الذات المفكِّرة

بين الهويَّة التراثيَّة والهويَّة الكونيَّة

مروة كريدية[*]

 

لقد أضحت مسألةُ الموروث الثقافي والأصالة والتراث عملةً رائجة في سوق المثقفين و«موضة» دارجة في المنتديات واللقاءات الفكرية والثقافية كلِّها! ويكفي أن نلتفت قليلاً إلى الوراء حتى يتبين لنا حجمُ ما شهدتْه الحقبةُ الفائتة من الطروحات والأطروحات في «الفكر العربي» – بمستوياته كلِّها، على مختلف الأصعدة والطبقات الفكرية والفلسفية، وبالأبعاد والاحتياجات كلِّها – تمثلتْ في عدد هائل من المؤتمرات والندوات التي عُقِدَتْ حول إشكالية الموروث والعلاقة التي يجب أن تربط الأمَّة العربية بماضيها وبموروثها الثقافي. هذه الطروحات تناولت القضايا الجوهرية الأساسية في خصائص الجماعات والأفراد ومحدِّداتها. ولعل من أهم هذه القضايا ما يتعلق بـ«الهوية» و«التجذر التاريخي» و«التراث» و«العمق الحضاري»، وبكلِّ ما يتصل بهذه الموضوعات وبالمصطلحات المنبثقة عنها، كالأصالة والخصوصية، وفَرْز «الأصيل» من «الدخيل»، والأمة والوحدة والعالمية.

إن هذا التوجُّه، من دون شك، يلهب مشاعر الفرد العربي في شكل عام، ويؤجِّج إحساسَه، الذي يصطنع، من خلال مفهوم «الأمة» المتخيَّل في ذهنه وعقليته، أنموذجًا مثاليًّا يرى فيه صورة «البطل» و«القائد». وهذه الصورة المتخيَّلة ترضي «نرجسية الأمة» وتضخِّم «الأنا العربي».

والذي يُراجِع التاريخ يكتشف دونما جهد أن الأمم والشعوب تزداد انشغالاً بتاريخها وماضيها حين يكون حاضرُها مأزومًا ومؤشراتُ أسهمها الحضارية في هبوط. وهذا قد أشار إليه العديدُ من مفكري العصر الحالي والفلاسفة عِبْر التاريخ، ولا يحتاج إلى الأدلة والبراهين للتدليل عليه. فالأزمات الكبرى التي تطال «أنا» الإنسان الحاضر تدفع به تلقائيًّا إلى البحث عن «الأنا» الماضي بالغوص والبحث عن مسوغاتٍ تاريخية تعيد لذاته المتصدِّعة اعتبارَها من جديد، عِبْر اجترار الماضي «المجيد»! من هنا فإن الخطاب العربي بعد العام 1967 شهد انشغالاً واسعًا وعميقًا بالإرث الفكري والعَقَدي.

وقد طُرِحَتْ هذه القضايا والموضوعات طرحًا عميقًا أحيانًا في ظل تشابُك قويٍّ بين عناصرها في مواجهة ما يُسمَّى بـ«الغرب». وكان طرحُها أشبه ما يكون بردة فعل عكسية لذات متصدِّعة تخشى على كينونتها وصيرورتها، تريد مواجهة «الآخر» خوفًا على «الأنا»، باحثةً عن معزِّزات «الذات»، ناعتةً «الآخر» بأوصاف شتى، مصوِّرةً أفعالَه بالمصطلحات التي راجت كافة، ومنها: «الغزو الفكري والثقافي» تارة، و«الهجوم الإعلامي» تارة أخرى، «الحرب النفسية» طورًا، و«العولمة» طورًا آخر، طارحةً مصطلحات مقابلة، كالأصالة والهوية والخصوصية.

وكانت الإواليات الدفاعية تتخذ، في معظم الأحيان، بُعدًا نضاليًّا وجهاديًّا. وهكذا بدأ المفكرون – الإسلاميون منهم خصوصًا – باستجلاب التاريخ النضالي واستنفار المخزون العَقَدي الذي يؤصِّل لـ«الجهاد» ومفاهيمه و«النضال» ورموزه، وطُرِحَتْ قضايا «دار الحرب» و«دار الإسلام» من جديد، وبات يُصوَّر للشعوب أن هناك «مؤامرة» مدبَّرة يحوكها هذا «الآخر»! ونتيجة لذلك كلِّه، تضخَّم الوعي بالذات الجماعية، وباتت طروحات التراث وتملُّكه سيدة الموقف، تحسبًا من مستقبل غامض من العلاقات مع الحضارات والجماعات الأخرى.

وبعدما ازداد المشهد الإقليمي والدولي تعقيدًا، خصوصًا بعد أحداث 11 أيلول/سپتمبر، خرج هؤلاء «المفكرون» أنفسهم لتبرئة هذا «التراث» من المفاهيم التي طالما حاولوا تثبيتها، فعادوا عن موقفهم السابق، وحاولوا استخراج تراث مضادٍّ للتراث الذي سبق لهم أن استخرجوه، خوفًا من نعتهم بـ«الإرهاب»، في محاولة منهم لتأصيل المفاهيم من جديد بما يتلاءم مع المتغيرات السياسية، وانكبُّوا ينقبون في التراث عن مفاهيم «السلام» ومشتقاته ويُبرِزونها! هذا الكر والفر كلُّه لا يتعدى كونه رداتِ فعل انفعالية على هزائم متلاحقة، أفرزتْ تخبطًا في المنظومة الفكرية عند المثقفين، ولاسيما «النضاليين» منهم.

ويزداد المشهد السياسي الحالي تعقيدًا على الساحة العربية – العراقية تحديدًا – ليعيد طرح المفاهيم «الجهادية» من جديد، بحيث نجد أنفسنا الآن أمام مفارقات غريبة، خصوصًا على الصعيد التاريخي. فالإنسان العربي، على العموم، والعراقيون، على الخصوص، – بمسلميهم ومسيحييهم ويهودهم، وبإثنياتهم وأعراقهم كافة، – يبحثون عن «هويتهم» ويفتشون عنها في إطار عرقي ديني طائفي، وحتى مذهبي، يغرِّبهم ويعزلهم، عوضًا عن السعي إلى فهم هويتهم في ضوء الوحدة الحضارية التي يشكِّلون – هذا مع وجود مَن يدعو إلى نبذ ذلك كله ورفع الوطنية فوق كلِّ اعتبار. غير أن الدعاة الحقيقيين إلى ذلك لا يشكِّلون نسبةً يُعتَد بها لتقود الشعب إلى برِّ الآمان.

هذا المشهد الپانورامي الفكري المأزوم يضعنا أمام إشكالية حقيقية مطروحة وسؤال ملحٍّ مفاده: هل من «مؤامرة» فكرية حقيقية تحوكها حضارةٌ ما في مواجهة الحضارات الأخرى، من شأنها أن تطوح بنا إلى مستقبل غامض من العلاقات مع الحضارات والجماعات؟ أم أن هناك عاملاً تاريخيًّا وتطورًا في الحضارات الكونية يفرض نمطًا علائقيًّا جديدًا؟ – علاقة جديدة بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والمكان والزمان، علاقة جديدة بين الموجودات والكائنات، علاقة جديدة بين هذه الكائنات والوجود، من شأنها تغيير المفاهيم والمقاييس والمفردات والأدوات.

إن جميع المقدمات التي أشرنا إليها تضعنا أمام أطروحة «التراث يؤكد الهوية» – هوية لكيان واحد – وتؤكد أن وحدتها العضوية هذه متأصلة في التاريخ والعمق التراثي والحضاري. ولكن ربط الهوية الحالية بالتراث الماضي حصرًا يرمي بنا حاليًّا في مأزق لا يمكن لنا أن نخرج منه إلا إذا تغيرتْ منهجيةُ التفكير وآلياتُه، وذلك عبر تحليل البُعد الأنثروپولوجي والفلسفي لهذا الربط، والبحث عن نظرة مغايرة، يستطيع المثقفُ من خلالها الخروج من هذا المأزق، نظرةٍ مناطها أن حديثنا عن التراث لا بدَّ أن يكون مبنيًّا على فلسفة معينة لمفهوم الهوية وعلى تعريف دقيق لمحتوى المصطلح. فالنظرة إلى التراث قد تقوم على فلسفة للهوية قائمة على رفض الآخر، أو تكون مرتبطة بفلسفة للهوية تؤدي إلى إغناء التراث وتعدُّده:

1.     النظرة الأولى تعتبر «الآخر» طرفًا مقابلاً منفصلاً عن «الذات»، وبالتالي تقذف به خارجًا وتنفيه وتحاربه؛ وهذا سيؤدي حتمًا إلى انغلاق «الذات»: تعمد كل إثنية إلى ترسيخ «هويتها» وتزكية تراثها وموروثها بالقدسية، فتظهر «الهوية» في شكلها الخالد، بحيث تغدو عمليةُ إلغاء «الآخر» لحظةَ بناءٍ حاسمةً في هذه الهوية.

2.     النظرة الثانية تنبني على الانطلاق من مفهوم أنه لا وجود لـ«أنا» و«هو» في معزل أحدهما عن الآخر: فكرةُ الذات مقابل ذات أخرى تتعارض معها غير موجودة، والآخر هو أنا، والذات قابلة للتغيير والتبديل؛ وبناءً عليه، فإن الحضارة الأخرى والمفاهيم والإيديولوجيات كلَّها، وكلَّ ما يحمل هذا الآخر من مخزون حضاري، يصير من الممكن أن يدخل إلى الذات ويمتزج معها، فيغيِّرها ويطوِّرها (أو لا يطوِّرها). وهنا لا يعود نفيُ الآخر جزءًا من منظومة بناء الهوية، بل يصبح الآخر موجودًا وقائمًا «داخل» الذات ومكوِّنًا أساسيًّا من مكوِّناتها.

ولو أمعنَّا النظر جيدًا، لوجدنا أن النظرة الثانية هي التي تسود حالة ازدهار الأمم: فالحضارات، حين تكون في أوج ازدهارها، تكون في أقصى حالات انفتاحها الفكري والثقافي. وفي هذه الحالة، لا ننعت التفاعل مع الفكر الآخر بـ«الغزو الثقافي» أو بـ«الاستعمار الفكري»، بل نجده «فتحًا فكريًّا»، ونتعامل معه على أنه مكمِّل لنا، فنتماهى معه ونتوحد به، بغضِّ النظر عن اللون أو العِرق، اللغة أو الدين. تصبح الذات كونيةً، لا تُحَد بحدود، ويصبح خطاب الآخر هو حوار الذات، وتصبح التعددية أحد أهم خصائص الهوية – هوية كونية خارج الهويات كلِّها، هوية مركَّبة واسعة، علاقتها بماضيها وحاضرها ومستقبلها مبنية على غنى تعدديٍّ غير محدود، تتجاوز الحدودَ الجغرافية والسياسية كلَّها وجميعَ التقسيمات الدينية والعرقية والمذهبية والإثنية إلخ. وحدها هذه الفلسفة تتيح لنا إنتاج أدوات للتغيير واستراتيجية منفتحة للإبداع.

أمام هذا الطرح، لا يوجد «فكر مقاوم» مقابل «غزو فكري»، ولا «أصالة» مقابل «عَمالة فكرية» – لا توجد «ثقافات»، بل ثقافة إنسانية عالمية بلا تيارات. وتصبح العملية الدائرة ضمن الهوية عملية سلب وإيجاب، إخراج وإدخال؛ فترتمي هذه الهوية في تعددية حضارية كونية لامتناهية، تصنع المستقبل صناعة فكر كوني، ويصبح الإنسان منتميًا إلى منظومة وجودية، متكاملة متناغمة، ترى في الكون المنظومة الأرحب للانتماء، وتقف من كلِّ ما يدور حولها ومعها موقفًا وجوديًّا، مهما كانت اتجاهاتُه الفكرية وانتماءاتُه الإيديولوجية والعَقَدية.

*** *** ***


 

[*] باحثة في الاجتماع والأنثروپولوجيا.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود