قراءة بيئية

في الشراكة الأوروبية–المتوسطية

 

حبيب معلوف

 

ماذا تعني الشراكة؟ ما هي غاياتها وأهدافها؟ ما هي مضامينها وحدودها؟ وعلى ماذا تستند تاريخيًّا وحضاريًّا؟ ولماذا "الأوروبية–المتوسطية" دون سواها؟

هذه عينة من الأسئلة العشوائية التي يمكن لها أن تخطر على البال عندما تنطرح مسألة الشراكة الأوروبية–المتوسطية والاتفاقيات المتعلقة بها على بساط التفكير بمناسبة انعقاد جولة من المفاوضات الرسمية والأهلية في مدينة نابولي في إيطاليا.

يُعتبَر المتوسط بحرًا يفصل بين يابستين: الأفريقية والأوروبية. ولولا أن المحيط الأطلسي يُمِدُّه عن طريق مضيق جبل طارق بنحو 38000 م3 من الماء في السنة، لما كان وُجِدَ البحر المتوسط أصلاً، لأن التبخر يمكن له أن يخفض مستواه مترًا واحدًا في السنة – الأمر الذي كان سيؤدي إلى جفافه في غضون 4000 سنة، بحسب ما ورد في كتاب المتوسط: التحديات والرهانات لبول بلطه.

على المستوى الجيولوجي والبيئي، إذن، لا يمكن للمتوسط أن يعيش ويستقل من دون غيره؛ وهذا يصح على المستويات كافة، في عالم بات مُعَوْلَمًا في كلِّ شيء. وعلى الرغم من ذلك، لا بأس من إبرام شراكات حقيقية بين سكان حوض معين، على أن تكون مقدمة لشراكات عالمية، تقوم على أسُس وقيم عالمية فعلاً، قاعدتُها وحدة الوجود والمصير، وتحقيق الخير العام، المتمثل بالـمحافظة على الحياة على هذا الكوكب، الذي بات مهددًا من جراء سوء تعامُل الإنسان معه في أنظمته الحضارية، ولاسيما المسيطِرة منها.

لقد رَسَخَ في أذهاننا من قراءة كتب التاريخ القديم أن المتوسط شكَّل "مهد الحضارات" و"مركز العالم"، بينما بات يصفه العديد من الباحثين والدارسين اليوم بـ"بحر المفارقات"! فالشعوب التي تسكن على ضفافه هي من أغنى الشعوب ومن أفقرها معًا. كما تحصل حوله تحولات ديموغرافية هائلة. فحتى العام 1950 كان تعداد سكان الدول المطلة عليه 212 مليون نسمة، ثلثاهم في الشمال والثلث الآخر في الجنوب؛ وفي العام 1985 ارتفع تعدادهم إلى 360 مليون نسمة، موزَّعين مناصفة بين شماله وجنوبه؛ كما أنهم في العام 2000 تجاوزوا الـ440 مليون نسمة؛ وهم مرشحون أن يبلغوا 600 مليون نسمة في العام 2025، كما تشير بعض الدراسات السكانية، حيث ستكون أغلبية الثلثين من السكان جنوبية وأقلية الثلث شمالية. هذه المفارقة التي تضرب بجذورها في الثقافة أولاً، لا بدَّ من أن تخفي تفارُقًا اقتصاديًّا بنيويًّا كبيرًا، ينبغي أخذه بالحسبان في اتفاقيات الشراكة، على كلِّ المستويات.

كذلك فإن متوسط الدخل السنوي للشماليين يزيد بنحو 26 ضعفًا عن متوسطه للجنوبيين، مع ملاحظة مفارقة أخرى وثابتة في الجنوب، هي أن معدلات نموِّ الناتج القومي للبلدان العربية المتوسطية هو دون مستوى النموِّ السكاني، على عكس ما هي الحال بالنسبة إلى البلدان الشمالية. وكذلك الأمر بخصوص التفاوتات الثقافية لناحية إنتاج الكتب ومعدلات الأمية إلخ. والمفارقة أيضًا هي في أن جميع الدول العربية المتوسطية تحتل موقعها في الجهة الجنوبية.

فهل أخذت اتفاقيات الشراكة بهذه المعطيات والمفارقات؟ وكيف السبيل إلى معالجتها؟ وبخصوص التحدي البيئي المتوسطي، كيف تتعامل الدول المتوسطية مع هذا البحر شبه المغلق؟

بالإضافة إلى التزايد السكاني المشار إليه، كان لزيادة عدد المدن من مائة مدينة في العام1900 إلى مائتين في العام 2000 (لا يقل تعداد سكانها عن 300 مليون نسمة) الأثر الكبير في زيادة التلوث من مصادر برية، نظرًا لما تتطلبه الحياة المدينية من طرائق عيش واستهلاك. ويكفي أن نقدم مثالاً أو رقمًا واحدًا يتعلق بالتلوث الناجم عن استخدام السيارات من خلال الانبعاثات في الجو أو من خلال الزيوت وبقايا الإطارات والفرامل التي تتسرب إلى باطن الأرض أو التي تصب في البحر. وتشير الإحصاءات إلى أنه حتى العام 1965 كان عدد السيارات التي تتحرك في النطاق المتوسطي لا يتعدى 16 مليون سيارة، 94% منها في فرنسا وإسبانيا وإيطاليا؛ وفي العام 1978 تضاعف عدد السيارات ثلاث مرات، ليصل إلى 46 مليون سيارة، 89% منها في تلك البلدان الثلاثة؛ وليست لدينا إحصائيات حديثة، مع أن الترجيحات تشير إلى تضاعُف تلك النسب.

