بذور العلمانية في فكر الكواكبي

 

سهيل إلياس عروسي

 

يثير مصطلح العِلمانية (بكسر العين لا فتحها) العديد من الإشكاليات المفاهيمية في الساحة الفكرية والدينية حيث يرى البعض أن هذا الشعار جاء استجابة لحاجات غربية وتعبيرًا عن ضرورة تاريخية مرتبطة بالظروف الخاصة التي مرَّت بها أوربا أثناء انتقالها من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة، حيث الكلمة الفصل في الأولى للكنيسة وفي الثانية (العصور الحديثة) للدولة. وبالتالي فإن هذا المصطلح في تعبيره الأوربي يعني بشكل رئيسي فصل الدين الدولة.

أما التعبير الإسلامي عن هذا المصطلح فيأخذ معانٍ متعددة ومختلفة باختلاف المثقفين ومرجعياتهم وزوايا الرؤية الخاصة بكل منهم، بدءًا من المفهوم اللغوي للعلمانية المتمثل في غموض العبارة واشتقاقها وانتهاء بجوهر وفلسفة المصطلح.

يكتب د. عزيز العظمة[1]، في مؤلفه الهام العلمانية من منظور مختلف:

ليس معلومًا على وجه الدقة كيف دخلت عبارة العلمانية على اللغة العربية وكيف انتشرت في الآداب السياسية والاجتماعية والتاريخية العربية المعاصرة ، فقد كانت الإشارة تتم إلى عبارة (مدني) بصيغة الصفة والنعت بالإشارة إلى المؤسسات ذات الأسس اللادينية.

كما نرى في كلام فرح أنطون (1874-1922) حول فصل السلطتين الدينية والمدنية مثلاً، أو في وسم الشيخ محمد عبده 1849-1905 الخليفة بأنه حاكم مدني من جميع الوجوه. وقد استمرت هذه العبارة في التداول حتى وقت لاحق، فهناك إشارات إلى الدعوة إلى مدنية القوانين في العشرينيات كما أن عبارة العلمانية قد دخلت على ما يبدو مجال التداول في ذلك الوقت بالإشارة إلى معناها المتداول اليوم، وتثبتَّت في أعمال ساطع الحصري[2] (1880-1968) الذي أرسى أسس التيار العلماني في الفكر القومي العربي.

وليس تاريخ العبارة هو وحده المتَّسم بشيء من الغموض إذ من غير الواضح أيضًا كيف تمَّ اشتقاقها وهل كان الاشتقاق من العلم (عِلمانية- بكسر العين) أم من العالم (العَلمانية- بفتح العين بناء على اشتقاق غير سليم) ولكن الأرجح أن الاشتقاق الأول هو الأصح فهو ذو أساس ثابت في حاضر اللسان العربي المتحقق ومندرج في قاعدة صرفية واضحة.

ولكن عزيز العظمة يرى أيضًا أنه واستنادًا إلى المضامين التاريخية للعلمانية، يمكن اشتقاق عبارتها من العالم أو من العلم فليست العلمانية بالشأن الواحد المتجانس غير المتحول بل كانت لها تواريخ عديدة انضوت في أطرٍ سياسية ودولانية (من دولة) معينة منحتها تمايزات وتحديدات عدة.

تعبر الألفاظ الإفرنجية عن بعض أطياف التحققات التاريخية العلمانية فهناك عبارة secularism المستقاة من الكلمة اللاتينية saeculum التي تعني لغويًا الجيل من الناس والتي اتخذت بعد ذلك معنىً خاص في اللاتينية الكنسية يشير إلى العالم الزمني في تميزه عن العالم الروحي. وقد اعتمدت هذه العبارة في البلدان البروتستانتية عمومًا، أما في البلدان الكاثوليكية فقد استمدت عبارة (اللائيكية) Laicite - المشتقة من العبارتين اليونانيتين Laos أي الناس وLaikos أي عامة الناس في تميزهم عن الأكليروس (فئة الكهنوت المسيحي).

إذن يبدو أن مصطلح العلمانية مرتبط بطريقة ما بالغرب وبالكنيسة (الكهنوت) الغربية تحديدًا وبالتالي فإن مقاربته إسلاميًا غير ممكنة بسبب عدم وجود كهنوت في الإسلام وبالتالي فإن وجود مصطلح العلمانية في الواقع العربي والإسلامي لا يطابق حاجات ومتطلبات المجتمع العربي والإسلامي الذي يفتقر إلى المحرِّض على انبعاث مصطلح العلمانية وأعني به الكهنوت، فهل لهذا الرأي من مشروعية تاريخية وواقعية؟

إن الكهنوت بمعناه المسيحي – كما نرى- غير موجود في الإسلام ولكنه موجود بأشكال أخرى وسأحاول أن أدلِّل على ذلك برأيين متطابقين لمفكرين لهما وزنهما في الحياة الفكرية الإسلامية وهما محمد أركون توفي (14-9-2010)، وعزيز العظمة.

يتساءل محمد أركون[3]: "هل هناك من وظيفة كهنوتية في الإسلام؟ وكيف يدخل المؤمنون في تواصل مع الإلهي؟" ويجيب: إن طرح السؤال بهذه الطريقة أفضل من طرحه بخصوص القول بانعدام الكهنة في الإسلام كما يحصل غالبًا وتكرارًا فالكهنوت هو وظيفة أكثر اتساعًا وعمومية وأهمية. ونحن نجده بأشكال ومجريات مختلفة في كل الأديان التوحيدية أو التعددية (أي المؤمنة بتعددية الآلهة) وبالتالي فهي وظيفة ذات بعد وأهمية إنتروبولوجية (المقصود بالأهمية الإنتروبولوجية هنا أن وظيفة الكهنوت موجودة في كل المجتمعات البشرية فليس هناك من دين بدون رجال دين واختصاصيين بتسيير أمور التقديس) وبالتالي فلا داعي لتكرار القول أنه (لا كهنوت في الإسلام)، فهناك كهنوت وهناك رجال دين كبار وصغار ومتوسطي الحجم والأهمية ولكن طريقة وجودهم مختلفة عن الطريقة التراتبية الهرمية الموجودة في المذهب الكاثوليكي وليس البروتستانتي، وبالعودة إلى التاريخ فقد كان الكهنوت لدى اليهود تمثل في القدرة على تقديم الضحايا لله. وأما لدى الرومان (أي في وسط تعددية الآلهة) فكان يتمثل في المسؤولية التي يحتلها أولئك الذين يقدمون الضحايا للآلهة لنيل حمايتها. وفي المسيحية فإن من يقوم بالوظيفة الكهنوتية بصفتها عملاً وسائطيًا هم القساوسة. والقس أو الكاهن هو ذاك الشخص الذي يمتلك الأهلية لتقديم نفسه أمام الله والتحدث إليه دون وسيط والتضحية أو الضحية التي اختزلت في ما بعد إلى مجرد عمليات رمزية تحصل كل مرة في القداس (ويسمى سرُّ القربان المقدس). بهذا المعنى الخصوصي والمحدد يمكن القول إنه لا يوجد كهنوت في الإسلام.

ففي الإسلام كل مؤمن يدخل في تواصل مباشر مع الله من خلال الصلاة والزكاة والحج وقد ألغيت التضحيات المتنوعة التي كانت تمارس في الأديان السابقة على الإسلام ماعدا واحدة هي تلك التي تحتفل بذكرى ذلك العمل الديني العالي والأقصى الذي قام به إبراهيم عندما قبل بالتضحية بولده كعلامة على طاعة الله. ونجد في كل عام أثناء الحج إلى مكة أنه ينبغي على كل المسلم أن يذبح ضحية وعادة ما تكون خروفًا. وهنا نلتقي إذن من جديد بمفهوم الوساطة أو العمل التعسفي الاسترضائي، أو البحث عن التواصل مع الإلهي ولكن لا توجد هنا مسؤوليات رسمية موكلة لرجال الدين كما هو الحال في المسيحية فالإمام الذي يصلِّي أمام صفوف المؤمنين أثناء الصلوات الجماعية ليست له أي وظيفة كهنوتية فهو ينفصل عن بقية المؤمنين ويقف في المحراب لكي يرمز إلى وحدة الأمة في الصلاة.

