|
العلمانية والواقع العربي
في فكرنا العربي الحديث ثمة مفاهيم مظلومة، أصابها سوء الفهم فظلمت، أو حسن الفهم فظلمت، أو أصابها عنت معتنقيها أو سذاجتهم فلم تسلم من الظلم. من هذه المفاهيم مفهوم العلمانية، الذي سنحرص على مناقشته وفق مقتضياته الراهنة والمحلية، تجنبًا للضياع في متاهات التأريخ والتعريفات، فما من تعريف جامع مانع، وما من تعريف عابر للزمان والمكان، وخاصة في القضايا الاجتماعية والسياسية والتربوية ومنها العلمانية التي هي كغيرها من المفاهيم، تفقد إيجابياتها وتتحول إلى خلاف ما يريده دعاتها، إذا لم تكتس ألوان البيئة والظرف، أي إذا انطلق رافعو راياتها من المفاهيم المجردة والتعريفات الأكاديمية التي أطلقت عليها حيث ولدت، فأطّرتها في عبارات تجمع بين خصائص المفهوم المجرد والروح الذي أكسبته إياه شروط الزمان والمكان الأوروبيين. ولعل هذا هو أحد مكمني الإشكال في علمانية العرب في العصر الحديث. فثمة مكمن آخر جعل هذا الإشكال يتفاقم، وهو أن العلمانية التي نقلها ودعا إليها المفكرون الليبراليون والقوميون واليساريون العرب منذ نهايات القرن التاسع عشر وحتى أواسط القرن العشرين، نزلت منزلاً غير مؤات لها. فلا العلاقات الاقتصادية والاجتماعية تحتملها، ولا العقلية السائدة - وهي عقلية تفردية وعشائرية - تستطيع استيعابها واستلهام مبادئها وقيمها، ولا حاملوها قادرون على التحلي الحقيقي بهذه القيم والمبادئ وتحقيق المطابقة بين القول والسلوك. هذان مكمني الإشكال في علمانية العرب، وفي كل منهما، وفيهما معًا. يمكن أن نتلمّس أهم أسباب المآل المأساوي الذي آلت إليه دعوات المنورين والنهوضيين العرب إلى العقلانية والعلمانية والديمقراطية، هذه الدعوات التي لم تتجاوز - إلا قليلاً - حدود النخب الثقافية السياسية، ولم تتحول إلى أفكار واسعة الانتشار تؤثر في سلوك الناس، وتكوّن تيارًا قادرًا على الوقوف في وجه الظلامية والرجعية فكرًا وعلاقات وبنى اجتماعية. ولعل هذا يفسر قولي، في البداية، إن العلمانية ظلمت عندنا. فقد ظلمها سوء الفهم من جهة، لأن الكثيرين من متوسطي الثقافة والمعرفة، وجمهور الناس الأوسع، ألصقوا بها الكثير مما لا يدخل في صلبها ولا يشكل روحها الحي، فاعتقدوا أنها الحاد ينكر الله ويتنكّر للأديان. وظلمها حسن الفهم، فقد أدرك من يتضررون منها، أي أصحاب النفوذ في مجتمع العلاقات الإقطاعية والتقسيمات العشائرية والعائلية والطائفية، الذين جعلتهم هذه العلاقات زعماء راسخين يتوارثون الزعامة توارث الأملاك الشخصية، أدركوا العلمانية على حقيقتها، بوصفها خلاصًا للمجتمع من ذلك الإرث المتخلّف، وكسرًا للتقاليد، وتجاوزًا للعشيرة والطائفة، وصولاً إلى التساوي أمام القانون، وإلغاء كل أشكال التمييز غير الناجم عن الكفاءات؛ فالتقى حسن الفهم وسوء الفهم على محاربة هذا الضيف الوافد. قلت: وظلمها معتنقوها أيضًا، لأنهم شوهوها تشويهًا "فظًا". فتحت راياتها قامت أنظمة قمعية، وفي ظل شعاراتها جرى إضعاف الحراك السياسي في المجتمعات العربية، وانتشرت الأحادية في الفكر والسياسة والحياة الحزبية، وانصرف الناس عن السياسة إلى ضفاف أخرى، بعضها عدمي، وأكثرها تقليدي، أي إنهم عادوا إلى التذرع بالعشيرة أو الطائفة أو