تعتدي سيدة تختال عاريةً في بلاد مسلمة على المسلمين مثلما تعتدي سيدة منقبة على الفرنسيين
مدير تحرير مجلة لوموند الأديان الفيلسوف وعالم الاجتماع فريديريك لونوار متحدثًا إلى النهار:

حوار مع فريديريك لونوار

 

يخرج الفرنسي فريديريك لونوار قلم الفيلسوف وعالم الاجتماع والملقِّن الرصين، ليبحر في إشكاليات الديانات وتبعاتها الاجتماعية والنفسانية، من موقعه مديرًا لتحرير مجلة لوموند الأديان الفرنسية، وعلى وقع قرن صاخب بزغ من صدام مدوٍّ بنتيجة اعتداءات الحادي عشر من أيلول 2001. ولأن لونوار لا يعتمد الفصل بين الاختصاصات على نحو عمودي، فقد كان له صدى واسع بين القراء من طريق رفٍّ من المؤلفات، من مثل المسيح الفيلسوف وكتاب اعترافات صحبة الأب بيار بعنوان يا رب... لماذا؟، فضلاً عن محاولة تشريح كتاب دافينتشي كود (بالتعاون مع ماري فرانس ايشتغوان) بعنوان كود دافينتشي، التحقيق. نزيد إليها تحولات الله حيث يرقب دروب الروحانيات الجديدة ليجعل غير المطلعين يهتمون بروحانية غير عقائدية صارت من سمات القرن الميَّال إلى النقد والتلاقح والتهجين. في زمن يعاينه الفيلسوف دومينيك لوكور "زمن المفكِّرين التافهين" اللاحق لزمن "المفكِّرين المعلِّمين"، يقدِّم لونوار مثالاً على دعوى منظِّر جديد ليس جامعيًا بالكامل أو تسويقيًا بالكامل، وإنما نموذج أكاديمي لا يهاب وسائل الإعلام.

على هامش "معرض الكتاب الفرنكوفوني" في نسخته السابعة عشرة في بيروت المدينة التي أتاها لونوار مبكرًا قبل الموعد المحدد، ليضيع فيها ربما ويكتشفها على نحو أفضل، حاورته في العلمنة الفرنسية، والمقاومة الاجتماعية للتعبير الديني العلني على نسق النقاب والحجاب في بلاد ترفع لافتة العلمنة، وفي اختلاف النقاش التشريعي في المسألتين الحساستين.

ر. ر.

*

رلى راشد: تتولى إدارة تحرير مجلة لو موند الأديان الفرنسية، الصادرة منذ العام 2003، كثمرة تعاون بين مجموعتين صحافيتين بارزتين هما "لا في" (الحياة) و"لو موند". تعتبر خط المجلة التحريري علمانيًا، ولكن عن أي مفهوم للعلمنة تتحدث تحديدًا؟ هل تشير إلى العلمنة الراغبة في إبطال تأثير قبضة الأديان على الحيِّز العام، أو إلى مفهوم ثان يودُّ تأكيد حياد الدولة في حين يضمن حرية معتقد كل امرئ طالما أنه لا يؤذي المصلحة العامة؟

فريديريك لونوار: يندرج خط مجلة لو موند الأديان التحريري في إطار المفهوم الثاني، أي إننا نعتمد الحياد في مقاربتنا العلمانية للأديان. لا نسعى إلى إطلالة طائفية على نسق مطبوعات صحافية عدة تتمحور على الأديان في فرنسا، من مثل عناوين "لا في" و"لا كروا" و"لو بيلران" الكاثوليكية وصحيفة "ريفورم" البروتستانتية أو "تريبون جويف" الشهرية اليهودية. نريد أن نظهر أننا لسنا مجلة تنطق باسم طائفة معينة، لهذا السبب نلفت إلى أننا علمانيون بالمعنى الحيادي، أي إننا لا نسوِّق لدين معين وإنما نضطلع بدور يفسِّر تنوع الديانات من خلال منظور ثقافي وجامعي نريد أن نرتقي به إلى أعلى قدر من الموضوعية.

ر. ر.: تحاول في افتتاحيتك في أيلول المنصرم أن تستفهم ما تسمِّيه "وجه المسيحية الجديد". تكتب عن "إيمان يدنو كثيرًا من إنسانوية علمانية لحقوق الإنسان هي قاعدة قيمنا الحديثة، بسبب إحالته على حب القريب كعلامة على حب الله". هل تصل في محاججتك إلى حد تأكيد أن الخطاب الإنسانوي الغربي هو في المحصلة خطاب مسيحي مُعلمَن إلى حد بعيد؟

ف. ل.: أجل، هذا ما أرغب في قوله تمامًا. خصَّصت كتابًا بحثيًا في هذا الشأن عنوانه المسيح الفيلسوف حيث أبرهن، بالاعتماد على منطلق تاريخي، أن ثمة مفارقة هائلة في التاريخ المسيحي لأنه طوَّر رسالة كونية قائمة على التضامن الإنساني وعلى التسامح واحترام الاخر وعلى العلمنة أيضًا، بمعنى الفصل بين السياسي والديني. ذلك أن السيد المسيح يقول "اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، فضلاً عن إشارته إلى أن "مملكتي ليست من هذا العالم". أسست هذه الرسالة للإنسانوية، أي لنظرة إلى الإنسان تقوم على الاحترام والتسامح وسواها من المفاهيم. بعدذاك، عندما تسلَّمت الكنيسة السلطة، في القرن الرابع الميلادي، حادت عن هذه الرسالة على الرغم من أنها دأبت على الحديث عن الإنجيل. تم الخلط بين الرسالة والسلطة السياسية. وعلى هذا النحو حكم رجال الدين المجتمع وبلغ بهم الأمر إلى حد القتل باسم يسوع المسيح، وهذا أمر غير منطقي وانحراف حقيقي. والحال أن محاكم التفتيش شكَّلت المثال على هذا التوجُّه على مرِّ خمسة قرون. على هذا النحو ثار مفكرو الإنسانوية على الكنيسة في عصر النهضة، وبعدذاك في عصر التنوير، رافضين القبول بمجتمع يسيطر عليه دين بالمطلق ولا يترك للفرد حرية المعتقد والتعبير. هنا تكمن المفارقة الهائلة، ذلك أنه ومن أجل تأكيد إنسانوية النهضة وعصر التنوير، ومن أجل إيجاد مبررات لتوفير حرية التفكير والتعبير للإنسان، تم الاتكاء إلى الإنجيل. طالب مونتان وفولتير وايراسم وسواهم من المفكرين بالرجوع إلى الإنجيل للقول إن المسيح لم يفرض أي شيء وإنما ترك الحرية الشخصية للمرء، وأنه لم يأتِ ليدين وإنما لإمرار رسالة محبة ومغفرة، وهذا ما ينبغي تطبيقه. تدين الإنسانوية الحديثة تاليًا إلى الفلسفة الإغريقية وإلى الإنجيل أيضًا، بيد أن ذلك أمر نتناساه لأن انعتاق المجتمعات الأوروبية تبلور كحركة مناهضة للكاثوليكية فورثنا تاليًا فكرة وجود صراع بين الدين والعالم الحديث لا حلَّ له. ننسى أن رسالة الإنجيل هي رحم العالم الحديث في جزء كبير منه. لهذا السبب ولدت الحداثة في أوروبا المسيحية وليس في مكان آخر.

                 

ر. ر.: في القرن التاسع عشر تم التأكيد، خصوصًا في فرنسا، أن العلوم ستفسر كل شيء وستقضي على جميع الأسرار، في حين لا يعود ثمة مكان للدين. غير أن نحو ستين في المئة من الفرنسين راهنًا يعلنون أنهم مؤمنون، علمًا أن المجموعات الدينية التقليدية إلى تراجع. لا تزال الحاجة إلى البعد الروحاني جلية، لكنها تجري خارج الأطر التقليدية. نلاحظ في الغرب تاليًا نجاح تيار بوذي ينتشر في التيبت فيما يهمش في معظم الدول الآسيوية. هل ترى أننا لا نزال نعيش في حقبة ما يعرف بـ"السوبرماركت الديني"، وأنتَ تابعت دروب المقدس البازغة وحلَّلتها في كتابك تحولات الله حيث تبحث في نماذج التطرُّف والروحانيات الجديدة؟

ف. ل.: تشخِّصين واقعًا موجودًا فعلاً، بل ويتعزَّز. في الماضي، عاش المرء في عالم مقفل إلى حدٍّ معين حيث امتلكت كل حضارة دينها فيما لم يكن الفرد يطرح الأسئلة، كان يلد ويجد نفسه منتميًا تلقائيًا إلى دين أهله وأجداده كجزء من الإرث والثقافة واللغة. لا يزال هذا النموذج منتشرًا على نحو واسع في لبنان في حين تم فكُّ الرابط بين الدين والهوية في القارة الأوروبية منذ زمن طويل. كلما تقدَّمت المجتمعات بات الدين مسألة خيار شخصي. يولد المرء مسيحيًا على سبيل المثال غير أنه لا يعدُّ نفسه كذلك سوى في حال كان مؤمنًا ويمارس الصلاة. صار الدين في العمق روحانية ننتقيها. غير أنه يحصل ضمن هذه الخانة مزج لأنماط شتى، ذلك إنه إبان قيام الفرد ببحثه الشخصي ثمة احتمال بأن يجد معنى في هذا الدين أو سواه، في حين يصل به الأمر أيضًا إلى إضافة تقنيات لا تنتمي إلى الطقس الديني عينه في الضرورة. أشرتِ قبل حين إلى البوذية؛ نجد في فرنسا اليوم عددًا كبيرًا من اليهود والمسيحيين والمسلمين لا يزالون يعتنقون تقليدهم الديني ويرفضون أن يغادروه بل ويتمسكون به لأسباب كثيرة، غير أنهم يبدون الحاجة إلى عناصر روحانية إضافية تساعدهم في العيش. على هذا النحو سيقول أحدهم مثلاً إنه وجد في التأمل التجاوزي البوذي تقنية تساعده في العيش، أو ربما يصفه بالسند، يوفِّر له الراحة ويدعمه عمليًا في محاولة التحكم بعواطفه وقلقه ومخاوفه وتوتره. يعلن تاليًا ببساطة أنه مسيحي وبوذي، أو يهودي وبوذي، وفي وسعه كذلك أن يعتبر نفسه مسيحيًا ومؤمنًا بالتقمص. إنه خليط بالمعنى الحرفي لأنه ينقلب على المفاهيم الامتثالية. غير أن حاجات الأفراد تقدم تبريرًا له. يشهد الوعي الديني راهنًا ثورة "كوبرنيكية". لم يعد الدين يفرض نفسه على الأفراد وإنما صار الأفراد يبحثون في الدين عما يساعدهم في العيش على نحو أحسن.

ر. ر.: هل يعدُّ هذا التبدل أحد رموز زمننا المتصل عضويًا بالحداثة والفردية والحس النقدي، وما هو حجمه الفعلي؟ تذهب إلى التأكيد أننا نمرُّ حاليًا بإحدى "أكبر حقبات التغييرات الدينية التي شهدها العالم"، تذكِّر بالقرن السادس عشر وعصر النهضة، أي بدايات الحداثة عمليًا.

ف. ل.: هذا صحيح، ومرده إلى أسباب متشعبة. هناك العولمة أولاً، ذلك أننا لم نبلغ هذا الحدَّ من الاختلاط في السابق، ويعود ذلك إلى وجود وسائل إعلام تسمح لنا بأن نطَّلع على كل ما يجري في كل رقعة من العالم. صار العالم قرية وبات كل شيء معلومًا. وأدى ذلك إلى تبديل الصورة تمامًا، ذلك أنه أفرز اختلاطًا كبيرًا ومخاوف هائلة أيضًا. ويترجم هذا الوضع بانعزال الناس من جهة وميلهم إلى الاختلاط من جهة ثانية. إنه مشهد من الانفتاح والتقوقع غير المسبوقين. تفرز هاتان الظاهرتان تشنُّجات وتضاربات لم نألفها. يعرف العالم راهنًا أيضًا تعجيلاً للزمن والحركة. في الماضي، جرت التبدلات تدريجيًا، فلم يحصل سوى تطور تقني واحد خلال جيل، أما اليوم فيحمل كل صباح جدة فيسوَّق لطراز هاتف خليوي ريادي يرافقه تبديل سياسي جذري يقلب جميع المعطيات من حجم سقوط حائط برلين مثلاً. تتسارع الحوادث بنمط مهول، وهذا يؤدي إلى تعديل علاقتنا بالعالم والآخرين، ويولِّد في رأيي خشية بالغة وحالاً من اللااستقرار. لا ندرك إلى أين تجرفنا هذه الظواهر الطارئة على التاريخ. يهمني أن أرصد التبدُّل في أنماط العيش وأدرس تبعاته على مستوى إيماننا وروحانياتنا. اهتم كثيرًا بتاريخ الأديان. ولاحظت، في أعقاب فلاسفة من قبيل الألماني كارل جاسبيرس، أن ثمة حقبات أساسية في تاريخ البشرية تشهد تبدلات في أنماط العيش تنتج تبديلاً في التصرفات الدينية. يعدُّ الانتقال من الفترة الباليوليتية إلى الفترة النيوليتية أهمَّ المحطات في هذا السياق. ذلك أن الإنسان ما قبل التاريخ كان من البدو ينتقل ضمن مجموعات صغيرة وعندما صار من الحضر تبدَّلت ديانته. كان يعتنق معتقدًا على علاقة بالطبيعة ويؤمن بوجود أرواح تهيم فيها ويتعبَّد لها، وعندما بات من الحضر استبدل أرواح الطبيعة بآلهة المدينة وتضرَّع لها لينال الحماية. في كل مرة جرى انقلاب في نمط العيش رافقه تبدُّل في المعتقد. يلبي الدين تاليًا حاجات الأمان وحاجات بدئية أيضًا. نفتش في ثناياه على قهر الخوف والموت وبلوغ الاستقرار. عندما تتبدل أنماط العيش إذًا، تتبدل الأسئلة والإجابات كذلك.

ر. ر.: أصدرت كتبًا عدة حققت مبيعًا لافتًا. نجد في بيبليوغرافيتك مؤلف اعترافات مع الأب بيار بعنوان يا رب... لماذا؟، ومحاولة تشريح كتاب دافينتشي كود (بالتعاون مع ماري فرانس ايشتغوان) بعنوان كود دافينتشي، التحقيق، فضلاً عن وجع الأرض وهو كناية عن حوار مع عالم الفلك الفيزيائي ومدير البحث في المعهد الوطني للبحث العلمي اوبير ريفيز يتمحور على أحوال كوكب الأرض. ما هي صيغتك للنجاح، هل التموضع إزاء الموضوعات الساخنة وبسطها للنقاش؟ وهل تكون تلك دعوى المنظِّر الجديد؟

ف. ل.: أقرُّ بأن كتبي تلاقي نجاحًا واسعًا. لا يسعني تفسير ذلك. غير أني أدرك أني اختار موضوعات تهمني ولا أعير الانتباه لاحتمالات النجاح أو الفشل. أنا صادق في هذا المعنى تمامًا. ناهيك بأني اتمتع بشخصية فضولية ومنفتحة، ويروقني أن أفهم الجانب المركَّب للمسائل، واهتم للمقارنة بين الأديان والفلاسفة والطرق الروحانية. أظننا عشنا في انغلاق ليس على مستوى الأديان فحسب وإنما على مستوى المعارف. كنا ندرس التاريخ وعلم النفس والفلسفة وعلم الاجتماع، ثم جرى فصل جميع هذه الاختصاصات. غير أني اعتبر أنه لا يسعنا فهم عالمنا الراهن المركَّب في حال سلَّمنا بهذا الانغلاق. من الملحِّ تقديم مقاربة تاريخية ونفسانية واجتماعية في آن واحد بغية فهم الإنسان وإنجاز انتروبولوجيا جديدة وتناول الحاجات الاجتماعية، وهذا ما أشتغل عليه في مؤلفاتي. أيًّا يكن الشأن الذي أتناوله، فأنا أقاربه من الجنبات كافة لأن ذلك يؤدي إلى فهمه في تشعباته. في تحولات الله، تناولت كل الصيغ الجديدة في مجال الروحانيات، وانطوى الكتاب على بعد نفساني محوري. عندما نسأل لماذا يجنح الأفراد إلى الانضواء في بدع معينة، لا نعثر على جواب اجتماعي وإنما نفساني. نفهم ما يختبرونه انطلاقًا من الحاجات الفردية، وليس وفق التطورات الاجتماعية. ينبغي دومًا إيجاد أداة جديدة من أجل فهم تركيب ثيمة معينة. أظن أن غنى المقاربة هو أحد مفاتيح النجاح الكتابي، ذلك أن من شأنه أن يوضح الواقع بطريقة أفضل لا تبلغها المقاربة الأحادية. ثمة تفصيل إضافي وهو تبسيط المعرفة، ذلك أني اسعى إلى جعل موضوعات صعبة سهلة المنال، ولا يمكن أن نصل إلى ذلك سوى بنتيجة عمل دؤوب وإلا اقترفنا الهفوات. سمحت لنفسي منذ عشر سنين فحسب بأن أصدر أعمالاً شخصية حيث أعبِّر ببساطة عن شؤون معقدة. جرى ذلك بعد عقدين من الدراسة الأكاديمية، مدفوعًا بحسِّ التلقين ونقل المعرفة. هذا ما يروق للقراء فعلاً لأن معظمهم يخبرونني أني وفقت في أن أجد الكلمات لأعبِّر عما كان يراودهم من دون أن يستطيعوا قوله. أتواصل مع القراء من هذا الطريق.

ر. ر.: ما هي في رأيك محدوديات الفكر الإعلامي الذي غمر تقريبًا الفكر الأكاديمي؟

ف. ل.: أظنني في منطقة وسطية بين الاثنين...

ر. ر.: أسأل هذا، لأن الفيلسوف البريطاني برتراند راسل يعتبر أنه "يمكن الفلاسفة السيئين أن يتركوا أثرًا، في حين أن ذلك محال على الفلاسفة الجيدين". بينما يذهب الفيلسوف الفرنسي دومينيك لوكور في المفكِّرون التافهون إلى انتقاد بعض المثقفين الفرنسيين الذين يطمحون إلى بلوغ مرتبة "زعماء الرأي" الاجتماعية ليخلص إلى أن عصر "المفكِّرين التافهين" حلَّ مكان عصر "المفكرين المعلِّمين".

ف. ل.: أرى أنه يصيب في وصف الحال تمامًا. في فرنسا راهنًا، لا أشعر أني معني بفئة من المثقفين يسمحون لأنفسهم بالحديث عن كل شيء ولا شيء. في وسعهم أن يقدِّموا تحليلاً للموضوعات السياسية كالحرب اللبنانية في حين لم يزوروا البلاد قط، أو تحليلاً عن سقراط ربما. يسمي الإيطاليون هؤلاء "توتولوغ"، اي الاختصاصيين بكل شيء، أما الهدف فالاستيلاء على فسحة الكلام العلني في جميع الأمور وهذا عبثي. لا يمكن المرء أن يتخصَّص في جميع الميادين وأن ينظِّر فيها. اكتفي بنطاق اختصاصي، ولا أجري مداخلات سياسية، على الرغم من شغفي بمسائل عدة على نسق الصراع العربي–الإسرائيلي مثلاً، بيد أني لا أقبل أن أبدي رأيي الشخصي في هذا الصدد في وسائل الإعلام. لا أعدُّ نفسي تاليًا في خانة المفكرين الإعلاميين المنخرطين في جميع الميادين أو في خانة الجامعيين الذين يهابون الإعلام. أقول إني أكاديمي لا يهاب وسائل الإعلام بل يستخدمها بهدف امرار معرفة جدية وصارمة وإنما على نحو سهل المنال.

ر. ر.: من الامتثالي التقريب بين الديانات السموية الثلاث المنبثقة من ابرهيم الخليل، أي المسيحية واليهودية والإسلام. غير أن الفيلسوف والمؤرخ والمستشرق هنري كوربان يظهر في بحثه مفارقة التوحيد أنه وفي حال الحركات الغنوصية الإسلامية واليهودية والمسيحية، وبدءًا من تجلٍّ واحد، تم فتح طريقين، أحدهما للديانات الرسمية وآخر للديانات الباطنية. عوضًا من البحث في ديانات ذات جذع مشترك، اخترت في مؤلفك سقراط والمسيح وبوذا اتباع مسار غير امتثالي سعيًا إلى إيجاد تقاطعات بين شخصيات تتوزع بين الفلسفة والدين.

ف. ل.: في الواقع ثمة فسحات مشتركة كثيرة بين سقراط والمسيح وبوذا، ذلك أن هذه الشخصيات الثلاث اختبرت تجربة إنسانية عميقة بلغت أبعد مكان محتمل في فهم الإنسان. أنجز كل منهم ذلك على حدة، في سياقات مختلفة؛ أحدهم في إطار الفكر الاغريقي، والثاني في إطار التأمل الهندي، أما الثالث فضمن الفكر السامي. غير أن الثلاثة نطقوا بمضمون متقاطع، لأنهم وصلوا إلى أقصى الحقيقة، إلى أقصى التجربة الداخلية، وإن جرى ذلك من طريق لغات وأطر ثقافية مختلفة. هذا يبرهن وجود فكر إنساني كوني. لا يمكن حصر ذلك بسقراط والمسيح وبوذا، ذلك أن مسار جميع المتصوفة يتقاطع، في حين تتفرَّع جميع العقائد. العقيدة ثقافية وتتصل بترسب ثقافة معينة وتنطوي كل واحدة على طقوس وخطب لاهوتية متفاوتة. ثمة وجود للغات عدة وأنماط عيش عدة وديانات عدة أيضًا، بلا ريب، غير أننا نسأل جميعًا في التجربة الباطنية وفي الحكمة العميقة عما يجعل المرء سعيدًا؟ نسأل كيف نتصرف إزاء المعاناة؟ كيف نستعد للموت؟ لنجد أن القيم الأساسية عينها في جميع التقاليد التأسيسية والروحانية. ولن أذهب إلى إدراج الغنوصية في ذلك طبعًا. غير أن التيارات الروحانية تتقاطع في العمق، وهذا شائق فعلاً ويعني أننا نتقاسم قيمًا مشتركة أساسية وإنسانوية وميتافيزيقية تسمح بانجدال جميع الروحانيات بعيدًا من الاختلافات الثقافية.

ر. ر.: أرغب في النهاية الحديث عن تعبير الديانات الاجتماعي الذي يشغل النطاق السياسي ويقلق المجتمع المدني الفرنسي، بدءًا بقضية حظر الحجاب في العام 2004 وصولاً إلى مسألة حظر النقاب أخيرًا. استقبل البعض التشريع في مسألة الحجاب في منطق السعي إلى جعل المدرسة "معبَدًا" أي مكانًا منزَّهًا، في حين اعتبروا أن لقانون حظر النقاب وظيفة قمعية وتعبيرية في آن واحد. هل يترجم ما يجري صراعًا خبيئًا على الحفاظ على السلام الاجتماعي في فرنسا. هل ثمة صراع قيم واقتناعات ملازم للتنوع، وهل وصلت الحال إلى ضياع روح الجمهورية على ما يحاجج المفكِّر ريجيس دوبريه؟

ف. ل.: أنت محقة تمامًا في الإشارة إلى وجود اختلاف كبير في النقاش بين مسألتي النقاب والحجاب. أثارت مسألة النقاب تعبيرًا عن الحساسية، بمعنى أن البعض انزعجوا من رؤية نساء يرتدين النقاب. انطلاقًا من هذا الشعور السائد في وسط نحو تسعين في المئة من الفرنسيين، انبثقت الرغبة في حظر هذه الظاهرة لأنها استثارت فيهم الاحساس بالتعرض للانتهاك أو الاعتداء. غير أن ما جرى ينمُّ عن بعد عاطفي عميق أيضًا. والحال أن آخرين اعتبروا أنه ينبغي لنا تخطي هذا الانفعال على الرغم من شعورنا بالاعتداء، ذلك أنه يحقُّ لأي شخص أن يفعل ما يشاء، تمامًا مثلما يسمح للنساء بارتداء ثياب غير محتشمة. هناك صراع مثير للاهتمام بين أولئك الذين يشدِّدون على التمسك بالقيم التأسيسية للجمهورية، أي حرية التعبير والمعتقد التامة، وأولئك الذين يجدون أنه يصعب الموافقة على أن يجبر رجالٌ ملتحون النساء، من موقع ذكوري، على ارتداء النقاب، في حين لا يطلب منهم النص الديني ذلك حتى. والحال أن الصراع قائم بين الرؤية الفكرية من بعد والتعبير العاطفي، أي بين الحساسية والعاطفة والمنطق تحديدًا. أعرف فلاسفة يبيِّنون حساسية شخصية إزاء المنقبات غير أنهم مستعدون لخوض المعارك ليسمح لهن بارتدائه. غير أن حساسية الفرنسيين العالية إزاء النقاب، تعني أن من شأنها أن تؤدي إلى مشكلة اجتماعية، لهذا السبب تم اقرار القانون، تلافيًا لإرباك النظام العام. يشعر الناس أنه يتم الاعتداء عليهم، ويمكن المشابهة بين إشكالية النقاب وما يمكن أن يجري في حال سُمح للنساء في بلاد مسلمة بالظهور عاريات علنًا. سيبرز عندئذ صراع قيم مماثل لما نختبره في فرنسا راهنًا. نشعر أن سيدة منقبة تعتدي علينا، تمامًا مثلما يمكن سيدة تختال عارية في بلاد مسلمة، حيث ستقابل بلا ريب بالمنع لأن من شأن تصرفها أن يؤدي إلى ثورة. المسألتان صنوتان، ولهذا السبب تنطوي قضية النقاب على قدر عال من الحساسية.

أجرى الحوار: رلى راشد

*** *** ***

النهار

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود