هنا إلى القفزات المتتابعة للعقل في تاريخ الفكر في أوروبا، ونسأل: ماذا نفعل أمام هذه القفزات؟ لماذا أرفض الآن مفهوم "ما بعد الحداثة" post-modernité؟ لأن هذا المفهوم، كما مارَسَه وأراده المفكرون الأوروبيون، منحصر في الإطار التاريخي الأوروبي. لم ينظر إلى تاريخنا، ولا يهمه ما حصل لنا. هذا ما يهمني، لأنني عضو هذين: المجتمع والتاريخ. ماذا أفعل حيال تلك القفزات، وأنا لا أملك كلَّ الأدوات، ولا حتى أدوات الحداثة الكلاسيكية. ماذا أفعل؟ هو ذا السؤال.

أقول: لا يمكن للعقل في أوروبا أن ينحصر في الإطار التاريخي الأوروبي ولا ينظر إلينا، لأنه بذلك سيكرر الفشل. وعلى العقل الأوروبي أن يأخذ في الاعتبار كلَّ الأوضاع التاريخية ذات الدور في جَعْلِه يتخبط في المآزق الفكرية والسياسية التي يتخبط فيها. واجب أوروبا عقلي، وليس أخلاقيًّا أو سياسيًّا وحسب. إنه واجب معرفي: أن يتضامن مع الوضع البشري العام، لا مع الوضع الأوروبي فحسب. لذا دخلتُ في قلب العقل الأوروبي، وأبغي زحزحته من الداخل، لأفتح الآفاق لطروحات تهمُّه وتهمُّنا. ولكن مثل هذا الموقف المعرفي الذي أدعو إليه، لا نعثر عليه عند المسلمين، ولا عند الأوروبيين؛ إنما هو عقل ننتظره ونحاول تشجيع انبعاثه. ولذلك أتكلَّم على هذا العقل الذي تطلبه، بكلِّ حرارة وإلحاح، الشعوبُ في أوروبا والشرق. وقلائل هم المثقفون والكتَّاب الذين يسعهم إدراك التجربة. لذلك أسميه العقل الاستطلاعي المستقبلي، آمِلاً في أن نهتم به أكثر، ليصير هناك إدراك لهذا الموقف الشمولي والمعرفي، مما يمكِّن الباحث والمفكر أن يكون ناقدًا للعقل الأوروبي والعقل العربي الإسلامي أو الصيني أو الهندي، أي عقل الوضع البشري بعامة. بلغتُ هذه المرحلة في نقد العقل عامة، واعتمدتُ على العقل الإسلامي كمثال لطرح هذه الأسئلة.

ثمة في إشكالية العلاقة مع الغرب ثلاثة نماذج: التبعية، الرفض والعنف، أو الانسحاب إلى الكهف. كما أن ثمة غيابًا لنمط استقلالي موجَّه. لماذا في رأيك؟

لأننا لا نزال في الأغلال التي ورثناها من الماضي، ولم نتسلح بالأسلحة الفكرية والعلمية التي تمكِّننا من تحطيم تلك الأغلال. لذا أكرر ما قلته حول "إيديولوجيا الكفاح": فمادمنا نمنح الخطابَ الإيديولوجي، الذي نصفه بـ"التحرري"، الأولويةَ والأسبقيةَ، ونهمل، بالقدر نفسه، الجانبَ الآخر، الذي هو التحرر من الأغلال الداخلية وتحطيمها – وهي التي تتغلب على مخيالاتنا الاجتماعية – لأن كلَّ الخطابات التي نسمعها ونقرأها ناتجة من المخيالات الاجتماعية وغير ناتجة من أية ممارسة للعقل النقدي. إنها ظاهرة نتألم منها منذ الخمسينات، وتوضح أهمية ما قلناه سابقًا لناحية عدم التهيؤ لمرحلة البناء والمعرفة والديموقراطية وبناء أنظمة سياسية حديثة تحرِّر الشعب.

ماذا حصل، مثلاً، لأنظمتنا التربوية في البلدان العربية منذ العام 1952 (التيار الناصري والمد القومي)؟ ماذا فعلنا؟ ماذا راكَمْنا؟ وماذا أنجزنا في الميدان التربوي لتتمكَّن الأجيال الناشئة في الستينات والسبعينات والثمانينات من دخول التيار التاريخي الحديث ومواجهة التحديات التاريخية والفكرية العلمية المحيطة بنا؟ ما هو وضعنا الاجتماعي؟ وما هي سياسة الدول، من إندونيسيا إلى المغرب، لناحية واقع العلوم الاجتماعية؟ تَرانا، إلى الآن، نمنح العلوم الاقتصادية والتقنية أهميةً في حلِّ مشاكلنا الاقتصادية – ولم نحلها. كما أننا أهملنا تمامًا تعليم التاريخ وفق المنهج الحديث. فالتاريخ هو المفتاح لكلِّ هذه القضايا التي نتحدث فيها.

وثمة أمر آخر يكمن في أن الدول فرضتْ على الجميع سياسةً تمنع المفكرين والباحثين من طرح بعض الأسئلة التي تمس الأنظمة السياسية، وتمس القضايا الدينية أيضًا. ويجابهنا سؤال: كيف تطوَّر الوضعُ الديني في مجتمعاتنا تحت سياسة الدول التي ظهرت بعد الاستقلال؟ هذه الأسئلة كبيرة جدًّا، ولا نسمح لأنفسنا بأن نحلِّل نقديًّا وتاريخيًّا الفشلَ المستمر في ميادين حية تقرِّر مصيرنا التاريخي، وخاصة قضية التربية. وأسمح لنفسي بالقول إن التربية لدينا فاشلة تمامًا. والفشل هذا، اتَّضح أكثر في فترة من تاريخنا شهدنا فيها الضغطَ الديموغرافي. وماذا عن الشباب؟ – وهم الغالبية في المجتمع، وينتظرون طَرْحَ الأسئلة، وليس هناك من تكوين لنظام تربوي يليق بهم ويلبِّي حاجاتهم الفكرية والاجتماعية إلى الآن. هل يمكن أن نذكر نظامًا تربويًّا يوفر دراسة الأنثروبولوجيا وكتابة التاريخ الحديث التي يستخدمها المؤرخون في الغرب لدراسة مجتمعاتهم وتاريخهم. إنه ما ألح عليه – ويا للأسف – في الأسئلة الواقعية؛ ولكنه صوت في صحراء!

بخصوص تخلُّف المناهج التربوية وطغيان الإيديولوجيا، كيف تفسِّر الاستقطاب الشبابي في الحركات الإسلامية؟ وهل لا يزال الإسلام قادرًا على مدِّ الجيل الناشئ بمعنى حديث؟

سؤالك دقيق الصوغ، ولكنه يدل على الخطاب العام الغالب في مجتمعاتنا. هل يفعل الإسلام هذا أو ذاك؟ إلخ. الإسلام ظاهرة طَغَتْ على مخيالاتنا لناحية الخطاب؛ ولا يزال الإسلام، في الوقت نفسه، من الموضوعات التي لم نفكر فيها بعدُ تفكيرًا علميًّا تحليليًّا عقلانيًّا. لذلك وضعت مؤلَّفًا بالإنكليزية حول ما لم نفكر فيه بعد في الفكر الإسلامي المعاصر، وتجد الجواب عن سؤالك في الكتاب. أما لماذا كتبتُه بالإنكليزية، فلأن المشكلة لا تزال تتكرر؛ إذ لا يكفي أن نكتب كتابًا، ولو جاء بأمور جديدة أو محررة. الكتاب يحتاج إلى قرَّاء يقرأونه في تمعُّن. وكم نشرتُ من الكتب باللغة العربية في لبنان – هذا البلد الأمين الحبيب – وكم نسخة بيعت في العالم العربي؟! وما هو موقف عدد كبير من العرب والمسلمين الذين يحكمون على الكتاب من دون أن يقرأوه؟ ثم تأتي الأحكام، ونسمع وننقل وننتقد ونحكم ونرفض، من غير أن نقرأ أو نتورط. عُرِفَ عنِّي أني لا أعرف العربية لأنني جزائري واستعمرني الفرنسي! هكذا تحصل الأمور في مجتمعاتنا لناحية الفكر. هناك خفة وإطلاقية – وهذه هي الصعوبة. لذا آثرت أن أكتب بالإنكليزية. وقرَّاء الفرنسية قلائل؛ ولو قرأوا لا يهمهم الأمر، لأنني أحكي عن أمورنا، وأمورُنا لا تعنيهم. أو يقولون: هذه قضايا عشناها في القرن السادس عشر وتجاوزناها! لا قراء لديَّ، لا بالعربية ولا بالفرنسية، لأنني أنظر إلى ظاهرة الكتاب نظرة سوسيولوجية؛ إذ لا يكفي أن تكون الكتب متوافرة إذا كانت الأُطُر الاجتماعية غير مهيأة، ولا أرضية صلبة وخصبة وعلمية لها أصلاً.