العائلة. إن ساحة النشاط الاجتماعي لا تقبل الفراغ، وحين يضعف المتنفذون السياسة ويبعدون الناس عنها ويلغون التنوع الحزبي ويمنعون المعارضة من العمل، بل من الوجود العلني، فإنهم يحدثون فراغًا لا تملؤه إلا الانتماءات العشائرية والطائفية. وهذا ما حدث في ظلال الأنظمة التي أخذت الشكل العلماني. هذا شكل من أشكال ظلم العلمانية من قبل دعاتها، أما الشكل الثاني فهو أنهم ظلموها حين تداخلت مع بناهم الفكرية الهشة، فصارت علمانية سطحية مسكونة بالتخلف والتعصب للرأي ورفض الآخر وقمع المخالفين لإرادة قادة الأحزاب والمؤسسات والحكومات، وتسخير المنابر الإعلامية لرأي دون آخر. من هنا تنبثق ضرورة البحث في تحديد مفاهيم وصيغ عربية للعلمانية، أو مفاهيم وصيغ قطرية تراعي خصوصيات كل دولة، فالخطاب العلماني لا يصل إلى الوضوح ويتخلص من اللبس إلا إذا استوعب واقع المجتمع المحلي والمرحلة الزمنية التي نعيش. وإنني، وقد أتيح لي أن أسهم في الحوار حول هذه المسألة، سأطرح وجهات نظر وأفكار سبق أن طُرح الكثير منها في مقالات وأبحاث وندوات، وسأقدمها عبر نقاط محددة. 1 - من المفيد مناقشة الفكرة التي يطرحها الكثيرون من رافضي العلمانية حين يقولون إن مجتمعنا أو مجتمعاتنا العربية غير مؤهلة لقبولها. ففي تجارب العرب السياسية والفكرية في القرن العشرين ملامح فكرية وممارسات سياسية اتسمت بالعلمانية، اذكر منها على سبيل المثال، الشعار الذي طرح في الفكر السياسي العربي في مراحل النضال ضد الاحتلال العثماني والاستعمار الغربي ومراحل البناء الوطني بعد الاستقلال، وهو شعار: الدين لله والوطن للجميع. إنه شعار علماني محتواه فصل الدين عن الدولة والسياسة. فحسب منطق هذا الشعار يتساوى الناس في الوطن بوصفهم مواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو المذهبية أو العرقية. أما في مجال الممارسة السياسية بجانبيها، أي ممارسة الحكم وممارسة النشاط الحزبي، فإن هذا الشعار حقق حضورًا، وكان موضع تطبيق إلى حدود بعيدة. نجد ذلك في البؤر العربية الأكثر تطورًا في ذلك الحين، أي في مصر وبلاد الشام والعراق. فالحكومات لم تكن تفرق بين الناس على أساس ديني أو عرقي، وما عدا رأس الدولة، المسلم حتمًا، كان المجال مفتوحًا للعاملين في الشأن العام على قدر كفاءاتهم وقناعة الناس والنخب السياسية بهم، ليحتلوا المواقع الحساسة والعليا دون النظر إلى المذهب أو القومية. وتجاوزت الأحزاب الوطنية حدود الطوائف تجاوزًا واضحًا، فكنت تجد في الأحزاب قياديين ينحدرون من مختلف الطوائف، تجمعهم برامج سياسية، وتتصارع الأحزاب على رؤى ومواقف وأفكار لا علاقة لها بالانتماء المذهبي. لقد وجدت الملامح العلمانية في مجتمعاتنا العربية وتنامت مع التطور الفكري والسياسي منذ أوائل القرن العشرين. وجدت على مستوى الفكر والثقافة، وعلى مستوى الممارسة السياسية، واستمر حضورها وتناميها عقودًا. وتراجعت بفعل عوامل عديدة قد نذكر بعضًا منها في سياق الحديث. 2 - من المفيد تأكيد حاجة المجتمعات العربية ومجتمعنا السوري خاصة، إلى العلمانية، لأن مجتمعنا متعدد من حيث انتماءات أبنائه الدينية والمذهبية والقومية والعشائرية والحزبية. ولا طريق لضمان علاقات وطنية سليمة بين هذه الانتماءات سوى العلمانية إذ لا يجوز لأكثرية دينية أو مذهبية أو قومية أن تفرض أفكارها وأغراضها على المجتمع، فذلك يعني فرضها على من لا يؤمنون بها، وهذا مخالف لحرية الإنسان في الاعتقاد. إن العلمانية، وهي تقوم على جملة ما تقوم عليه، على تأكيد الهوية الوطنية والانتماء إلى الوطن، وتترك الانتماءات الأخرى لأصحابها الذين يتفاوتون من حيث تمسكهم بها، وينبغي أن يكونوا أحرارًا في التعبير عن انتمائهم إليها أو عدم انتمائهم. وهذا يعني أن الحاجة إلى العلمانية تصبح أكثر إلحاحًا كلما ازداد التنوع في المجتمع، ويعني أيضًا إن الطريق الصحيح لتجنب التعسف بين فئات المجتمع هو انتشار العقلية العلمانية في الفكر والثقافة، وبناء القوانين والتشريعات على أساس تساوي أبناء الشعب في الحقوق والواجبات، وضمان الحرية الشخصية للمواطن في اختيار شكل حياته دون إكراه اجتماعي أو قانوني. 3 - إن أساس العلمانية النظري هو الانطلاق من أن الإنسان الفرد، بوصفه ذاتًا حرة، أساس التكون الاجتماعي، وغرض الثقافة والسياسة. ويعني هذا أن الانتماء الأكثر أهمية، من وجهة نظر العلمانية، هو الانتماء الإنساني. وهذا الانتماء متحقق لدى كل إنسان قبل أي انتماء آخر. يوصل هذا المنطلق في النظر للإنسان إلى أن كل تمييز يأتي على أساس الانتماءات اللاحقة للانتماء الإنساني هو تمييز مخالف لطبيعة الإنسان. ولا تظنّنّ أن هذه الفكرة تؤدي إلى إلغاء التنوع والتعدد، فالتعدد سمة الكون طبيعة بشريًا وفكريًا وثقافيًا. وفي مجال البشر، فإن الناس أجناس وألوان، وهم يتشعبون إلى أمم وأقوام، ويعتنقون ما تعدد من أديان وثقافات وأفكار، لكن هذا التنوع لاحق كله، وإن جاء بعضه مع ولادة الفرد، كالجنس واللون والقومية، فحتى هذه هي انتماءات لاحقة، لأن الانتماء الإنساني هو الجوهر والأصل والقيمة الأولى التي تجمع بين الانتماءات الطبيعية والاختيارية، الانتماء الإنساني عام وشامل، والأخرى خاصة وجزئية، والعام هو الأصل. هل في قولنا: العام هو الأصل، مناقضة لقولنا السابق: الانطلاق من الإنسان الفرد بوصفه ذاتًا؟ لا، فالانطلاق من الإنسان الفرد يأتي من كونه يحمل خصائص العام، أي جوهر الإنسان. فتمجيد الإنسان الفرد وجعله غاية، يقوم على عدم التمييز بين الناس على أساس أي انتماء ضيق. أي يقوم على الانطلاق من أن الفرد إنسان قبل أن يكون صاحب مذهب ديني أو سياسي أو انتماء قومي أو قبلي أو غير ذلك. فأساس الفردية هنا هو الانتماء الإنساني، أي الانتماء العام. 4 - إن العلمانية هي السبيل الوحيد لتحقيق مبدأ الموطنة. ولا صحة لأي ادعاء بوجود مواطنة حقيقية بغيرها. فإذا كان مبدأ المواطنة يعني تساوي الناس - أي المواطنين - أمام القانون، فإن العلمانية هي التي تجعل القانون ذاته قانون مواطنة لا قانون تمييز. ولتوضيح ذلك يمكن أن نحلل، مثلاً، ما يعرف بالديمقراطية اللبنانية التي تعد، على الصعيد العربي، الأكثر اقترابًا من الديمقراطية في جوانب عديدة كحرية الصحافة والانتخاب والتحزب. يستخدم معظم السياسيين اللبنانيين مصطلحًا "مقحمًا" على الفكر السياسي الديمقراطي الحداثي هو مصطلح (العيش المشترك) وهو مصطلح ينفي المواطنة نفيًا كاملاً، لأنه يعني أن المجتمع مقسم إلى طوائف، وأن ثمة توافقًا بين ما يسمى بالمرجعيات السياسية والروحية لهذه الطوائف على تقاسم المراكز السياسية والإدارية وفق النسب العددية لكل طائفة، وأن على كل طائفة أن تحترم حقوق الطوائف الأخرى في حصصها، والتفاهم تجنبًا لما يعكر صفو هذا العيش المشترك. يستند ذلك ظاهريًا إلى ركائز عصرية، كالانتخاب الحر واستقلال القضاء ونزاهته وحرية الصحافة والأحزاب، لكن هذا كله زائف، فهوية الإنسان المعترف بها سياسيًا وانتخابيًا هي انتماؤه الطائفي، ولا يستطيع من يحسب على طائفة أن يتقدم للانتخاب في دائرة ليس فيها مقعد لطائفته، وقد يفوز شخص ويفشل آخر أفضل منه لأن حصة طائفته استنفدت. يقوم تصنيف الناس على أساس ما قبل المدنية والمواطنة. فالمجتمع ليس مجموعة أفراد متساوين في الحقوق كما تقتضي المواطنة، والمجتمع السياسي ليس مجموعة أحزاب وحركات كما تقتضي الديمقراطية، بل المجتمعان هما مجموعة طوائف ومراجع لهذه الطوائف. هكذا يؤدي غياب العلمانية ومبدئها الأهم أي فصل الدين عن الدولة، إلى غياب المواطنة الحقيقية. 5 - يقودنا هذا إلى تأكيد مبدأ فصل الدين عن الدولة والسياسة، بوصفه النقطة المحورية في العلمانية. وأريد أن أوضح في هذا المجال ثلاثة أمور: الأول: هو أن هذا الفصل لا يحمل إساءة إلى الدين، أي دين كان، بل إنه تنزيه للدين عن ذرائعية السياسة وانغماسها بالتفاصيل والتكتيكات، وحماية لقيمه وسمو أفكاره من حيث التأثر بألاعيب السياسة. الثاني: إن فصل الدين عن الدولة لا يعني فصله عن المجتمع أو التقليل من دوره في حياة الناس الاجتماعية، ولا يعني إضعاف مكانته في منظومة القيم الأخلاقية والسلوكية، وفي صوغ هذه القيم وفق مقتضيات الزمن، فالقيم الإنسانية التي تجعلها الأديان محورًا للنشاط الإنساني، تظل ماثلة في الوجدان الاجتماعي ومرشدًا للسلوك، وهي تتجلى وفق خصائص البيئة المحددة زمانيًا ومكانيًا. إن فصل الدين عن المجتمع غير ممكن، والإنسان الفرد، بوصفه الوحدة الاجتماعية الأولى، هو الذي يحدد علاقته بالشعائر الدينية وأفكار الدين وقيمه بحرية تامة. الثالث: هو أن لفصل الدين عن الدولة عمقًا في تاريخنا العربي، ولم يؤد ذلك إلى إضعاف دور الدين في حياة الإنسان. ولعل الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، وهو المعروف بزهده وتعبده وملازمته القرآن الكريم، كان رائدًا في فصل الدين عن الدولة وفق المفاهيم والتطبيقات الممكنة في ذلك العصر. فقد ذكرت مصادر تاريخية عديدة، منها تاريخ الخلفاء للسيوطي أن (الأمر "أي الخلافة" أفضى إلى عبد الملك والمصحف في حجره، فأطبقه وقال: هذا آخر العهد بك). لم يخرج الخليفة القرآن من حياته ولا من حياة المجتمع، بل أخرجه من أمور السياسة وإدارة البلاد والتصرف حيال التنوع الكبير الذي كان قائمًا في المجتمع زمن الأمويين، ويدخل في هذا الإطار قول السيد المسيح: (ما لقيصر لقيصر وما لله لله). أما عصرنا الحديث فقد عرف الشعار الذي ذكرناه: الدين لله والوطن للجميع. هذه الأمور الثلاثة تؤكد أن فصل الدين عن الدولة ليس غريبًا عن تاريخنا، ولا هو بدعة مستوردة ألهمتها التجربة الأوروبية للمفكرين العرب في عصر النهضة، وما هو بفعل مناف للدين ومقلل من شأنه. 6 - فصل الدين عن التعليم، وذلك مراعاة للاختلاف بين طبيعتيهما. فالعلم، في كل مجالاته، هو نشاط عقلي يقوم على مبادئ الشك والتجربة ومقايسة الفكر بالواقع، وعلى نفي الأفكار التي لا يجد لها العقل سندًا، وعلى الابتعاد عن النظرة التقديسية التسليمية، وعلى البحث الدؤوب عن حقائق جديدة قد تبطل الحقائق المعمول بها. أما الدين فهو ذو طبيعة إيمانية، يفتح الإنسان به روحه وعقله وضميره أمام الله، ويسّلم له أمره، ويغذي وجدانه بالتعاليم والقيم السامية، ويستلهمها في حياته، ويركن إليها في ساعات النقاء الروحي فيحلق معها في عالم الصفاء والتبرؤ والطهر والرجاء، ويغسل نفسه بها من أدران الدنيا، علمًا وصراعات وسياسات ومساعي وراء الكسب والثروة أو سد الرمق. هاتان الطبيعتان المختلفتان تجعلان الفصل بين الدين والعلم أمرًا مفيدًا لكليهما، ولعل طه حسين كان موفقًا كل التوفيق حين قال: اللهم إني أعتقد أن الأرض قد تدور وقد لا تدور، وأنها قد تكون كرة أو سطحًا أو كمثرى، وأن الزمان قد يوجد وقد لا يوجد، وأن المكان قد يوجد وقد لا يوجد، وأن نيوتن قد يصيب وقد يخطئ، وأن إينشتاين قد يحق وقد يبطل. كل هذا ممكن، ولكن هناك لا أحب أن يحتمل أوزار هذا الإمكان وهذا التناقض وهذا التردد، وهو القرآن وغير القرآن من هذه الكتب الدينية. إنّا لنحسن الإحسان كله إذا رفعنا الدين ونصوصه عن اضطراب العلم وتناقضه[1]. 7 - ولعل هذه النقطة تقود إلى ما يتعلق بالممارسة المعزّزة للعقل العلماني، وهي ممارسة مطلوبة على صعيد السياسة والتعليم والإعلام. آ - على صعيد السياسة: ثمة في هذا المجال ما يتعلق بالسلطات السياسية (الحكومات) وما يتعلق بالحركات السياسية (الأحزاب). فعلى صعيد ممارسة السلطة، يمكن أن ندعو على ما يعزّز النزعة العلمانية في المجتمع ويجعل قيمها أمرًا حياتيًا. فإذا كانت الدولة، بمؤسساتها السياسية والأمنية والإدارية، تقوم على فكرة ضبط المجتمع وتنظيم العلاقات سواء بين الأفراد أو بين الجماعات أو بين الناس والدولة، وإذا كان في هذا الضبط نوع من الإكراه أو القمع الذي نجده بنسب متفاوتة في كل الدول، وهو من طبيعة الدولة ومؤسساتها؛ فإن الوجه المقابل هو أن يكون لها دور في حماية حرية المواطن وحقوق الإنسان من خطر التطاول عليها من أية جهة كانت، ومنها مؤسسات الدولة ذاتها، والجهات المجتمعية المتخلفة التي تبيح لنفسها التدخل في شؤون الفرد وحياته الخاصة. إن رعاية حرية الإنسان وحمايتها، وعلى رأسها حق الفرد في التفكير والتعبير عن الرأي وإعلان المعتقد، وحقه في أن يمارس شعائر الدين أو لا يمارسها، وحقه في أن يحدد بنفسه درجة علاقته بالدين وطبيعة هذه العلاقة، وحقه في أن يعارض الحكومة ويناقض توجهاتها بأسلوب قانوني سلمي، وغير ذلك من الحقوق المندرجة في المواطنة. إن رعاية الدولة لهذه الحقوق وحمايتها إياها تسهمان في تعزيز النزوع العلماني لدى الناس، وتكملان دور الدولة بوصفها أداة للضبط وأداة لحماية حقوق الإنسان في وقت واحد. إن السياسة التي تقوم على تكريس الأحادية، تفضي إلى نزوع مضاد للعلمانية حكمًا، لأن جوهرها هو الطلب إلى الناس أن يسلموا لتلك السياسة بكل شيء، والتسليم نقيض العلمانية، كما هو نقيض العقلانية والديمقراطية. أما على صعيد الأحزاب، ولا سيمّا الأحزاب التي تتبنى العلمانية، فإن أول دور يمكن أن تقوم به هو أن تمارس العلمانية في صفوفها، فتنطلق من رعاية أعضائها في أن يفكروا بحرية ويعبروا عن آرائهم المختلفة وإن جاءت مغايرة لآراء القادة أو المواقف الرسمية للحزب، وأن يتيح لمختلف الآراء والمواقف أن تعبر عن ذاتها في منابر الحزب الإعلامية، وأن تسمح بالتنوع داخلها وترعاه وتحميه من تطاولات هذا المسؤول أو ذاك. إن قيام أي حزب علماني بالمساهمة في نشر النزوع العلماني في المجتمع يقتضي تربية أعضائه تربية علمانية تقوم على الشك والتفكير وترسيخ قيم المواطنة في عقولهم، وتدريبهم على احترام الآخر والدفاع عن حقه في أن يكون مختلفّا وأن يحمل آراءه ويعبّر عنها ويروجها بالأساليب السليمة، أي بالرد على الفكرة بالفكرة لا بالزجر والمنع. وحين يتحقق ذلك داخل الأحزاب العلمانية تصبح أقدر على نشر النزوع العلماني في المجتمع. ب - على صعيد التعليم: ولعل هذا هو الصعيد الأهم، لأن التكوين العلماني في المؤسسات التعليمية يؤدي إلى اتساع قاعدة العلمانية في المجتمع ورسوخها. ويمكن أن يتحقق ذلك بقيام النشاط التعليمي على مجموعة من الأسس والمبادئ المتفقة مع الحداثة التربوية ومع مقتضيات العقلانية والعلمانية في وقت واحد. وأهم هذه الأسس والمبادئ: 1. اتّباع الحوار أسلوبًا في التعليم. فهذا يعني حفز العقل وتنشيطه لتقبّل المعارف وتوليد الأفكار. 2. تدريب المتعلمين على الشك بوصفه طريق اختبار المعرفة وتدقيق المعارف، وإبعادهم عن التسليم والإيمان بما يسمى بالحقائق الثابتة. 3. وعلى هذين المبدأين، والحوار والشك، يقوم المبدأ الثالث، الذي هو الموقف الإيجابي من الآخر المختلف والتواصل معه والتعرف إلى ما هو إيجابي في أفكاره. 4. تعويد المتعلمين على الشجاعة العلمية، الشجاعة في طرح الأفكار ومعارضة السائد والمألوف، وصولاً إلى احترام كل فكرة جديدة، والبعد عن الموقف السلبي إزاءها، بل وضعها موضع الاختبار والتعرف والفحص. 5. إعادة النظر بمناهج التعليم والكتب المدرسية كل بضعة أعوام، وفق المعطيات العلمية الجديدة، والحرص على تخليص الكتاب المدرسي من أية نزعة أسطورية أو غير علمية. 6. الاهتمام بتدريس العلوم الإنسانية، وتقوية دور الفلسفة وعلم الاجتماع في المؤسسات التعليمية، لأنهما ركيزتان لنشر النزعة العقلانية والحوارية (الفلسفة) ومعرفة الواقع ميدانيًا (علم الاجتماع). 7. إزالة كل ما يؤدي إلى فكرة التمييز بين الجنسين على صعيد المكانة والحقوق وتكريس مبدأ تساوي المرأة والرجل في المناهج التعليمية. 8. التربية على رفض الأحادية، وعلى الإيمان بالتنوع. وفي هذا المجال لا يفيد مثلاً أن يلقن المتعلم وأن تحتوي مناهج التعليم مبادئ حزب أو أحزاب معينة من أحزاب الوطن، فهذا نوع من أنواع التربية الأحادية، فالأحزاب لها وسائلها في التثقيف ونشر الأفكار، ولا يجوز إقحام التعليم ومؤسساته بهذا الأمر. لا شك في أن بعض هذه المبادئ يراعى في المناهج التعليمية في سورية، بنسب متفاوتة، لكن المطلوب هو جعلها سائدة، والأخذ بما لم يؤخذ به حتى الآن. كما يمكن أن لأي حوار أو بحث أن يقترح مبادئ أخرى تسهم في جعل التعليم وسيلة أساسية في تعزيز النزوع العلماني. جـ - على الصعيد الإعلام: الإعلام الذي يسهم في نشر قيم العلمانية هو ذلك الذي ينطلق من حرية الرأي ويحتضن مختلف التيارات الفكرية والثقافية، ويساعد في توسيع الحوار حول مختلف مشكلات المجتمع. فحرية الصحافة ليست مبدأ ديمقراطيًا فحسب، بل هي مبدأ علماني، لأنها تعني حق الإنسان بمناقشة كل شيء والإدلاء برأيه فيه، أي إنها تضيّق دائرة الممنوعات في مجال الفكر والمناقشة وتقلل إلى أقصى الدرجات المقدسات التي لا يقاربها النقاش ولا يمسها النقد. ولعل تجربة العلمانية في الوطن العربي دلت على أهمية حرية الصحافة، فحيث كان للعلمانية حضور في فكر الحاكمين، ولم تتوفر حرية الصحافة والحريات الأخرى، حصل ارتداد شعبي واسع على العلمانية وقيمها، وانتعشت من جديد كل الانتماءات ما قبل الوطنية والمدنية. 8 - أما النقطة الأخيرة التي أريد تأكيدها فهي ضرورة النظر إلى العلمانية بارتباطها بالعقلانية والديمقراطية. فالعلمانية والعقلانية صنوان، لأنهما تقومان على احترام العقل والبعد عن التسليم في أمور الحياة الفكرية السياسية الاجتماعية. أما علاقة العلمانية بالديمقراطية فهي علاقة وجود، أي أن العلمانية لا تكون حقيقية ومستمرة بلا ديمقراطية في الحياة السياسية والفكرية. والديمقراطية لا تكون حقيقية إلا في مناخ علماني. العلمانية بلا ديمقراطية تعني تحكم نخبة على هواها، وصولاً إلى التمييز بين الناس على أساس معارضة وموالاة، وعلى أساس الانتماء الحزبي. إن التحكم بالمجتمع بأساليب غير ديمقراطية ينسف أسس المواطنة وأهمها المساواة، ويؤول على التدريج إلى تفريغ العلمانية من محتواها الأساسي، وهو حق الإنسان في تناول كل المسائل بحرية. إن نتيجة منع الشك بالقيادة وقراراتها وحظر مقاربتها بالنقد، هي تكريس نزعة التسليم اللاعلمانية. والديمقراطية بلا علمانية تكون شائهة، لأنها تتيح لنزعات ما قبل المدنية والوطنية النهوض والانتعاش. وقد ذكرنا المثال اللبناني الفاقع لمثل هذه الحال. وإذا أخذنا على سبيل المثال مبدأ الأكثرية الانتخابية، وهو مبدأ ديمقراطي، فإن غياب العلمانية يحيل إلى أكثرية غير سياسية، فقد تأتي نتيجة الانتخابات معبرة عن أكثرية طائفية أو عشائرية، في حين أن مفهوم الأكثرية والأقلية هو مفهوم سياسي، يتعلق بالانتماءات غير الموروثة، أي بالانتماءات الاختيارية القابلة للتبدل، السياسية والفكرية حصرًا. إن العقلانية والديمقراطية والعلمانية ثالوث موحد متساو في الجوهر على حد تعبير الفكر المسيحي. هذه أهم النقاط التي أرى أن يتمحور حولها الحوار من أجل علمانية أكثر وضوحًا وملائمة لمجتمعنا. فالعلمانية ليست إلحادًا، والإلحاد ليس هو العلمانية، وأخطر ما يمكن أن ينجم عن العلمانية هو أن تغدو شعارًا أو قناعًا يخفي ممارسة تسليمية أو قمعية أو تمييزية. وقد نتمكن بالحوار حول هذه النقاط أن نصل إلى حال يمكن فيها للمؤمن أن يكون علمانيًا، أو على الأقل ألا يرى العلمانية خصمًا، ويمكن للعلماني أن يكون مؤمنًا، أو على الأقل ألا يأخذ موقف الحذر من العلى، الأقل ألا يأخذ موقف الحذر من الإيمان والمؤمنين، أي قد نصل إلى جعل العلمانية روحًا تدبّ في جسد الحياة السياسية والاجتماعية، وتجتذب إليها أكثرية الناس. *** *** *** [1] طه حسين، من بعيد، المطبعة الرحمانية، مصر، 1935، ص 52.
|
|
|