وأما في الدين الشعبي أو المدعو كذلك، فنجد أن عبادة الصالحين توكل إلى شخصيات دينية مدعوة بالمرابطين أو الأولياء لها مكانة تذكرنا بالوظيفة الكهنوتية للقساوسة. أما في ما يخص مسألة (الاكليروس) أو رجال الدين فإننا نقول: إنه إذا كان ليوجد في الإسلام تنظيم مراتبي هرمي يتمتع بسلطات روحية (وأيضًا سياسية قبل فصل الكنيسة عن الدولة في الغرب) فإنه توجد هيئة من الفقهاء تشرف على تطبيق القانون الديني وذلك بالتعاون مع سلطة الدولة، فجماعة العلماء من كبار رجال الدين قد لعبوا في الإسلام الكلاسيكي كما في الأنظمة المعاصرة دورًا مشابهًا في نواح كثيرة لدور الكهنة في الكنيسة المسيحية قبل أن يحصل الفصل بين الكنيسة والدولة، فشخصيات مثل المفتي والقاضي والإمام يشكلون هيئة دينية ومدنية في آن معًا ولكن ليس لهم سلطة الكهنوت بالمعنى المسيحي التقريري الوارد في إنجيل متى 19:16.

ويؤكد د. عزيز العظمة[4]، ما ذهب إليه محمد أركون من أن الإسلام دين كغيره لا يقوم دون مؤسسة دينية لأن في انعدام هذه المؤسسة خروج عن الطبائع الاجتماعية للدين فالمؤسسة الدينية في أمكنة وأزمنة معلومة تقوم على استمرارها فئة متخصصة كما تقوم هذه الفئة على مؤسسات ثقافية وفكرية واجتماعية معينة لا انفكاك لها عنها، مؤسسات تجعل من إنتاج المادة الدينية وتوزيعها - من رموز وطقوس وعقائد - أمرًا مستمرًا ومتجانسًا إلى الدرجة التي تسمح بها ظروف التحول التاريخي، لا يتم التحول بين اللحظة الأولى للدين واللحظة الثانية إلا بوجود الكهنوت.

صحيح القول أن العقيدة الإسلامية في البداية كانت بسيطة لكن هذا لا يجب أن يدعونا إلى الذهاب إلى أن هذه البساطة استتبعت غياب الكهنوت عن الإسلام، فالإسلام المبكر كان طاقة (كارزماتية)[5] كبيرة ولابد أن انتشار الإسلام الأول تمَّ على أيدي دعاة اتخذوا من وسائل الاتصال المتوافرة آنذاك واسطة أساسية لدعوتهم، ولم تكن هذه الوسائل إلا مناهج إيصال الخطاب الديني التي قامت آنذاك عند الكهان.

ثم إن الإسلام المبكر قام في مواجهة وضع ذي ثوابت دينية صلبة وكان على حملة هذا الدين محاربة هذه الثوابت ولم تكن هذه المحاربة ممكنة بترداد التقريرات العقائدية البسيطة.

إن الحديث عن وجود وظيفة كهنوتية في الإسلام مبرر من وجهة نظرنا باعتبار أن عبد الرحمن الكواكبي هو رجل دين مسلم ويحتل الإسلام - بكل ما تعنيه هذه المفردة - المكانة المركزية في خطابه القومي والاجتماعي والركن الأساس في منظومته الفكرية، وهو في مشروعه الفكري قد دعا إلى استئصال نفوذ رجال الدين وتدخلهم في شؤون السياسة والمجتمع ما جعل مفكرًا معاصرًا ورائدًا في الدراسات الفكرية العربية، يصف الكواكبي بأنه رجل دين مسلم يعمل على التقريب بين الإسلام ونوع من العلمنة المخففة، إنها بذور للعلمانية كما يقول د. محمد جابر الأنصاري[6] وقد تمثلت هذه البذور العلمانية بالتالي:

1-  دعوته إلى استئصال نفوذ رجال الدين في ميدان السياسة والاجتماع وفضحه لمفاسد المعمَّمين وتحالفهم مع الحكم الاستبدادي المستغل وتنبيهه إلى أن الدين معرَّض لاستخدامه من قبل الحاكمين في تبرير مصالحهم واستبدادهم (الشيخ أبو الهدى الصيادي كنموذج بارز على ذلك(.

2-  دعوته إلى الفصل التام بين الخلافة والملك أو الحكومة واعتبار الخلافة – بعد إرجاعها للعرب - هيئة روحية وترك شؤون السلطة في البلاد الإسلامية لحكومات مدنية وهذا يعني بلغة عصرنا الفصل بين السلطتين الروحية والزمنية. وجدير بالذكر أن هذه الفكرة يطرحها الكواكبي قبل ربع قرن من دعوة الشيخ علي عبد الرازق[7] (1888-1966) في كتابه الصغير بحجمه، الكبير بمضامينه الإسلام وأصول الحكم- بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام الذي صدر عام 1925 فالقرآن برأي الشيخ المذكور ليس مطرحًا للتشريع السياسي، وأن الخلافة أصبحت تلصق بالمباحث الدينية وصارت جزءًا من عقائد التوحيد يدرسه المسلم مع صفات الله تعالى وصفات رسله الكرام ويلقنه كما يلقن شهادة أن لا اله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. والحق كما يقول الشيخ علي عبد الرازق أن الدين الإسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون، وبريء من كل أحوالها من رغبة ورهبة ومن عزة وقوة، والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية... إنها خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها. كما تزامنت مع مقولة الشيخ محمد عبده الشهيرة بأن الخليفة "حاكم مدني من جميع الوجوه"[8].

3-  وتبرز فكرته العلمانية القومية جليَّة عندما يوجه نداءه للمسيحيين العرب:

هذه أمم أوستريا (النمسا) وأمريكا قد هداها العلم لطرائق شتى وأصول راسخة للاتحاد الوطني دون الديني والوفاق الجنسي (القومي) دون المذهبي والارتباط السياسي دون الإداري، فما بالنا نحن لا نفكر في أن نتبع إحدى تلك الطرق أو شبهها فيقول عقلاؤنا لمثيري الشحناء من الأعجام (يقصد الأتراك العثمانيين) والأجانب (يقصد المستعمرين الأوربيين) الذين كانوا يثيرون الطائفية بين المسيحيين العرب والمسلمين كطريق لنفوذهم الوافد واستعمارهم: دعونا يا هؤلاء ونحن ندير شأننا ونتفاهم بالفصحاء، ونتراحم بالإخاء، ونتواسى في الضَّراء، ونتساوى في السَّراء. دعونا ندير حياتنا الدنيا، ونجعل الأديان تحكم الآخرة .فقط. دعونا نجتمع على كلمة سواء إلا وهي: فلتحيا الأمة، فليحيا الوطن.

لقد تعددت آراء الكتاب والمفكرين في قراءة الجانب العلماني في فكر الكواكبي فقد ذهب البعض إلى وجود مبالغة في قراءة قول الكواكبي "الدين غير الملك" قراءة إيديولوجية لا يتحملها فكره. حيث تدَّعي هذه القراءة - كما يكتب محمد راتب الحلاق[9] - أن الكواكبي قد دعا إلى فصل الدين عن الدولة؟! في حين أن ما أراه من تلك الجملة يختلف عن ذلك الادعاء اختلافًا تامًا، فهو ما أراد إلا أن يفند زعم السلاطين العثمانيين بأنهم حماة الإسلام، وإلا أن يكشف الأهداف الحقيقية لما يتظاهرون به من احترام الشريعة الإسلامية، فهو يقول:

أن ذلك ظواهر محضة، وليس من غرضهم، بل ولا من شأنهم أن يقدموا الاهتمام بالدين على مصلحة الملك، وهذا مرادي بأن الدين غير الملك.

وأراد كذلك أن يبين تهافت زعم من يقول بأن الدولة العثمانية كانت دولة دينية إسلامية. إنها برأيه (دولة جندية) أي دولة عسكرية تقوم على الحروب والفتوحات. وقد عدَّد كثيرًا من تصرفات السلاطين العثمانيين التي تتناقض والدين الإسلامي ومنها:

-       تآمر (محمد الفاتح) مع (فيردينان ثم مع إيزابيلا) فخذل مسلمي الأندلس مقابل إطلاق يده في أوربا التي تدين بالمذهب الأرثوذكسي.

-       قتل السلطان (سليم الأول) للعرب واستئصال العباسيين في الوقت الذي كان يتم فيه قتل المسلمين والتنكيل بهم وتنصيرهم.

-       حروب السلطان (سليمان القانوني) مع الصفويين ورفضه للوساطات التي قام بها (نادر شاه واشرف خان).

-       تآمر السلاطين العثمانيين مع القياصرة الروس للاستيلاء على بلاد التتار والقفقاس.

-       مساعدة السلاطين العثمانيين للهولنديين في جاوة.

-       غارات العثمانيين المستمرة على اليمن.

كما أورد أمثلة أخرى تؤكد زيف ادعاء السلاطين العثمانيين بحماية المسلمين. ويذهب محمد راتب الحلاق إلى أبعد من ذلك في قوله:

إن ما وضعه الكواكبي على لسان (النجدي) خطير جدًا، ويخذل من أراد أن يبني على جملة منتزعة من سياقها مقولات لا تتفق مع تفكير الرجل بل تناقضه على خط مستقيم؟!

فهو يذهب إلى حد تأييد الفكر الأصولي المتزمت، بل يصل إلى حد تكفير المسلمين خارج الجزيرة العربية ويقدم المهاد لما سماه سيد قطب وسواه من بعد ذلك بـ "جاهلية القرن العشرين" فهو يقول على لسان ممثل نجد في مؤتمر "أم القرى":

فهذه حالات السواد الأعظم من الأمة، وكأنها إما شرك صراح، أو مظنات إشراك، حكمها في الحكمة الدينية حكم الشرك بلا إشكال. وما جرَّ الأمة إلى هذه الحالات الجاهلية، وبالتعبير الأصح ، رجع بها إلى الشرك الأول إلا الميل الطبيعي للشرك.

ثم يعدد 25 خمسة وعشرين سببًا يرى أنها تجعل الدين الإسلامي كما فهمه أهل الجزيرة العربية، ويعني بهم الوهابيين، هو الدين الصحيح، الخالي من البدع والفتن؟! وقد جرَّه ذلك إلى اتخاذ مواقف متزمتة من بعض القضايا المطروحة على المفكرين آنذاك (موضوع المرأة على سبيل المثال).

كما ذهب فريق آخر إلى أبعد من ذلك فالأمر لا يتعلق بمبالغة في القول وإنما يصل إلى حد التكفير.

فالكواكبي مؤمن منذ كان في بطن أمه! ومن يفسر مقولة الكواكبي بشأن الدين والسلطة الحاكمة على أنها إزالة الدين من الدولة فهو يكفِّر الكواكبي ومن كفَّر مؤمنًا فقد كفر. ومن هذا الفريق سعد زغلول[10] الكواكبي الذي يتعوَّذ بالله من تلك المقولة التي تنسب للكواكبي والتي يطلق عليها البعض (فصل الدين عن الدولة) حيث يقول:

لقد ذهب الكواكبي بعيدًا في وجوب استقلال (يلاحظ هنا أن سعد زغلول الكواكبي يستخدم كلمة استقلال بدل فصل) الدين عن الدولة وعن الحكم واستبعاد السلطة عن التدخل في أمور الشريعة.

كبر قولاً عن البعض هذا القول، فانبرى من هذا البعض اثنان:

-       فريق ينكر أن يكون الكواكبي قد قال تلك المقولة وبالفصل بين الدين والدولة.

-       فريق يؤكد مقولته بهذا اللفظ.

ومن هذا الفريق الثاني اثنان أيضًا:

-       فريق يقر بحصوله ويفسره التفسير الصحيح الموافق لمجمل آراء الكواكبي ونزعته الإسلامية.

-       وفريق لا يقبل منه هذا الذهاب.

فأما من أنكر مطالبة الكواكبي بفصل الدين عن الدولة فقد جانب الواقع على رأيي، رغبة منه في إسكات من يتهم الكواكبي بالإلحاد ومن هؤلاء رجل متعِّمم معروف بحلب أصلحه الله، إذ شهر به داعمًا رأيه بأن الكواكبي قد أخذ بالماسونية اقتفاء بأثر محمد عبده وجمال الدين الأفغاني ونشر الأكذوبة في كثير من الجوامع في سورية ما ساعد في إلغاء مهرجان الكواكبي الذي كان مقررًا له أن يقام رسميًا في حلب بمناسبة ذكرى وفاته المئوية. ولكن لم يتمكن من إلغاء ثمان وعشرين ندوة وطنية وعالمية في سائر الدول العربية والأجنبية عن المصلح الديني الكواكبي.

وآخر هؤلاء المنصفين الذين خالفتهم في السبب لا في النتيجة الأخ الدكتور جمال طحان صاحب مؤلف الإعمال الكاملة لعبد الرحمن الكواكبي. على أن وثق بمقولة الكواكبي على أنه قال بها أولاً، وعلى أنها مقولة إسلامية صحيحة لا تتعارض مع الدين الإسلامي، فلقد فسَّرها بأنها مطالبة باستقلال الدين عن سلطة الدولة لكي يبقى نقيًا لا توجِّهه جهة سياسية أو غايات سلطانية، ومن ذلك ما كان يذهب إليه السلطان العثماني عبد الحميد من رغبة في حذف نصوص دينية من كتب التفسير ومن سائر النشرات المطبوعة أو المسموعة وهذا أمر معروف وموثق وقد أثبته (الغزي) في نهر الذهب. هذا من جهة، ومن جهة أخرى استبعاد القوانين عن سلطة بعض المعممين الذين - شئنا أو أبينا - نصبوا أنفسهم حسبة لله حراسًا للدين منذ عبد الحميد حتى يومنا هذا، يكفِّرون من يشاؤون ويحرضون السلطة على المثقفين والعلماء لا يشترط فيهم سوى توفر النفاق والجهل والتسلق على حبال السلطة لمنفعة شخصية بحته. لا يقبلون بتفسير لاستقلال الدين عن الدولة بما يتفق مع نزعة الكواكبي المعروفة في الإسلامية.

وأما الفريق الثالث فهو من الذين لم يرضوا بتفسير مقولة الكواكبي بأنها دعوة لاستقلال الدين عن سلطة الحكام واستبعاد الحكام عن السيطرة على أمور الدين أو استخدام فئة المنافقين من المعمِّمين ليجيزوا لهم التحريف في أمور الدين بالرشوة أو الوعد بمناصب عليا. فهل يتقبل هؤلاء بأن يتحكم حكام غير مسلمين بشريعة مسلمين يفوق عددهم عدد المسلمين في سائر الكرة الأرضية فالكواكبي لم يكتب ما كتب مخصصًا إياه بمسلمي حلب أو القاهرة، إنما كتب لشأن كل مسلمي العالم. فمقولته بالفصل بين الدولة والدين تصلح قبل كل شيء لمسلمي دول العالم التي أكثريتها من البوذيين الذين إذا حاولوا التسلط على السلطة الحكومية خشينا عليهم من التطهير العرقي أو الديني، وكذلك إذا حاولت سلطاتهم التدخل في شؤون الإسلام ثار المسلمون في سائر أنحاء الدنيا ضد الحكام الهندوس.

فلقد استهدف الكواكبي سائر المسلمين في الأرض كما قال، كل الشعوب على اختلاف دياناتها وأعراقها، فهي نظرة إنسانية مطلقة أراد بها بلاد العرب والفرس والهنود والصين وسواهم، فهو لا يرضى بأن تسيطر الدولة على ديانتهم وتحرك في شعائرهم قيد أنملة. وهذا ما يركن إليه المسلمون الحقيقيون دومًا. فهل هذا سوى فصل الدين عن الدولة؟ أم اننا يجب أن نصدق أعداء الكواكبي بأن ذلك الشعار الاستنتاجي يعني إلغاء الدين من الدولة؟ أم أنهم لا يقرؤون كتبه ويحرِّمون قراءتها لكي لا يدرك المثقفون أنه كان يهدف إلى الحرص على الشعائر الإسلامية من تدخل السلطات الحاكمة في سائر حكومات الدنيا.