البعض يقول إن محمد أركون قتلنا بالمفاهيم الجديدة، و نحن لا نفهمها. لو تناولنا مفهومًا هو من الأهمية بمكان، وموجود في الثقافات قاطبة، وهو مفهوم الـmythe، فإلى يومنا هذا، لا يدرك القارئ العربي مدلولاته لأنه ضلَّ طريق الفهم بترجمة الـmythe بكلمة "أسطورة". هناك العديد من الزملاء والمثقفين يقولون نعم "الأسطورة"! والقرآن يقول: "إنما نقصُّ عليك أفضل القصص". وكان على العرب، إذا قرأوا القرآن، أن يميِّزوا بين "الأسطورة" و"القصص". ولو قلت إن "القرآن كتاب قصصي البنية" فلا يؤاخذنَّني أحدٌ من المسلمين – فإنما بذلك أعبِّر عما يقوله القرآن. ثم نقرأ في ترجمة عبارتي أن "القرآن خطاب أسطوري البنية" – وعلى هذا الأساس محمد أركون كافر!

إذن الكتاب كتبتُه بالإنكليزية سعيًا إلى فتح آفاق للمناقشة في حرية؛ وهو موجَّه إلى الجمهور الإندونيسي والهندي والباكستاني. فالكتاب – أي كتاب – يموت من دون مناقشة.

أثَرْتَ في نظرتك إلى الإسلام موضوع الأنْسَنَة والاجتهاد. كيف نعقد، في رأيك، الصلة المفقودة بين الاجتهاد والأنْسَنَة؟

أُرغِمتُ على استعمال هذا الاصطلاح، لأن المفكرين العرب في القرن الرابع الهجري كان يسمون "أدبًا" ما أسميه اليوم بـ"الأنْسَنَة"، وهو مصطلح عربي. كان ياقوت، صاحب معجم الأدباء، يقول عن أبي حيان التوحيدي إنه "أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء". وهو تعريف مفهوم الأدب؛ والمقصود به "الأديب"، كمسكويه والتوحيدي وجيل مسكويه الذي وصفتُه في كتابي عن الأنْسَنَة في القرن الرابع الهجري. كلمة الأدب نستخدمها الآن للدلالة على قسم الآداب في الجامعة، أو نقول: "شرطة الآداب" [ضحك]! هذا اللفظ لا يمكن أن يدل على الموقف الثقافي والفكري الذي يجمع بين الموقف النقدي، الذي لا أنْسَنَة humanisme من دونه (موقف العقل النقدي)، ويشمل أيضًا المعلومات التي ينبغي أن يحيط بها "الأديب" (في المعنى القديم) أو "الأنْسَني" humaniste (في المعنى الجديد)؛ ومن خلال ذلك، يسعه الكلام على الوضع البشري بعامة، وليس عن إنسان يعيش في مجتمع ما أو إنسان يعتنق دينًا كالذي أعتنقه وحسب.

