إرهاصات الاعتلال... الديني

عباس حيروقة

 

لكي يمتلك أي دين أو حزب أو تيار مقومات المدِّ الاجتماعي فأنه يعمل، ومنذ إرهاصاته الأولى، على منظومة القيم الأخلاقية للمجتمع، فيرفع من سويته ويعزز إنسانية الإنسان إذ يتوجه، باحتفاء، إلى المقموعين والمظلومين والمقهورين وكل المحتاجين للوقوف، وبكل اعتزاز، في صفِّهم؛ يطرحُ نظريات ومواقف تشدُّ إليها كلَّ من يتوقُ إلى تحقيقِ ذاته في مجتمع العدالة والمساواة والديمقراطية والتحرر من كل أشكال العبودية، فينبذ العنف داعيًا إلى التسامح والمحبة والانفتاح على الآخر، على الثقافات والفضاءات الاجتماعية الأخرى، وينجح أكثر مما نجح أولئك المنظرون الأوائل الذين استقطبوا، في أمدائهم الوارفة، كلَّ الهاربين من قيظ واقع مدجج بالظلم والقمع والعبودية، من سادة وساسة القوم المبني على "الكبير يأكل الصغير" أملاً في أن يجدوا ذواتهم الهائمة بين أنين العوز ودمع الكرامة المسفوكة عند طبق طعام أطفالهم، فيسرون ويطربون بادئ ذي بدء ويشعرون بشيء من روحهم تصفق لانتصارات الحق وأهله - "الناس شركاء في ثلاثة: الكلأ والماء والنار". "ما آمن بي من بات شبعانًا وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم".

"ويدخلون في دين الله أفواجًا" فيفسدون القراءات الأولى، ويطعنون، بكل لؤم، الأيادي المشدودة بالإيمان إلى بعضها البعض؛ يتغلغلون في بنية "الدين، الحزب، التيار..."، يحفظون مبادئه ومنطلقاته، أسماء قادته وقواعده، وينظرون له وعليه فيختلط "الحابل بالنابل"، ويصبح المؤمن الحقيقي بالعقيدة مشكوك بأمره لينكفئ مدهوشًا ويصبح كاليتيم على مائدة اللئام.

ويبقى خيارهم بالجاهلية خيارهم ما بعد الجاهلية، ويصبح الإيمان بالدين أو الحزب أو التيار إيمانًا بالقائد والقيادة، ويصبح الدفاع عن الدين أو الحزب أو التيار دفاعًا عن الأشخاص الجاهليين وزبانيتهم، وتصبح عدم مبايعة فلان أو فلان، أمينًا أو رئيسًا أو خليفة، ارتدادًا أو خيانة أو انقلابًا يستوجب القتل والجلد والرجم. يعود السيد سيدًا والعبد، الذي أعتقه أو حرره الدين أو الحزب أو التيار، عبدًا، ويصبح "رب البيت وأبناؤه غرباء فيه".

"ويدخلون في دين الله أفواجًا"، إنهم الذين انتسبوا إليه ودخلوه تحت الحصار وتحت وقع الرصاص أو صليل السيوف. تسامقوا وتطاولوا إلى أن ملؤوا المكان وغطوا على كل الأشياء الجميلة والعذبة، أثاروا الغبار في أوقاتنا وعكروا حتى مياهنا.

من هنا جاءت أهمية عمل المثقف النقدي والفاعل الثقافي ممدوح عدوان في ليل العبيد طارحًا خطابًا مختلفًا لنقديته الجريئة والحيوية للسائد، خطابًا نقديًا في زمن الخطابات السائدة في الثقافة العربية - ومعظمها خطابات دينية تسليمية مسيطرة تشتغل على الغريزة كعامل أساسي في التنظيم. يقف ممدوح عدوان ويهتف عاليًا في متن عمله:

إن سادتكم في الجاهلية هم سادتكم في الإسلام، وأنت تأتي إليه هاربًا من عبوديتك...

تبت يدا أبي جهل، وتبت يدا أبي سفيان، وتبت أيدي خياركم في الجاهلية الذين أصبحوا خياركم في الإسلام. تبت أيدي أولئك الذين هربنا منهم إلى الإسلام فتبعونا إليه.

ويعود ليصور حال الإسلام بغربة أهله في زمن الخليفة عمر بن الخطاب: (أبو سفيان لبلال الحبشي: "هل تظن أيها الحبشي أننا سنسلم قيادتنا للخلعاء والعبيد" بعد أن قالت هند بنت عتبة لبلال أيضًا: "أتؤيده ضدي يا ابن السوداء").

إذًا هاهم سادة الإسلام الذين هربوا منهم إليه المقهورين: بلال، عمار بن ياسر، أبو ذر الغفاري، عبد الله بن مسعود...

عمل نقدي بامتياز يتناول فيه الكاتب، بجرأة وحيوية، الكثير من القضايا الإشكالية التي ما زالت عالقة حتى الآن، على الأقل في الذهنية الجمعية، كمفهوم الخلافة، المرتد، حروب الردة، قتل مالك بن نويرة، الدخول في الإسلام: ما المرجعية في ذلك، هل الإيمان أم الانتفاع المادي والمعنوي، أم الخوف، أم العجز عن دفع الجزية؟

هذا الخلاف ظهرت نتائجه في مراحل متقدمة من بدء الرسالة بما لا يتجاوز مرحلة الخلفاء الراشدين. أما العصر الأموي وما تلاه من عصور فحدث ولا حرج. إن المتأمل للحراك الاجتماعي الإسلامي وتأثيره لدرجة خلق التعصب والتكفير والتغييب والإلغاء في زمن أولئك المترفين والمترهلين من وجهاء الزمان والمكان الذين يكنزون الذهب والفضة فيفرضون أنفسهم سادة العصر، ويسنون القوانين، ويوزعون الأمصار والمدن على زبانيتهم؛ كل ذلك قاد إلى الانقسام والتباين والتناحر مخلخلاً البنية الاجتماعية التي جاء الإسلام، كدين، للعمل على تنميتها. هذه الخلخلة، التي بدأت منذ صدر الإسلام، تنامت وتطورت وتشعبت لتنال من عوامل القيم المفطور عليها الإنسان.

ما ذهبنا إليه يمكن إسقاطه على أيِّ دين أو حزب أو تيار في مكان ما من هذا العالم، ويمكن إجراء ذات القراءة في بنية مشابهة لها تمامًا: البدايات – الحراك - الجمود الذي آلت إليه البدايات نتيجة الابتعاد عن روحانيات الخطاب الأول والذي، من خلاله، تمَّ استقطاب القوى التي كانت، وما تزال، الحامل الموضوعي له؛ إضافة إلى الابتعاد عن التجديد في الخطاب؛ كل ذلك قاد إلى الغياب والتغييب عن حاضنته الأم.

يبدي ممدوح عدوان موقفًا نقديًا حيال ما جاءت به كتب التاريخ من تسجيلها لمواقف أهم رجالات صدر الإسلام، فيعبِّرعن عدم إيمانه بصوابية المواقف، ويعلن أنها أخطاء جسيمة، وهذا لا يتعارض مع مكانتهم الحقيقية، فهم أناس عاديون لهم أهواؤهم، وهم ينتمون في النهاية إلى التراث الذي يجب إعادة قراءته وفق منهج نقدي موضوعي يكون للعقل، لا للنقل، الأمداء الكبرى فيه،

أظن أن رسول الله، وحده، هو المعني بقوله تعالى: "وما ينطق عن الهوى".

رافعًا القداسة – ونلاحظ أن القداسة والتقديس طالت تاريخيًا الخلفاء والولاة وقادة الجند ورجال الدين، وطالت، في يومنا هذا، حتى شيوخ الجوامع في أقاصي القرى أو من يحيون الذكر، وطالت أيضًا المتنفذين من الساسة والخفر المنتشرين في كل الأماكن والزوايا.

ممدوع عدوان رفع القداسة التي رسمت حول هذه الشخصيات لقرون من قبل المجتمعات العربية والإسلامية وبتحريض من جهات تهدف إلى الإبقاء على الجهل والتجهيل وإشهار عبادة الحجر والبشر سواء؛ رفع القداسة داعيًا إلى قراءة تأصيلية للنص - وهنا نقول إن النص التاريخي المفتوح لا المغلق ولو مرحليًا -، إلى رفع القداسة لا عن المقدس بل عن من اتخذوا منه سبيلاً تأويليًا لفرض ذواتهم المشوهة على العباد، إلى قراءة أولئك قراءة تتلاءم مع روحانية النص وأخلاقيات الرسل التي جاءت لتعزيز مكارم الأخلاق لا لفرض أخلاقيات مغايرة تتلاءم مع حاناتهم وأسواقهم وحرائرهم وسرائرهم وجواريهم.

ونذكر هنا بعض خلفاء العصر والزمان وما مارسوه من قمع وتهشيم لطبقات المجتمع كافة، فاتحين أبوبهم ومجالسهم للجواري والسبايا وقادة الجند المحملين بالجميلات من بلاد الفرس والروم، فنورد ما أورده الدكتور صادق جلال العظم في كتابه في الحب والحب العذري، ص 56:

حين نقرأ في كتب التاريخ أن الخليفة المتوكل مثلاً وطئ أربعة آلاف جارية فإن هذا لا يعني أنه كان دنجوانًا من الطراز الأول بل يعني أنه مجرد فاجر فحسب. وحين تخبرنا الروايات أن الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك تمتَّع بالنساء حتى ملَّهن فقال: أتيت من النساء حتى لا أبالي امرأة أتيت أم حائطًا. ولا تعني هذه الرواية أبدًا أن هشامًا كان شخصية دنجوانية لا يشقُّ لها غبار بل كان مجرد فاسق لا أكثر.

إضافة إلى ما سبق يعمل عدوان على منح العمل صفة الصورة الكاملة والواضحة المعالم من كل جوانبها، فيطرح في عمله ما كان سائدًا من فقر أو تشرد في مراحل ما، وكيف أقدم بعض أبناء المكان، بالسرِّ أو بالعلن، على مهاجمة القوافل بهدف سدِّ الحاجة من لقمة عيش أو رداء أو غطاء، إضافة إلى حالات أخرى مثل وأد البنات أو الاتجار بهنَّ في أسواق النخاسين إلى جوار العبيد.

كما أنه يقدم قراءة متأنية في شخصيات العمل، فهو لا يتناول السيرة الذاتية لهم فحسب بل يطرح آراء ومواقف البنية المجتمعية المكانية منهم، وبشكل يعمل على تنامي الحدث داخل النص، فيشرك المتلقي بالتهيؤ لاستقبال قراءات أكثر دلالة وبعدًا عن السطحية، طارحًا بين أيدينا المزيد من الأسئلة الاستنكارية والاستفهامية الكبرى التي، كما قلنا، تحمل في صياغتها بعض الإيجابات، كما تحمل الدعوى إلى إعمال العقل ونبذ التسليم للنقل. ونلاحظ أنه قدم قراءة متأنية في شخصيات العمل المحورية مثل الوحشي، الحطيئة، هند، أبو سفيان، حسان بن ثابت. هذا الأخير الذي بدا متحاملاً أو حاقدًا في حواره مع الحطيئة وكأنه ليس أكثر من خريج أكاديمية أمنية تدرب فيها على القمع والرفض وإذلال الآخر، بينما نجد الحطيئة يمتلك لغة حوار جاد في معظم جوانب العمل - مع اختلافنا معه في وجهات نظره تجاه بعض القضايا. كما اشتغل الكاتب على التركيبة النفسية للوحشي "آفاق، مأساة"، وعلى حالات الصراع الداخلي التي عاشها، فأخرج الوحشي من دائرة القاتل فحسب - قاتل حمزة -، وقدمه متمردًا غاضبًا من أشياء كثيرة وعلى أشياء كثيرة: على العبودية والظلم والقمع، طامحًا إلى السيادة ومنتميًا إلى حربته فقط:

أنا لا أنتمي إلى أسركم ولا إلى قوافلكم، أنا أنتمي إلى حربتي هذه. هي التي تجلسني حيث أشاء.

الوحشي الشاعر بغربته ووحشته دائمًا:

آه أيها الوحيد في هذا العالم الضاري، إلى أين تلتجئ؟

وتتجلَّى حالات الإدراك والقراءات الصحيحة للوحشي عند سماعه نبأ دخول جيش محمد إلى مكة والصوت المرافق له:

من دخل بيته فهو آمن، ومن دخل مكة فهو آمن، ومن دخل بيت أبي سفيان فهو آمن.

فيصرخ الوحشي ويهذي بعبارات تتردد سواء بالسرِّ أم بالعلن بين العديد من عباد الله الأتقياء المتمسكين بالعقيدة الإسلامية - عقيدة محمد وبلال وعمار بن ياسر وأبي ذر الغفاري، عقيدة علي وفاطمة.

من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن. بيت أبي سفيان يصرخ مناديًا... يا بلال، يا بلال قل لي إذن لماذا تحملت العذاب كله، يا عمار بن ياسر تعال واشرح لي معنى ما فعلته، أنا لم أخلق عبدًا وهم لم يخلقوا سادة؟

هذا الصراخ أعادني إلى صراخ نيكوس كازنتزاكي في روايته الأخوة الأعداء، الصراخ الذي أطلقته الجدة بوجه الأب ياناروس حين كانت حفيدتها الميتة من شدة الجوع محمولة على يدها:

اذهب وقل لمولاك ألم يكن لديه قطعة خبز صغيرة يعطيها إياها.

أو صراخ الأب ياناروس في موضع آخر من الرواية:

يا رب لا أستطيع أن أفهمك، لماذا تعاقب هكذا بقسوة أولئك الذين يحبونك. يا رب! حتى متى يظلُّ عدو المسيح أمير الدنيا؟

إنها صرخة من هول الفجيعة، صرخة أولئك المندهشين لدرجة عدم التصديق: لماذا يحدث كل هذا؟ ولماذا سادتنا في الجاهلية سادتنا في الإسلام؟

عمل ينتمي بامتياز إلى ممدوح عدوان ثقافة وسلوكًا، فعدوان دائمًا يستنطق التاريخي أو الموروث مع التميز هنا ما بينهما، يضعهما على طاولة النقد ويحاكمهما وفق منطق نقدي جريء، يحاكم الشخصيات التي مازالت أصواتها مرتفعة بيننا، شخصيات لها قداستها كما قلنا في نفوس وأذهان العامة، فيأتي ممدوح عدوان ويناقش أفعالها وأقولها بحيادية تارة وباندفاع لا إرادي تجاه نقاء البياض المعرش بين الأنامل وفوق الجبين تارة أخرى، ويتجلى ذلك بوضوح في مسرحيته لماذا تركت السيف، إذ يناقش، بأسلوب أدبي نقدي مبدع، مدى الطغيان والقهر والإذلال الذي مورس على شخصيات في غاية الأهمية بالنسبة لرسول الله من قبل شخصيات أيضًا من المفروض أنها مسلمة، وصاحبت أيضًا رسول الله، ونجحت أيضًا في اقتناص الخلافة والملك. كل هذا يؤكد تاريخيًا، والتاريخ هنا "كمخبر للتجارب الإنسانية"، أن هناك مشروعان متنافران دائمًا هما: التجار والملوك والأغنياء من جهة وكل الفقراء والمحتاجين والمظلومين من جهة أخرى. ودائمًا نلاحظ أن كل الأديان والأحزاب تأتي لمناصرة الفقراء والمحتاجين ضد الغول المادي وأسياده، ولكن لا تلبث أن تنقلب الآية فيتحول هذا الحزب أو الدين إلى مزرعة لهم ولأولادهم وذويهم، فيبعدون منها بالسباب والشتائم من قد ينغص عليهم، أو على زبانيتهم، الصباحات التي يشتهون، ويشرعون أبوابها لأبناء العتمة؛ وهذا ما يؤكده التاريخ فعليًا.

إذًا إنها الأسئلة الكبرى التي لا تحتاج الإجابة عليها إلا لرفع القداسة عن كل المضامين الحقيقية لمصطلحات ومفاهيم تشكل، حتى الآن، في الذهنية العامة الكثير من الرهبة والإدهاش لطرحها في حوارية ما حتى يتمكن المتلقي من الإيمان أو عدمه، أو التصديق أو عدمه، بعيدًا عن الصدامية أو التكفير، وبعيدًا عن العصبية المتراكمة في ذواتنا، وكل ذلك ضمن مناخ عقلاني تقبلي يتيح إنتاج نص عقلاني ينسجم مع روحانية النص المغلق وأخلاقيات الرسل والأنبياء فقط.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود