الصفحة التالية                  الصفحة السابقة

التجـذُّر 1

سيمون ڤـايل

 

مشكلة وجود طريقة لإلقاء إلهام في نفوس شعب هي مسألة جديدة كلَّ الجِدة. لقد أشار إليها أفلاطونُ في عدة مواضع في [محاورة] الجمهورية [كتاب السياسة] le Politique وفي كتابات أخرى؛ لا شك في أنه كان هناك تعاليم حول هذا الموضوع في المعرفة السرية للعصور القديمة قبل الرومانية التي اختفت كليًا. وربما كان يجري الحديث أيضًا عن هذه المسألة وعن مسائل مشابهة في أوساط فرسان الهيكل [المعبد] Templiers[1] والماسونيين الأوائل. إن لم أكن مخطئةً فإن مونتسكيو كان يجهلها. وروسو الذي كان مفكرًا قويًا عرف بوجودها بصورة واضحة جدًا، لكنه لم يذهب أبعد من ذلك. ويبدو أن رجال عام 1789 لم يكن لديهم شكوك حولها. وفي عام 1793، وبدون أن يكلِّفوا أنفسَهم عناءَ طرح هذه المشكلة، ناهيكم عن دراستها، ارتجلوا حلولاً متسرعة: احتفالات الكائن الأسمى fêtes de l'Être suprême، احتفالات الإلهة العقل fêtes de la Déesse Raison[2]. فكانت سخيفة ومُخجِلة. وفي القرن التاسع عشر تدنَّى مستوى العقول إلى أدنى من المستوى الذي تتوضَّع فيه مثلُ هذه المسائل.

في أيامنا هذه، قمنا بدراسة مشكلة الدعاية والولوج فيها. وقدَّم هتلرُ بصورة خاصة حول هذه النقطة مساهمةً دائمة لتراث الفكر الإنساني. لكن هذه مشكلة مختلفة. فالدعاية لا تهدف إلى خلق إلهام؛ فهي تغلق وتسد جميع المنافذ التي يمكن أن يمر منها الإلهام؛ وتملأ النفسَ كلَّها بالتعصب. ووسائلها لا يمكن أن تصلح لغرض معاكس. وليس المقصود أيضًا اعتماد وسائل معاكسة؛ فعلاقة السببية ليست بهذه البساطة.

كما يجب عدم الاعتقاد بأن إلهام الشعب هو سر يقتصر على الله وحده وبالتالي يفلت من كل طريقة. إن الدرجة القصوى والكاملة للتأمل الصوفي هي شيء غامض جدًا أيضًا، ومع ذلك فقد كتب القديسُ يوحنا الصليب Jean de la Croix حول طريقة بلوغها مقالاتٍ تتفوق إلى حد كبير بدقتها العلمية على جميع ما كتبه علماء النفس أو التربية في عصرنا. وإذا اعتقد أنه من الواجب القيام بذلك فلا شك أن مُحقٌّ، لأنه كان أهلاً لذلك؛ فجَمالُ كتاباته هو علامة أصالة واضحة تمامًا. في الحقيقة، ومنذ تاريخ قديم غير معروف، قبل المسيحية بزمن، وحتى النصف الثاني من عصر النهضة، كان معروفًا دائمًا على المستوى العالمي بأن هناك طريقة في الأمور الروحانية وفي كل ما يمتُّ بِصِلة إلى خير النفس. فالسيطرةُ المنظَّمة أكثر فأكثر والتي يمارسها البشرُ على المادة منذ القرن السادس عشر حملَتْهم على الاعتقاد، بالمقابل، بأن أمور النفس إما اعتباطية وإما يُسَـلَّم زمامُها للسحر، للفاعلية المباشرة للنيَّات والكلمات.