الموقف الأنْسَني هو موقف أديب، كالتوحيدي ومسكويه، لدى الحديث عن الوضع البشري؛ وهذا الموقف يُثري الإنسان، وله أدب عندنا. ماذا حصل لهذا الأدب؟ حصل له ما حصل لابن رشد. غُيِّب. النسيان... ولا يعني النسيان أننا نسيناه أو أهملناه، بل إنه قصد وسياسة: إنه قصد العلماء الذين هاجموا الفلسفة من غير أن يعوا دور الفلسفة في تربية العقل. فالدين يتكيف مع وضع المعرفة المتوافرة في المجتمع، وقد ينحط وقد يعلو شأنه بعلوِّ الثقافة والمعرفة. وإذا كانت الثقافة والمعرفة شأنهما ضعيف، فلا بدَّ من أن يضعف، بالقدر نفسه، شأنُ الدين. ولذلك تراني أجتنب الكلام على الإسلام، لأن الإسلام دين يعتقده ملايين من الناس – والعقائد تُحترَم دومًا. وفي هذه الظروف التي نعيشها لا نكتسب الأدوات ولا نكتسب المعرفة لكي نتكلَّم على الدين كلامًا يُقنِع المؤمن ويرفع مرتبة إيمانه نحو فهم أوسع لوظائف الدين. لذا عندما أكتب فإني أفعل لأساهم في رفع شأن الدين وفهمه. والكثير من الناس حُرِمُوا – فمَن حرمهم؟ –، حُرِموا من تهيئة الأرضية التي لا بدَّ منها لمنح الدين أهمية وظائفه في المجتمع. أؤثر تلافي الكلام مباشرة على الإسلام، وألح على الظروف والأسباب والدواعي التي جعلت الدين، أو الظاهرة الدينية، تتخبط في هذه المآزق التي وُضِعَتْ فيها، وخاصة منذ ظهور التيارات الموصوفة بـ"الأصولوية"، ولا أقول الأصولية – وهذا مثال آخر في خطاباتنا التي تعتني بالتمييز في التعبير. إني أميِّز بين "الفكر الأصولي" و"الخطاب الأصولوي". وحين أقول "أصولوي" لا أبغي مهاجمة أحد، بل أروم إيضاح محتوى الأصولية ومحتوى الأصولوية ودورهما في المجتمع وتوجيه التفكير نحو هذه الجهة أو تلك. إنه ما أقصده، وهو من مسؤولية عالِم الاجتماع والمؤرخ. والناس يتَّهمون.

لذا يصعب جدًّا الكتابة بالعربية وتقديم أيِّ شيء بالعربية، لأن الناس يفهمون القول بغير قصده، ويكتبون أشياء ضد ما تقصده؛ فقصدك أنت تحرير العقول وتحطيم الأغلال، بينما هم يريدون الاستمرار في ما هم عليه. وهو وضع أعانيه، وأتألم منه وله. وأسأل الله أن يهبني الشجاعة كي أستمر في هذا العمل لأنه مؤلم جدًّا؛ والإنسان ييأس عندما يواجه هذه الصعوبات في كلِّ خطوة وكلِّ كلمة وكلِّ موقف.

أما بالنسبة إلى الاجتهاد، فهو مفهوم خاص بعملية تحليلية يقوم بها الفقهاء في ما يسمونه استنباط الأحكام من النصوص. ومعناه اصطلاحي وخاص بالنصوص المقدسة وقراءتها لاستنباط الأحكام الشرعية منها. والاجتهاد لا يعني كلَّ الميادين الفكرية وميادين البحث للعقل، لأن مهمات العقل غير محصورة في قراءة النصوص الدينية. وعندما نقول "الاجتهاد" فإننا نشير إلى أمر معيَّن، إلى مساعٍ فكرية معينة، خاصة بالعمل الفقهي، وخاصة كذلك بعمل يقوم به المتخصص في أصول الدين أو اللاهوت théologie. لذلك فإن هذا المجال الديني للتفكير الديني والتفكير في التشريع الديني يدعو نفسه إلى تحليل آخر أوسع، إلى التساؤل حول تاريخ الفقه وتاريخ عملية الاستنباط ومعانيه وشروطه العلمية لدى الفقهاء. ولكن الناس يكتفون بذكر الاجتهاد، ويخالون إننا، عندما نقول "اجتهاد"، نقول كلَّ شيء حول وظائف العقل ومسؤوليته في إنتاج المعرفة – وهذا خطأ. لذا لا يسعنا أن نربط بين الاجتهاد والأنْسَنَة، لأن نطاق الأنْسَنَة أوسع بكثير.

الأنْسَنَة لا تُعنى بالقضايا الخاصة بالإسلام والاستنباط فقط، بل تهتم كذلك باستنباط الأحكام في البوذية والفكر الصيني. ينبغي أن يُمنَح كلُّ ميدان حقَّه من العلم والمعرفة وحقَّه من الاحتياطات في الممارسة. ولكن معظم الناس لا يعلمون – ويا للأسف!

يقول هيدغِّر: "التراث قَدَرُنا والحداثةُ مصيرُنا." كيف ترى إلى واقع الإنسان العربي في موضوع التراث والحداثة وما يثيره من إشكاليات؟

دعني بدءًا أسأل: كيف تَعامَلنا مع التراث في الفكر العربي منذ الخمسينات الأخيرة؟ وكيف تَعامَل الباحثون والمفكرون العرب والمسلمون في فترة النهضة مع هذا التراث؟ إنه سؤال منطلق. طه حسين، مثلاً، كَتَبَ في التراث؛ وهو من الذين حاولوا أن يطبِّقوا المنهج الفينومينولوجي الذي تعلَّمه في السوربون، ووضع كتابه في الشعر الجاهلي، فأثار ما أثاره، لأنه كتب في منهج لم يسمح به علماء الأزهر – وهو تمامًا ما يحصل اليوم! أستخدم أدوات الأنثروبولوجيا الحديثة وأنثروبولوجيا الثقافات والأديان – وهذا علم لم نسمع به، وهو مضمَّن في اللامُفكَّر فيه في الفكر الإسلامي والعربي. آتي للتنبيه فقط: يا جماعة! هذا علم يفتح لنا آفاقًا ويحرِّرنا، ولا يُفسِد شيئًا في العقائد، بل يقوِّيها ويضعها في مرتبة أعلى من التي تتخبط فيها مع الإيديولوجيات، والتي تتوجه إلى المخيال، ويردُّها المخيال ويستخدمها ويضغط على المجتمع. ولكننا نواجه دائمًا الصعوبات نفسها في طرح هذه الأسئلة. وأنا لا أؤاخذ أحدًا، لكن يجب أن نفهم أننا في حاجة إلى نظام تربوي آخر.

ومادمنا نهتم بالتعليم كما هو، وخاصة تعليم التاريخ في المدارس والثانويات والجامعات، فإننا نعلِّم الجهل وأشياء سلبية يحفظها المخيال. والمخيال ذو خطر كبير على المجتمع. فما حصل في 11 أيلول يدخل في باب المخيال الذي تكوَّن بالخطابات الخارجة خروجًا تامًّا على نطاق التاريخ الذي يقدِّم حقائق التراث كما هي. ممارستنا للتراث بعد الاستقلال كانت ممارسة ميثولوجية–إيديولوجية، لا ممارسة علمية تحليلية، مثل التي حاول أن يقوم بها بعضُ الباحثين، أمثال أحمد أمين وطه حسين والمازني وكُثُر من الذين اهتموا بما ينبغي أن نبدأ منه. فمن أين نبدأ؟

غلاف كتاب محمد أركون وجوزيف مايلا من منهاتن إلى بغداد: فيما يتعدى الخير والشر

ما حصل بعد الاستقلال أنتج بلبلة وأنتج خطابات لا يمكن العمل بها، لأنها فرضت صعوبات وعراقيل على العقول، نسميها عراقيل معرفية، أو عرقلة معرفية ذهنية، كما أسماها غاستون باشلار. ولو وضعنا في الدماغ عراقيل معرفية فذلك الدماغ ينغلق، ولن يستمع إلى كلام كهذا أبدًا. هذا ما فعله التعليم في ميدان العلوم الاجتماعية – وأعتقد أن العلوم العلمية تسير سيرًا حسنًا – ولكن هؤلاء عندما ينتقلون إلى وضعنا الاجتماعي والمعرفي فكيف يمارسونه؟ مصحف القرآن متداوَل بين الجميع، وكلٌّ يقرأه؛ ولكن المستوى المعرفي للقرآن مركَّب ومعقَّد وبعيد عن معجمنا، معجم اللغة العربية المعاصرة الذي هو معجم الصحافة – وأينه من معجم القرآن! هذه كلُّها أمور بسيطة جدًّا، ولكنها تخلق مشاكل لا نهاية لها، وتُضاعِف من عرقلة الذهن، وحتى من صعوبة تلقِّي أسئلة كهذه. ونحن في هذا الوقت لا ندري كيف نتصرف! قد تستشعر الصحافة ووسائل الإعلام يومًا ضرورة مساهمتها في فتح الأذهان لتخصيص برامج تأهيل وتقديم للكتب التي تعالج مثل هذه المسائل، ولا تخطف مصادفة كلامًا من باحث وكلامًا من شاعر – ولوسائل الإعلام دور ومسؤولية جسيمين في العملية المعرفية.