ولابد لنا من القول: أنه على الرغم من أن الكواكبي يطلق هذه المقولة – بغض النظر عن تعدد الاجتهادات والآراء - فصل الدين عن الدولة في غمرة الحماسة القومية ضد العثمانيين والمستعمرين الأوربيين ومن منطلقه الديني الإصلاحي دون أن يوضح إن كانت دعوته هذه تتضمن استبدال التشريع الإسلامي (وتلك هي المسألة) رغم هذا كله فإن صدور هذه الدعوة في ذلك الوقت المبكر (سنة 1900) ومن مفكر مسلم ينسب إلى آل النبي يعدُّ مؤشرًا فكريًا للكواكبي على مدى تأثر فكره بالمؤثرات العصرية الجديدة ومدى اطلاعه عليها.

ومما يدل على عمق صدى هذه الدعوة العلمانية الكواكبية في الفكر القومي الجديد بمختلف مدارسه وأنساقه تبني أنطوان سعادة[11] (1904-1949) مؤسس الحزب القومي السوري لنص دعوته على الرغم مما عرف عن سعادة من معارضة عنيفة لمفكري الإصلاحية الإسلامية وسلالتهم من العروبيين. يقول سعادة بعد أن أورد النص التالي كاملاً في كتابه التوفيقي الإسلام في رسالتيه المسيحية والمحمدية:

من المؤسف أن مفكرًا سوريًا هو السيد الفراتي (= الكواكبي) لم يذهب صيته ذهاب صيت إمامي الرجعة (=الرجعية) الشيخ محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني مع انه أحق بهداية النفوس إذ نظر إلى الحياة الاجتماعية السياسية من جهة التفكير السوري المترقي واليك فقرة مما قاله في كتابه طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد: يا قوم واعني بكم الناطقين بالضاد ومن غير المسلمين (وهو قول سوري موجه إلى السوريين بالدرجة الأولى وان يكن القول عامًا للناطقين بالضاد) أدعوكم إلى تناسي الإساءات والأحقاد وما جناه الآباء والأجداد، فقد كفى ما فعل ذلك على أيدي المثيرين وأجلّكم من أن لا تهتدوا لوسائل الاتحاد وأنتم المتنورون السابقون فهذه أمم اوستريا وأمريكا قد هداها العلم لطرائق شتى...

يقول سعادة في كتابه المذكور:

هذا كلام رجل من المحمديين (تعبير استشراقي عن المسلمين ويبدو أن سعادة يميل إلى استخدام هذا المصطلح في كتابه) عرف معنى الإسلام الصحيح وقال قولاً جعله في طلائع العهد القومي وإن كان الناس اتبعوا من هو أحق بالتقدم (قصد أن الكواكبي لم يشتهر كما اشتهر الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وهو محق في هذه الملاحظة) ولكن النهضة السورية القومية الاجتماعية جاءت تنفض غبار الأوهام عن أذهان الناس ليميزوا بين قول الحق، وقول الباطن فرحم الله السيد الفراتي بما قال وفيه زبدة تفكير راسخ وتأمل ناضج (دعونا ندير حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم في الآخرة فقط).

فهذا قول تتبناه الحركة السورية القومية الاجتماعية بحرفيته وتخلد به ذكرى الإمام الكواكبي الذي نظر في مقتضيات الدين والدنيا فقال فيها هذا القول الفصل.

ويلاحظ د. محمد جابر الأنصاري أن سعادة يميل إلى الكواكبي لسوريته - فضلاً عن علمانيته – مغفلاً الجوانب الدينية والقومية العربية في تفكيره. ويفسر سعادة نداء الكواكبي إلى الناطقين بالضاد بأنه قول سوري موّجه إلى السوريين بالدرجة الأولى، كما يضع سعادة الكواكبي في مصاف عباقرة الأمة السورية نظير المعري وجبران.

ومن جهتنا لا نميل إلى الأخذ بملاحظة د. الأنصاري في أن سعادة يميل إلى الكواكبي لسوريته فضلاً عن علمانيته ونرى أن إعجاب سعادة بالكواكبي عائد لعلمانية الأخير أكثر مما هو عائد لسوريته فقد كان محمد رشيد رضا سوريًا أيضًا ومن القلمون في طرابلس ولكنه كان في الضفة الأخرى للعلمانية كما يقول عن نفسه:

لقد كنا على وفاق في أكثر مسائل الإصلاح حتى أن صاحب الدولة مختار باشا الغازي اتهمنا بتأليف كتاب أم القرى عندما اطلع عليه، وربما نشير إلى المسائل التي خالفنا فيها الفقيد في هامش الكتاب عند طبعه وأهمها الفصل بين السلطتين الدينية والسياسية.

وقد نفى د. محمد عمارة[12]، وجود صلة بين فكر الكواكبي والعلمانية في معرض رده على الباحث جان دايه، عضو الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي ذهب إلى اعتبار الكواكبي رائد القائلين بمبدأ فصل الدين عن الدولة على صعيد الأئمة والكتاب المسلمين وأنه الذي شق هذه الطريق الطويلة الشاقة. يقول د. عمارة في هذا الصدد:

لقد نذر جان داية الكثير من جهده لإثبات هذه الدعوى وجعلها أبرز مشاريعه البحثية وكتب حولها كتابين: صحافة الكواكبي، والإمام الكواكبي فصل الدين عن الدولة، فضلاً عن العديد من المقالات والمحاضرات، فلابد من الوقوف - بموضوعية وأناة - أمام الأدلة التي ساقها لإثبات هذه الدعوى الخطيرة والمثيرة (!).

ولقد استقصينا هذه الأدلة فوجدناها سبعة نعرضها - بألفاظ جان داية - ثم نتبع كل واحد منها بالرد والتفنيد:

الدليل الأول: قول الكواكبي في طبائع الاستبداد: "هذه أمم أوستريا (النمسا) وأمريكا قد هداها العلم لطرائق شتى وأصول راسخة للاتحاد الوطني دون الديني والوفاق الجنسي دون المذهبي والارتباط السياسي دون الإداري، فما بالنا لا نفكر في أن نتبع إحدى تلك الطرائق أو شبهها؟" ونحن عندما نقرأ عبارات الكواكبي هذه في سياقها نجدها موجهة إلى العرب غير المسلمين، فقبلها يقول: يا قوم وأعني بكم الناطقين بالضاد من غير المسلمين الذين تجمعهم بمواطنيهم المسلمين روابط الوطنية والقومية.

والكواكبي يدعوهم إلى الاتحاد مع المسلمين على أساس هذه الروابط الجامعة وإلى نزع فتيل الخلاف الديني، وليس في هذه العبارات ما يعني فصل الدين الإسلامي عن الدولة للرعية متعددة الديانات فالمرجعية الإسلامية لهذه الدولة هي قانون وضعي بالنسبة للمسيحيين (استبدلنا كلمة النصارى التي يكثر محمد عمارة في استخدامها بكلمة المسيحيين لكونها تتمتع بالمشروعيتين العلمية والتاريخية ومطابقة لمقتضى الحال) الذين تأمرهم مسيحيتهم أن يدعوا الدولة لقيصر "اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله" لوقا 25:20 لأنه ليس في مسيحيتهم مرجعية سياسية ولا قانونية لهذه الدولة.

والكواكبي يستطرد في هذا النص فيقول للأعاجم والأجانب: "دعونا يا هؤلاء ندبِّر شأننا، نتفاهم بالفصحاء، ونتراحم بالإخاء، ونتواسى في الضَّراء، ونتساوى في السَّراء، دعونا ندبِّر حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم في الآخرة فقط، دعونا نجتمع على كلمة سواء".

إن كلام الكواكبي - برأي د. عمارة – لا شبهة فيه للعلمانية بل هو التطبيق لموقف الإسلام في إسلامية الدولة حتى لكأنه يدعو إلى تطبيق دستور دولة النبوة في المدينة المنورة وتطبيق لعهد رسول الله لنصارى نجران سنة 10هـ/631م الذي أمنَّهم فيه على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وكل ما يملكون فالدين الإسلامي وليس العلمانية هو الذي يجعل رعية الدولة وأمتها وشعبها سواء في كل حقوق المواطنة مع جعل الحكم في الاختلاف الديني لله وحده يوم الدين. فالمساواة التي يتحدث عنها الكواكبي في حقوق المواطنة هي ثمرة لإسلامية الدولة وليس لعلمانيتها.

ومن جهتنا نرى أن العلمانية هي إحدى العناوين الكبرى للمواطنة وأن الأخيرة هي إحدى أهم انجازات الفكر الإنساني حيث يتساوى الجميع أمام القانون، دون النظر إلى انتماءاتهم الدينية والقومية. وإن من مهام الإنسانية في القرن الحادي والعشرين المحافظة على هذا الإنجاز وتطويره بما يجعله ثقافة سائدة مع استمرار حق التدين والاختلاف الديني، وجعل الآخرة محلاً للحساب وأن تكون الدنيا محلاً للعمل والتعاون والابتكار والإبداع وليس محلاً للتنازع الديني الذي تكفل العلمانية عدم وقوعه[13].

ويرى د. عمارة أن إشارة الكواكبي - في النداء الموجه إلى العرب غير المسلمين - إلى الاتحاد الوطني دون الديني ليس المراد منها استبعاد الدين الإسلامي والجامعة الإسلامية لأنه يتحدث إلى المسيحيين العرب وإنما المراد دعوتهم إلى الحذر من الوقوع في شباك الاتحاد الديني مع المستعمرين المسيحيين والولاء للأجانب الطامعين في استعمار بلادهم بحجة أن جامعة التدين بالمسيحية توحِّد بين المسيحيين العرب وهؤلاء المستعمرين الغربيين. ويفسر هذا النص وهذا الموقف ملابسات واقع ذلك التاريخ فلقد كانت فرنسا الكاثوليكية - رغم علمانيتها المتوحشة في بلادها - تنصب نفسها حامية للكاثوليك العرب (الموارنة) وكانت روسيا القيصرية الأرثوذكسية تنصب نفسها حامية للأرثوذكس العرب وخاصة في الشام فأراد الكواكبي بهذا النداء الموجَّه إلى العرب غير المسلمين تحذيرهم من الوقوع في شباك غواية الاتحاد الديني بينهم وبين المستعمرين وتنبيههم إلى أن روابطهم اللغوية والجنسية (القومية والوطنية) التي تجمعهم مع مواطنيهم المسلمين هي الروابط الطبيعية الموحدة لهم مع أمتهم العربية وليس الاتفاق في الدين أو المذهب مع الأجانب المستعمرين. ويؤكد هذا المعنى وهذا التفسير ما جاء في نداء الكواكبي هذا - للعرب غير المسلمين - بعد السطور التي أوردناها منه والتي اقتصر عليها جان داية من قوله لهؤلاء العرب المسيحيين محذرًا من الغواية الاستعمارية باسم الاتحاد في الدين:

أدعوكم واخص منكم النجباء للتبصُّر والتبصير فيما إليه المصير أليس مطلق العربي اخف استحقارًا لأخيه من الغربي؟! هذا الغربي قد أصبح ماديًا لا دين له غير الكسب فما تظاهره مع بعضنا بالإخاء الديني إلا مخادعة وكذبًا . هؤلاء الفرنسيس يطاردون أهل الدين ويعملون على أنهم يتناسونه بناء عليه لا تكون دعواهم، الدين في المشرق إلا كما يغرد الصياد وراء الشباك.

فالاتحاد الديني الذي يحذر منه الكواكبي ليس الجامعة الإسلامية – التي كان من أبرز دعاتها - ولا المرجعية الإسلامية للدولة، وإنما هو غواية الاستعمار لمسيحي العرب بدعوى الاتحاد الديني والمذهبي بينه وبينهم.

تلك هي الحقيقة التي غفل عنها الباحث جان دايه وزعيمه أنطوان سعادة وحزبه السوري القومي الاجتماعي فكان هذا الافتراء على الكواكبي بادعاء وقوفه مع فصل الدين الإسلامي عن الدولة وريادته لهذه الدعوى في الفكر الإسلامي الحديث.

تستوقفنا في النص السابق عدة أمور:

-       أولها: أن د. محمد عمارة يتعامل مع مصطلح العلمانية، تعامل الموقف وليس تعامل الباحث فهو ينظر إليها بعصبية ظاهرة حيث تشي مفردات مثل (افتراء - دعوى خطيرة ومثيرة) وتعكسها بشكل جلي وواضح.

-       ثانيها: استخدامه لمفهوم خاطئ (المستعمرين المسيحيين) حيث سبق لشهيد الحرية عبد الحميد الزهراوي (1855-1916) أن نبَّه إلى حقيقة الصراع في مقولته الشهيرة: "أن هجوم الغرب على الشرق ليس هجوم دين على دين إنما هو هجوم قوة على ضعف، وعلم على جهل، وغنى على فقر فانظروا وتساءلوا لماذا أنتم ضعفاء!". ونرى أن هذه المقولة الكبيرة بمضامينها تضع الجاهلين (أو غير المؤمنين) بها في الضفة الأخرى للحقيقة وليس مقبولاً من باحث جاد بمستوى د. عمارة أن يكون – في هذه الرؤية - في الضفة الأخرى.

-       ثالثها: أن المسيحيين هم عرب قبل كل صبغة سياسية كما يقول عبد الغني العريسي[14] (1891-1916) ويؤكد ذلك عبد الرحمن الكواكبي في خطوة ربما تكون الأجرأ في المناداة بالعلمانية - في سياقها التاريخي - إذ يقول:

نحن عرب قبل كل شيء. المسلمون عرب والمسيحيون عرب لكننا عرب قبل أن نكون مسلمين أو مسيحيين لقد تركنا الدين والصلاة في المساجد والكنائس إذ كنا عربًا قبل أن نكون مسلمين أو مسيحيين فهل يكون من المفاجئ أن نكون عربًا قبل أن نكون عثمانيين.

ويشارك الشيخ محمد عبده، الكواكبي رأيه معتبرًا أن انتساب غير المسلمين إلى الأمة لا يقل أصالة عن انتساب المسلمين أنفسهم إليها فالتاريخ مشترك وكذلك المصير لأبناء الوطن الواحد مهما اختلفت دياناتهم وإن أقوى نوع من أنواع الوحدة إنما هو وحدة الذين ينتمون إلى الوطن الواحد بمعانيه القانونية من حقوق وواجبات وحرية وكرامة.

وتشير كثير من وقائع التاريخ أن قبيلة بني تغلب تعاونت في رد الغزوات مع أبناء عمومتها وليس مع أبناء جلدتها. كما أن المسيحيين العرب دافعوا عن الأرض العربية أثناء حملات الفرنجة وتعرضوا لأقسى أنواع الوحشية وتحولت كنائس أنطاكية إلى إسطبلات لخيولهم.

الدليل الثاني: أن الدليل الثاني لـ(جان داية) هو قول الكواكبي في جمعية أم القرى: "إنها لا تتدخل في الشؤون السياسية مطلقًا فيما عدا إشارات وإخطارات بمسائل أصول التعليم وتعميمه".

ويرى د. عمارة أن لا علاقة لهذا الموقف بفصل الدين عن الدولة وإنما هو مذهب الإمام محمد عبده ومدرسته الإحيائية: مذهب التركيز على سياسة التربية قبل سياسة الإدارة للدولة وإصلاح الأصول التي تجدد إسلامية الأمة كطريق لإصلاح الدولة وإسلاميتها. فهو مذهب في ترتيب أولويات الإصلاح وليس مذهبًا في فصل الدولة عن الإسلام.

الدليل الثالث: لـ(جان داية) هو قول الكواكبي في طبائع الاستبداد:

هل يجمع بين سلطتين أو ثلاث في شخص واحد أم تخصص كل وظيفة من السياسة والدين والتعليم بمن يقوم بها بإتقان؟ ولا إتقان إلا بالاختصاص وفي الاختصاص كما جاء في الحكمة القرآنية "ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه" الأحزاب 4 ولذلك لا يجوز الجمع منعًا لاستفحال السلطة.

إن هذا الحديث عن التخصص هو الذي طبقته الدولة الإسلامية حتى في عصر النبوة - رغم بساطة الدولة - وليس في التخصص ما يعني فصل الدين عن الدولة. ولقد كان حذر الكواكبي من الاستبداد الذي يؤدي إليه الجمع بين التخصصات المختلفة في شخص واحد حتى لا تتكرر تجربة الكهانة الكنسية التي احتكرت الدين والدنيا جميعًا في (الاكليروس) ولم يكن حذرًا من المرجعية الإسلامية للدولة بحال من الأحوال، فالتخصص ضرورة حياتية وعملية والمرجعية الإسلامية مرعية في جميع التخصصات.

الدليل الرابع: لـ(جان داية) هو قول الكواكبي في طبائع الاستبداد: "هل يكون للحكومة - ولو القضائية - سلطة وسيطرة على العقائد والضمائر أم تقتصر وظيفتها في حفظ الجامعات الكبرى كالدين والجنسية واللغة والعادات والآداب العمومية ولا تتداخل الحكومة في أمر الدين ما لم تنتهك حرمته؟ وهل السياسة الإسلامية، سياسة دينية أم كان ذلك في مبدأ ظهور الإسلام كالإدارة العرفية عقب الفتح؟". وليس في كلام الكواكبي هذا ما يعني فصل الدين عن الدولة، فالدين الإسلامي هو الذي يحرم ويمنع السيطرة على العقائد والضمائر، ليس فقط من قبل الدولة بل وحتى من قبل علماء الدين. لقد قال الله تعالى لرسوله "فذكر إنما أنت مذكر ولست عليهم بمسيطر" الغاشية 21-22.

الدليل الخامس: لـ(جان داية) هو قول الكواكبي في (أم القرى) بمعرض نقده للدولة العثمانية: "ولما وضع قانون تشكيل الولايات لم يرض المتعممون حتى جعلوا فيه قاضي المسلمين، وكذلك مفتي المؤمنين في كل بلد عضوين في مجلس لإدارة يحكمان بأشياء مما يصادم الشرع كالربا والضريبة على الخمور والرسوم العرفية وغيرها مما كان الأليق والأنسب بالإسلامية أن يبقى العلماء بعيدين عنه، كما أن القسيس - بل الشماس - لا يحضر مجلسًا يعقد فيه زواج أو تفريق مدنيان ولا يشهد في صك دين داخله الربا فضلاً عن أن يقضي أو يمضي بصفة رسمية كهنوتية أمثال ذلك من الإعمال التي تصادم دين المسيحية". وقول الكواكبي هذا شاهد ضد (جان داية) لا شاهد معه فهو لا يعيب على علماء الدولة العثمانية الاشتراك في مجالس الإدارة والإحكام، وإنما يعيب عليهم الحكم (بأشياء كثيرة مما يصادم الشرع) الإسلامي فهو موقف ضد العلمنة والعلمانية وليس معها ودعوة لأن تكون القوانين في الدولة شرعية لا مصادمة للشرع، وحض على عدم مخالفة العلماء ودوائر الحكم والإدارة (الإسلامية) بتعبير الكواكبي، أي دعوة لإسلامية الدولة وإسلامية القضاء والإدارة والقانون.

الدليل السادس: لـ(جان داية) هو قول الكواكبي في (أم القرى): "لقد زعم كثير من حكماء تلك الأمم – الأوربية - أنهم ما اخذوا في الترقي الأبعد عزلهم شؤون الدين عن شؤون الحياة وجعلهم الدين أمرًا وجدانيًا محضًا لا علاقة له بشؤون الحياة الجارية على نواميس الطبيعة". والخطأ الغريب لـ(جان داية) أنه جعل الزعم الذي زعمه فلاسفة العلمانية الأوربية - والذي أورده الكواكبي على سبيل الحكاية باعتباره زعمًا - جعله جان داية رأي الكواكبي في أن الدين مجرد أمر وجداني لا علاقة له بشؤون الحياة وهو خطأ كبير وغريب من هذا الباحث جعل (استدلاله) هذا (زعمًا) لا علاقة له بحقيقة فكر الكواكبي حول علاقة الدين بالدولة.

الدليل السابع: لـ (جان داية): وهو من أهم الأدلة عنده على علمانية الكواكبي فهو ما كتبه كاتب بتوقيع (مسلم حر الأفكار) في جريدة المقطم- أغسطس 1899 حول الجامعة الإسلامية وفصل الدين عن الدولة وهي مقالات أدعى (جان داية) أن كاتبها هو عبد الرحمن الكواكبي. ويكفي لإثبات أن ما جاء في هذه المقالات هو الدليل العمدة لـ(جان داية) على علمانية الكواكبي ومن ثم على علمنة الإسلام، أنه قد خصص لها في كتابه الإمام الكواكبي، فصل الدين عن الدولة نحو 100 صفحة في كتاب مجموع صفحاته 158 صفحة، أي نحو ثلثي الكتاب.

ولقد وقفنا أمام هذه المقالات وقفات فاحصة ومتأنية استخدمنا فيها المنهج العلمي في فقه النصوص ونقدها فثبت لنا ثبوتًا يقينيًا أن هذه المقالات لا علاقة لها بالكواكبي، بل إن كاتبها -في أغلب الظن - ليس مسلمًا رغم توقيعها بعبارة (مسلم حر الأفكار). ولست أدري كيف غفل باحث جاد مثل (جان داية) عن أن يقرأ في صلب هذه المقالات العبارات التي تفضح - بأبلغ عبارة - عن أن كاتبها لا يمكن أن يكون هو المصلح الإسلامي العظيم عبد الرحمن الكواكبي.

ومن الأدلة على هذه الحقيقة التي غفل عنها (جان داية):

1-  ما جاء في رد الشيخ محمد رشيد رضا على هذا الـ (مسلم حر الأفكار) من التحذير من الاغترار بكلام مارق غادر يصف نفسه بأنه مسلم حر الأفكار وما جاءته حريته إلا من رقِّ الكفار.

2-  فلما رد (مسلم حر الأفكار) على الشيخ رشيد رضا جاء ردُّه تعليقًا على عبارة (وما جاءته حريته إلا من رق الكفار) التساؤل: فمن هم الكفار الذين يعنيهم؟ الأوربيون الذين يعيبني على الدرس في مدارسهم؟ فقد كشفت هذه العبارة اعتراف هذا الـ (مسلم حر الأفكار) بأنه واحد من المثقفين اللبنانيين الذين تعلموا ودرسوا في مدارس الإرساليات المسيحية وفي هذا دليل قاطع على أنه لا يمكن أن يكون هو الكواكبي الذي درس في المدرسة الكواكبية الإسلامية بحلب.

3-  ولقد عاد الشيخ رشيد رضا في رده على هذا الرد من كتاب جان داية فأشار إلى حقيقة هذا الاكتشاف الذي غفل عنه – أيضًا - جان داية وذلك عندما قال عن هذا الـ(مسلم حر الأفكار) أن كتابته تشيد عليه إحدى الغميزتين:

-       عدم فهم الإسلام.

-       اعتقاد أن تركه سعادة للأنام.

وهو مع ذلك ينفي التهمة عن نفسه بالاعتزاز بالأوربيين والتبجح بالانتماء إليهم والأخذ بتعاليمهم وإنكار إطلاق لفظ الكفار عليهم ولا يمكن لقارئ - فضلاً عن باحث مثل جان داية - أن يقول أن أوصاف الاعتزاز بالأوربيين والتبجح بالانتماء إليهم والأخذ بتعاليمهم وإنكار إطلاق لفظ الكفار عليهم، يمكن أن تجعل هذا الكاتب مسلمًا فضلاً عن أن يكون هو الشيخ عبد الرحمن الكواكبي أحد أئمة الإصلاح الإسلامي في العصر الحديث.

4-  ثم يعود الشيخ رشيد رضا ليعيد الحديث عن هذا الاكتشاف الذي حسم القضية، اكتشاف أن الـ(مسلم حر الأفكار) هذا هو واحد من خريجي مدارس الإرساليات المسيحية في لبنان فيقول الشيخ رشيد: "إنني ما عبته على الدرس في مدارس الأوربيين"، ثم يختم الرد موجهًا إليه القول: "فالزم شأنك، مكتفياً بعلومك الأوروبية والسلام على من اتبع الهدى". فكاتب مقالات المقطم الداعية إلى فصل الدين عن الدولة هو خريج إحدى مدارس الإرساليات المسيحية في لبنان وليس الكواكبي.

5-  ثم أن الذين كتبوا في المقطم داعين إلى فصل الدين عن الدولة – قبيل نشر مقالات هذا الـ(مسلم حر الأفكار) كانوا جميعًا كتابًا مسيحيين (حنا الطرابلسي- ميشيل حكيم) ولم يكتب كاتب مسلم واحد باسمه الصريح حول هذا الموضوع في ذلك التاريخ.

6-  ثم أن هذا الكاتب يتهم دعاة الجامعة الإسلامية التي كان الكواكبي من إعلامها بالتهم التي اجتهد الكواكبي كثيرًا في دفعها عن الإسلام والمسلمين. يتهم هذا (المسلم حر الأفكار) دعاة الجامعة الإسلامية بأنهم يرون أن الخطر ليزول عن الإسلام إلا بتمزيق شمل المسيحيين وأن عز الإسلام لا يكون إلا بذل المسيحيين. وهذه دعاوى واتهامات لا يقول بها إلا المسيحيون الذين تعلموا التعصب ضد الإسلام والمسلمين في مدارس الإرساليات التنصيرية (!) التي اعترف هذا (المسلم حر الأفكار) بأنه قد تربى وتعلم فيها ولا يمكن لعاقل أن يتصور صدور هذه الاتهامات للمسلمين (تمزيق شمل المسيحيين، ذل النصارى) من المصلح الإسلامي السيد عبد الرحمن الكواكبي.

أن طبيعة الرد على الأدلة السبعة التي قدمها الباحث (جان داية) والتي خرج بعضها عن السياق العلمي الموضوعي ولغة الحوار الهادئ، تجعل منها جزءًا من المشكلة لا جزءًا من الحل إذ بدت هذه الردود وكأنها (بل هي) تدفع تهمة العلمانية عن الكواكبي وهي تأتي نقيضًا لما ذهب إليه د. محمد عمارة[15]، ذاته في كتابه الإعمال الكاملة لعبد الرحمن الكواكبي حيث اعتبر أن الكواكبي قد وصل إلى ذروة الحسم والوضوح في معالجة مسألة الفصل بين السلطة الدينية والسياسية، أي قضية العلاقة بين الدولة ونظام الحكم وبين العقيدة الدينية عندما يعلن في جرأة يحسده عليها معاصرونا فضلاً عن معاصريه ضرورة الفصل بين السلطتين الدينية والسياسية. ومن المعاصرين الذين يرون في الكواكبي إصلاحيًا دعا إلى إعادة بناء العلاقة بين الدين والدولة على أساس عصري حيث يكتب محمد جمال باروت[16] أن الكواكبي هو من أبرز المثقفين الليبراليين في القرن التاسع عشر الذين طرحوا ضرورة إعادة بناء العلاقة بين الدين والدولة على أساس عصري بشكل يلعب فيه الدين دور استيعاب المدنية والتقدم في هذا القرن الذي يتسم بالكثير من الإحداث والمتناقضات ولذلك ميز مابين الدين والدولة واعتبر أن الدولة هي وكالة سياسية عمومية عن الناس تقوم بالفصل بين السلطات بما فيها الفصل عن السلطة الدينية ومابين الدين كعقيدة روحية وعقيدة دينية ولكن من داخل تفكيره كمثقف إسلامي. إذ كان الكواكبي شديد الفخر بالإسلام كدين وكحضارة، وكان يريد العودة بالإسلام إلى أصوله الأولى قبل أن تطرأ عليه المزيدات كما كان يرى. وكان يعتبر أن النهضة يجب أن تبدأ من هنا كما بدأت النهضة في الغرب من باب الإصلاح الديني في تطهير المسيحية من المزيدات والانتقال من الإصلاح الديني إلى السياسي ولكن في نقاط أخرى يبرز أولوية الإصلاح السياسي وهذا ما يتعلق بأطروحته في مجال الاستبداد.

وبالعودة إلى التاريخ يتعرض محمد جمال باروت إلى أزمة الاجتماع الإسلامي في مختلف الحقب الإسلامية ويلاحظ الاستقطاب مابين (الدعوة) و(الدولة) و(الشريعة) و(العصبية) و(أهل الفقه) و(أهل الحكم) ما سوَّغ الانفصال بين الأمة والدولة في التاريخ الإسلامي، وأدى إلى طغيان السياسة على الشريعة وهذا ما نراه بالنظر إلى تاريخ حسن البنا وتأسيس جماعة الإخوان المسلمين، وظهور فكرة الحاكمية في الإسلام عبر خطاب أبو الأعلى المودودي الذي مهَّد لطرح أدلوجات تجهيلية وتكفيرية انقلابية في الفكر الديني ويقسم محمد جمال باروت الحركات الإسلامية إلى: حركات حاكمية جهادية تقوم على إسقاط الدولة وأسلمه المجتمع، وحركة إخوانية، وحركة شيعية اثني عشرية تنقسم بين دعاة ولاية الفقيه والدولة الديمقراطية الإسلامية والحركات التي أسقطت شعار الدولة الإسلامية باعتبارها وسيلة لا غاية.

إن فكر الكواكبي الذي جسَّده في إنتاجه المختلف كان شائعًا لدى المفكرين الأحرار والليبراليين في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، وكان سبقه جيل من المفكرين والمثقفين الليبراليين في تلك الفترة.

كانت محاولة لبناء الدولة على هذا الأسس، ومحاولة تحويل الدولة العثمانية إلى دولة ديمقراطية يعني لم يكن يعكس حلمًا سياسيًا بل كان يعكس عملية سياسية واقعية وهذا ما عبرت عنه مرحلة التنظيمات العثمانية، يعني مرحلة بناء الدولة على أسس عصرية.

ويرى باروت أن لدى الكواكبي أشياء كثيرة يمكن أن يقولها لنا اليوم على صعيد العلاقة مابين الدين والدولة والأسس العصرية والقانونية للدولة وعلى صعيد الفصل بين السلطات ومنع الطغيان والاستبداد من خلال تحقيق الفصل الحقيقي مابين السلطات وفي هذا المجال يمكن للكواكبي أن يكون راهنيًا.

إن الأهم في نظرنا ونحن نعالج موقف الكواكبي من هذه القضية (العلمانية) هو أنه ليس كغيره ممن نادوا بالنزعات الفكرية الوافدة أو النظريات العلمية الحديثة أو مقلدين لما جرت به الأمور في أوربا من تنحية الكنيسة وسلطانها عن الهيمنة على مقدرات أمور السياسة والحياة وإنما هو يصدر في ذلك عن الدين الإسلامي ذاته وبمفهوم سياسي ناضج يستخدمه في فهم الدين ومعالجة علاقاته بالحياة فهو بعد أن يرى أن إدارة الدين وإدارة الملك لم تتحدا في الإسلام تمامًا إلا في عهود الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز فقط، يتقدم ليرى أنه لا يوجد في الإسلام نفوذ ديني مطلق في غير مسائل إقامة الدين وهو في ذلك الموقف إنما يعكس رؤية معقولة للعلمانية التي ينظر إليها المسلمون في عمومهم على أنها فكر مناقض بل هدام للقيم الإسلامية الأساسية وهي في مضمونها الفكري دعوة للإلحاد وفي مضمونها السياسي دعوة لفصل الدين عن الدولة وفي كلتا الحالتين يطلب من الدين الانسحاب من المجتمع والسياسة والركون إلى الجامع والكنيسة باعتبارهما وسيلتين للعبادة وحسب.

فالكاتب الإسلامي محمد البهي[17]، يرى إن العلمانية كفيلة بإبعاد الإسلام من مجال التوجيه والحياة العامة ومنعه من التدخل في شؤون الدولة وعلى الأخص في المجال التربوي. هذا يعني في المآل والنتيجة إخلاء المجتمعات من الإسلام.

إما الشيخ يوسف القرضاوي[18]، فانه يرى أن العلمانية وتحت شعار الدين لله والوطن للجميع فإنها تهدف إلى عزل الإسلام عن الدولة والمجتمع وحصره في المساجد وبعض زوايا الحياة التافهة.

إما أنور الجندي[19]،  فيعتبر أن العلمانية هي اللا دين.

بينما يذهب محمد حسين فضل الله[20]، إلى اعتبارها بمثابة دين آخر.

أن هذه المسألة لم تكن غائبة عن رواد الإصلاح الديني في عصر النهضة فهم انطلقوا من فكرة أساسية عبَّروا عنها بأشكال مختلفة (غير سلبية بالحدة التي نظر إليها محمد البهي ويوسف القرضاوي)، وهي العودة إلى ينابيع الإسلام الأولى ورفض كل ما يرون أنه الصق بالإسلام وليس من طبيعة تعاليمه في شيء، والكواكبي – برأينا - يبدو أكثر تحررًا من أخلافه المذكورين آنفًا فهو في رؤيته يعبر عن الحاجة إلى حكماء لا يبالون بغوغاء العلماء الغفل الأغبياء والرؤساء القساة الجهلاء، يجدِّدون النظر في الدين فيفيدون النواقص المعطلة ويهذبونه من الزوائد الباطلة مما يطرأ عادة على كل دين يتقادم عهده فيحتاج إلى مجددين يرجعون به إلى أصله المبين.

لقد استطاع الكواكبي أن يوازن بين التراث والمعاصرة، ونظر إلى التراث من زاوية المعاصرة وليس العكس. كما استطاع أن يوفق بين الإسلام والعلمانية إلى درجة لا تبدو فيها العلمانية على أنها شر مستطير للمسلم بل هي رؤية في الدين والدولة، مع احترام لخصوصية كل منهما دون تداخل أو اختراق وبذلك بدا الشيخ عبد الرحمن الكواكبي معاصرًا وأصيلاً في رؤيته ونهجه وحسبه في ذلك فخرًا في ذلك الزمن الصعب.

*** *** ***

الأوان، الأحد 30 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014


 

horizontal rule

[1] عزيز العظمة، العلمانية من منظور مختلف، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1992، ط1، ص 17-18.

[2] انظر كتاب: ساطع الحصري، رائد المنحى العلماني في الفكر القومي، تيخونوفا، دار التقدم، 1987.

[3] محمد أركون، الفكر الإسلامي، نقد واجتهاد، ترجمة وتعليق هاشم صالح، دار الساقي، بيروت، 1992، ص 135-136 وص 211. ونود أن نشير هنا إلى أن عبارة (الإسلام دين ودنيا) غير دقيقة على صعيد الشكل، حيث يعتبر الشيخ محمد مهدي شمس الدين (انظر كتابه: العلمانية-تحليل ونقد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت،1983، ط2، ص 85-86) أن مفهوم (دين ودنيا) هو مفهوم مضاد للمفهوم الثقافي الإسلامي فالدنيا حسب المفهوم الإسلامي لا تقابل الدين وإنما تقابل الآخرة. كما أن مفهوم الدين والدولة – خارج السياق الإسلامي - قد حسم بعد أن تحررت أوربا من سلطة الكنيسة فأصبح الدين يتحرك في فضائه الخاص (الروح) والدولة تتحرك في فضائها الخاص (المادة) بما تعنيه من إدارة مصالح البشر وأمورهم الحياتية، فيما يتحرك الدين في تنظيم علاقة البشر بالله وليس هناك من علاقة بين هذا وذاك في الإطار العام غير الشخصي إذ تبقى علاقة الفرد بربه، مسألة شخصية لا علاقة للدولة بها.

[4] عزيز العظمة، مصدر سبق ذكره، ص 49-50.

[5] كاريزماcharisma: هذا المصطلح مستمد من العهد الجديد في النص اليوناني الذي يعني (عطية النعمة الإلهية) وادخله عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (Maxweber-1864-192) ليعني الصفة الخارقة التي يمتلكها بعض الأشخاص فتكون لهم قوة سحرية على الجماهير. وقد ميَّز ماكس فيبر بين كاريزما الفرد التي تنشأ من صفات طبيعية عنده وكاريزما المنصب المستمدة من الطبيعة المقدسة للمركز. وفي الفاشية يطلقون على القائد لقب الزعيم أو الساحر الذي قد تغلفه الأساطير وهو يهتم بالجماهير والإخراج المسرحي والشعارات الكبرى فيرتبط الزعيم بالشعب ارتباطًا وثيقًا ويرتدي أشكالاَ هستيرية جماعية (انظر: كتاب الطاغية، إمام عبد الفتاح إمام، عالم المعرفة، الكويت، العدد 183 لعام 1994، ص 84(

[6] محمد جابر الأنصاري، الفكر العربي وصراع الأضداد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،  بيروت، 1996، ط1، ص390 وما بعد.

[7] علي عبد الرازق، الإسلام وأصول الحكم، القاهرة، مطبعة مصر 1925، ط2، ص 14-17 وص 71-73 وص 103.

[8] راجع الأعمال الكاملة للشيخ محمد عبده التي قام بجمعها وتحقيقها د. محمد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ج3، 1974، ص 287 وما بعد.

[9] انظر كتاب: الرؤى الإصلاحية للمفكر النهضوي عبد الرحمن الكواكبي الذي حرَّره د. محمد جمال طحان والذي يضم أعمال الندوة الدولية التي أقيمت في إطار فعاليات حلب عاصمة الثقافة الإسلامية من 25 وحتى 27 تموز 2006 الصادر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق 2007، ص 68 وما بعد(من مداخلة محمد راتب الحلاق).

[10] المصدر السابق ومعطياته، ص 208 وما بعد (من مداخلة سعد زغلول الكواكبي) ونشير إلى أن الأخير هو حفيد الكواكبي.

[11] أنطوان سعادة، الإسلام في رسالتيه المسيحية والمحمدية، دار فكر للأبحاث والنشر، بيروت، 1997، ط5، ص 276-277.

[12] محمد عمارة، الشيخ عبد الرحمن الكواكبي هل كان علمانيًا؟ نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، 2006، ط1، ص 13-30.

[13] للاستزادة في موضوع العلمانية والمواطنة نرى الرجوع إلى كتابنا: من قضايا الفكر السياسي –المواطنية أنموذجًا- الصادر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق 2010.

[14] هشام شرابي، المثقفون العرب والغرب، دار النهار للنشر، بيروت، 1978، ط2، ص 128-129.

[15] محمد عمارة، الأعمال الكاملة لعبد الرحمن الكواكبي، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1970، ص 48-50.

[16] انظر كتاب: الرؤى الإصلاحية للمفكر النهضوي عبد الرحمن الكواكبي-م-س، ص 212-213 (من مداخلة محمد جمال باروت).

[17] محمد البهي، مشكلات الحكم والتوجيه، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1982، ط2، ص 48-92 بتصرف يخدم الفكرة.

[18] يوسف القرضاوي، الحلول المستوردة، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1989، ط15، ص 52-55 بتصرف يخدم الفكرة.

[19] أنور الجندي، سقوط العلمانية، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1973، ط1، ص 95-97 بتصرف يخدم الفكرة.

[20] محمد حسين فضل الله، آفاق الحوار الإسلامي المسيحي، دار الملاك، بيروت، 1994، ط1، ص 281.

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني