|
ذاكـرة
البـاطـن الفصل
السادس عشر: بمثابة خاتمة طائر
الليل يهذي... "...
بالمجرفة تُلملَم الأوراقُ الميتة، أرأيت،
أنا لم أنسَ، بالمجرفة
تُلملَم الأوراقُ الميتة، ومعها
الذكريات ومعها الندم أيضًا..." جاك
بريفير 1 مع هذه "الخاتمة" نكون
وصلنا إلى نهاية هذه "المذكرات" التي شاء
صاحبُها أن يوقفها – وحياتُه لم تنتهِ بعد –
قبل عشرين عامًا من تاريخ اليوم. وهو يعرف أنه، خلال العشرين
عامًا الماضية، حدث له، كما حدث لكم، الكثيرُ
الكثير. لكن ما حدث – وإنْ كان "بعضُهم"
يعرف بعض حيثياته – لم يشأ أن ينقله إليكم
بالتفصيل من خلال هذا المخطوط، إنما... اختار – وهذا شأنه! – أن
يبقى، فيما يتعلق بهذا الماضي القريب، صامتًا،
محدِّق العينين – كالبوم – يتأملكم، ومن
خلالكم، يتأمل أعماق نفسه... محدق العينين، نعم، لأنه لم
يعد في وسعه أن يغلقهما من العجب مما رأى،
ومازال يرى، و... لم يستطع فهمه! لم يستطع فهمه، نعم، حتى هذه
الساعة – هذا الذي هو، في النهاية، عالمه،
كما هو عالمكم أيضًا، هذا العالم الذي حاول،
ومازال يحاول، أن يعيشه معكم بكلِّ عفوية
وصدق، ليجد نفسه، في نهاية المطاف، محبَطًا،
وحيدًا، وحزينًا... فهو مرآتكم في نهاية المطاف،
أيها السادة، ألا تعتقدون ذلك؟! لأن كلاًّ منا
هو، في النهاية، مرآة للآخر؛ وما تعكسه هذه
المرآة أمام ناظرنا كان يمكن – أو لنقل كان
يُفترَض – أن يكون جميلاً حقًّا، ولكنه، حتى
هذه الساعة، مازال، في مجمله، مُخجِلاً إلى
حدٍّ كبير! لأنه كان بودِّه لو استمر في
سرد قصته لكم، بكلِّ تفاصيلها... كان بوده فعلاً
لو استمر يحدثكم عما يعتمل فعلاً في أعماق
نفسه... عن عالمه، عن أسرته، وعمله، وبلده،
وعلاقاته... نعم، كان بوده هذا، صدقوني. لكن
هذا لم يعد في وسعه الآن. كان بوده أن يستمر فيحدثكم
عن كلِّ جميل في حياته قبل كلِّ حزين... عن شقيقته إكرام التي
أحبَّها، وكان دائمًا في حال صراع وصداقة وحب
معها – إكرام التي توفيت ذات ليلة هناك، في
أقاصي الأرض، وحيدةً، إثر نوبة قلبية. كان بوده أن يحدثكم، باكيًا،
عن آخر خلاف بينهما: كيف تفجر، ولماذا، وماذا
كانت انعكاساته، ثم كيف بدأ هذا الخلافُ يزول
وبدأت المياهُ تعود إلى مجاريها. كيف كان
وإياها ينتظران التلاقي ليفضي كل منهما إلى
الآخر بما في دخيلة قلبه من تراكمات حزن وألم.
لكن الحياة لم تشأ هذا اللقاء، فبقي ما في
داخل القلوب دفينًا لم يفصح عن نفسه. كان بوده أن يحدثكم عما حدث
فيما بعد، عن تطور علاقته مع مَن تبقى من أهله،
مع والدته وشقيقته الصغرى... لكنه، وقد استعاد
أنفاسَه اليوم، قرر بأن هذا لا يعنيكم. وأيضًا... كان بوده أن يحدثكم عن
صداقاته، عن قصص حبِّه، عن تطور أفكاره
وقناعاته، عن حياته، كما عاشها في أدق
تفاصيلها، بجوانبها الجميلة التي كان يتمنى،
ككلٍّ منكم، أن تشاركوه فيها، وبجوانبها
الحزينة التي طَغَتْ في النهاية، فجعلتْه
يقرر أن يُبقي ما حصل معه مختبئًا خلف ما أصبح
"قناع" وجهه القاسي، كما عبَّر له ذات
يوم، بكلِّ سذاجة، مَن أحب أكثر من الجميع. لأن ملامح وجوهنا هي "أقنعتنا"
أيها السادة – ألا تعلمون؟! و"قناع"
الوجه، الذي أضحى مخيفًا بنظر بعضهم، بقسوة
الحجر ربما، بقيت تظهر منه بعض الطيبة من خلال
التماع ابتسامة العينين أحيانًا، أو لمن رآه
ذات يوم في لحظة ضعف، من خلال دمعة عابرة. ولكن... وهذا ما يُشعِرُه ببعض
السعادة، فإن ملامح وجهه القاسي لم تخدع
حفيدتيه شام وغزل – ابنتَي لنا – اللتين
مازالتا تتعاملان معه كصديقهما المفضل!
فالبراءة سرعان ما تكتشف نظيرتَها. أما
التشوه، أما القماءة التي تطغى على النفوس،
فتجعلنا لا نرى من الأمور إلا ظاهرها فقط. لهذا تراهما – وأقصد "شامو"
و"غزولة" – في حاجة عفوية إلى حبِّه، كما
هو في حاجة عفوية إلى حبِّهما: فهو، مثلهما، –
وإنْ من وراء قناعه، وعلى الرغم من كبر سنِّه
– في حاجة أيضًا إلى بعض العطف والحنان! والتعبير عن حاجة كهذه أضحى
ثقيلاً وممجوجًا في عالمكم الذي لم يفهمه،
حيث يغلق كلٌّ منكم الباب على نفسه وفي وجه
الآخرين ممَّن أحبوه فعلاً و/أو أحبهم حقيقة. وأتفكر، يا إلهي، أن هذا ما
حدث معي أيضًا في كثير من الأحيان، حينما
أقفلت بابي، بدافع من كبرياء زائفة ليس إلا،
في وجه مَن كان في حاجة إلي. وأتفكر أن كلَّ واحد منَّا،
لأسباب مختلفة تخصه، يصير في النهاية، من حيث
الظاهر، كالوحش الذي – كما تروي الحكاية
الشعبية – يبقى في أمس الحاجة إلى مَن يحبه
حقيقةً، فيخلع عن وجهه قناعَه المشوَّه ويصير
أجمل إنسان في الخليقة! هذا الحب هو – تحديدًا – ما
أصبحنا نفتقد... 2 وأتذكر أني كنت وحيدًا ذات
ليلة في مكتبي، وحيدًا ألملم أشيائي، متهيئًا
للعودة إلى منزلي، عندما قرع جرسُ الباب فجأة،
ذاك الباب الذي سرعان ما فتحته متسائلاً عمن
يكون يا ترى هذا الزائر غير المتوقع،
فوجدتُني أمام زوجتي التي بادرتْني قائلة: -
انظر من
أحضرت لك معي، يا أكرم! وأقهقه ضاحكًا من كلِّ قلبي،
لأن خلفها كان يقف فعلاً، من حيث لم أكن أتوقع،
... سلافا وفاليا! ونتعانق في حرارة ونحن نكاد
نبكي من الفرح! وتتابع منى قائلة: -
كنت أتدرج
وحدي في طريق الصالحية أتساءل: هل سأمر على
المكتب لنعود معًا إلى المنزل، عندما سمعت
خلفي صوتًا ضاحكًا يقول بالروسية: "انظري،
يا فاليا، انظري... إنها موني [أي منى كما كانوا
يسمونها]." فنظرت خلفي لأجد فالنتينا
وسلافا! -
كم نحن
سعيدان لأننا التقينا بكما، يا أكرم! نحن في
دمشق منذ شهر، وقد وقعت عقدًا لمدة عام مع "شركة
الدراسات"، حيث كنت تعمل أنت، كما قيل لي.
وأنا أسكن حاليًّا مع فاليا في منزل استأجروه
لنا في "مشروع دمَّر". ونضحك مرة أخرى. وأجيبه: -
إذًا نحن
جيران، يا سلافا، جيران، كما كنَّا... -
نعم، يا
أكرم، نحن جيران من جديد! وهكذا عشنا خلال العام 1996،
الذي كنت أعمل إبانه مع شركة "أنسالدو"
الإيطالية وكان سلافا يعمل مع "شركة
الدراسات"، تفاعلات صداقة عادت لتتجسد على
أرض الواقع بعد طول ابتعاد. -
ما رأيك بما
حدث عندكم، يا سلافا؟ ما رأيك بانهيار النظام
الشيوعي في بلدكم؟ -
إنه مؤسف،
يا أكرم، مؤسف حقًّا ما حدث، وإن كان يجب أن
نتوقعه... لكن، أتعلم؟، لأول مرة في حياتي أجد
نفسي في المعارضة، ولأول مرة أجدني شيوعيًّا
عن حق. -
لكنك "موجيك"
[أي فلاح]، يا سلافا، والـ"موجيك" لا يمكن
له أن ينتظم، خاصة في حزب شيوعي. فيبتسم في حزن ويجيبني: -
أنت على حق،
يا أكرم، فأنا مازلت في أعماقي "موجيك"! ويقرع باب منزلي ذات يوم
جمعة، وأجدني أمامه يقول لي بكلِّ لهفة: -
عليك أن
تأتي معي، يا أكرم، لنلتقي صديقنا محمود
العليوي [سائق رافعة "الآسپم"] الذي
ينتظرنا الآن في مكان عمله في معربا، بعيد جسر
الهامة. -
لنذهب، يا
صديقي... فأنا متشوق إلى رؤية محمود الذي لم
ألتقِ به منذ أن انتهيت من عملي في جسر
الميادين. ونذهب معًا لنلتقي بمحمود
الذي كان بدأ شعره يشيب، محمود الذي رحَّب بنا
بكلِّ حرارة وعرض علينا ما يواجهه من مشكلات
فنية تتعلق بتركيب جوائز الجسر عند المنحني،
تلك المشكلات التي ساعَدَه سلافا على حلِّها
بلا مقابل. وسرعان ما ينتهي العام،
ويعود سلافا وفاليا إلى روسيا، وتنقطع
الأخبارُ من جديد، حتى كان آخر تهاتُف بيننا.
كان ذلك في صيف العام 2000، قبيل شهر من موعد
زواج ابنتي لنا، حين اتصلتُ به هاتفيًّا
لأدعوه وفاليا إلى عرس "ابنتهما": -
بريفييت
["تحية" بالروسية]، يا سلافا... ستتزوج لنا
بعد شهر، وأنا أدعوك مع فاليا إلى عرسها. ومن الطرف الآخر من الخط
يجيبني صوتٌ متهدج، خفيض وحزين: -
لا أستطيع
المجيء، يا أكرم، لا أستطيع، لأن فاليا مريضة
جدًّا، فاليا مريضة! وبكلِّ بلاهة أجيبه: -
لكن حاول،
يا سلافا... حاولا أن تأتيا... فلنا ابنتكما! -
لا أستطيع،
أقول لك آسفًا من كلِّ قلبي، لا نستطيع، لأن
فاليا مريضة جدًّا، يا أكرم، فاليا مريضة
جدًّا... ثم بلغني بعد فترة، عن طريق
صديق قادم من روسيا، أن فاليا توفيت وأن سلافا
جعل من غرفتها "مزارًا"، حيث علَّق على
الجدار صورةً كبيرة لها وأشعل أمامها الشموع! 3 انقطعت عني أخبارُ سلافا. ثم
وصلني، عن طريق الصديق المشترك نفسه، أنه
غادر هذه الفانية، لاحقًا بفاليا إلى حيث هي.
وأتذكر أني بكيت في تلك الليلة، كما مازالت
إلى الآن تدمع عيني كلما فكرت فيهما. نعم، –
وأقولها بلا خجل! – أنا أبكي في صمت كلما
تذكرت هذين الكائنين الرائعين اللذين يؤكدان
مقولة لأراغون مُفادها أن "الحب
موجود وأنا أؤمن به..." ولكن... عندما أتأملكم في ظلمات
الليل، أيها السادة، فإني أسترجع تساؤلاً
للشاعر نفسه يقول: "...
هل هكذا يحيا البشر وقبلاتهم
عن بُعد تلاحقهم؟" لأنكم – وأنا مثلكم ربما –
لم تعيشوا ولم تحترموا كما يجب، و/أو كما كان
ينبغي، قلوبَكم التي هي، في النهاية، أجمل ما
تمتلكون ويميزكم كبشر... لأن قلائل منكم فقط –
قلائل جدًّا، مع الأسف! – هم في عالمنا اللذين
يحترمون حياتَهم ويعيشونها في صدق كامل،
وخاصةً قصص حبهم... لا أقول كروميو وجولييت،
على الرغم من روعة مسرحية شكسپير الخالدة،
وليس كماريا وطوني في قصة الحي الغربي،
المقتبسة عن المسرحية نفسها، إنما بشكل أكثر
عمومية وخصوصية معًا... كالذئب الذي لا مثيل له في
عالم الحيوان الراقي و... كسلافا وفاليا في
عالم البشر. وأنا أقصد هنا ذلك الحب
الصادق والوحيد – نعم، الوحيد الوحيد الوحيد!
– والمعبِّر والبسيط... أقصد ذلك الحب الحقيقي،
بكلِّ جوانبه الجسدية والنفسية والروحية، لا
أكثر ولا أقل! لأننا، في غالبيتنا، تبعنا،
ومازلنا نتبع، غرائزَنا، إنْ لم نكن ننقاد
وراء أكثرها انحطاطًا، فأسأنا إلى أجمل ما في
نفوسنا، وعن دراية أو من دون أن ندري، أسأنا،
ومازلنا نسيء، إلى الآخرين. وأتساءل: لماذا هي الحال
هكذا؟ – محاولاً تبرير هذا الانحطاط بضعف
طبيعتنا البشرية. وأتساءل من جديد، كأراغون
الذي عاش أيضًا، كسلافا وفاليا، قصةَ حبٍّ
رائعة – أتساءل، وأنا أتأمل نفسي وأتأملكم عن
قرب في ظلام الليل: "...
هل هكذا [يجب
أن] يحيا البشر وقبلاتهم
عن بُعد تلاحقهم؟" والجواب هو قطعًا: لا، ليس
هكذا يُفترَض في البشر أن يحيوا! لهذا تراني أختتم قصتي –
كما لا أرجو أن تختتموا قصصكم – وحيدًا
ومحبطًا وحزينًا... 4 لأني وحيد وحزين، كما هي
الآن تلك التي لم أتجرأ أن أبادلها الحب وحيدةٌ
وحزينةٌ في الطرف الآخر من المعمورة، حيث
يجتر كلٌّ منَّا ذكرياتِه. أو لنقل، هذا ما
حدثني به ذات يوم أحد الأصدقاء، حين قال لي
مرةً في لحظة صفاء: -
اجلس قليلاً،
يا صديقي، اجلس، لأحدثك بهذه القصة، قصتي مع
ليلى... التي كانت معنا في الجامعة... هل
تتذكرها؟ -
كنت على وشك
التخرج، وكانت هي في سنتها الجامعية الأولى،
حين التقيت بها لأول مرة في مكتبة الكلِّية،
فبهرني جمالُها، ونظرت إليها في إعجاب،
فالتقت نظراتُنا، وابتسمت، ثم أشاحت بناظرها
عني. -
ثم ماذا؟ -
لا أعرف...
لم أتجرأ – ربما لجمالها، أو لغبائي على
الأغلب! – على الاقتراب منها لأكلِّمها
مباشرة... لم
أتجرأ طوال ذلك العام... ثم تخرجت، وابتعدت عن
البلد لضرورات العمل. لكني كنت أتابع، خَجِلاً،
أخبارَها عن طريق بعض الأصدقاء، فأعلم منهم –
والأيام تمر – أنها تخرجت وأنها أصبحت تعمل
في إحدى مؤسسات الدولة، لا بل إنها – ولست
أدري لماذا وما الذي جذبها يومذاك إلى هذا
الحزب اللعين – أصبحت من "جماعتنا".
وأتذكر أني خلال تلك الفترة تزوجت. وأتذكر
أيضًا أني... كنت
ألتقي بها أحيانًا مصادفةً في الطريق وحيدة (فمنزلها،
كما اكتشفت فيما بعد، كان يقع قرب منزلي)، وفي
كلِّ مرة كانت نظراتنا تلتقي، فيحدق كلٌّ منا
في الآخر بإمعان، وكالعادة، لا نتجرأ حتى على
تبادُل السلام. ولكني، على الرغم من هذا، بقيت
– وبلهفة – أتتبع أخبارها... ثم
علمت أنها، مثلنا، تركت "الجماعة"،
وأنها عاشت حياة حزينة، وأنها فقدت شقيقتها
التي توفيت في أثناء الولادة، فبقيت ترعى طفل
شقيقتها، وأنها، أخيرًا، تركت البلد وهاجرت
إلى كندا. ثم
كان العام الماضي، حين عادت إلى البلد
لتصفِّي أعمالها وتغادر، نهائيًّا هذه المرة.
وتشاء المصادفة أن نلتقي هذه المرة لقاءً
مباشرًا. وتشاء المصادفة أيضًا أن نتحادث،
لأول مرة منذ 40 عامًا، حديثًا مباشرًا
وشخصيًّا، أي وحدنا، نعم وحدنا ووجهًا لوجه.
وهنا كانت المفاجأة، يا إلهي، ... -
... أنك
اكتشفت بأنك كنت تحبها؟ -
لا... أني
اكتشفت بأنها كانت تحبني كما كنت أحبها،
وأنها كانت تتابع أخباري عن بُعد، وبالتفصيل،
مثلما كنت أنا أتابع أخبارها... لذلك، بربك، أجبني: "...
هل هكذا [أجل،
هل هكذا] يحيا البشر وقبلاتهم
عن بعد تلاحقهم؟" وأتفكر، وأنا أتأملكم بعينيَّ
المحدِّقتين، لماذا يفشل معظمنا في حياته؟
لماذا تكون محصلةُ هذه الحياة سلبيةً في
معظمها بالنسبة لغالبيتنا، سواء على الصعيد
الشخصي أم في شكل عام... وأجيب: لأننا، ربما،
نقمع أجمل ما في قلوبنا، لأننا نفتقر إلى
الكثير من الصدق، أيها السادة... 5 لأننا نفتقر خاصةً إلى ذلك
الحب الصادق الوحيد والوفي والمستمر... لأنك – وأقولها جازمًا
ومتألمًا – لا تعرف ما هو الحب، يا صديقي... لا
تعرف منه إلا قشوره وارتعاشاته، ولا تدرك منه
خاصة ما يولِّده – ككمون وكواقع – من مسؤولية
تجاه نفسك وتجاه الآخرين. فهذه المسؤولية –
تحديدًا – هي التي مازلتَ، إلى الآن، تخافها
وتتهرب منها وتحاربها في شراسة. وكل ما أرجوه
هو ألا تتعرف إليه مثلي بعد فوات الأوان، لأنك
بهذا، إن لم تخسر نفسك، تكون قد خسرت أجمل ما
في حياتك. وأتوقف هنا قليلاً... لأن معظمنا لم يدرك بعد
ماهية العلاقة بين الحب وبين المسؤولية.
وأتذكر مقارنًا، متفكرًا في سلافا وفاليا و...
في صديقي الآخر هـ...، رحمتهم الآلهة جميعًا! فسلافا كان طوال حياته
صادقًا مع نفسه ومحبًّا. كان محبًّا لأرضه
ولناسه، وبالتالي، مسؤولاً تجاههم. ومن خلال
هذه الحياة الصادقة أحبَّ – لا بل عَبَدَ –
تلك المرأة الوحيدة – "الملكة" – التي
ملأت حياتَه كما ملأ هو حياتَها، فكان من
أجلها، ومعها، مسؤولاً عن كلِّ شيء، يحاول
دائمًا تقديم أجمل ما عنده وأفضله لها ولكلِّ
مَن حوله. لذلك لم يفكر سلافا يومًا في خيانة
فاليا، لذلك لم تجذبه أية امرأة سواها، مهما
كانت بالغة الجمال (خاصةً أن سلافا كان جميلاً
جدًّا وجذابًا كالإله!). لذلك كان يسعى دائمًا،
تجاه نفسه وتجاهها، لأن يكون، بكلِّ عفوية
وكإنسان، أفضل وأفضل وأفضل، أجمل وأجمل وأجمل
– تمامًا كما كانت هي معه، تجاهه وتجاه
الآخرين. وأتفكر في صديقي هـ... الذي،
ربما، بحكم وسطه التقليدي، لم يستطع أن يعيش
حبًّا كهذا، فكان زواجُه كلاسيكيًّا. لكنه
كان أيضًا، بحكم قلبه الكبير الطاهر وبحكم
حبِّه وإنسانيته اللامتناهية، مسؤولاً
دائمًا عن كلِّ مَن حوله لا يتهاون، يقدم لهم
دائمًا المثال الصالح وأجمل ما عنده. لكن ما
ينقصه كانت حتمًا "فالياه" الخاصة. وهذا
النقص كان فادحًا، فانعكس في النهاية على
شخصه، في تلك الحدة والقسوة الظاهرة، أو لنقل،
في ذلك الوجه–القناع الذي كان يبدو قاسيًا
كالحجر، وإنْ كان يخفي وراءه قلبًا في منتهى
الرقة ونفسًا في منتهى الجمال والحساسية. وأتفكر بنا، أتفكر بنفسي،
أتفكر بكم، أيها السادة... لأني اليوم فهمت، في
النهاية، أن الحب هو أن نقدِّم حياتنا لإسعاد
مَن حولنا... من أجل ابتسامتهم، فقط من
أجل ابتسامتهم، كما عبَّرتَ لي ذات يوم، يا
صديقي. وأشعر برغبة في ... البكاء! 6 ليس فقط لأننا لم نعرف الحبَّ
كما يجب، إنما أيضًا لأننا، كبشر في هذا
العالم، وفي هذه الرقعة منه تحديدًا، لم نعرف
كيف نحافظ على أجمل ما كان يميزنا كبلد: أقصد
ذلك التنوع وتلك المثالية التي تمخضت عن ثلاث
ديانات إنسانية عظيمة، فلم نعرف كيف نحافظ
على مثاليات هذه الديانات وقيمها، وتمسَّكنا
بتوافهها وقشورها، فوصلنا إلى ما وصلنا إليه
اليوم من انحطاط جَعَلنا نقيم للألوهة
أحزابًا مسلحة ونستخدم اسمَها للقتل، لتسويغ
القتل، ولتفريغ أحط ما في نفوسنا... لأننا لم نعرف حتى كيف نحافظ
على قيم رجالات استقلالنا الأوائل
ومثالياتهم، فقضينا على ديموقراطياتنا
الناشئة، مستبدلين بها مساخر حكومات ودول
باسم ما كنا نعتقده ونؤمن به من مثاليات وقيم.
أصبحنا اليوم، وقد يئسنا من أيِّ تغير إيجابي
ممكن على الأرض، نبرِّر للحثالات التي تحكمنا
جميع تجاوزاتها وجرائمها، التي هي، مع الأسف،
خياناتنا وجرائمنا نحن أيضًا، لأن هؤلاء منا
ولأننا لا نختلف عنهم كثيرًا من حيث العمق، يا
أيها السادة! وأشعر برغبة في البكاء حين
أتفكر بأن أولادي، وقد كبروا وأصبح عندهم
أولاد، لم يعرفوا خلال حياتهم إلاَّ هؤلاء
"القادة الملهَمين"... لأننا في الحقيقة تخلينا عن
أحلامنا، يا إخوتي، لأننا تخلينا فعلاً عن
أحلامنا! وكيف لم نتخلَّ عنها، كشعب
وكبلد، وقد أمسينا لا نتذكر حتى عظمة أولئك
الذين كانوا يتخلون عن مناصبهم طوعًا من أجل
مبادئهم، أولئك الذين في أيامهم لم يكن
لرئاسة الدولة ولا لرئاسة الوزارة إلا سيارة
واحدة فقط تبيت ليلاً في المرآب! لأن أولادي يبتسمون اليوم
حين أحدثهم عن عظمة إنسان كان اسمه شكري
القوتلي وعن مثالية ابن عائلة أرستقراطية –
وشيوعيٍّ مثالي – كان يدعى خالد العظم... ولأني أشعر بالخجل منكم...
ومن نفسي... يا إخوتي... ولكن... 7 أشعر أحيانًا ببعض الأمل
وببعض الرجاء... حين أتذكر أيام "الجمعية
الكونية السورية" ومحاضراتنا فيها، حين
أتذكر أولئك الشباب الطيبين الذين تعرفت
إليهم عن طريقها ومن خلالها... أشعر ببعض الأمل
وببعض الرجاء، لأن هذه الجمعية مازالت قائمةً
إلى الآن بفضل صديقينا الحبيبين فايز وموسى،
فلم تنهَرْ ومازالت صامدة – إلى جانبنا... نعم، إلى جانبنا، نحن الذين
تركناها ذات يوم وأنشأنا موقع معابر
الإنساني والفكري والفلسفي... أولئك الذين،
مثلي، كانوا ذات يوم منها، فاستمروا في ذلك
المسار الآخر الموازي والمكمل... ديمتري، يا
صديقي الحبيب، ما أجملك! وأتفكر كيف عملنا معًا،
وحافظنا معًا على هذه المجلة التي أضحت اليوم
من المواقع الهامة على الإنترنت... لأننا خاصةً
– وهذا هو الأهم – تعرفنا من خلالها على
أولئك القادمين من آفاق مختلفة، ممن انضموا
إلينا وأضحوا يعملون معنا: أميمة... أميرة...
هفال... عبد الجليل... وخاصة منهم دارين،
الإنسانة والصديقة الوفية، التي أصبحت اليوم
أحد "أعمدة" موقعنا. وفي النهاية، أستودعكم
الآلهة، أيها الأخوة. محبط أنا، نعم... بشكل عام...
ولكن عينيَّ هاهنا تبتسمان، لأني مازلت، كما
مازال بعضنا – بعضكم – يحمل في قلبه نورَ
حلمه بعالم أجمل وببشر أكثر إنسانية... وفي هذا الحلم يتجسد الأمل... ***
*** ***
|
|
|