ثمة اليوم أزمة في الخطاب العربي بين علماني وأصولي، إلى خطر خارجي يتجسد بعد 11 أيلول في مواجهة الطروحات الإسلامية. سؤالي: كيف يمكن لنا أن نوفر أُطُر التنسيق والتعاون والتواصل بين الخطابين؟

أشعر في سائر الكتب التي أنجزتها والمحاضرات التي ألقيتها في أنحاء العالم، منذ أكثر من ثلاثين عامًا، بألم، يوميًّا، حين أقرأ ما يتعلق بالمأساة الفلسطينية. أشعر كلَّ يوم بفشل، بمرارة، يجعلانني غير راغب في الكتابة أو في إلقاء المحاضرات أو في أيِّ شيء! إني يائس، ربما أكثر من معظم الناس. لماذا؟ لأني لا أزال أكافح من أجل هذا الأمر تحديدًا، ضد هذه المأساة المُبرمَجة. الحرب الأهلية في الجزائر – وطني – مُبرمَجة سياسيًّا، حتى أضحت هذه الحرب كأنها لا بدَّ من أن تكون كما هي: مُبرمَجة. إذن، عندما أثير هذه القضايا التي تمسنا في الصميم فإنني أتألم؛ ولا أريد أن أشرح أو أحلِّل أو أكتب هوامش أو أيَّ شيء، لأني أحس بقوة تفعل، ولا نستطيع شيئًا لتوجيهها توجيهًا آخر؛ فهي قوة أعلى منَّا بكثير. حتى في نطاق مجتمعاتنا وتاريخنا الخاص، لا يسعنا أن نؤثر على القوة الخاصة بنا – ناهيك عن القوة العاملة في العلم لتوجيه ما نسميه العولمة بعد توجيه ما أسميناه الحداثة. وهذا النوع من الإحساس بالصعوبات والفشل والخيبات يجعلنا عاجزين عن الإتيان بحلول لتلك المآزق. وعلى الرغم من ذلك، يجب أن نستمر في الدعوة إلى حلِّ المشاكل التي في مستطاعنا حلُّها داخليًّا. ولو عثرنا على حلول لمشاكل التربية الوطنية، لتكون على المستوى الذي نبغيه، فإننا سنتنفس، وسيتنفس الشباب ويكتشف ويبصر آفاقًا لمستقبله. إنه على الأقل ما ينبغي أن نقوم به.

أما القضايا المتعلقة بالجغرافيا السياسية التي يدبِّرها المدبِّر الأعلى – ولا أسمِّيه! – فإننا نلاحظ أن خطابنا العربي يذكر دائمًا "الغرب"، ولا يميِّز بين الغرب وأوروبا. ونسمع في كلِّ وسائل الإعلام العربية، وحتى في أوساط المفكرين والمثقفين: "الغرب... الغرب... الغرب..."! "الغرب" أيضًا من مكوِّنات المخيال العربي على المستوى الإيديولوجي، حتى جَعَلَه هذا المخيال لا يدرك أهميةَ ما يحصل في أوروبا، لأن ثمة قدرة أو قفزة جديدة لأوروبا، وهي القفزة التاريخية من مرحلة الدولة–الأمة إلى مرحلة الاتحاد الأوروبي لإنشاء فضاء للمواطَنة. وقد يكون نموذجًا لمناطق أخرى، كي تفكر في تسيير تاريخها وتوجيه مصيرها التاريخي توجيهًا آخر انطلاقًا من التوجيه الذي يتعلق بما سمَّيناه نحن أيضًا الدولة–الأمة، بينما لا فكرة تاريخية عندنا للانتماء إلى سياسة الدولة–الأمة. كلُّ شيء إسقاط projection. ماذا يحصل في أوروبا اليوم؟ وهل نتبع الخطوات التاريخية التي تخطوها الأمم الأوروبية المشترِكة في الاتحاد الأوروبي؟ هذه الثورة أيضًا تمس الوضع البشري ككل. لكننا لا ننظر إلا إلى الولايات المتحدة. وهناك فرق كبير بين الولايات المتحدة التي تلعب الدور الذي نلاحظه، حتى بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، والاتحاد الأوروبي الذي يقوم بنضال آخر، يهمنا نحن أولاً، لأن نضال الاتحاد الأوروبي يجمع بين أوروبا كأوروبا وبين فضاء البحر المتوسط. لأوروبا ذاكرة تاريخية ليست للولايات المتحدة. هذا النوع من التفكير... أنت الذي تعيش في لبنان وتقرأ صحافة لبنان – ولبنان من أكثر البلدان انفتاحًا بين الدول العربية – هل تقرأ خطابًا كهذا؟ إنه خطاب فكري وسياسي في تدبير مصير الأمم، لا مصير بعض الناس أو طبقة من الطبقات. وهو يندرج أيضًا في باب اللامفكَّر فيه.

ذكرتَ في أحد مؤلَّفاتك ما أسميتَه بـ"التحرير الكبير"، وقلت إنه سيتم خلال 15 سنة – هذا التحرر، ما رأيك فيه اليوم؟

لماذا قلت 15 سنة؟ لأنني ألح دومًا على قضية التربية. لقد فشلنا في وضع نظام تربوي في الدول العربية كافة. فشلنا فشلاً ذريعًا! ولكن أبناء الشعب هم الغالبية؛ وأروم أن يفيد أبناءُ الشعب كلُّهم من نظام تربوي، لا يعادل النظام الأوروبي أو الأمريكي فحسب، بل يفوقه من حيث المعنى الذي ذكرناه عندما تكلَّمنا عن العقل الاستطلاعي المستقبلي: قيام نظام تربوي مبني على تخريج علماء ومفكرين وكتاب وفنانين قادرين على هذا المستوى، والاتجاه نحو التحرير – وهذا يستغرق وقتًا. تحرير ونهضة. ولو نجحنا في ذلك فسيكون نجاحًا تامًّا. حتى عندما كنَّا نتكلَّم في الستينات والسبعينات على قضية الدول المتخلِّفة والدول النامية، وكنا نلح على التنمية الاقتصادية، ونهمل التنمية الثقافية والسياسة الثقافية والتربية العلمية في العلوم الاجتماعية، فشلنا في التنمية الاقتصادية – وهذه قضايا في متناول قدرتنا في الداخل. لدينا باحثون ومثقفون يسعهم أن يفكروا ويضعوا نظامًا تربويًّا على المستوى الذي تقتضيه المرحلة. ولكن – ويا للأسف! – ليست هناك إرادة سياسية تقبل وتشجع هذا النوع من العمل وتتعهَّده.

بعد هذا الحوار الشاق والشائق والغني، أترك لك فسحة الختام للتوكيد على فكرة أو قضية تود مقاربتها.

أرجو القراء ألا يُسقِطوا على كلامي وعلى ما أقول وأكتب وأدعو إليه – ألا يسقطوا عليه ما في مخيالهم المشبع بالخطابات الإيديولوجية. أحترم الخطاب الديني، لأنني أعرف، كمؤرخ، أن التاريخ يفرض علينا أن نكافح من أجل التحرير السياسي. ولكن علينا، في الوقت نفسه، أن نخوض معارك من أجل الأنْسَنَة، وأن تكون هذه المعارك في مستوى أعلى من مستوى المعارك التي فَرَضَها علينا التاريخ – على أهميتها – وهي معارك مؤقتة ولا تدوم. ولا يمكن لنا أن نعيش دومًا تحت السيطرة. قد يأتي يوم نكافح فيه ونُعفى من الضرورات الإيديولوجية. إنه السبب الأول الذي يجعلنا نكافح ونخوض معارك من أجل الأنْسَنَة – وهذه المعارك لا تنتهي. هذا ما أرجوه.

*** *** ***

حاوَرَه: سليمان بختي

عن النهار، السبت 13 نيسان 2002

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود