|
المختارون الموحدون العارفون من كل الشعوب
وعليكم السلام ورحمة الله التوحيد حقيقة واحدة موحِّدة. هي وحدانية الوجود الذي من وجوده جاء كل الوجود. هذا هو الحال. عندما يتحوَّل قلبك إلى الحق حتى يصبح هو الحق الوحيد الأوحد، الناجي، الذي لا يحدُّه مكان، ولا يدركه زمان، البعيد عن الأذهان، والمحجوب عن الكشف والبيان، وحده الواحد الماجد، الحاضر الخالد، الأحد الصمد. والتوحيد درجات ومقامات، وأول درجات السلم للتوحيد هي أن يضع المهتدي نفسه محل الضال فيرى كيف ضلَّ من ضلَّ واهتدى من اهتدى فلا ينكر ضلال الضال ولا يعظِّم من اهتدى، بل يرى أن الأمر واحد ولله في ذلك ألف شاهد. التوحيد ليست كلمات بل هي آيات اختبرتها ووجدتها في داخلي وحلَّقت فى سمائها الصافية فأبحرت روحي بها وفيها، بل أصبحت أنا هي وهي أنا، وكلٌّ منا يعكس جمال وروح الآخر. التوحيد أن تجد نفسك وتعرفها حتى تستطيع أن تجد الله وتعرفه فتكون شاهدًا على عرفانك وتوحيدك. إننا جميعًا مختلفون، ولكن في الحقيقة نحن جميعًا نقف أمام صور لامتناهية لذات الكتاب، ذي المعاني الواحدة. هذا هو العهد الجديد، ثورة التجديد والبعث وإزالة الحجب والحدود، وتلك هي حقيقة الشهادة العرفانية. شهادة قال فيها نبينا الكريم: "من عرف حدودها وأدى حقوقها دخل الجنة". فيا لتلك الشهادة يشهد بها الله في كماله أن "لا إله إلا هو". وأشرقت الأرض بنور ربِّها فمن أشرق النور عليه فهو في سعادة ونور، ومن حجب نفسه عن النور فهو في شقاوة وظلام. "الله نور السموات والارض"، "نور على نور"، "قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورًا مبين". والله واحد ونوره واحد وله في ذلك ألف شاهد. وبنور الله اهتدى أهل السماوات والأرض لوجوده وسجدت وأسلمت كل موجوداته، وله أسلم من في السموات والارض. ونوره متجل في كل زمان ومكان، والأرض لا يمكن أن تخلو من مظاهر نوره. ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت، فارجع البصر هل ترى من فطور. كنت أبحث عن الله في أماكن العبادة فما وجدته... وغفلت وعمت بصيرتي عنه وهو في داخلي وفي قلبي. الآن أصبحت لا أرى خلف ولا تحت كل ستار إلا طيفه هو. كنت مستعدًا أن أبيع كل الشموس والأقمار والنجوم في هذا الكون لأشتري فقط بارقًا يبرق وطالعًا من نوره. طال بحثي وغربتي واغترابي وتعددت طرقي وطرائقي حتى وجدت ضالتي ورغبت وأحببت طوعًا وكرهًا. أيها الإنسان ارجع إلى ذاتك وأخلو بنفسك وأسألها، وغازلها، وقل لها: يا نفس إنما أنت من ماء ومن طين. سألتها، ووقفت عند إجابتها كثيرًا متأملاً أولاً ومفكرًا ثانيًا فتهت وتعجبت وانشغلت (جاءني الجواب: اعرف نفسك يا مسكين تعرف ربك)، فقلت ورديت إن المعرفة وخاصةً معرفة النفس لا تتم إلا بحالة شاهد وليس مشاهد؛ فمن الشاهد أنا أم نفسي؟ ومن هو المشاهد؟ وأين الشهادة؟ الشهادة أن تكون شاهدًا على نفسك؟ ولكن، ما دامت أنا موجود فقد رحل الشهود لأن كمال الشهود أن تعلم أنك غير موجود وموجود في الوقت نفسه، وهنا يتمثل لنا كمال التوحيد في معرفة النفس. التفريق بين العالم والعارف. التفريق بين أوهام الحقائق وحقائق الأوهام. فإن كان العالم علم بالبرهان ما يكون وما كان، فإن العارف شاهد عيان. وإن قال أشهد فهو قد شهد فعلاً. أليس العارف من أطلعه الله على ذلك فاختبره في ذاته لا عن شهود ولكن عن يقين؟ يا إلهي، كيف يمكننا أن نفصل الرقص عن الراقص، الرسَّام عن لوحته، المغني عن أغنيته. إن يتحد السامع مع المسموع، والناظر مع المنظور، والسماء مع الأرض، وأنا مع نفسي. والذي يبصره العاشق لا تبصره نافذة رؤية الفكر والعقل. هذه المرتبة في معرفة الله تعالى هي حق توحيده بموجوداته وتنزهه عنها فهو مستقل بحد ذاته، لذلك الموحد العارف يعلم بأن الخضر كان شاهدًا وموسى كان مشاهدًا. ولكن، متى نسي العارف أنه هو ذاته المعروف، ونسي أن في ذاته طريقة التعرف. عجبًا منك ومن تواجدك يا إنسان، تعيش على سطح الوعي، وتموت عليه. الحياة الحقيقية ما هي إلا دقات قلب اللحظة التي نحيا فيها الآن؛ إنها توحيد اللحظات، فما بالنا لا نعي ذلك؟ أين أنت وأين هو؟ لا تبحث بعيدًا، إنه منك وإليك، وصلتك إليه ومنه قلبك ووعيك. لقد وجدتُه في قلبي وفي نفسي، أنا منه وفيه، فرأيت الكثرة في عين الوحدة والوحدة في عين الكثرة، رأيت فيض الله متجليًا نور على نور، ووجدت ذلك النور ورأيته متجليًا في جميع البشر والحجر والشجر، وعرفت أنه لو انقطع هذا النور لحظة عنا لهلكنا. ومن حينها لم يعد لديَّ أيَّة أسئلة، ولا احتاج أن أثبت وجوده أو نفيه لأن عرفانه وتوحيده حالة لا توصف بأنها اتصال ووصال. الموحد عارف وليس عالم ولا توحيد بلا عرفان. الموحد العارف يرى بعين الحق والبصيرة ولا يجد اختلافًا في الكون ولا تعارضًا بل إنه يقول في كل حين: ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت، فارجع البصر هل ترى من فطور. الموحد يرى في الظلم عدلاً وفي العدل فضلاً وفي الجهل علومًا مستورة وفي العلوم المستورة ألف حكمة وحكمة. الموحد والعارف الحقيقي زالت عنه الحجب فانكشف عنه الغطاء فاستنار وأنار فرأى وعلم ووجد فتذوق وأدرك فعاين وجالس وكالم فوصل واتصل؛ فهو القتيل في حبه والغارق في بحور معانيه، وسبحان من جعل أمام كل مخلوقٍ طريقًا إليه وفي كل روحٍ نورًا منه. لذلك، ولذلك فقط، سيظل الموحدون العارفون من كل الشعوب هم المختارون من كل الشعوب والأمم، والمذاهب والأديان، وهم صفوة العائلة الكونية والإنسانية. إلهي، أنا إذا ذكرت ذنوبي ومعاصي لم تقر عيني للذي كان مني، فأنا تائب إليك فأقبل ذلك مني، ولا تجعلني لنار جهنم وقودًا بعد توحيدي وإيماني بك. فاغفر لي ولجميع الموحدين أبناء النور برحمتك. آمين يا رب العالمين. والسلام والحب والتوحيد لنا وبنا جميعًا تنبيه: لا بدَّ لنا هنا من التنبيه إلى أن مصادر هذا المقال ومراجعه كانت كثيرة ومتشعبة، مما يصعب علينا ذكرها جميعًا. لذا نقدِّم اعتذارنا سلفًا لكلِّ مَن اقتبسنا منه ولم نذكر اسمه أو عنوان كتابه أو مقاله. |
|
|