بالإضافة إلى التلوث البري، لا يقل التلوث البحري خطورة. إذ تشير آخر الدراسات إلى وجود أكثر من 70 ألف سفينة شحن وركاب تمخر المتوسط اليوم، بالإضافة إلى 650 ألف يخت وزورق بخاري فردي، مع ما يُحدِثه ذلك من تلوث بالزيوت والشحوم وكل مشاكل التسرب النفطي المعروفة.

أكثر من 70% من المياه المبتذلة تصب على امتداد شواطئ المتوسط البالغ طولها 50 ألف كم. تضاف إليها النفايات الصناعية السائلة، وجميع أنواع النفايات الصلبة التي ترميها السفن، وتلك التي تأتي من مصادر برية ومدنية.

السياحة والنشاط السياحي المتزايد يُعتبَر أيضًا مصدر تلوث، إنْ لناحية الزيادة المفرطة في استهلاك المياه العذبة والتسبب في تملحها في بعض المناطق واستنزافها في مناطق أخرى، أو لناحية الزيادة في إنتاج النفايات الصلبة والسائلة معًا.

فما الذي تتطلبه الشراكة في مثل هذه الحالة؟ هذا هو السؤال الذي يهمنا مناقشته في هذا الاجتماع. صحيح أن هناك اتفاقيات وبروتوكولات لإنقاذ هذا المتوسط، ولاسيما اتفاقية برشلونة الشهيرة وبروتوكولاتها التي وُضِعَتْ منذ العام 1976؛ إلا أن بنود هذه الاتفاقية لم تُحترَم، على الرغم من أنها لم تكن مثالية أصلاً بما يكفي.

أمامنا الآن نص لاتفاقية شراكة بين لبنان والاتحاد الأوروبي. صحيح أن هذه الاتفاقية تلحظ قضايا التعاون السياسي والاجتماعي والثقافي والخدماتي؛ إلا أن طابعها الغالب هو الطابع التجاري، الذي يهدف بشكل رئيسي إلى تأمين حرية انتقال البضائع والأموال. وقد بات معروفًا مَن يستطيع الاستفادة من تحرير التجارة! طبعًا البلدان الأكثر تقدمًا وغنى، كما أسلفنا.

قد يقول البعض إن الاتفاقية تعترف بهذا الواقع، وقد أُدرِجَ في مقدمتها بندٌ أساسي يتعلق بـ"المساعدة على التنمية"؛ أي أن الاتحاد الأوروبي يتعهَّد بمساعدة لبنان على تحقيق التنمية التي حقَّقها هو. ولكن من قال إن النموذج التنموي الذي تحقَّق في أوروبا والغرب والدول المتقدمة، على سبيل المثال، يصلح للعالم كلِّه أو يجب أن يعمَّم على بلدان العالم أجمع؟ وماذا لو تحقق هذا النموذج (القائم على زيادة الإنتاجية والاستهلاك وتسخير العلم ونتائجه التقنية لخدمة هذا الغرض) بالفعل؟ ماذا سيحل ببيئة الكوكب لو صار لكلِّ فرد (بحسب القواعد التنموية المعهودة) سيارة خاصة، ومنزل خاص مزوَّد بالتجهيزات الحديثة كافة، على سبيل المثال لا الحصر؟! ما سيكون، على سبيل المثال، حجم الانبعاثات من ثاني أكسيد الكربون التي تنجم عن احتراق الوقود المستخدَم لتحقيق هذا النموذج التنموي المنشود؟!

في مسألة التلوث البري الناجم عن قطاع النقل، بيَّنتْ إحدى الدراسات أن معظم الخبراء الذين صمموا البُنى التحتية في لبنان ومعظم دول الإسكوا تخرجوا من جامعات وشركات أوروبية وطبَّقوا القاعدة التالية: المزيد من الأنفاق والجسور والأوتوسترادات لتشجيع استخدام المزيد من السيارات الخاصة! فاقتناء السيارات الخاصة يساهم، في رأيهم، في تحرير الفرد ورفاهيته واستقلاليته، كما يعني أخيرًا المزيد من النمو!

على الرغم من الأبعاد الاجتماعية كافة التي أُضفِيَتْ على مفهوم التنمية، إلا أن ذلك لم يمنعها من أن تبقى في أساسها تنمية اقتصادية تقوم على مبدأ موهوم: تحقيق "رفاهية الفرد". هذه، باختصار، الخلفية الفكرية لمفهوم التنمية المسيطر عالميًّا بفعل قوة المدنية الغربية المسيطرة.

فإذا كان هدف الإنسان هو الانتقال من مكان إلى آخر بسرعة وبأرخص طريقة ممكنة (بحسب اقتصاد السوق)، على سبيل المثال، فبحسب المثال المعطى السابق ذكره وَجَبَ أن نحسب الكلفة الحقيقية لذلك انطلاقًا من صناعة السيارات، إلى شقِّ الطرقات وصيانتها الدائمة، إلى كلفة الاستشفاء الناجمة عن معالجة الأمراض التي يتسبب فيها تلويث هذه السيارات، إلى الكلفة غير المنظورة لمعالجة المشكلات التي تتسبب فيها الانبعاثات من ثاني أكسيد الكربون التي تنتج عن هذه السيارات بشكل رئيسي والمؤدية إلى مشكلة "تغير المناخ"، على سبيل المثال، والتي قد تؤدي، بدورها، إلى ارتفاع في درجات حرارة الأرض والمزيد من العواصف والفيضانات في مناطق والجفاف في مناطق أخرى، بالإضافة إلى ذوبان الجليد على القمم القطبية، مع ما سيترك ذلك من آثار كارثية محتملة على الطقس ومستويات المياه الجوفية والزراعة والأنظمة الأخرى وانتشار الأمراض وظهور أمراض وأوبئة جديدة غير معروفة (علميًّا) في العلوم الطبية الحديثة، مما يهدد وجود النوع الإنساني نفسه!

وهكذا يمكن الاستنتاج أن مشكلات التوفيق بين حماية البيئة والنموِّ الاقتصادي وحياة الرفاهية لم تعد مطروحة كقضايا متناقضة في حاجة إلى حلٍّ توفيقي عبر طرح "التنمية البشرية المستدامة" sustainable human development، وذلك لسبب بسيط هو كون تكاليف وقف ارتفاع درجة حرارة الأرض يمكن لها أن تؤدي إلى آثار مدمرة على النموِّ الاقتصادي نفسه، كما يمكن لها أن تهدد صحة الإنسان نفسه وحياته.

وقد تبيَّن أن معظم الدراسات والمشاريع التنموية جاءت بهدف تسويق السيارات، حيث صُرِفَ أكثر من نصف الموازنات المخصصة لقضايا التنمية في العالم العربي على البُنى التحتية، كما بيَّن العديد من دراسات الإسكوا مؤخرًا، في وقت لا تنتج هذه الدول إطارًا مطاطيًّا واحدًا لسيارة!

والسؤال الذي يُطرَح في هذه العجالة: متى يتم تحرير أفكار النموِّ من سيطرة السوق التجارية؟ وكيف السبيل إلى تحرير الاتفاقات الدولية من سيطرة الأفكار والمشاريع التجارية؟ الأمثلة على خضوع الاتفاقيات للأغراض التجارية عديدة؛ إلا أن المطالب، من وجهة نظر بيئية وتنموية حقيقية، تنطبق أيضًا على مواضيع عدة، من بينها:

-       القضايا الصحية: حيث يصبح المطلب الأساسي من أية شراكة أو مساعدة في هذا القطاع هو دعم مشاريع الرعاية الصحية، ودعم الدول في تمويل برامج إرشادية للمحافظة على الصحة، وليس تسويق مشاريع الاستشفاء، وترك العلاقات والمبادرات للقطاع الخاص ومنتجي الأدوية والتكنولوجيا الطبية وتجارها الذين يبتغون الربح والذين باتوا أصحاب مصلحة في المرض!

-       القضايا الزراعية: حولت الثورة الزراعية التي انطلقت في الغرب، مع استخدام الأدوية والمبيدات والأسمدة الزراعية الكيميائية، المهندسين الزراعيين المتخرجين إلى مروِّجين ومسوِّقين لتلك المنتجات، وحولت المزارعين في البلدان الفقيرة إلى مستدينين دائمين، مكشوفين، من دون أيِّ دعم وإرشاد أو رعاية. وامتلأت المنتجات الزراعية بالمبيدات السامة، لتأتي الاتفاقيات الجديدة وتستخدم الشروط البيئية بمثابة حواجز جمركية جديدة، بعد تحرير التجارة وفتح الأسواق والحدود، التي لا يستفيد منها إلا أصحاب المال والعلم والتكنولوجيا الحديثة، في وقت بات مطلوبًا دعمُ المزارعين وإرشادهم إلى التمسك بالزراعات التقليدية ومساعدتهم على تسويق المنتجات إلخ. كذلك الأمر فيما يخص مشاريع الري، حيث يتم الترويج لزراعات مروية، مع ما يتطلَّبه ذلك من بناء البحيرات والسدود العالية الكلفة؛ في حين أن المطلوب هو العودة إلى الزراعات البعلية وترشيد استهلاك المياه إلخ.

الأمثلة عديدة في جميع القطاعات التي تدل على توجهات في التنمية التقليدية – هدفها تنمية الرأسمال المادي فقط – والتي تحتاج إلى مراجعة عميقة شاملة، بدلاً من متابعة تعميمها. ويُفترَض أن يكون هذا الموضوع على رأس جدول أعمال شراكة حقيقية.

*** *** ***

عن السفير، 5/12/2003

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود