ما وراء الحجارة
قصة الانتفاضة الفلسطينية الأولى 1987-1992

 

نورس مجيد

 

للحديث عن القضية الفلسطينية شجون، ولأثرها في وعينا عمق ربما لا يضاهيه أي أثر آخر. تشكل القضية الفلسطينية برمزيتها ووقائعها تاريخًا يكاد يكون مسؤولاً عن صياغة الواقع العربي برمته، وقد ارتبطت أحداثها بشجاعة المقاومة والعزم المتواصل على تحرير الأرض، لكنها ارتبطت كذلك بالهزيمة والانقسام والتبعية. في الحديث عن تاريخ هذه القضية، ثمة مرحلة هامة لم تحظ بالقدر الذي تستحقه من الدراسة والبحث، وهي مرحلة الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي تبنى الفلسطينيون خلالها نضالاً من نوع مختلف حقق لهم خلال ثمانية عشر شهرًا فقط ما لم تحققه عقود طويلة من الكفاح المسلح.

ما وصلنا من الانتفاضة الأولى كان مشهد أطفال الحجارة وهم يواجهون الجندي والآلية الإسرائيلية بملحمية لا توصف، لكن خلف هذه المشاهد كانت حملات العصيان المدني والإضرابات والمقاطعة قد بدأت تتحول إلى أداة رئيسية في النضال شكلت جوهر الانتفاضة الفلسطينية الأولى. أعادت هذه الحملات للفلسطينيين زمام المبادرة بعد أن كانت الدفة تدار دائمًا في الخارج بمعزل عنهم، وجمعت إرادة مئات الآلاف من الرجال والنساء من مختلف الفئات والأعمار في لجان شعبية نسقت جهودها ومهدت لحالة فريدة من التحرر الذاتي وإنكار وجود الاحتلال وهدم التبعية له تدريجيًا.

هذه قصة بضع سنوات قصيرة من الأمل، تخللت قرنًا من الهزيمة والخيانة والتبعية، وقد تبدو أحداثها من عالم آخر إذا ما نظرنا إلى درجة التنظيم والعمل الجماعي ووحدة الصف بين الفلسطينيين، لكنها قصة حقيقية، وغايتي من نقلها ليست نسخ التجربة كما هي، بل التعريف بهذا الجانب المهمل منها، وفهم مواضع القوة وأخذ العبرة من مواضع الضعف.

البداية

البداية كانت في التاسع من كانون الأول عام 1987 عندما اصطدمت شاحنة إسرائيلية على أحد الحواجز في مخيم جباليا في قطاع غزة بحافلتين كانتا تقلان عمالاً فلسطينيين ما أدى إلى مقتل أربعة منهم. شيع أربعة آلاف فلسطينيي القتلى، وتحولت مراسم التشييع إلى موجة من الاحتجاجات انتشرت بسرعة عبر المخيمات والقرى في القطاع والضفة والقدس لتشكل إحدى الحلقات الملحمية لما سيسمى فيما بعد بالانتفاضة الفلسطينية الأولى. واجه الشباب الفلسطينيون العزل قوات الجيش الإسرائيلي المدججة بالسلاح وكانت أعداد المشاركين تزداد بشكل مضطرد وبدأ الحجر يصبح تدريجيًا لغة جديدة لم يكن الكثيرون قد تعرفوا عليها بعد، وهو ما شكل في أوساط الإعلام مادة مغرية لجيش مجهز بأحدث الأسلحة يواجه سلاحًا على هذه الدرجة من التواضع، وتدفقت وسائل الإعلام العالمية إلى القدس وتل أبيب وحصدت التغطية الإعلامية بعد ثلاثة أشهر من اندلاع الانتفاضة أكثر مما حصده اللقاء بين الرئيسين ريغان وغورباتشوف.

خلال أسابيع قليلة كانت حملة عصيان مدني شامل قد بدأت تنظم في المخيمات والقرى الفلسطينية واستمرت لمدة عام ونصف وشارك فيها مئات الآلاف من الفلسطينيين من مختلف الفئات والأعمار.

لمحة تاريخية

في مستهل القرن الماضي، كانت فلسطين وطنًا لأكثر من نصف مليون عربي مسلم، وعدد أقل من المسيحيين، بالإضافة إلى 50 ألف يهودي، جميعهم عاشوا في حالة من السلام والتعايش. في ذلك الوقت، كان الأمير فيصل ابن شريف مكة يحلم بمملكة عربية يكون هو على رأسها... وكان الإنكليز قد وعدوه بالاعتراف بأبيه خليفة للمسلمين لقاء انتفاض العرب على العثمانيين. عند انتهاء الحرب الكبرى، ذهب الأمير إلى فرساي مصطحبًا العقيد لورنس ليطالب بتصديق الدول على مشروعه، [وهناك] التقى حاييم وايزمان، الشخصية الهامة في الحركة الصهيونية والذي صار بعد مرور ثلاثين سنة أول رئيس لدولة إسرائيل. وقع الرجلان بتاريخ 3 كانون الثاني/يناير 1919 على وثيقة مدهشة تشيد بروابط الدم والعلاقات التاريخية الوثيقة بين شعبيهما، وتنص على أنه في حال قيام المملكة الكبيرة المستقلة التي يتمناها العرب، فإنها ستشجع إقامة اليهود في فلسطين[1]. شرعت قيادات يهودية أوروبية بجمع المال لتمويل هجرة اليهود إلى فلسطين، والتي تسارعت خلال العقود الثلاثة التالية خصوصًا إثر المذابح التي قادها هتلر ضدهم في أوروبا حتى بلغ عدد السكان اليهود في فلسطين قرابة 400 ألف نسمة. بعد الحرب العالمية الثانية واستسلام ألمانيا، أحيت روايات المحرقة في أوروبا من جديد فكرة الملاذ الآمن لليهود، وفيما أنهت بريطانيا وجودها في فلسطين عام 1947، اقترحت الأمم المتحدة التي جرى إنشاؤها حديثًا، تقسيم الدولة إلى دولتين مناصفة، الأولى لليهود والثانية للعرب، وهو الإعلان الذي قبله اليهود ورفضه الفلسطينيون. في 14 مايو/أيار 1948 أعلن اليهود عن إنشاء دولة إسرائيل وهو ما أشعل مباشرة حربًا بينهم وبين الدول العربية المجاورة، الحرب التي انتصر فيها اليهود وغنموا نتيجتها ثلاثة أرباع المساحة التاريخية لأرض فلسطين. وفيما باتت الضفة الغربية تحت حكم الأردن، وقطاع غزة تحت إدارة المصريين، بقي حوالي 120 ألف فلسطيني في الأراضي المحتلة، ولجأ البقية إلى مخيمات في مصر وسوريا ولبنان والأردن.

كانت إسرائيل تعزز بشكل متواصل قدراتها العسكرية وتصعد مناوشاتها لجيرانها عندما قرع العرب طبول الحرب ضدها مرة أخرى في 1967، لكنها حققت مجددًا فوزًا حاسمًا نجحت من خلاله في احتلال الربع المتبقي من أرض فلسطين، بالإضافة إلى احتلالها لمرتفعاتِ الجولان، وحصولها على الضفة الغربية من الأردن، وقطاع غزة من مصر، في الوقت الذي آثر فيه مئات الآلاف من الفلسطينيين البقاء في أراضيهم. شكل الفلسطينيون بدعم من العرب منظمة التحرير الفلسطينية التي تأسست عام 1964 وترأسها ياسر عرفات، وقدمت نفسها كحكومة فلسطينية في المنفى.

"إذلال حقيقي"

بدأت حياة العرب والإسرائيليين تتقاطع بشدة، فكان عشرات الآلاف من الفلسطينيين يعبرون الخط الأخضر يوميًا للعمل في مناطق إسرائيل، بينما خضعت مناطقهم للإدارة المدنية الإسرائيلية التي فرضت سيطرتها بقوة 1200 جندي. الظروف المعيشية كانت سيئة للغاية وانتشرت البطالة وتدنت الخدمات وتصاعد الشعور بالإذلال بين الفلسطينيين الذين اضطروا للاصطفاف يوميًا بالمئات بانتظار مقاول إسرائيلي يختار القوي منهم للعمل في البناء فيما سماه أحد الصحفيين الإسرائيليين بـ "سوق اللحم". كانت القوانين الإسرائيلية صارمة للغاية تجاه أي نشاط معادٍ لها مهما كان رمزيًا، فكانت تحظر رسم الشعارات أو إنشاد الأغاني الوطنية أو رفع العلم الفلسطيني أو حتى رفع علامة النصر، وقد سجنت إسرائيل اعتمادًا على هذه القوانين قرابة نصف مليون فلسطيني قبل وأثناء الانتفاضة[2]. يحصل العمال على أجور أدنى لقاء العمل ذاته فيما لو قام به عامل إسرائيلي بينما يدفعون ضرائب أكثر، ويضطرون يوميًا لانتظار رحمة الجندي الإسرائيلي على نقاط التفتيش التي تناثرت في كل مكان على أطراف القرى والمخيمات. كانت السياسة برمتها قائمة على إبقاء الفلسطيني معتمدًا بشكل كامل على إسرائيل، حيث منعت البضائع الفلسطينية من دخول الأراضي الإسرائيلية بينما كانت 90 بالمئة من البضائع التي تدخل الضفة والقطاع من صناعة إسرائيلية. تصاعد الغضب الفلسطيني لسنوات طويلة، وتصاعد في مقابله القمع، ففي بداية الثمانينات أطلق وزير الدفاع الإسرائيلي شارون سياسة القبضة الحديدية ردًا على إلقاء الحجارة والقنابل الحارقة على الآليات الإسرائيلية، تمثلت بهدم المنازل واقتلاع الأشجار وفرض حظر التجول، ثم صعد إسحاق رابين من بعده هذه الممارسات وأتى بسياسات الحواجز والتفتيش والاعتقال والإبعاد. في هذه الأثناء تزايدت أعداد المستوطنين خصوصًا في الضفة، والتهمت المستوطنات في أوساط الثمانينيات أكثر من نصف مساحتها.

من جانبها كانت منظمة التحرير الفلسطينية تحاول إدارة الصراع من بيروت بعد أن تم طردها من الأردن في 1970 على وقع أحداث أيلول الأسود، لكنها عانت بدورها من مجموعة من الهزائم العسكرية في الحرب الأهلية في لبنان إلى أن أجبرها احتلال إسرائيل للجنوب على المغادرة إلى تونس وأبعدها بذلك أكثر عن إدارة الصراع في الداخل.

ولادة نوع آخر من المقاومة

قبل الانتفاضة بسنوات، ظهرت أصوات عديدة تنادي بطرح حل بديل عن المقاومة المسلحة التي وصفها البعض بأنها لم تسهم إلا في تعزيز سطوة الإسرائيليين. كان فلسطينيو الداخل قد بدؤوا يفقدون الثقة في قدرة منظمة التحرير أو العرب على تحريرهم، واجتهد بعض المفكرين في تقييم نتائج الحل العسكري وطرح بعضهم التفاوض والتسوية مع إسرائيل كحلول بديلة، من أبرز هذه الأصوات كان فيصل الحسيني، أحد أهم المدافعين منذ نهاية الستينيات عن حل سلمي للنزاع مع إسرائيل والذي اعتبر الاحتلال مهينًا للشعبين الإسرائيلي والفلسطيني على حد سواء. في 1985، أسس فيصل الحسيني والناشط الإسرائيلي جيديون سبيرو أول منظمة فلسطينية-إسرائيلية مشتركة ضد ممارسات الاحتلال العسكري باسم (لجنة مواجهة القبضة الحديدية).

في الثمانينيات سوق الفيلسوف الفلسطيني سري نسيبه لحل دولة واحدة جميع مواطنيها يتمتعون بحقوق متساوية، ودعا لاستبدال حق العودة بحق المواطنة[3]. وفي عام 1983، أسس الأخصائي النفسي الفلسطيني مبارك عوض المركز الفلسطيني لدراسات اللاعنف، وعمل لسنوات على توزيع آلاف المنشورات والدراسات حول المقاومة المدنية على الناشطين الفلسطينيين. نظم مركز دارسات اللاعنف حملات مشتركة مع الإسرائيليين وقام بتنظيم عدة نشاطات مقاومة سلمية في قرابة خمسين قرية ومخيمًا في الضفة الغربية.

نداءات تاريخية: بداية العصيان المدني

مع انتشار أفكار المقاومة المدنية لسنوات طويلة مبارك عوض وفيصل الحسيني ونسيبه، باتت الفرصة متاحة أكثر للتفكير في استراتيجية ستكون قائمة في جوهرها على قطع الصلة بالاحتلال. في ذلك الوقت قدر سري نسيبه أن الاحتلال الإسرائيلي حقق 5 بالمئة فقط من أهدافه باستخدام القوة، بينما حصل على الـ 95 بالمئة المتبقية نتيجة لخضوع الفلسطينيين لأوامر الحكومة الإسرائيلية[4].

عند اندلاع الانتفاضة، شرع الناشطون بتوزيع سلسلة من النداءات (المنشورات) التي كانت سببًا مباشرًا في توحيد الجهود وتنظيمها. انتشر النداء الأول بسرعة وكان يحمل توقيع "القوى الفلسطينية"، ثم تبعه نداء آخر بعد أيام يحمل الرقم (اثنين) بتوقيع "القيادة الوطنية الموحدة لتصعيد الانتفاضة"، وجاء بمثابة الإعلان عن الاسم الجديد لقيادة الانتفاضة. بعد أسابيع، وزع نداء ثالث دعا لإيقاف عجلة الصناعة الإسرائيلية وكان موقعًا باسم القيادة الوطنية ومنظمة التحرير الفلسطينية هذه المرة. تميزت النداءات بخلوها من أي دعوات لتدمير إسرائيل أو قتل اليهود، بل على العكس طرحت استراتيجية قائمة على تحقيق السلام من خلال التفاوض، وتأسست على مبادئ أساسية ثلاثة وهي قبول دولة إسرائيل في حدود ما قبل 1967، وخروج المحتل من المناطق الفلسطينية، وإنشاء دولة فلسطين.

خلال فترة قياسية، بلغت أعداد المنضمين إلى القيادة الوطنية أكثر من 100 ألف من الرجال والنساء وطلاب الجامعات من مختلف الانتماءات، بالإضافة إلى نحو ثلاثين ألفًا من المعتقلين السابقين، وجمعت صفوف قيادتها بعض المفكرين الذين ساهموا خلال العقد السابق في تشكيل أفكار المقاومة المدنية، بالإضافة إلى أربع قيادات تمثل الفصائل الأربعة لمنظمة التحرير الفلسطينية. بنى أعضاء القيادة الموحدة استراتيجيتهم على استباق تحركات الإسرائيليين، وإطلاق حركة مقاطعة وإضراب تشمل كافة المناطق المحتلة وتملك القدرة على الاستمرار، وإيصال رسالة الشعب الفلسطيني إلى العالم. استمر توزيع النداءات لمدة ثلاث سنوات كل أسبوعين وكانت تسوِّق لـ "ثورة بيضاء"، واقترحت نصوصها قرابة 27 وسيلة للمقاومة، ستٌ وعشرون منها لاعنفية، حيث دعت إلى رفع الأعلام ودق أجراس الكنائس وتنظيم الجنازات الرمزية وإغلاق المحلات، بالإضافة إلى المسيرات الصامتة والإضرابات وحملات المقاطعة والصلوات، ورفض تعبئة الطلبات الرسمية وإبراز بطاقات الهوية، وإعادة تسمية المدارس والشوارع وغيرها. قيادات الفصائل الأربعة لمنظمة التحرير كانت تجتمع أحيانًا لتحديد محتوى النداءات، إلا أن الخلافات القديمة بينها أدت إلى خلافات تكتيكية، فكان كل فصيل يصوغ نداءاته على حدة وهو ما أدى في بعض الأحيان إلى إطلاق نداءات متعارضة منهجيًا. ظهرت نداءات من قبل منظمة التحرير طالبت بقتل إسرائيلي مقابل كل شهيد فلسطيني، لكن القيادات الشعبية كانت ملتزمة بمنهجية اللاعنف ولم تستجب الحاضنة الشعبية لهذه النداءات.

خطة النضال البديل: حملات المقاطعة والتدرج في العمل

في منتصف كانون الثاني/يناير من عام 1988، أعلن حنا سنيورة، أحد كبار المثقفين الفلسطينيين، في مؤتمر صحفي عن إطلاق خطة مقاومة مدنية من أربع مراحل كان مبارك عوض أحد أبرز مهندسيها. تبدأ الخطة بدعوة رمزية لمقاطعة السجائر الإسرائيلية، تليها بعد أسبوعين دعوة لمقاطعة المشروبات الخفيفة. بعد ذلك يتوجب على الفلسطينيين التوقف عن دفع الضرائب للإسرائيليين، ثم في المرحلة الأخيرة يتوقفون عن الذهاب إلى أعمالهم. اعتبر مبارك عوض هذه الخطة طريقة لانتزاع سيطرة الإسرائيلي على مجريات الحياة الفلسطينية، ولهذه الغاية اجتمع في نهاية الشهر ذاته مع أعضاء القيادة الوطنية الموحدة لتصعيد الانتفاضة، وشرح لهم تفاصيل خطته. بعد ستة أسابيع أصدرت القيادة نداءها العاشر الذي دعت فيه لاستقالات جماعية من العمل في إسرائيل، وكانت الاستجابة الشعبية قوية للغاية وتمثلت في استقالات متزامنة من دوائر الإدارة المدنية، بما فيها استقالة جميع ضباط الشرطة الفلسطينيين من جهاز الشرطة الإسرائيلي في يوم واحد (قرابة 600 ضابطًا)، على الرغم من وعود الإسرائيليين بتقديم المكافآت والعلاوات.

على مدى أشهر قادت النداءات نضال مئات الآلاف من الفلسطينيين، وتزايد اهتمام هذه المنشورات بأفكار مبارك عوض التي شكلت مادة للمنشورات اللاحقة. أصدر عوض قائمة بـ 120 طريقة لمقاومة الاحتلال سلميًا، سعى من خلالها إلى نقل الانتفاضة من مظاهرات ورمي للحجارة، إلى عمل مدني منظم يشارك فيه الفلسطينيون من مختلف الفئات والأعمار. وحسب أحد الفلسطينيين:

كان الناس في الضفة الغربية وقطاع غزة يتبعون تعليمات هذه النداءات كلمة بكلمة وكانت بالنسبة لهم بمثابة نصوص مقدسة[5].

اللجان الشعبية و"الحكومة الفلسطينية البديلة"

سبقت تجربة الفلسطينيين مع اللجان الشعبية الانتفاضةَ بعقدين من الزمن، حيث مثلت اللجان الشعبية أداة اجتماعية لإدارة الحياة العامة في المناطق المحتلة. في عام 1972، اجتمع مدرسون وأساتذة جامعيون في البيرة ورام الله للمشاركة في تنظيم العمل المدني بمبادرة من عبد الجواد صالح عمدة البيرة، وتطورت التجربة مع الزمن لتتمخض بحلول الانتفاضة عن عشرات الآلاف من المدرسين والنشطاء الذين أسسوا قرابة 45 ألف لجنة شعبية في مجالات مختلفة منها الطلابية والزراعية والنقابية والتجارية والرياضية بالإضافة إلى لجان إدارة محلية ولجان نسائية ولجان طبية إغاثية وأخرى لحل وفض النزاعات ولجان للحماية التي كانت مهمتها التحذير المسبق من أي اعتداءات من الجنود أو المستوطنين[6]. بمجرد انطلاق الانتفاضة بدأت اللجان تتخذ دورًا متزايدًا في إدارة الحياة اليومية للناس، وكانت لجان جديدة تتوالد بالمئات في كل المناطق المحتلة ردًا على عزل عدد كبير من القرى والمخيمات الفلسطينية من قبل الجيش الإسرائيلي. كان تنظيم اللجان قائمًا على التمثيل المتساوي وكانت قياداتها تنتخب بشكل ديمقراطي وتحكم نفسها بنفسها. في أيار 1987، أصدرت القيادة الوطنية الموحدة "بيان العصيان المدني" أعلنت فيه رسميًا عن دور اللجان في إدارة الحياة الفلسطينية اليومية، وتضمن البيان توفير خدمات الصحة والطعام والتعليم، بالإضافة إلى نشاطات المقاومة مثل المسيرات والمقاطعة. بلغ هذا الدور ذروته في البيان التاسع عشر، حيث أُعلِن عن اعتبار اللجان الشعبية "حكومة فلسطينية بديلة" عن الإدارة المدنية الإسرائيلية.

إحدى أشهر اللجان كانت لجان الإغاثة الطبية التي جمعت أطباء ومسعفين وممرضين وتطور عملها لتصبح فيما بعد عيادات متحركة لإغاثة المصابين والمرضى في القرى، وقد جرى تأسيس المئات منها في 1987. لكن السياسات الإسرائيلية القمعية وضعت أعباء متزايدة عليها خصوصًا بعد أن أمر رابين بتعزيز القبضة الحديدية لقمع الانتفاضة وهو ما نتج عنه، بالإضافة إلى القتلى، تعرض أكثر من 20 ألف فلسطيني في العام الأول لإصابات (مقابل إصابة 420 مدني و730 جندي إسرائيلي غالبيتهم بالحجارة). قامت لجان أخرى بالمساهمة في تنظيم المقاومة المدنية حيث جرى التنسيق لإقفال المحال التجارية في أوقات محددة، فيما عمل الفلسطينيون في مزارعهم الخاصة لإنتاج الخضروات وتوزيعها ضمن المجتمعات، واشتروا أبقارًا لإنتاج الحليب (اعتبرها الإسرائيليون لاحقًا تهديدًا لأمن إسرائيل قبل أن ينجح الفلسطينيون في إخفائها). وردًا على إغلاق إسرائيل لأكثر من 900 مدرسة فلسطينية وتسع جامعات كان يدرس فيها 300 ألف طالب، بذلت اللجان جهودًا كبيرة لمنح الطلاب تعليمًا بديلاً وإبعادهم عن الشارع، واستغلت التدريس لنشر أفكار المقاومة المدنية، حيث ذكرت إحدى المطبوعات الفلسطينية بأن:

السلطات الإسرائيلية لم تعد تسيطر إطلاقًا على عملية التعليم في فلسطين أو محتوى المواد التعليمية.

في هذا الوقت، كان الكثير من الفلسطينيين يرفضون إبراز بطاقات الهوية على الحواجز بل عمد كثيرون إلى إحراقها، وتجاهل التجار الالتزام بتراخيص العمل الإسرائيلية، ورفض آخرون العمل في المزارع والمعامل المملوكة من قبل إسرائيليين.

بين السلمية والعنف

حتى من منظور الإسرائيليين كان التزام الفلسطينيين بعدم استخدام العنف كبيرًا حيث أعلنت القوات الإسرائيلية أن عدد جنودها الذين قتلوا في الانتفاضة من عام 1987 وحتى 1991 لم يتجاوز 12 جنديًا بينما قتلت القوات الإسرائيلية 706 مدنيًا فلسطينيًا خلال هذه الفترة[7]. لكن بعض الأصوات الفلسطينية كانت تنادي باستخدام العنف المحدود لردع الجندي الإسرائيلي وقد قاد ذلك في أحيان عدة إلى خلافات بين قيادات الانتفاضة. كانت أعمال العنف تحدث دائمًا أثرًا عكسيًا خصوصًا قنابل المولوتوف التي رأى الجنود الإسرائيليون فيها سلاحًا حقيقيًا. أسهم العنف من قبل الإسرائيليين، والعنف المضاد المحدود من قبل الفلسطينيين، في تشتيت الرأي العام عن حملات المقاطعة الكبرى التي كان يجري تنظيمها والمؤسسات الفلسطينية البديلة التي بدأ الناشطون ببنائها. في الوقت ذاته، تعامل الفلسطينيون بعنف مفرط مع التجار الذين لم يستجيبوا للإضراب، حيث جرى حرق بعض المحال التجارية للتجار الذين رفضوا الاستجابة، كما تعاملوا بنفس القسوة مع المخبرين، حيث تذكر التقارير مقتل 190 مخبرًا فلسطينيًا عقابًا على تعاونهم مع الإسرائيليين في الأربعة عشر شهرًا الأولى من الانتفاضة، وفيما ظن البعض بأن هذه الممارسات سوف تجبر بقية الفلسطينيين على المشاركة، شكلت حملات العقاب هذه ارتكاسات متواصلة للعمل المدني، ومقابل كل عشر نشاطات عصيان مدني، كان يكفي وجود عمل انتقامي واحد لهدم التعاطف الدولي والإسرائيلي وحتى الفلسطيني مع الانتفاضة[8]. في مقابلة معه في عام 1995، قال مبارك عوض:

كنا نشعر بالغضب الشديد عندما نسمع عن تسلل أحد الفلسطينيين عبر الحدود لمهاجمة الإسرائيليين، كان ذلك أسوأ تخريب للمفهوم الذي قامت عليه الانتفاضة برمتها.

من منظور الإسرائيليين

واصلت قنوات الإعلام الغربية بث مشاهد العنف ضد الفلسطينيين، وانتشرت صور القمع في وسائل الإعلام في مختلف دول العالم كان أبرزها المشاهد التي نشرتها محطة سي بي أس الأمريكية في شباط 1988 لتكسير الجنود الإسرائيليين لعظام أربعة شباب فلسطينيين وهو ما أحدث موجة غضب عارمة في الرأي العام العالمي. كانت الصدمة كبيرة في أوساط الإسرائيليين أنفسهم ولم تكن إسرائيل قادرة على الدفاع عن موقفها عندما كان جيشها يقتل النساء والأطفال العزل. أحدثت الانتفاضة انقسامًا حادًا في داخل المجتمع الإسرائيلي بين من يدعمون فكرة التسوية مع الفلسطينيين وبين المناهضين للوجود الفلسطيني ممن طالبوا بمزيد من الإجراءات المتطرفة لسحق الانتفاضة. بحلول منتصف شباط 1988، نشطت أكثر من ثلاثين منظمة إسرائيلية ضد ممارسات الجيش الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، كان أبرزها حركة "السلام الآن" التي نظمت بمشاركة منظمات نسائية وشخصيات من الكنيست وفيصل الحسيني وعدد من الشخصيات المعروفة في عام 1989 سلسلة بشرية من 25 ألف إسرائيلي وفلسطيني يمسكون أيدي بعضهم البعض في حلقة حول مدينة القدس القديمة، بينما نظمت حركات أخرى مثل حركة "21 عامًا"، وحركة "هناك حدود" عددًا من المسيرات والنشاطات التي طالبت بوقف استخدام العنف ضد المدنيين ودعت لحل الدولتين. في هذه الأثناء، دفعت الانتفاضة العديد من الجنود الإسرائيليين إلى التعاطف مع الفلسطينيين حيث أعلن قرابة خمسمئة من جنود الاحتياط في حزيران 1988 عن رفضهم الخدمة في المناطق المحتلة، وهو تصرف غير مسبوق في بلد تعتبر فيها خدمة العلم واجبًا مقدسًا. لكن الموقف المتعاطف لم يأت بالصدفة، فقد أسهم النشطاء الفلسطينيون في بنائه من خلال دعوة العديد من الإسرائيليين إلى المشافي الفلسطينية ليشاهدوا بأعينهم ممارسات جنودهم ضد المدنيين.

الحملة الإسرائيلية ضد الانتفاضة

لجأت إسرائيل نتيجة للضغط الدولي الشديد إلى عدد من الإجراءات التي كانت غايتها إنقاذ صورتها أمام الرأي العام العالمي، فعمدت إلى فرض رقابة شديدة على الإعلام ومنع الصحف والمجلات الفلسطينية من الصدور والتوقف عن منح تأشيرات دخول للصحفيين الغربيين. ولضرب اللجان الشعبية بدأت بتطبيق سياسة حظر التجول في المناطق المحتلة، ووضعت في غضون أشهر قرابة مليون فلسطيني تحت حظر التجول، وقامت بقطع وسائل الاتصال والكهرباء وهو ما قوض قدرة المقاومة على التواصل والتنسيق. تزامن ذلك مع هدم المئات من المنازل وشن حملات اعتقالات واسعة طالت قرابة 30 ألف فلسطيني في العام الأول، لكن الفلسطينيين أبدوا تكافلاً مذهلاً ردًا على هذه الاعتقالات، وكانت وفود كبيرة تحشد لزيارة عائلة أي معتقل تعبيرًا عن التضامن. في عام 1988 بدأت إسرائيل تمارس سياسة الإبعاد الجماعي للناشطين وأبعدت مبارك عوض بذريعة "تهديده" لأمن الدولة.

أثرت الاعتقالات الواسعة على الانتفاضة واستمر ترحيل واعتقال القادة والمفكرين الفلسطينيين. وبعد أن كان الإجماع الشعبي بعدم استخدام العنف متواصلاً لعام ونصف، بدأت دفة الانتفاضة تنتقل تدريجيًا إلى عهدة القيادات القديمة، وتحول معها الإجماع الشعبي لتبرير العمل المسلح، بحلول آذار/مارس 1990 باتت الانتفاضة برمتها تحت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية. في هذا السياق، قال محمد جاد الله، أحد منظمي جمعيات 1997 الحرفية:

كان العامان 1988 و1989 عامين نقيين تم خلالهما تنظيم المقاومة من قبل قيادات محلية... العلاقات بين القيادات واللجان كانت رائعة والجميع يتحمل مسؤولياته والكل يتعاون وينسق وهناك مساحات للعمل لجميع الناس. كان هناك مجال للعمل الفردي، ومجال للعمل الجماعي، تلك هي كانت الحال حتى تسلمت منظمة التحرير القيادة... في ذلك التاريخ [آذار 1990]، أصبحت الانتفاضة كلها بيد المنظمة، وهي اللحظة التي انتهت فيها. لقد أسهمت منظمة التحرير الفلسطينية في وأد الانتفاضة قبل أن يقوم بذلك الإسرائيليون[9].

مؤتمر مدريد وإعلان الاستقلال

بعد مرور عام ونصف على اندلاع الانتفاضة حققت المقاومة الشعبية نصرًا غير متوقع جاء بإعلان ملك الأردن الحسين بن طلال في خطاب له في تموز 1988 عن قراره فك الارتباط القانوني والإداري مع الضفة الغربية وإعادتها إلى الفلسطينيين، وهو ما أجبر الأمريكيين على إعادة النظر في مواقفهم تجاه منظمة التحرير التي باتت مرشحة لملء الفراغ الذي تركه الأردن الذي قاد المفاوضات بالنيابة عن الفلسطينيين لسنوات. في تشرين الثاني 1988، عقد المجلس الوطني الفلسطيني جلسة خاصة في الجزائر خصصه ياسر عرفات لقراءة بيان إعلان استقلال دولة فلسطين، وخلال ثلاثة أسابيع فقط، صادقت أكثر من خمسين دولة على اعترافها بالاستقلال. في كانون الأول من العام ذاته، اعترف ياسر عرفات بحق إسرائيل في الوجود ووقع على القرار 242 الداعي لحل الدولتين وهو ما قاد مباشرة إلى تغيير مباشر في علاقة الخارجية الأمريكية التي أنهت حظرًا دام 13 عامًا على تواصلها المباشر مع منظمة التحرير الفلسطينية.

لكن اعتبارًا من عام 1990، بدأت الانتفاضة تفقد زخمها تدريجيًا وتناقصت المشاركة الشعبية بالتزامن مع تزايد أعمال العنف. في ذلك الوقت تصاعدت حدة الخلافات بين الأقطاب الفلسطينية وتحولت في أحيان إلى صدامات مسلحة بين حماس وفتح حيث باتت المناوشات المسلحة الدموية بين الطرفين الشغل الشاغل لعامة الفلسطينيين. وفي ربيع العام ذاته، كان عدد ضحايا العنف بين الفلسطينيين أنفسهم أكبر من عدد أولئك الذين قتلهم الجنود الإسرائيليون[10]. ولم يزد الطين بلة إلا اندلاع حرب الخليج الأولى عام 1991 وإعلان ياسر عرفات وقوفه إلى صف صدام حسين وهو ما شوه بشكل كبير صورة الفلسطينيين في الداخل، وأسهم في انحسار الدعم لمنظمة التحرير. لقد أسهمت حرب الخليج في إشاحة النظر عن المقاومة المدنية ودفعت معظم الفلسطينيين للاعتقاد بأن الحل سيأتي من الخارج وبأن الولايات المتحدة ستجبر إسرائيل على الخروج من الأراضي المحتلة، وتلك كانت انتكاسة كبرى للانتفاضة[11].

دعت إدارة جورج بوش بعد حرب الخليج إلى عقد مؤتمر مدريد في تشرين الأول 1991، والذي حضرته 40 دولة واستعرض مجرياته 5000 صحفي. كانت تلك هي المرة الأولى التي يجلس الفلسطينيون فيها (بمن فيهم فيصل الحسيني وحيد عبد الشافي وقيادات أخرى من انتفاضة الداخل)، على طاولة مفاوضات ثنائية مع الإسرائيليين للمطالبة بحقوقهم، كانت القيادات على تواصل مع منظمة التحرير التي لم تقبل إسرائيل مشاركتها في المؤتمر. استمرت المفاوضات ثمانية أشهر لكنها فشلت في تحقيق تقدم يذكر خصوصًا فيما يتعلق بمسألة المستوطنات.

اتفاقيات أوسلو وانحسار القيادة الشعبية للانتفاضة

دخلت منظمة التحرير الفلسطينية عام 1993 في مفاوضات سرية مع إسرائيل استثنيت منها قيادات الداخل بشكل كامل، وأفضت في أيلول إلى التوقيع في ساحة البيت الأبيض على إعلان للمبادئ بين ياسر عرفات وإسحاق رابين، وهو ما مهد الطريق أمام مجموعة من الاتفاقيات التي تعرف باتفاقيات أوسلو. من أبرز ما تمخضت عنه الاتفاقيات كان تأسيس السلطة الفلسطينية والتي شكلت معظم قياداتها من منظمة التحرير. في المقابل بقي 75 بالمئة من الفلسطينيين تحت حكم إسرائيل التي سيطرت على الأرض والمياه والجو في المناطق المحتلة، وفي الفترة ذاتها تضاعفت أعداد المستوطنات ووضعت قيود أكثر على حركة الفلسطينيين وهو ما أسهم، بالإضافة إلى الفساد وسوء الإدارة من قبل المنظمة، في زيادة الفقر والقمع السياسي. وضعت الحالة الجديدة منظمة التحرير في صدامات أعنف مع حماس والجماعات الأخرى ولهذا الغرض أسس عرفات أكثر من 15 جهازًا أمنيًا لحماية السلطة وهو ما عزز من التوتر والفرقة بين الفلسطينيين. أسهمت جميع هذه العوامل في تصعيد أعمال العنف المتبادلة بين الإسرائيليين والفلسطينيين وبغياب أي حل في الأفق ونتيجة لزيارة شارون المستفزة إلى الحرم الشريف، اندلعت الانتفاضة (انتفاضة الأقصى) في عام 2000 والتي كانت ذات طابع عنيف وغير منظم ولم تؤد إلى تحقيق أي مكاسب تذكر بالنسبة للفلسطينيين.

تحليلات - إنجازات الانتفاضة الأولى

وضعت الدراسة التي قامت بها إريكا تشينويث وماريا ستيفان بعنوان لماذا تنجح المقاومة المدنية، الانتفاضة الفلسطينية الأولى في فئة الثورات التي حققت نجاحًا جزئيًا من بين 323 ثورة (من 1900 إلى 2006) التي شملتها الدراسة. أثنت الدراسة على الانتفاضة باعتبارها حققت نتائج أكثر مما حققه الكفاح المسلح خلال عقود طويلة من النزاع، حيث نجحت المقاومة المدنية في تحقيق عدد من المكاسب السياسية كان أبرزها طرح القضية الفلسطينية بشكل مؤثر أمام الرأي العام العالمي والاعتراف بحق الفلسطينيين لأول مرة في التفاوض من أجل حقوقهم من قبل عدد كبير من دول العالم وحتى من قبل خصومهم، ومهدت الطريق أمام منظمة التحرير الفلسطينية للدخول في مفاوضات مع إسرائيل بعد أن كانت تدار بالوكالة من قبل الأردنيين.

أسهمت طبيعة الانتفاضة المدنية في دفع أطياف واسعة من الفلسطينيين بمختلف فئاتهم إلى المشاركة في إدارة شؤونهم بأنفسهم، ونجحت في بدايتها في جمع الفصائل المتنافسة لمنظمة التحرير للعمل معًا على الرغم من خلافاتها، وكرست لثقافة التنظيم والقيادة الجماعية، وتميزت بقياداتها النسائية والتي لم تكن منظمة التحرير تهتم بمشاركتها سواء قبل الانتفاضة أو في فترة حكم السلطة الفلسطينية.

على الصعيد الإسرائيلي، وصف المؤرخان الإسرائيليان شيف ويآري رد الفعل الإسرائيلي تجاه المقاومة:

فتح الفلسطينيون من خلال انتفاضتهم جبهة ثالثة، معركةً من نوع جديد لم يكن الإسرائيليون يملكون القدرة على ردعها. لم تكن الأدوات المعتادة للجهاز العسكري الإسرائيلي معدةً للتعامل مع تحد من هذا النوع. لم يكن الجيش الإسرائيلي مستعدًا للتصدي للانتفاضة سواء من حيث طبيعة انتشاره أو عقيدته القتالية أو حتى مخازنه الملأى بالأسلحة. خلال ليلة وضحاها بدأت نقاط الضعف الإسرائيلية تتكشف للجميع.

وفي داخل إسرائيل، ولأول مرة منذ بداية الاحتلال بدأت قوى سياسية ومنظمات عديدة تعرب عن سخطها تجاه ممارسات الجيش الإسرائيلي، وتتحدى الحكومة علنًا بشكل غير مسبوق، وتصف الفلسطيني على الطرف الآخر بأنه شريك في الأرض. وتضافرت الجهود بين النشطاء الفلسطينيين والإسرائيليين لتنظيم حركات مشتركة هدفها تغيير الرأي العالم العالمي والإسرائيلي حول الصراع. لقد أحدثت الانتفاضة انشقاقًا حتى في أوساط العسكريين، فأعلنت مجموعات منهم رفضها المشاركة في أي عمليات في الأراضي المحتلة في تحد لم تشهده إسرائيل في تاريخ الصراع برمته.

على المستوى الدولي، أجبرت الانتفاضة الأمريكيين على تغيير مواقفهم التي كانت الأشد انتقادًا منذ بداية الاحتلال، حيث لم تعترض الولايات المتحدة على قرارين يدينان إسرائيل في مجلس الأمن. ترافق ذلك مع خسائر اقتصادية تكبدتها إسرائيل في العام الأول بلغت مليار دولار كان العمال الفلسطينيون يدفعونها في شكل ضرائب، إضافة إلى 600 مليون دولار وهي كلفة نشر 80 ألف جندي في الأراضي المحتلة.

تحليلات - نقاط الضعف وأسباب انحسار المشاركة الشعبية

الاستراتيجية والقيادة: على الرغم من المحاولات العديدة للنشطاء لم تفلح الانتفاضة الأولى في وضع استراتيجية للنضال يتفق عليها الجميع، وعزز ذلك لاحقًا رفض منظمة التحرير اعتبار المقاومة المدنية وسيلة لتحرير الأرض، ثم ميلها للاستئثار بالقيادة بمعزل عن القيادات الشعبية التي قادت الانتفاضة في البداية. لقد أدت هذه الحالة إلى تصدير الخلافات القديمة بين الفصائل إلى الشارع، وأنتجت مجموعة من القيادات التي ادعى كل منها تمثيل المقاومة. وبهذا لم تعد للانتفاضة قيادة واحدة وتحولت في أشهرها الأخيرة إلى صراعات داخلية بين الفصائل.

التفاوض أم متابعة النضال؟: كانت القيادات الشعبية في الداخل تميل أكثر إلى متابعة المقاومة وتطبيق مزيد من الضغوط للحصول على مكاسب، خلافًا لمنظمة التحرير التي كانت تسعى لإطلاق مفاوضات مبكرة. من جانبه شكل دخول منظمة التحرير في مفاوضات سرية بدون مشاركة القيادات الشعبية ضربة قاسية أخرى للانتفاضة، سيما وأنها قدمت عددًا كبير من التنازلات كان أبرزها الاعتراف بدولة إسرائيل دون اعتراف مقابل بدولة فلسطين.

الارتكاس إلى العنف: على الرغم من أن القيادات أعلنت بوضوح في البداية عن حظر استخدام الأسلحة، إلا أن حماس ومثلها فتح لم تكن تقبل باللاعنف كبديل مبدئي، وتحولت الاستراتيجية مع الوقت إلى استخدام العنف المقنن ثم المفتوح. عزز ذلك اعتقال القيادات الشعبية من قبل إسرائيل والذي أدى إلى استحالة السيطرة على الشباب الغاضب، وتحولت بعض القرى إلى مراكز لتدريب الشباب على صناعة المولوتوف والقتال، فيما بدأت بعض الميليشيات المسلحة تتسلم تدريجيًا الزعامة في هذه القرى. على الرغم من أن العنف لم يكن يقارن إطلاقًا بالعنف من قبل الإسرائيليين إلا أنه كان كافيًا لانحسار المشاركة الشعبية ومعها التعاطف الإسرائيلي والدولي مع الانتفاضة.

الرأي العام الإسرائيلي: لم يكن معظم الفلسطينيين يعتبرون هدف تغيير الرأي العام الإسرائيلي هدفًا استراتيجيًا من أهداف الانتفاضة. في المقابل، لم يكن كثير من الإسرائيليين يرون الانتفاضة حركة سلمية، وقد عزز ذلك وجود منظمة التحرير بين قيادات الانتفاضة وهو الاسم الذي ارتبط بالنسبة لهم بالتفجيرات والعمليات العسكرية ضد المدنيين الإسرائيليين. من جانب آخر رفضت منظمة التحرير نقل الانتفاضة إلى داخل إسرائيل وتحفيز عرب 48 على المشاركة، وفي هذا السياق قال مبارك عوض:

كنت أشجع بشدة على توسيع الانتفاضة لتشمل الفلسطينيين في داخل إسرائيل للمطالبة بحقوقهم المدنية لكن منظمة التحرير رفضت بالمطلق. أزعجني ذلك إذ كنت أرى بأننا لو نجحنا في إطلاق انتفاضة هنا وأخرى هناك وفي أماكن أخرى فسيعني ذلك مزيدًا من الضغط على إسرائيل، لكن منظمة التحرير عارضت بشدة وكانت تلك غلطة استراتيجية كبرى أظهرت قصر نظر المنظمة التي رفضت التدخل في الشؤون الداخلية الإسرائيلية.

خاتمة

لكن الانتفاضة كانت قد حققت أهم أهدافها، وهي منح الفلسطينيين القدرة، للمرة الأولى، على تحدي أسطورة الإسرائيلي الذي لا يقهر، وإعطاء الإنسان الفلسطيني بمختلف فئاته فرصة قيادة الصراع بعد أن كانت الدفة خارج البلاد في المنفى أو في يد دول أخرى لم يثبت ولاؤها للقضية الفلسطينية أصلاً. أحد الصحفيين الإسرائيليين أشار إلى أنه خلال بضعة أسابيع فقط، حققت المظاهرات الشبابية والنشاطات المنظمة للفلسطينيين أكثر مما حققته ثلاثة عقود من الكفاح المسلح. يقول مبارك عوض:

سمح لنا الكفاح السلمي بإيقاف الاستيطان الإسرائيلي ومنع الإسرائيليين من الاستيلاء على أراضينا. لقد نجحنا في كبح الاحتلال، لا على الصعيد الجغرافي فقط، بل كذلك على الصعيد النفسي، في الكفِّ بحقٍّ عن الرضوخ للاحتلال... إبان الأشهر التي دامتْها الانتفاضة، لم يكن هناك رجال شرطة ولم يكن هناك سارقون. لقد أخذ الناس على عاتقهم زمام أمورهم، وكنَّا بحق بغير حاجة إلى حكومة[12].

المقارنة بين المقاومة السلمية والمقاومة المسلحة في فلسطين:

الحملة المسلحة

الحملة السلمية

 

عشرات الآلاف

مئات الآلاف

مستوى مشاركة الجماهير

منظمة التحرير وحركة الجهاد

الطبقة الوسطى

طبيعة المشاركين

الذكور من الشباب

الطلاب والمثقفون

 

المجموعات المتطرفة

النقابات والعمال والتجار

 

 

أصحاب النشاطات التجارية

 

 

الفقراء

 

 

مجموعات نسوية

 

 

الحركات الإسلامية

 

 

الأحزاب الماركسية

 

 

فلسطينيو الشتات

 

لا

نعم

انشقاقات في أوساط الجيش والأمن

غير واضح

واضح

التنوع في التكتيكات

يوجد

لا يوجد

دعم خارجي

نعم

نعم

عقوبات دولية

أسهم في تعزيز سطوة إسرائيل

أحدث أثرًا عكسيًا ضد إسرائيل

نتيجة القمع

فشل

نجاح جزئي

النتيجة

 

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] أمين معلوف، اختلال العالم، دار الفارابي، طبعة أولى، 2009.

[2] Why Civil Resistance Works: The Strategic Logic of Nonviolent Conflict – Chenoweth and Stephan 2011.

[3] Civilian Jihad – Nonviolent Struggle, Democratization, and Governance in the Middle East By Maria J. Stephan.

[4] A Force More Powerful: A Century of Nonviolent Conflict – Peter Ackerman and Jack DuVal.

[5] Why Civil Resistance Works.

[6] Civilian Jihad.

[7] نفس المصدر.

[8] A Force More Powerful: A Century of Nonviolent Conflict.

[9] نفس المصدر.

[10] Why Civil Resistance Works.

[11] نفس المصدر.

[12] كاثرين إنغرام، على خطا غاندي، معابر للنشر، طبعة أولى، 2008 - مقابلة مع مبارك عوض في 7 نيسان 1989.

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني