الوهَّابيون الجدد

 

محمود الزيباوي

 

يستمر مسلسل تدمير الأضرحة في ليبيا، ويتواصل بقوة في الأسابيع الأخيرة، مما يعيد إلى الذاكرة حركة مشابهة انتشرت في جزيرة العرب في زمن ما يُعرف بـ"الدولة السعودية الأولى" حيث "أمسى تدمير الأضرحة وتكسير القبور التابعة للأئمة والمشايخ شغل الوهابيين الشاغل"، على ما كتب الرحَّالة جون لويس بوكهارت.

زار مكة قديمًا عدد من الرحالة الأوروبيين، أشهرهم قاطبة جون لويس بوركهارت. هو في تعريف خير الدين الزركلي في "الأعلام" مستشرق سويسري، ولد في لوزان، ودرس في ألمانيا ثم في بريطانيا، وحمل الجنسية الإنكليزية،

ورحل إلى حلب، فتعلم العربية وقرأ القرآن وتفقه بالدين الإسلامي. وزار تدمر ودمشق ومصر وبلاد النوبة وشمال السودان، ثم مضى إلى الحجاز مسلمًا أو متظاهرًا بالإسلام، وتسمَّى بإبرهيم بن عبد الله، فأدَّى مناسك الحج وقضى بمكَّة ثلاثة شهور، ثم عاد إلى القاهرة سنة 1815 وقد أخذ منه الاعياء كل مأخذ. في السنة التي بعدها، زار سيناء وعاد إلى القاهرة في يونيه 1816، وكان يعتزم السفر إلى فزان، ليبدأ منها رحلة جديدة للاستكشاف، لكنه مرض وتوفي في القاهرة، موصيًا بمجموعة مخطوطاته إلى جامعة كامبردج.

ترك بوركهارت مجموعة من الكتب، أشهرها رحلة للشام والأراضي المقدَّسة، ورحلة لجزيرة العرب، ورحلة للجزيرة مع مذكرات عن حياة البدو، وملاحظات عن البدو والوهابيين، وقد نقل غاندي المهتار الكتاب الأخير إلى العربية، ونشرته "دار الانتشار العربي" عام 2005. في هذه المدوَّنة، سعى هذا الرحَّالة الفذ إلى نقل "معلومات دقيقة وحقيقية عن الوهابيين"، وقدَّم عرضًا موجزًا عن مؤسِّس هذا "المذهب" محمد عبد الوهاب، وهو في رأيه

عربي متعلِّم، تخرَّج في مدارس شرقية عديدة، وأدرك أثناء ترحاله أن الإسلام الحقيقي أصيب بالفساد والتحريف، وأنَّ معظم المسلمين وخاصة الأتراك منهم يُعتبرون هراطقة.

وجد محمد عبد الوهاب خير معين له في شخص محمد بن سعود حين استقرَّ في الدرعية، وتزوَّج الأخير من ابنته، وارتبط به فكريًا وسياسيًا، وكانت له المساهمة الكبرى في نشر مبادئه، وباتت عائلته "مؤسِّسة النظام السياسي الوهابي".

رأى الوهابيون أن "لا شفاعة في الإسلام"، لهذا كفَّروا تكريم الأئمة الأموات وتبجيل قبورهم، وحين قوي نفوذهم، حملوا السلاح، ولجأوا إلى القوة، و

دمَّروا كل الأضرحة والقبور مما زاد من تعصُّب أتباعهم. أمسى تدمير الأضرحة وتكسير القبور التابعة للأئمة والمشايخ شغل الوهابيين الشاغل، وأولى نتائج فوزهم في الحجاز واليمن والعراق وسوريا. كما هدموا كل القبب التي فوق المساجد أيضًا. في مكة، هدموا القباب التي كانت تغطي مكان مولد النبي وحفيديه الحسن والحسين وعمِّه أبي طالب وزوجته خديجة. أثناء هذا التهديم، سُمِع الوهابيون يقولون: اللهم ارحم من هدم ولا ترحم من بنى هذه القباب! غضب الأتراك لهذا الأمر واعتبروه انتقاصًا من قيمة هذا الإمام المدفون هناك. حتى القبة التي تغطي قبر محمد في المدينة لم تنجُ من أيديهم بفعل أوامر سعود نفسه، لكن بناءها القوي عصي على التكسير، وبعدما قُتل أكثر من وهَّابي سقطوا من أعلاها، أمر سعود بالتوقف عن الأمر. فأعلن سكان المدينة أن السماء حمت قبر النبي.

إلى ذلك، رفض الوهَّابيون لباس المسلمين الشائع، "فالسنَّة تحرِّم الحرير والذهب والفضة"، ونادوا إلى لبس "الرداء الذي اعتمده الرسول من قبل وهو العبا، وبهذا الزي كان البدو يميِّزون الوهَّابي". وحرَّموا تدخين التبغ، كما منعوا شرب القهوة، ودعوا إلى "منع التسبيح بالسبحة التي كانت شائعة بين المسلمين دون أن ترتكز على الشريعة، ومنع شرب القهوة". وسعوا من خلال هذه السياسة إلى "إعادة العرب إلى الحال التي سادت قبل الرسول". واجه العثمانيون هذا الخصم القوي بشدة، واعتبروا أتباعه من الغلاة الخطرين، وكفَّروهم ومنعوهم من الحج، وأوكلوا حاكم مصر محمد علي باشا مهمة القضاء عليهم. تحولت المنطقة ساحة حرب بين الوهَّابيين والأتراك المصريين. أعدَّ محمد علي باشا العدَّة لغزو الحجاز، وأوكل في نهاية آب 1811 ابنه الثاني طوسون بيه قيادة الحملة الأولى ضد الوهَّابيين. دخل الفريقان في صراع طويل، ونجح محمد علي باشا في القضاء على "الدولة السعودية الأولى". بسط العثمانيون سلطتهم على الجزيرة من جديد، وأعادوا بناء القبب. بحسب رواية ابن بشر، أعاد إبرهيم باشا بن محمد علي باشا بناء مقبرة البقيع، وهي المقبرة الأساسية لأهل المدينة منذ عهد النبوة، ودوَّن اسمه واسم والده واسم السلطان محمود في دائرة القبة الشريفة لحضرة الرسول.

تتقاطع رواية بوركهارت مع ما نقله عبد الرحمن الجبرتي في عجائب الآثار في التراجم والأخبار. يشير المؤرخ المصري إلى حملة تدمير الأضرحة في الجزيرة، ويؤكد "أن عبد العزيز بن مسعود الوهَّابي دخل إلى مكة من غير حرب"، "وأنَّه هدم قبة زمزم والقباب التي حول الكعبة والأبنية التي أعلى من الكعبة، وذلك بعد ما عقد مجلسًا بالحرم وباحثهم على ما الناس عليهم من البدع والمحرمات المخالفة للكتاب والسنَّة". في موقع آخر من هذا الكتاب التاريخي الضخم، يخبرنا الجبرتي أنَّ "الوهَّابيين استولوا على المدينة المنوَّرة بعد حصارها نحو سنة ونصف سنة من غير حرب"، "ولم يحدثوا بها حدثًا غير منع المنكرات وشرب التنباك في الأسواق وهدم القباب، ما عدا قبة الرسول". ينقل ابن بشر النجدي الحنبلي خبرًا مشابهًا في المجد في تاريخ نجد حيث يقول إنَّ أهل المدينة المنوَّرة بايعوا سعود "على دين الله ورسوله السمع والطاعة"، ثمَّ هدموا "جميع القباب التي وُضعت على القبور والمشاهد".

نجح العثمانيون في بسط سلطتهم على مدن الحجاز الخمس بفضل جهود محمد علي باشا، لكن قوة الوهَّابيين لم تضعف. تجدد الصراع في زمن اندلاع "الصحوة العربية" واندثار الإمبراطورية العثمانية في مطلع القرن العشرين. دخل الشريف الحسين الحرب إلى جانب الحلفاء، وكانت النتيجة إبعاد الأتراك عن جميع مواقعهم في مكة بعد أربعة قرون من تسلمهم السلطة في المدينة المقدَّسة. غير أن أوروبا نكثت وعودها ورفضت الاعتراف بالحسين ملكًا على جميع العرب، وعندما طلب الأخير النجدة لمواجهة ابن سعود، لم يجد من يمد إليه يد العون. في تشرين الأول 1924، سيطر الوهَّابيون على مكة، ثم دخلوا المدينة في كانون الأول 1925، وأضحى ابن سعود ملكًا على المدن المقدَّسة والحجاز، من العقبة إلى حدود اليمن. عاد الوهَّابيون إلى هدم القبور، وسوُّوا أضرحة البقيع بالأرض، وذلك بعدما استفتى قاضي القضاة في نجد سليمان بن بليهد علماء المدينة، وسألهم:

ما قول علماء المدينة المنوَّرة، زادهم الله فهمًا وعلمًا، في البناء على القبور، واتخاذها مساجد، هل هو جائز أم لا؟ وإذا كان غير جائز بل ممنوع منهي عنه نهيًا شديدًا، فهل يجب هدمها، ومنع الصلاة عندها أم لا؟

تردَّد صدى هذه الأحداث في أنحاء العالم الإسلامي، واستنكر الكثيرون هذه الحملة الهدَّامة التي تستهدف أضرحة مضى على تشييدها مئات السنين، وحذَّروا من المساس بقبر الرسول.

الحملة المنظَّمة

تعود هذه الظاهرة وتبرز من جديد اليوم، متخطيةً هذه المرة حدود الجزيرة العربية. في مصر، كما في ليبيا، تصاعدت حركة تدمير القباب والأضرحة، وبدت أشبه بحملة منظَّمة شملت محافظات عدة من هذه البلاد الشاسعة، وقضت على عدد كبير من الأضرحة يعود بعضها إلى ما يزيد عمرها على الخمس مئة سنة. في الآونة الأخيرة، هدم "الوهَّابيون الجدد" المركز الإسلامي الذي يحمل اسم الشيخ عبد السلام الأسمر في زليتن، ومسجد سيدي الشعاب في طرابلس، وضريح سيدي أحمد زروق في مصراتة. بعدها، أعلنت وزارة الداخلية الليبية أن ثلاثة أشخاص قتلوا وجرح سبعة آخرون في شرق ليبيا عندما تصدى سكان محليون لإسلاميين كانوا يحاولون تدمير أحد الأضرحة، وجاء في الخبر أن "قرويين مسلحين من منطقة الرجمة الواقعة على بعد خمسين كيلومترًا جنوب شرق مدينة بنغازي تشابكوا مع مجموعة من المتشددين الإسلاميين حاولوا تدمير ضريح سيدي اللافي، ما أدى إلى مقتل ثلاثة إسلاميين". أدت موجة تدمير الأضرحة إلى احتجاجات في طرابلس، وأثارت عاصفة من الإدانات الدولية، وأعربت "منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة" (الأونيسكو) عن "قلقها البالغ" بعد تدمير الأضرحة الصوفية والمكتبات وتدنيسها في زليتن ومصراتة وطرابلس في ليبيا، وقالت المديرة العامة لهذه المنظمة إيرينا بوكوفا: "إنني أشعر بقلق بالغ إزاء هذه الهجمات الشرسة على الأماكن ذات الأهمية الثقافية والدينية. ويجب وقف هذه الأعمال، إذا أراد المجتمع الليبي استكمال عملية الانتقال إلى الديموقراطية".

في المقابل، أكدت دار الإفتاء المصرية أنه "لا يجوز هدم الأضرحة وخاصة إذا كانت لأحد الصالحين"، وأشارت أمانة الفتوى إلى أن

من يفعل ذلك ينتهك حرمة الموتى، وحرمة المسلم ميتًا كحرمته حيًا، كما أن الصلاة فى المساجد التى بها أضرحة صلاة صحيحة ومشروعة، بل تصل لدرجة الاستحباب.

وجاء ذلك كردٍّ على سؤال "حول حكم هدم الأضرحة فى ليبيا، وتحريم الصلاة فى المساجد التى يوجد بها أضرحة". تأتي هذه الفتوى بعد فتويين سابقتين أصدرتهما دار الإفتاء المصرية في هذا الشأن، الأولى برقم 514 بتاريخ 23/10/2011 م، والثانية برقم 16 وتاريخ 10/1/2012 م. رغم ذلك تواصلت موجة الهدم، وكانت أضخم "إنجازاتها" تفجير مقام سيدي عبد السلام الأسمر ومسجده، وهدم ضريح العارف بالله تعالى سيدي أحمد زروق رضي الله عنه، ويُعتبر هذان الوليَّان من كبار علماء المسلمين من السادة المالكية.

جاء في ردِّ دار الإفتاء:

إن ما قامت به مجموعة من خوارج العصر وكلاب النار، هي فعلة شنعاء، يسعون بها في الأرض فسادًا، وتهديمًا لبيوت الله ومقدسات المسلمين، وانتهاكًا لحُرُمَات أولياء الله، وتحريقًا للتراث الإسلامي ومخطوطاته، ومحاولة لإسقاط أهل ليبيا في الفتن الطائفية والحروب الأهلية.

في هذا السياق، تمثِّل حركة تدمير الأضرحة ممارسات "إجرامية جاهلية لا يرضى عنها الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ولا أحد من العالمين"، وعلى كل مسلم غيور أن يتصدى بكل ما أوتي من قوة لهذه الممارسات، "قولاً وفعلاً حسبما يقدر عليه في ذلك". يستند هذا الرأي إلى آية من القرآن الكريم تتحدَّث عن "أصحاب الكهف":

"فقالوا ابنُوا عليهم بُنيانًا رَبُّهم أَعلَمُ بهم قال الذين غَلَبُوا على أَمرِهم لَنَتَّخِذَنَّ عليهم مَسجِدًا" (الكهف: 21). وسياق الآية يدل على أن القول الأول هو قول المشركين، وأن القول الثاني هو قول الموحِّدين، وسياق قول الموحدين يفيد المدح، بدليل المقابلة بينه وبين قول المشركين المحفوف بالتشكيك. بينما جاء قول الموحدين قاطعًا وأن مرادهم ليس مجرد البناء بل المطلوب إنما هو المسجد.

قدَّمت دار الإفتاء في ردودها الثلاثة إجابة فقهية مسهبة، واستشهدت بطائفة من الأحاديث، واعتبرت أن

إزالة أي ضريح من مكانه أو من المسجد المدفون فيه وخاصة قبور الأولياء والصالحين والشهداء والعلماء ومحو معالمه بتسويته وهدم ما فوقه تحت أي دعوى هو أمر محرم شرعًا، بل هي كبيرة من كبائر الذنوب، لما في ذلك من الاعتداء السافر على حرمة الأموات، وسوء الأدب مع أولياء الله الصالحين، وهم الذين توعد الله مَن آذاهم بأنه قد آذنهم بالحرب، وقد أُمِرنا بتوقيرهم وإجلالهم أحياءً وأمواتًا.

2012-09-22

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود