|
أرض السواد: إحالات الذاكرة والواقع
وأرض السواد[1] هذه تحيل في التاريخ الوسيط، الذي شهد ولادة الدولة العربية الإسلامية، إلى سواد العراق، أي إلى المنطقة التي تقع في جزئه الجنوبي بين دجلة شرقًا، والفرات غربًا، فالخليج العربي جنوبًا، فيما تتوسَّطه مناطق مستنقعية تندرج تحت اسم الأهوار، منها هور الحمّار والحويزة، أمّا اسم السواد فلقد جاءها من خضرة بساتينها المائلة إلى السواد. لقد انطلقت جيوش المسلمين بقيادة سعد بن أبي وقّاص، في زمن الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطّاب، واستطاعت أن تنتزع العراق من أيدي الفرس بعد معارك عديدة أهمّها القادسية، وآخرها، ربمّا، نهاوند التي أتت على الدولة الفارسية، إذ دخل المسلمون عاصمتها المدائن، وقضوا على حكم الأكاسرة؛ لينضوي العراق، من بعدها، تحت حكم المسلمين بشكل نهائي. إنّها، إذن، تلك البساتين المزروعة بأشجار النخيل، التي وضعت العراق في المرتبة الأولى بإنتاج التمور عالميًا، والتي دفعت المسلمين إلى استجلاب العبيد من أفريقية بسبب من خصوبتها، ليعملوا بها في ظلِّ شروط معيشية ومناخية قاسية جدًّا، ممّا دفع بهؤلاء العبيد للقيام بثورتين: ثورة الزنج[2] بقيادة محمد بن علي، التي شكَّل أولئك العبيد سداها ولحمتها، وثورة القرامطة[3] بقيادة حمدان بن الأشعث، التي اشتعلت على إثر إخفاق ثورة الزنج، وذلك بالتعاون مع غيرهم من الحراثين والكسّاخين والفلاحين البسطاء. وهي في الإحالة الأبعد تذهب بنا إلى سهل شنعار في التاريخ القديم، فهناك، في تلك البقعة الخصبة، ذات المياه الوفيرة، استقرَّ السومريّون، وأنشأوا حضارة لاتضاهى في ذلك الزمان، ثمَّ جاء من بعدهم الأكاديون والبابليون والآشوريون، ليقيموا على تلك الأرض إمبراطوريتهم، ذلك أنَّ هذه المنطقة - بالتوازي مع مثيلاتها في وادي النيل وبلاد الشام وحوض الغانج[4] وحوض اليانغ تسي والهوانغ هو[5] - شهدت نشوء القرى الأولى على سطح الكرة الأرضية، وذلك مع انتقال البشرية، في معرض تطورها، من جمع الثمار إلى الزراعة، إن بالمصادفة، أو بالملاحظة والتجربة، أو بالاثنتين معًا. ثمّ قُيِّض للبعض منها بسبب من تضافر الظروف الملائمة أن تتسِّع، لتتحوَّل إلى مدن، أي إلى ممالك مدن، فإمبراطوريات واسعة شملت المنطقة كلّها في ما بعد، علمًا بأنَّ بعض الدارسين يذهبون إلى ما هو أبعد لمصلحة أرض السواد، إذ يرجحون بأنَّ السومرِّيين هم الذين قدَّموا للعالم القديم الكتابة المسمارية، كأول محاولة من الإنسان في التعبير عن نفسه، "كتابة" فوق ألواح طينيّة مُفخَّرَة، لتبدأ من بعدها العصور التاريخية؛ كما قدَّموا له الزراعة، وذلك منذ ما يربو على الستة آلاف عام قبل ميلاد السيِّد المسيح. "أرض السواد" - هذه التي ترمز في موضوعنا إلى برِّ العراق - كانت الشغل الشاغل للروائيّ الكبير عبد الرحمن منيف في ثلاثيته الموسومة بـ أرض السواد، والتي خصَّصها لفترة حرجة وانتقالية من التاريخ الحديث لهذا البلد، هي مرحلة الاستعمار العثماني 1534 - 1918، أو بصورة أدق لجزء من هذه المرحلة تساوق مع الفترة التي ظهر فيها محمد علي باشا في مصر 1805 - 1841[6]. أما لماذا وقع اختياره على هذه المرحلة بالذات، فلا شكَّ في أن للمنيف أسبابه، إذ لاشكَّ في أنها - أي تلك الفترة - على افتراقها الظاهري مع الراهن، تتقاطع وتتمفصل وتتشابه مع الظروف الحالية التي يشهدها العراق في أكثر من ملمح، مما يسمح بدراسة المرحلتين، واستخلاص الدروس والعبر منهما. لقد خضعت بلاد الرافدين لحكم العثمانيين مع دخول السلطان سليمان القانوني إلى بغداد، وضمِّها إلى دولته بشكل نهائي عام 1534، بعد أن استولى السلطان سليم الأول على حدودها الشمالية منذ عام 1517، وذلك في خضمِّ الخصومة بين العثمانيين والصفويين - حكام إيران آنذاك - الذين كانت بلاد الرافدين جزءًا من دولتهم. لكن هذا الخضوع تحوَّل إلى تبعية اسمية عندما ضعفت الدولة العثمانية، وراح الولاة الذين تتابعوا على حكم العراق يتصرَّفون بأموره كما لو كانوا يحكمون دولة مستقلة، بيد أن موقعه بين الدولة العثمانية من جهة، وإيران الصفوية من جهة أخرى جرَّ عليه الكثير من المتاعب، في حين أن موقعه على الخليج العربي جعله محطَّ أنظار الدول الغربية، من هنا جاءت محاولة ألمانيا في مدِّ خطٍّ حديدي، يربط هامبورغ بالبصرة عام 1903. كانت ألمانيا قبل هذه الفترة، مشغولة بإعادة توحيد أراضيها على يد بسمارك، ولما أنجزت تلك المهمَّة، وبنت نهضتها الصناعية، أخذت تطالب بحصَّتها في المستعمرات المُقسَّمَة بين الدول الكبرى، لكنها تفاجأت بأن هذه الدول؛ وخاصة بريطانيا وفرنسا وروسيا، قد سبقتها إلى اقتسام مناطق النفوذ في مختلف مناطق العالم، فلم تجد أمامها سوى منطقة الأناضول لتتغلغل فيها، وكان أن نجحت في الحصول على امتياز مدِّ الخطِّ الحديدي هامبورغ، الآستانة، قونية، بغداد، البصرة، وعدَّته إسفينا يصلها بمنطقة الخليج والمشرق العربيين، التي أطلقت عليها اسم الهند الجرمانية. إلا أن بريطانيا عارضت الأمر بشدَّة، ولم تسمح بالبدء فيه إلاّ بعد أن تحصَّلت على حقِّ تنفيذ الجزء الواصل بين البصرة وبغداد من المشروع المذكور، ومن هنا - أيضًا - جاء الصراع الفرنسي الانكليزي على اقتسام المعمورة آنذاك، والذي حُسم لمصلحة بريطانيا العظمى، التي كانت تولي العراق أهميَّة استثنائية، لوقوعه على طريق الهند "درّة التاج البريطاني"، ولذلك قامت قنصليتها في بغداد بدور هام في محاولاتها الرامية إلى الهيمنة على مقدَّرات العراق، بالتعاون مع الإيرانيين حينًا، وبالضغط على الدولة العثمانية لتمرير مشروع ما، أو انتزاع امتياز حينًا آخر، وبالسيطرة على ولاته في أكثر الأحايين، سيطرة وصلت إلى حدِّ التدخُّل في تعيين هؤلاء الولاة، أو عزلهم غير مرة، ناهيك عن ضرب السلطة المركزية في بغداد بالقبائل، البدو بخاصة، وتحريض الشمال الكردي بأغواته، لإضعاف تلك السلطة، ودفعها إلى التماس العون أو المشورة من القناصل الانكليز، الذين كثيرًا ما كانوا الحكام الفعليين للبلاد، بما حوَّل قنصليتهم إلى مركز للتجسُّس، وإدارة الفتن لمصلحة بلادهم. لقد تمسَّك البريطانيون بالعراق، مشدِّدين على أهميته بالنسبة لهم، وقد تجلَّى ذلك التمسُّك في غير مناسبة، ففي اتفاقية سايكس - بيكو 1916 مع فرنسة، وضعوا في حسابهم السيطرة على المنطقة الحمراء، أي المنطقة الممتدة بين البصرة وبغداد، وأكَّدوا على هذا التمسُّك في مؤتمَر سان ريمو 1920، الذي عدَّل مناطق نفوذهم لتشمل العراق كلَّه، وشرقي الأردن، وفلسطين، في الوقت الذي صدر عن وزير خارجيتها اللورد بلفورد وعدٌ أسَّس لإنشاء وطن قوميٍّ لليهود في فلسطين، وكان قد سبق للسير هنري ماكماهون - مندوبها السامي في مصر - التأكيد على مصالح بلاده في جنوب العراق للشريف حسين بن علي، في الرسائل التي تبادلها مع الأخير، لحضِّه على الثورة ضدَّ العثمانيين، خلال الحرب العالمية الأولى، في ما اصطُلح عليه برسائل حسين / ماكماهون، ثمَّ تشبَّثت بهذه البقعة - أكثر فأكثر - حينما عرفت بوجود النفط في أراضيها، ولذلك ظلَّت قواتها تقاتل العثمانيين؛ على الرغم من خروج الدولة العثمانية من الحرب العالمية الأولى، في أعقاب هدنة مودرس 1918، بهدف إخراجهم من الموصل والشمال العراقي. العثمانيون، الإيرانيون، الفرنسيون، البريطانيون، الألمان، الروس، وفي ما بعد الأمريكيون - إذن - كانوا يتنافسون على المنطقة، ويحاصرونها بأطماعهم التي ارتسمت على خارطة العراق حتى الأمس القريب، فماذا عن الحاضر!؟ كلُّنا نعلم بأنَّ العراق - اليوم - محتل من قبل الأمريكان، غبَّ أن حوصر من قبل دول العالم، لقد رحل صدام حسين إلى الملأ الأعلى، ولم يكن العراق قد تعافى من آثار الحرب العراقية-الإيرانية، التي تورَّط فيها البلدان لسنوات ثمان، إذ أنَّ هذه الحرب خلَّفت وراءها تركة ثقيلة من معوّقي الحرب، إضافة إلى الخلل الكبير في التركيبة الاجتماعية، ناهيك عن حالات اليتم والترمل وغيرها من الكوارث! إنَّ العراق يدفع - بلا شكٍّ - ثمن سياسات حكَّامه الطائشة، إذ من غير المعقول أن نبرِّر اجتياح العراق للكويت تحت أي ذريعة، بما فيها ذريعة أنَّ الكويت - أساسًا - جزء من العراق، لاسيما إذا استعدنا دروس الوحدة السورية/المصرية 1958 - 1961، كتجربة لم يُقيَّض لها النجاح لأسباب قد لاتكون هذه الصفحات مكانًا لها، إلا أنَّ السؤال في حالة العراق "أن هل يتوازى الغرم بالجرم!؟" يظلُّ مشروعًا. إنَّ العين الملاحظة لن تحتاج إلى كثير تمحيص في ما جرى، لتدرك بأنَّ الغاية تتجاوز ما ذكرناه، وأنَّها - في الحدِّ الأدنى - تروم إخراج العراق من ساحة الفعل العربي، وبالتالي العزل بينه وبين إمكانية أن يكون طرفًا إلى جانب أشقائه في الصراع العربي/الإسرائيلي، طبعًا إذا تجاوزنا أنَّ مسألة تغيير السلطة في العراق شأن عراقي. لقد خطَّطت الولايات المتَّحدة وحليفاتها لإعادة العراق إلى حياة شبه بدائية، بهدف السيطرة عليه، مما يحرم دول الطوق الشرقي المحيطة بإسرائيل من عمقها الاستراتيجي، ويسوّق بالتالي المشاريع الغربية من مثل الشرق أوسطيّة أو سواها في المنطقة، والتي تهدف إلى إعطاء إسرائيل مركز الصدارة فيها، أو إلى إدماجها في نسيجها خدمة لمصالح الغرب، هذا بغضِّ النظر عما حقَّقته الولايات المتحدة من تواجد عسكري مباشر في منطقة الخليج، مُبارَك من قبل حكوماته، ومدفوع الثمن - أيضًا - ضدَّ الخطر العراقي الموهوم أو المزعوم. على هذا الأساس يمكن الزعم بأنَّ "أرض السواد" تستند إلى مرجعية واقعية تؤسِّس للنثر العربي كله، هي ثورة الشريف حسين بن علي 1916، الموسومة بالثورة العربية الكبرى، والتي انضوت على إمكانية إقامة دولة عربية مُوحَّدة في المشرق العربي، وأنَّ هذه المرجعية في انكسارها على يد الغرب، توَّجت المدَّ القومي بالأحزاب القومية، التي وُلدَت على الساحة العربية - في المشرق العربي خصوصًا - من قوميين عرب، وبعثيين، وناصريين، ثمَّ أوصلت هذا المدَّ إلى ذروته، إذ تسنَّم بعض تلك التيارات سدة الحكم في هذا القطر أو ذاك غبَّ الاستقلال. وقد يعترض البعض على ما تقدَّم من طرح انطلاقًا من أنَّ الرواية - إذا حدَّدنا زمنها الروائي - تصدَّت لمرحلة سابقة تاريخيًا على ثورة الشريف حسين، أي على المرجعية التي افترضنا بأنَّ الرواية تنطلق منها، ذلك أنَّ داوود باشا تولَّى مقاليد الأمور في ولاية العراق، بالتوازي مع محمد علي باشا في مصر، لكن اعتراضًا كهذا سيقع في وهم التسجيلية، التي تشكِّل جزءًا كبيرًا من نسيج الرواية، وذلك لحساب الأطروحي، الذي يتجاوز تلك التسجيلية إلى آفاق أرحب، إلى الراهن المنضوي على احتمالات شتى سيُكتَب لأحدها أن ينتقل من خانة الوجود بالإمكان إلى خانة الوجود بالفعل، وسيرتبط ذلك - من كلِّ بدٍّ - بدور أبناء المنطقة في البحث عن حياة أفضل، ولاشكَّ في أنَّ المنيف على كلِّ الانكسارات ينتصر لـ / أو يراهن على أفضل الخيارات لجموع البشر الذين يعيشون شرقي المتوسط وجنوبيه كما سنرى. كانت الأحلام في بناء الوطن العربي الكبير مورقة، لكنَّها تحطَّمت لمصلحة القطري، واختُزل الوطن في الحزب، والحزب في أمينه العام، الذي كان - على الأغلب - حاكمًا بأمره هنا أو هناك، وإذن فلا حلَّ لمشكلة الخبز، ولاحلَّ لمشكلة الكرامة المهدورة على الصعيد العام، مُتجلِّية في الصراع العربي/الإسرائيلي، أو على الصعيد الخاص عبر علاقة الحاكم بالمحكوم، القائمة على الامتثال لا التماثل، في ظلِّ غياب العقد الاجتماعي الذي يتوفَّر على حقوق الطرفين وواجباتهم، أي القائمة على علاقة الراعي بالقطيع المسيحية بحسب ميشيل فوكو. أما الديموقراطية! هذه الكلمة التي ابتُذلَت لكثرة ما تكرَّرت على ألسنة الأطراف كافة، فإنَّ أقلَّ ما يُقال بشأنها، هو أنَّنا نكاد نتكلَّم عن مجهول يفتقد إلى "التأريض"، إلى التبيّؤ، لتتحوَّل إلى ميراث لم يُكتَب له أن يندغم بتاريخ المنطقة عبر عصورها المختلفة إلاّ في أضيق الحدود. على هذا التأسيس التاريخي والفكري جسَّد النثر الأدبي العربي باعتباره وسيلة تعبير وتفكير، وحاضنًا لتاريخ الأفكار أيضًا، هذه المرجعية بأشكال مُختلفة، لكنها - في أغلبها - تندرج في أسِّها العميق تحت بند الحنين إلى الماضي التليد، المُبهَم الملامح على إشراقه، لخلوِّه من مفهوم التناقض على مستوى الذاكرة الجمعية، وانطوائه على مفهوم النكوص على المستوى السيكولوجي، إنها تتمحور حول الرثاء للأحلام البهية التي انكسرت على أعتاب الألفية الثالثة! وربما كان افتراق أرض السواد عن الكثير من هذا المُنتَج الأدبي، يتجلَّى في ذهابها - بعكس ما توحي إليه في ظاهرها - إلى المستقبل، إلى طرح أسئلته بما هي أسئلة مقلقة وراهنة ومصيرية. لقد سبق للمنيف أن أثار بعضًا من تلك الأسئلة الجارحة، التي انصبَّت على انكسار الأحلام في أعماله الروائية السابقة، إذ أشار بإصبع الاتِّهام - مثلاً - إلى الغرب في سباق المسافات الطويلة، كما أشار بالإصبع ذاته إلى السلطات القمعية العربية في شرق المتوسط، ثمَّ أكَّد عليه في الآن هنا، شرق المتوسط مرة أخرى، فيما أشار إلى القصور الذاتي للتشكيلات السياسية والاجتماعية العربية في حين تركنا الجسر. بيد أنه تحرَّى في تلك الأسئلة ضمن أبنية روائية تخييلية، خلق فيها واقعًا نصّيًا موازيًا للواقع الفعلي، ليوهم به، ويطرح - من ثمَّ - أسئلته، في حين أنَّ ما قرأناه في مدن الملح وأرض السواد شيء مختلف. ولعلَّنا نجد في السؤال التالي - الذي يجمع الأطروحي إلى الجمالي، ويبحث في أحد أقانيم الرواية كجنس أدبي - ما يؤكِّد زعمنا بأن أرض السواد تطرح أسئلة الراهن من خلال التاريخي، وهي بهذا المعنى تراهن على المستقبل وتستشفَّه، أما السؤال فهو من هي الشخصية المحورية - أي البطل - في الرواية!؟ أهو داوود باشا والي بغداد، أم القنصل الانكليزي ريتش، ممثِّل انكلترة التي انتصرت على نابليون، وعدَّت نفسها سيِّدة العالم!؟ أهو الآغا سيد عليوي، أم هو المغدور بدري العلو!؟ الحاج صالح العلو، أم التاجر اليهودي ساسون!؟ سيفو وحسون وزينب كوشان والأسطة عواد، أم الزنجاري وريجينا وعزرا!؟ أهو الكرخ أم الرصافة، أو ربما دجلة نفسه!؟ بغداد أم البصرة أم الموصل والشمال!؟ وفي الجواب فإننا نسمح لأنفسنا بأن نستعير جزءًا من كلمة الناشر في الجزء الأول، لأنه يعبِّر عما نذهب إليه، ذلك أنَّ نسيج الرواية هو الشخصية العراقية بكلِّ تنوُّعها وتعدُّدها، حياتها اليومية، أفراحها وأحزانها، لهجتها بتورياتها وأمثالها وسخريتها اللاذعة، أحياؤها ومقاهيها، وطريقة تعاطيها مع السلطة. هنا يكمن صلب الرواية، وهذا يعني أن العراق، كلُّ العراق هو البطل في المتن، بما يؤكِّد رأينا. الرواية - إذن - تنطلق من التاريخ، لكن لا لكي تسجِّله، أو توثِّقه، بل لكي تستنطقه، وتستخلص منه القوانين الداخلية التي تحرِّك مساراته، وترجِّح احتمالاً من احتمالاته على الآخر، وعليه فإن المنيف لايؤرِّخ للأحداث، بل يعيد اكتشافها. إن الزمن الروائي - كما هو واضح في المتن - سابق على حياة المنيف، وهذا يعني أنه اضطُرَّ إلى الاتِّكاء على المادة التاريخية المبثوثة في بطون الكتب، ولكن بعد أن أخضعها لمبدأ الحذف والاصطفاء، الحذف لما هو عارض - بحسبه - والاصطفاء لما هو جوهري، كما أخضعها للترتيب القصدي الذي سينتظم الأحداث في نسيج روائي قد لايتطابق مع التاريخ، مع ما يقتضيه ذلك من هدم وإعادة بناء عبر التخييل، أي عبر إعادة رسم المكان الذي قد لا يتطابق بالضرورة مع الصورة المحسوسة للعراق آنذاك. وبما أن روائيًّا كالمنيف لايترك شيئًا في متونه من غير أن يشبعه دراسة وتنقيبًا، فلقد تنبَّه إلى إشكالية التاريخي في الرواية، وتحايل عليها بإخلائه من نسق التعاقب، مما أعطى الزمن تعيينًا عامًا، ينسبه إلى المرحلة العثمانية، وفي الوقت ذاته نسخ عنه التحديد الصارم، الرقمي مثلاً، بما حولَّه إلى زمن مؤسطر ينسجم مع الفضاء المكمِّل للنسيج البدائي الذي يلفُّ الأحداث. فبغداد في يوم شتائي باردة، وربما ممطرة كما جاء في المتن، في حين أنها في يوم ربيعي تتفتَّح، وتنضح بشذى الرزاقي والقداح، ولكن في أي يوم شتائي أو ربيعي بالتحديد!؟ وهل يفترق هذا اليوم عن أي يوم شتائي أو ربيعي آخر!؟ هكذا يكون الزمن غائبًا وحاضرًا، إنه مجرَّد وقت، فضاء مرتبط بالأحداث، إلا أنه فوق محاولات التعيين والتحديد الدقيقة، لأن الأحداث هي المكان والزمان معًا. بهذا المعنى يتشابه الماضي والحاضر لحساب المقولة التي أراد العمل أن يسرُّ بها إلينا، وبهذا المعنى - أيضًا - أضيفت إلى العمل صفتا الأسطرة والنَفَس الملحمي. وإذا تجاوزنا الأطروحي في السؤال المُسلَف لمصلحة الجمالي، فإن ما ذكرناه - من أن البطل في أرض السواد هو الشخصية العراقية - يُسجَّل أيضًا كإنجاز للمنيف، إلا أن الإنصاف يقتضي منا بأن ننوِّه بأنه ليس الروائي الوحيد في هذا، إذ أن الغيطاني - على سبيل المثال لا الحصر - في الزيني بركات قام بما قام به المنيف، ولم يكن ما قام به الروائي نبيل سليمان في مدارات الشرق بعيدًا عما ذكرناه. إننا إذ نقرُّ بأن الأدب - على فرديته - نتاج جماعي واجتماعي، أي نتاج تراكمي ساسه تطوُّر تاريخي طويل مسَّ أركان الرواية كلها، بما فيها مفهوم البطولة، الذي أتينا عليه في معرض تساؤلنا، إذ نرى بأن هذا المفهوم طاله تغيير كلِّي، ذلك أنه في الرواية الكلاسيكية ارتبط بمفهوم الشخصية المحورية في المتن، ربما لأن الرواية ورثت الملحمة، التي كانت في البداية فنًّا طبقيًا يعكس أحلام الطبقات العليا، في حين أن الأدب في صيرورة تطوُّره انتقل بهذا المفهوم إلى جموع البشر الهامشيين أو المُهمَّشين، إدراكًا منه بأن البطولة الحقيقية هي لهؤلاء الخلاّقين الأرضيين، الذين ينتجون الخيرات المادية للمجتمع، ويبنون حضارته، ولهذا احتلت زينب كوشان مساحتها - في أرض السواد - بالتوازي مع داوود باشا، فيما أخذ حسّون وسيفو وقادر نصيبهم تمامًا كريتش وزوجته ماري وعزرا، ولهذا - أيضًا - أولى المنيف تلك الشخصيات اهتمامًا كبيرًا، فلم ينسَ أحدها، مستندًا إلى فهم عميق للشخصية العراقية بمعناها الحضاري، أي تلك الشخصية "التي تكوَّنت خلال قرون طويلة من الزمن"، وتبلورت ملامحها على مهل "بحكم الطبيعة والتاريخ والجغرافيا". وعليه فلقد "تمكَّن من رسم صورة غير مسبوقة للعراق"، وذلك بالاتِّكاء على الانتماء من جهة، والمعايشة من جهة أخرى. فالمنيف من أب سعودي وأمٍّ عراقية، لكنه تربَّى في الأردن، ولما تحصَّل على شهادته الثانوية من عمّان انتقل إلى بغداد، ليكمل فيها دراسته الجامعية، ثمَّ عمل هناك في مجال النفط، قبل أن يُقيَّض له السفر إلى بلغراد - عاصمة يوغسلافيا الموحَّدَة آنذاك - لإتمام تحصيله العلمي، بيد أن الفصل الذي قمنا به بين الأطروحي والجمالي هو فصل تعسُّفي بقصد الدراسة والبحث، فهذا الجمالي يندغم بالأطروحي في وحدة عضوية، مكَّنَت المنيف - في النهاية - من أن يبيِّن مدى كره العراقيين لأيِّ تدخُّل أجنبيٍّ في شؤونهم، أو أن يبيِّن مدى تضامنهم في الملمَّات، كما في مواجهتهم لفيضان دجلة المدمِّر "ليرسم - في المجتبى - الشخصية العراقية، من قبل أن يعمل على رواية تشكِّل الأحداث ذروتها، لأن الحدث في أرض السواد هو العراق". مرة أخرى لا نريد أن يُفهَم من الكلام المُسلَف بأن المنيف أهمل الأحداث في روايته لحساب الشخصيات، إذ لا شخصيات بدون أحداث، ولذلك اشتغل على نسيج روايته بكثير من الدأب والرويِّة، فلقد وصل داوود باشا إلى سدَّة الحكم في فترة حرجة، وأراد أن يحوِّل العراق إلى دولة قوية، فقضى في طريقه على تمرُّد قبائل الفرات الأوسط، كما قضى على تمرُّد بدو الجنوب، وعمل على استمالة آغاوات الشمال، لكي لا يلحقوا بكرمنشاه المتربِّصة بالعراق، فيما اتَّبع سياسة متوازنة وحذرة مع الآستانة، ولذلك لم يقع في الفخِّ الذي نصبه له القنصل الانكليزي ريتش، عندما عرض عليه تسليح جيشه بأسلحة انكليزية، ذلك أن قبوله عرضًا كهذا قد يُفسَّر من قبل السلطان تفسيرًا لا يصبُّ في مصلحته، وينهي حياته السياسية، ثمَّ راح ينزع عن التجار الموالين للقنصلية امتيازاتهم، التي كانوا قد تحصَّلوا عليها من الولاة السابقين عن طريقها، وأخذ يقوُّض تدخُّلها في شؤون البلاد بالتدريج، حول هذا المحور رسم المنيف دوائر أخرى، لا تقلُّ عنه أهميِّة تداخلت معه بتداخل المكان والزمان والحدث، فالقنصلية الانكليزية موجودة في بغداد بقوة، ونشاطها يبدأ بالتدخُّل في رسم السياسة العراقية، ولا ينتهي عند جدود دراسة التربة والميول ومنسوب المياه والآثار والعادات واهتمامات الناس، أمزجتهم وتوجُّهاتهم. إنها - إذن - دولة داخل الدولة بلغة اليوم، ومن قبلها كانت القنصلية الفرنسية أيضًا تسعى في الاتجاه ذاته، لكنها تراجعت بسبب خسائر دولتها المتكرِّرة أمام البريطانيين في ما عُرف بحرب السنوات السبع 1756 - 1763، التي خسرت فيها مستعمراتها في كندا وأجزاء من الهند، ثمَّ بسبب هزيمة نابليون النهائية أمام أوروبة بزعامة انكلترة. أما كرمنشاه، فلم تقف - هي الأخرى - على الحياد، ربما لأنها لم تنسَ أبدًا بأن العثمانيين هم الذين انتزعوا العراق منها، فيما كانت مطالب الآستانة بلا نهاية، وبين هؤلاء وأولئك ثمَّة تجَّار يهود، وقبائل بدويِّة تبدِّل هواها وولاءها، ربما لأنها لم تكن تدرك ما يُحاك للبلد، أو يُدبَّر له من دسائس وفتن، وكان هناك - أيضًا - سكان العراق من البصرة إلى الموصل، ولكلِّ واحد منهم حكاية يتداخل فيها الخاصُّ المجبول بالقهر مع العامِّ، الذي قد يذهب بعيدًا في التاريخ أو التراث، ثمَّة - إذن - الملاّ حمّادي والأسطة عواد والحاج صالح العلو وحسّون وذنون، والحاجة أم قدري وسيفو وبدري العلو وقادر، ولكلٍّ منهم حكايته التي تنال حقَّها من الاهتمام. لكن الإحاطة بتلك الحكايات والقصص - في هذه العجالة - تبدو بحكم المستحيل، على الرغم من أنها هي التي أكسبت المتن الرائحة واللون والهُويَّة، وتبعث في أوصاله الحياة. إن صورة المكان في أرض السواد لا تتماثل مع المكان المحسوس لأسباب كثيرة، منها أن الرواية ترسم صورته في زمان تصرَّم وانقضى، وعليه فإن بغداد التي عاش فيها المنيف، غير بغداد التي شكَّلها في المتن، لذا كان عليه أن يعيد بناء المدينة باللجوء إلى التخييل، أي إلى لعبة الإيهام بمكان واقعي، وذلك من خلال مفردات كدجلة والكرخ والرصافة والمقاهي المتناثرة على ضفتي دجلة، بما هي أمكنة ثابتة ومعروفة، إلى جانب استرجاع المادة التاريخية التي تتحدَّث عن بغداد، أو عن العراق آنذاك، ليستخلص منها تفاصيل المكان، ويعيد تشكيله روائيًا. لقد أعاد المنيف بناء بغداد العثمانية بيتًا بيتًا، ونخلة نخلة، وأطلق الحياة في أحيائها ومقاهيها بما ينسجم وهموم الناس آنذاك، مفردًا للواقعي مساحته، كما للخيال، فتمكَّن من إعادة البناء تلك، ومن ثمَّ بناء المرحلة التاريخية التي يحتضنها، وهكذا جسَّد مكانًا نصّيًا يحاكي المكان الواقعي، ويوهم به، ليطرح أسئلته، ونجح إلى حدٍّ بعيد في الخروج بهذا المكان عن حياده، ليندغم بمصائر الشخوص الذين يعيشون فيه. إن دجلة إذ يفيض ويثور متمرِّدًا على ضفَّتيه يبدو وكأنه يشارك الأهالي نقمتهم على الأجنبي، ولذلك فهو يكِّر على الرصافة، أو على الكرخ، ولا يوفِّر البساتين المترامية على ضفتيه، جارفًا معه الطين والحيوانات النافقة وبقايا الأشجار والأغصان والجذور، لكن هذه الطبيعة الغاضبة سرعان ما تختلف، عندما تسافر ماري برفقة زوجها صوب الشمال في فصل الربيع، فتصبح وادعة واعدة متنوِّعة المشاهد والألوان، وتتفاجأ المرأة بالأرض تنتفض بعد طول سبات، وتتلوَّن بألوان لا تخطر في البال، يتداخل الحار فيها بالبارد، وتتزيّا الروابي والتلال بأزهارها ومروجها، متدثِّرة بخضرة متموِّجة، متفاوتة في درجاتها، تنشر في المدى أريجًا مسكرًا، كما تختلف عندما يجري الحديث عن صباح أو مساء خريفيٍّ بارد في بغداد، يدفع الباشا إلى مغادرة الحديقة الخلفية للسرايا، فيما يدفع الناس إلى التماس الدفء في المقاهي مع كأس من الشاي الساخن، وبالطبع فإن الأمر سيختلف عندما يسهب المتن في وصف صيف حار يشهده برُّ العراق، يثقل على الأرواح والأبدان معًا، وتََبَدَّل الطبيعة - هذا - في حالاتها المختلفة ليس مجرَّد تَبَدُّل في الفصول، لأنه يحقِّق للمنيف أكثر من غرض، إذ يوقعن العمل من جهة، ويندغم بالحالات النفسية للشخوص في مشاعرها المحتدمة والمتناقضة، بما يدفعنا إلى الزعم بأن حضور المكان في أرض السواد حضور نفسِّي وواقعيٌّ سحريٌّ، ضروريٌّ للوعي المكوِّن للأسطورة، إلى جانب كونه حضورًا جغرافيًا يحتضن تفاصيل تاريخية وحياتية يومية. وعلى ذكر التفاصيل، فإننا نلمس في أرض السواد احتفاء مذهلاً بها يتاخم حدود العشق، حتى أن القول بأنها رواية تفاصيل لا يبعد كثيرًا عن واقع الحال، لقد أولى المنيف التفاصيل عناية خاصة في مدن الملح أيضًا، وهذا ما فعله إيفو أندريتش في وقائع مدينة ترافنك، أو في جسر على نهر الدرينا - مثلاً -، إلا أنها هنا - في أرض السواد - اشتُغلت بما يشبه النمنمات، التي تعطي الصورة كمالها وبهاءها، وعلى الرغم من كثرة تلك التفاصيل، الدقيقة جدًّا في كثير من الأحايين، فإنها لم تخرج عن السياق العام للرواية، بل تناغمت مع المبنى والهدف، إذ لا استطالات ولا زوائد، ومن ثمَّ فلا ترهلٌّ، بل انسجام الجزء مع الكلِّ في لوحة بانورامية، كانت - أساسًا - في صلب الهدف، ويمكن القول بأن الرواية كانت ستفقد الكثير من ظلالها وإيحاءاتها ودقَّتها في التعبير لو أنها أسقطت من حسابها تلك التفاصيل، إن شخصية كسيفو ما كانت لتتحصَّل على ما تحصَّلت عليه من صورة في أذهان القرَّاء لو لم يشتغلها المنيف بكلِّ هذا الولع، بكلِّ تلك التفاصيل. صحيح أن سيفو - هذا - لم يحارب كالأبطال الملحميين القدامى قوى ميتافيزيقية، ولكنه حارب كلَّ المظاهر اللاإنسانية التي تجتثُّ قيم شعبه وتبيدها، ولهذا رأينا فيها - إلى جانب غيرها - تجلِّيات ملحميَّة، يمكن من خلالها أن تقدِّم حياتها ثمنًا لمواقفها. لقد بذل المنيف جهدًا مُضاعَفًا في الاشتغال على تلك التفاصيل، إذ كان عليه أن يتحرّى في مادة تاريخية غزيرة، شكَّلت الخلفية الخام لمادة روايته، وأن يدقِّق في اختيار المقاطع التي تخدم السياق، ويعمل على إدخالها في المتن ضمن أقواس التنصيص من باب الأمانة الأدبية، والمسؤولية الأخلاقية، ويتفكَّر في كيفية تركيز الأضواء عليها، أي في اختيار ما يعتبره الروائي أكثر أهميَّة، مادة وطريقة معالَجة، خاصة إذا ارتبطت بإنسان نعرفه، بمنطقة تعني لنا شيئًا[7]. وبما أن الرواية هي الوريث الشرعي لفنِّ الملحمة، فلقد شعر المنيف - كغيره من الروائيين - بضرورة أن يكون لكلِّ رواية أسطورتها على نحو ما، فجاءت أرض السواد على شيء من النَفَس الملحميِّ، الذي تجلَّى في أعماله السابقة بتفاوت، بدءًا بـ الأشجار واغتيال مرزوق عبر النفي الذاتيِّ لإلياس نخلة، ومرورًا بالاستشهاد اللاهوتيِّ لعسّاف على أطراف صحراء الطيبة في النهايات[8]، لكنه أخذ مداه في مدن الملح، ليس من خلال اختفاء متعب الهذّّال فحسب، بل عبر الامتداد في الزمن الروائيِّ المُحدَّد، وغير المُحدَّد، اعتمادًا على حوادث عالقة في الذاكرة الجمعية من مثل سنة المحل، أو عبر اتِّساع الرقعة الجغرافية، لتعطي صورة كليَّة عن الواقع الموضوعي في الخليج، في معرض انتقاله من التشكيلة القبلية، ذات الديموقراطية البدائية إلى نظام الدولة، بعد مجيء "الأمريكان"، وظهور النفط، وهذه الصورة الكليَّة - بحسب لوكاتش - هي من مميِّزات الملحمة[9]، أمّا في أرض السواد فلقد امتدَّت مفردات البنية الملحمية إلى المتن عبر أنسنة الطبيعة، أو التوحُّد بها، ثمَّ أنها - أي أرض السواد - إذ تفترض الحدث إلاّ أن الإنسان يتقدَّم على هذا الحدث لأنه مصدره، وهكذا نجح المنيف في أن يعكس نظرة الشعب إلى العالم، عبر أحداث تؤثِّر في مصيره، مُقدِّمًا ما ينبغي أن يتجلَّى في الملحمة[10]، من هنا - ربما - تأخَّر الصدام المركزي في العمل إلى خواتيمه لمصلحة كليَّة الحياة، أو لمصلحة الجمالي، المُتجلِّي في طرح هذه الحياة من زاويتها الشعبية، ولذلك انجدل الخاص بالعام، فاتَّحد الناس في وجه الفيضان، وبدوا مستعدين لبذل الغالي والنفيس من أجل رحيل الأجنبي عن بلادهم، وهذه أيضًا خصيصة ملحمية. ولا نظنّ بأن الخوض في أرض السواد يكتمل إن لم يتطرَّق إلى لغتها، لا سيما إذا عرفنا بأن المنيف كان مشغولاً بهاجس اللغة الروائية ومشكلاتها، وأنه أفرد مساحة لهذه المسألة في كتابه الكاتب والمنفى، هموم وآفاق الرواية العربية[11]. ذلك أنه يرى في اللغة الأداة التي يشتغل بها / وعليها الكاتب، وأنها - أي اللغة العربية على وجه الخصوص - تشكو تقليديًا من الديباجة والإنشاء، كما تشكو من المسافة الكبيرة بين العامية والفصحى، ولذلك لم يكتف - من موقعه كروائي - بالجانب التنظيري للمسألة، بل حاول أن يقدِّم اقتراحات عملية بهذا الصدد، تجلَّت في متونه الروائية، ولعلَّ إنجازه الأكبر في هذا الجانب، كان في خماسيته مدن الملح، إذ عمد فيها إلى اختصار المسافة بين العامي والفصيح، من خلال تفصيح ما يمكن تفصيحه، مُسخِّرًا لذلك الأمثال والحكم وإيحاءات اللغة الشعبية وظلالها، مؤسِّسًا بذلك لما يمكن تسميته باللغة الثالثة، ولقد حمَّل الحوار العبء الأكبر في محاولته تلك، إذ اشتغل المنيف عليه ليعبِّر عن مستويات الشخوص، ومفاهيم الناس، ومعتقداتهم، وأفكارهم في بيئة بدائية، بما يخدم النَفَس الملحمي في المتن، ويقارب بينه وبين الفصحى ضمن الحدود التي لا يفقد فيها روحه، وقدرته على الإيحاء، ربما لأنه كان يدرك بأن اللغة في عمل كهذا، عدا عن كونها وسيلة تعبير وتفاهم، وأداة تفكير، هي قوَّة وحضور دائمان كما هي حالها في المجتمعات البدائية[12]. وفي أرض السواد تابع المنيف العمل في الاتجاه ذاته، إذ حافظ على جماليات اللغة، لإيمانه بأن اللغة لا يمكنها أن تخلو من تلك الجماليات، ما يوفِّر عنصر الإمتاع فيها، لكنه أسقط منها ديباجتها، التي تنشىء - عادة - فضاء باللغة لا بالحدث، ولهذا جاءت لغته على درجة كبيرة من الاقتصاد اللغوي، رغم اتِّساع رقعة المكان والزمان والحدث، وذلك لكي تعبِّر بدقَّة عن موضوعها وفكرتها، كما تابع الشغل في اختزال المسافة بين العامية والفصحى، إلا أنه في انتقاله إلى الحوار "اضطُرَّ" إلى أن يسلك سبيلاً مختلفًا، إذ جاء هذا الحوار باللهجة العراقية، نقول " اضطُرَّ"، لأن لجوءه إليها أسلمها لسلاح ذي حدّين، إذ أنه - من جهة - أبقى العمل في إطار المحليِّة، بما يعيق إيصال المتن إلى أجزاء واسعة من الوطن العربي، لاختلاف العراقية المحكية عن لهجات بلاد الشام ومصر والمغرب العربي، ولكنه - من جهة أخرى - مكَّن المنيف من تحقيق غايته في مُقارَبَة الشخصية العراقية، والتحرّي في مُكوِّناتها التي تشكَّلت عبر آلاف السنين، ممّا دفعنا للتساؤل إن كان ثمَّة خيارات أخرى أمام المنيف تحقِّق له الغايتين بآن! لقد تفكَّرنا في المسألة طويلاً، وقلَّبناها على وجوهها، إلا أننا اضطُررنا - بدورنا - إلى الإقرار بأنه لم يكن يملك إلا هذا الخيار، ذلك أن اللهجة العراقية وحدها كانت تستطيع أن تعبِّر عن الأفكار الكامنة خلف تلميحاتها وثورياتها وإيحاءاتها. إن لغة الحياة، لغة الناس، هي غير لغة الكاتب على الرغم من أن المنيف حاول - قدر المستطاع - أن يطابق بينهما، ومن هنا جاء الافتراق بين لغة الكاتب المحكومة بثقافته، ولغة الناس التي يتمسَّكون من خلالها بأساليب تفكيرهم، بما يطيل أمد بقائهم، ويحفظ لهم جزءًا من حياتهم السابقة المستكنَّة باللغة وللّغة، ولكننا مع ذلك نقول بإن للّغة قوانينها الداخلية، التي تفلت أحيانًا من طرفي المعادلة، وتتمرَّد على ضفَّتيها، لتتمكَّن من تشكيل الأحداث في ذروتها، وترقى بالفني إلى مستويات لا تُدانى، كما في المقطع الذي يصف مهيوبًا - حصان بدري العلو - غبَّ مقتل فارسه! فلقد تفجَّرت اللغة بين يدي المنيف بإمكانات لا تُحدُّ، لتتمكَّنَ من الإحاطة بالحدث، ولا يقلُّ المقطع الذي يصف فيضان دجلة بشيء عن المقطع السابق، مما يدفعنا إلى التساؤل مع النّفّري هل حقًّا عندما تتّسع الرؤيا تضيق العبارة!؟ بقي أن نقول لقد أكمل الرجل المهمَّة حتى آخرها، ليتجاوز التاريخ إلى قراءة مجتمع بأحزانه وطموحاته وأحلامه[13]، إذ أراد أن يسرَّ إلينا بسرٍّ شخصيٍّ أن كثيرة هي المرَّات التي كبا فيها العراق، أو كُبِّل، لكنه في كلِّ مرَّة كان ينهض من كبوته، كما تنهض العنقاء من تحت الرماد، ولا أظنُّه هذه المرة سيُخلف ما عهدناه فيه هذا كلَّه بعيدًا عن لغة الوعظ والخطابة، ولهذا نقول بأن عمل الأديب يقوم - أساسًا - على الخلق والابتكار، وهذا - بالضبط - ما قام به المنيف في أرض السواد. *** *** *** [1] أرض السواد، عبد الرحمن منيف، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، والمركز الثقافي العربي للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، ط 1، 1999. [2] ثورة الزنج في سواد العراق 255- 270 هـ. [3] ثورة القرامطة في جنوب العراق والبحرين 286- 467 هـ. [4] حوض الغانج: السهول التي تحيط بنهر الغانج المقدس شمالي الهند. [5] حوض اليانغ تسي، والهوانغ هو: السهول المحيطة بالنهرين المذكورين الذين يقعان في الصين. [6] لايشير العام 1841 إلى وفاة محمد علي باشا، بل إلى العام الذي فرضت الدول الأوروبية والدولة العثمانية فيه تسوية 1841 عليه، بما أنهى حياته السياسية، بعد إخراج ابنه إبراهيم باشا من بلاد الشام، وقوضت حلمه في بناء دولة قوية وحديثة في المنطقة. [7] من مقدمة عبد الرحمن منيف لرواية طائر الحوم، حليم بركات، دار الأهالي، دمشق، بدون تاريخ. [8] البطل الملحمي عند عبد الرحمن منيف، أحمد جاسم الحميدي، دار الأهالي، دمشق، ط 1، 1987. [9] الرواية والتاريخ، جورج لوكاتش، وزارة الثقافة، بغداد، 1987. [10] البطل الملحمي عند عبد الرحمن منيف، مصدر سابق. [11] الكاتب والمنفى، هموم وآفاق الرواية العربية، عبد الرحمن منيف، دار الفكر الجديد، بيروت، ط 1، 1992. [12] البطل الملحمي عند عبد الرحمن منيف، مصدر سابق. [13] مجلة الطريق، العدد 2/1999، تقدمة فصل من رواية أرض السواد للروائي د. عبد الرحمن منيف، بقلم هيئة تحرير مجلة الطريق.
|
|
|