ليس الأمر على هذا النحو. فكل شيء في الخليقة خاضع للطريقة، بما في ذلك نقاط التقاطع بين هذا العالَم وبين العالَم الآخر. وهذا ما تشير إليه كلمةُ لوغوس Logos، التي تعني علاقةً أكثر أيضًا مما تعني قولاً. وتكون الطريقة مختلفة فقط عندما يكون المجال مختلفًا. وكلما ارتفعنا تزداد الطريقةُ صرامةً ودقة. قد يكون من الغريب أنْ يعكسَ نظامُ الأشياء المادية حكمةً إلهية أكثر من نظام الأشياء الخاصة بالنفس. والعكس صحيح.

من المحزن لنا أن هذه المشكلة التي ليس هناك حولها، إذا لم أخطئ، أيُّ شيء يمكن أنْ يرشدَنا، هي تحديدًا المشكلة التي علينا اليوم أن نحلَّها بصورة عاجلة جدًا، وإلاَّ فستكون كأنها غير موجودة أبدًا وليس أنها زالت.

بالإضافة إلى ذلك، لو أن أفلاطون مثلاً صاغ لها حلاً عامًا فلن يكفيَ منا دراستُها للتخلص منها؛ لأننا أمام وضع يكون التاريخُ إزاءه ضعيفَ العون لنا. فلم يحدِّثْنا التاريخُ عن أي بلد كان في وضع مشابه حتى وإن كان شبهًا بعيدًا للوضع الذي يمكن لفرنسا أن تجدَ نفسَها فيه في حالة الهزيمة الألمانية. فضلاً عن أننا نجهل أيضًا كيف يكون هذا الوضع. نعرف فقط أنه سيكون لا سابق له. وهكذا، حتى لو عرفْنا كيف نَخْـلُق في بلد ما إلهامًا فلن نعرف أيضًا كيف نفعل حيال فرنسا.

من جهة أخرى، ولأن الأمر يتعلق بمشكلة عملية، فإن معرفة حل عام ليست ضروريةً لحالة خاصة. فعندما تتوقف آلة عن العمل يمكن لعامل أو خَوليٍّ[3] أو مهندس أن يكتشفوا طريقةً لإعادة تشغيلها، وذلك بدون أن يمتلكوا معرفةً عامة عن إصلاح الآلات. الأمر الأول الذي يُطلَب القيامُ به في مثل هذه الحالة هو النظر في الآلة. مع ذلك، حتى يكون النظر إليها ذا فائدة، يجب أن يمتلك المرءُ في ذهنه المفهومَ نفسه للعلاقات الميكانيكية.

بالطريقة نفسها، ومن خلال النظر يومًا فيومًا إلى الوضع المتغير لفرنسا، يجب امتلاك مفهوم العمل العام في الذهن كطريقة تربوية للبلاد.

ولا يكفي اكتشافُ هذا المفهوم والاهتمام به وفهمُه، يجب جعلُه يستقر في النفس على الدوام، بحيث يكون حاضرًا حتى عندما يكون الانتباه منصبًّا على شيء آخر.

يَلْزَم لذلك جهد كبير فضلاً عن أنه مفهوم جديد كلَّ الجِدَّة علينا. فمنذ النهضة، لم يُتَصوَّر النشاطُ العام أبدًا من هذا الجانب، بل فقط كوسيلة لإقامة شكل من السلطة يُعتبَر مرغوبًا بالنظر إلى هذا الاعتبار أو ذاك.

إن التربية – سواء كان هدفها أطفالاً أو راشدين، أفرادًا أو شعبًا، أو حتى النفس أيضًا – تقوم على إثارة الدوافع. ويقع على عاتق التعليم تحديد ما هو مفيد، ما هو لازم، ما هو خير. تهتم التربيةُ بالدوافع من أجل التنفيذ الفعلي. لأنه لا يُنفَّذ أيُّ عمل أبدًا بغيابِ دوافعَ قادرةٍ على تزويده بالكمية اللازمة من الطاقة. فإرادةُ توجيه كائنات بشرية – توجيه الآخرين أو توجيه المرء نفسَه – نحو الخير من خلال الإشارة فقط إلى الاتِّجاه بدون الحرص على تأمين حضور دوافعَ مقابلةٍ تشبه الحالةَ التي يريد فيها المرءُ أنْ يدفعَ إلى الأمام، بالضغط على المسرِّع accélérateur، سيارةً فارغةً من الوقود.

أو تشبه أيضًا مَن يريد إشعالَ قنديل زيت من دون أن يضعَ فيه زيتًا. هذا الخطأُ قد استُنكِر في نص شهير إلى حد ما ومقروءٍ كثيرًا وقد أعيدت قراءتُه واستُشهِد به منذ عشرين قرنًا. ومع ذلك نرتكبه دائمًا.

يمكن بسهولة كبيرة إلى حد ما تصنيفُ وسائل التربية التي ينطوي عليها العملُ العام.

  1. أولاً: الخوف والرجاء اللذان يثيرهما الوعدُ والوعيد.
  2. النصيحة.
  3. التعبير، إما الرسمي وإما الذي تُوافق عليه سلطةٌ رسمية، عن جزء من الأفكار التي كانت تجد مكانًا فعليًا لها، وقبل أن يُعبَّرَ عنها، في وسط الجماهير أو في وسط بعض العناصر النشطة في الأمة.
  4. القدوة.
  5. الشكليات نفسها الخاصة بالعمل وبالتنظيمات المشكَّلة من أجله.

الوسيلة الأولى هي الوسيلة الأكثر بدائية، وهي المستخدَمة دائمًا. والثانية يستخدمها الجميعُ اليومَ؛ وهي الوسيلة التي درسَ هتلرُ بصورة عبقرية كيفيةَ استعمالها.

الوسائل الثلاث الأخرى غير معروفة.

ينبغي محاولة فهمها بحسب الأشكال الثلاثة المتعاقبة التي يمكن لعملنا العام أن يأخذَها؛ الشكل الحالي؛ فعلُ الاستيلاء على السلطة لحظة تحرير الأرض؛ ممارسة السلطة بصفة مؤقتة خلال الأشهر التالية.

حاليًا لا نمتلك سوى واسطتين، الإذاعة والحركة السرية. بالنسبة للجماهير الفرنسية، تكاد تكون الإذاعة وحدها تقريبًا.

يجب عدم الخلط أبدًا بين الوسيلة الثالثة وبين الوسيلة الثانية من الوسائل الخمس المذكورة. فالنصيحة هي، كما رآها هتلرُ، نفوذ [سيطرة معنوية]. وتشكِّل ضغطًا. وإن ما يعطيها جزءًا كبيرًا من فاعليتها هو التكرارُ من جهةٍ ومن جهةٍ أخرى القوةُ التي تمتلكها أو تنْوي اكتسابَها المجموعةُ التي تَصْدر عنها النصيحةُ.

فاعلية الوسيلة الثالثة من نوع آخر. ويكمن أساسها في البنية الخفية للطبيعة البشرية.

يحصل أن يكون هناك فكرة، مصاغةٌ في باطن الإنسان أحيانًا، وأحيانًا أخرى غير مصاغة، تُشغِل النفسَ خِفْيةً ولا تؤثِّر مع ذلك فيها إلا تأثيرًا ضعيفًا.

إذا أردنا أن تصاغَ هذه الفكرةُ خارج الذات من قِبَلِ الآخرين أو من قِبَلِ شخص نُوْلي أقوالَه اهتمامًا فإنها ستحصل من جَرَّاء ذلك على قوة مضاعفة مئة مرة ويمكن أحيانًا أن تُحدِثَ تغييرًا داخليًا.

يحصل أحيانًا أن نحتاجَ، سواء أدركْنا ذلك أم لم ندْركْه، إلى سماع بعض الأقوال التي تُدخِلُ العزاءَ والطاقة وشيئًا يشبه الغِذاءَ، إذا ما نُطِقَ بها فعلاً وإذا ما صدرَت عن مكان ننتظر منه الخيرَ عادةً.

هاتان الوظيفتان للكلام يقوم بهما في الحياة الخاصة أصدقاءٌ أو مرشدون طبيعيون؛ وهذا من جهة أخرى نادرٌ جدًا في الواقع.

لكن هناك ظروف تسيطر فيها المأساةُ العامة على الأوضاع الخاصة في الحياة الشخصية لكل فرد إلى درجة أن كثيرًا من الأفكار الصامتة والحاجات الصامتة من هذا القبيل تجد نفسَها قد أصبحَت واحدةً لدى جميع الكائنات الإنسانية تقريبًا والتي تؤلف الشعبَ.

وهذا يقدِّم إمكانيةَ عمل يبقى بطبيعته فرديًا لا جماعيًا على الرغم من أن هدفه شعب بكامله. وهكذا، وبعيدًا عن خنق الموارد العميقة المتوضعة في سر كل نفس، وهو ما يقوم به حتمًا وبطبيعة الأشياء كلُّ عمل جماعي مهما كانت الأهداف التي نسعى إليها ساميةً، فإن هذا النوع من العمل يوقظها ويحرِّكها وينمِّيها.

لكن مَن الذي يمكنه ممارسة عمل من هذا القبيل؟

في الظروف الاعتيادية، ليس هناك ربما أي مكان يمكن منه ممارسته. هناك عقبات قوية جدًا تعيق إمكانيةَ ممارسته، إلاَّ اللهمَّ جزئيًا وبدرجة ضعيفة، عندما تمارسه الحكومةُ. هناك عقبات أخرى تعيق إعاقةً مماثلة من ممارسته من مكان آخر غير الدولة.

إلا أن الظروف التي تمر بها فرنسا حاليًا هي بهذا الخصوص ظروف مواتية بتوفيق إلهي وبشكل مثير للإعجاب.

لاعتبارات أخرى كثيرة، كان من المفجع ألاَّ يكونَ لفرنسا في لندن، على غرار البلدان الأخرى، حكومةٌ عادية. ولكن في هذا الصدد، هذا أمرٌ سارٌّ جدًا؛ كذلك فإن من دواعي السرور بهذا الخصوص أنْ أخفقَت قضيةُ شمال أفريقيا في تحويل اللجنة الوطنية إلى حكومة عادية.

إنَّ الكراهيةَ للدولة، هذه الكراهيةَ الموجودةَ في فرنسا بصورة كامنة وصامتة وعميقة جدًا منذ عهد شارل السادس، تمنع من أنْ يتقبَّلَ أيُّ فرنسي الكلماتِ الصادرةَ مباشرةً عن الحكومة كما يتقبل صوتَ الصديق.

من جهة أخرى، وفي عمل من هذا النوع، يجب أن يكون للأقوال صفةٌ رسمية لكي تكون فاعلة حقًا.

يشكِّل زعماءُ فرنسا المناضلة شيئًا أقربَ إلى الحكومة بالمقدار الدقيق والضروري الذي يعطي أقوالَهم طابعًا رسميًا.

وتحتفظ الحركةُ، كفايةً، بطبيعتها الأصلية، ألا وهي طبيعة تمرُّد منبثق من أعماق بعض النفوس المخْلصة والمعزولة كليًا، وذلك بهدف إمكانية أن يكون للأقوال الصادرة عنها في أُذُن كلِّ فرنسي نبرةٌ قريبة من صوت صديق، حميمة وحارَّة ورقيقة.

قبل كل شيء، كان الجنرال ديغول رمزًا محاطًا بمن تبعه. إنه رمزُ إخلاص فرنسا لذاتها، إخلاصًا متركزًا في لحظة ما فيه وحده تقريبًا؛ وخاصةً أنه رمزٌ لكل ما في الإنسان يرفض العبادة المبتذلة للقوة.

وكل ما يقال باسمه يمتلك في فرنسا السلطةَ المرتبطة بالرمز. وبالتالي فإن كل من يتكلم باسمه يمكنه بقدر ما يرغب وحسب ما يبدو مفضَّلاً في هذه اللحظة أو تلك أن ينهل الإلهامَ على مستوى المشاعر والأفكار التي تغلي فعلاً في أذهان الفرنسيين، أو على مستوى أعلى، وفي هذه الحالة أعلى بقدر ما يرغب؛ ولا شيء يمنع ذات يوم من أن ينهله من مكان يقع فوق السماء. وكلما كانت الأقوالُ الصادرة عن الحكومة غيرَ لائقة وملوَّثة بالضرورة بجميع الدناءات المرتبطة بممارسة السلطة، كانت لائقةً الكلماتُ الصادرة عن رمز يمثل ما هو الأعلى في نظر كل فرد.

إن الحكومة التي تستخدم أقوالاً وأفكارًا أعلى منها، بدون أن تحصل حتى الآن على غناها وبريقها، تُفقِد من مصداقية هذه الكلمات والأفكار وتصبح هي أضحوكةً. هذا ما حصل لمبادئ عام 1789 ولمبدأ: "حرية، مساواة، أخوَّة" خلال الجمهورية الثالثة. وهذا ما حصل للكلمات التي كانت هي في ذاتها من مستوىً عالٍ جدًا غالبًا والتي أكَّدَت عليها الثورةُ الوطنية المزعومة. وفي الحالة الثانية هذه، لا شك بأن الخجل من الخيانة أدَّى إلى الحط من المصداقية بسرعة البرق. ولكنْ مِن شِبْهِ المؤكَّد أنه سيحصل ذلك، وإن بوتيرة أبطأ بكثير.

تمتلك حركة لندن الفرنسية، لوقت قليل ربما، هذا الامتيازَ الرائعَ بأنه ممكنٌ لها، لكونها رمزيةً إلى حد كبير، أنْ تجعلَ الإلهاماتِ الأسمى تتألق بدون أن تحطَّ من قيمة هذه الإلهامات ولا أن تقوم من جانبها بعدم لباقة.

يقول القديس بولس: "لأن قوَّتي في الضعف تكتمل". [كورنثوس الثانية، 12: 9]

إنه لعمىً غريب سبَّبَ، في وضع مليء بالاحتمالات الرائعة جدًا، رغبةً في النزول إلى الوضع المبتذل والسوقي لحكومة مهاجرين. ومن لطف الله أن هذه الرغبة لم تتحقق.

علاوةً على ذلك فإن مزايا الوضع في ما يتعلق بالخارج مماثلة.

منذ عام 1789، تمتلك فرنسا في الواقع موقعًا فريدًا بين الأمم. وهذا شيء حديث العهد؛ فليس عام 1789 بعيدًا. ومنذ نهاية القرن الرابع عشر، عصْرِ عملياتِ القمع الوحشية التي قام بها شارلُ السادس Charles VI enfant في المدن الفلمندية والفرنسية، وحتى عام 1789، لم تكن فرنسا تُمثِّل، إلاَّ نادرًا، في أعين الأجنبي ومن وجهة نظر سياسية إلاَّ استبدادَ الحكْم المطْلَق وخنوعَ الرعايا. عندما كتب دوبيللي du Bellay[4]: "فرنسا، أم الفنون والأسلحة والقوانين"، كانت الكلمةُ الأخيرة مبالَغًا فيها؛ فكما أظهرَ مونتسكيو جيدًا وكما بيَّنَ ريتز [رِيْه] Retz بنفاذ بصيرة وعبقرية، لم يكن هناك على الإطلاق قوانينُ في فرنسا منذ وفاة شارل السادس. ومن عام 1715 حتى عام 1789، خضعَت فرنسا لمَدْرسة إنكلترا بحماس مليء بالتذلل. عندئذٍ كان يبدو الإنكليزُ وحدَهم أهلاً لحمل اسم مواطنين وسط شعوب مستعبَدة. لكن بعد عام 1792، عندما وجدَت فرنسا نفسَها بعد أنْ هزَّت قلوبَ جميع المضطَهدين متورطةً في حرب كانت فيها إنكلترا عدوًا، كان كل سحر أفكار العدالة والحرية متركزًا عليها. فنتج عن ذلك للشعب الفرنسي على مر العصر التالي نوع من الحماس لم تعرفه الشعوبُ الأخرى وحصلَت من هذا الشعب على ألق ذاك الحماس.

كانت الثورة الفرنسية، للأسف أيضًا، قد تزامنَت مع اقتلاع عنيف للماضي على امتداد القارة الأوروبية بلغَ عنفُه إلى حد أن تقليدًا يعود تاريخُه إلى عام 1789 كان يعادل في الواقع تقليدًا قديمًا.

لقد أظهرَت حربُ 1870 ماذا كانت فرنسا تُمثِّل في نظر العالَم. ففي هذه الحرب كان الفرنسيون معتدين على الرغم من خدعة برقية إِمْس Ems[5]؛ هذه الخدعة نفسها هي الدليل على أن الاعتداء أتى من جهة الفرنسيين. كان الألمان المنقسمون فيما بينهم والذين مازالوا يرتجفون من ذكرى نابليون يتوقعون أنْ يُغزَوا. ففوجئوا مفاجأةً كبيرةً بدخول فرنسا بسهولة كسهولة شرب الماء. لكنهم فوجئوا مفاجأةً أكبر أيضًا بأنهم وجدوا أنفسَهم موضوعَ رعب في نظر أوروبا، في حين أن خطأهم الوحيد كان الدفاع حتى النصر. لكنَّ المهزومَ كان فرنسا؛ ورغم وجود نابليون، وبسبب ثورة 1789، كان ذلك كافيًا لكي يثيرَ المنتصرون الرعبَ.

نرى في مذكَّرات الأمير فريديريك الإمبراطوري أيَّةَ مفاجأة مؤلمة سبَّـبَتْها لمعظم الألمان هذه الإدانةُ غيرُ المفهومة بالنسبة لهم.

إلى هذا التاريخ ربما تعود عقدةُ النقص لدى الألمان والمزيجُ المتناقضُ ظاهريًا من الإحساس بالذنب ومن الشعور بأنهم يُظلَمون ومن الشراسة في رد الفعل. على أية حال، ابتداءً من تلك اللحظة، حلَّ البروسيُّ في الوجدان الأوروبي محلَّ ما كان يبدو عليه إلى ذلك الحين النموذجُ الألماني، أيْ: الموسيقي الحالم ذو العينين الزرقاوَين، الطيِّب [طَلْق المُحيَّـا] « gutmütig »، مُدخِّن الغليون وشارب البيرة، المسالم تمامًا، والذي نجده أيضًا عند بلزاك[6]. ولا تنفكُّ ألمانيا تصبح شيئًا فشيئًا شبيهةً بصورتها الجديدة.

عانت فرنسا من أضرار معنوية تكاد تكون كبيرة. وكان نهوضها بعد عام 1871 محطَّ إعجاب. لكنْ لا نرى بأي ثمن اشتُريَ هذا النهوض. لقد أصبحَت فرنسا واقعيةً. ولم تعد تؤمن بنفسها. لقد خلقَتْ مجزرةُ الكومونة la Commune المفاجئة جدًا بحجمها ووحشيتها الشعورَ الدائم لدى العمال بأنهم منبوذون مطرودون من الأمة، وخلقَتْ لدى البرجوازيين بفعل إحساس بالذنب نوعًا من الخوف المادي من العمال. وقد لاحظْنا ذلك أيضًا في شهر حزيران/يونيو عام 1936؛ وكان الانهيار في شهر حزيران/يونيو عام 1940 بمعنىً ما نتيجةً مباشرةً لهذه الحرب الأهلية القصيرة جدًا والدامية جدًا في شهر أيار/مايو عام 1871 والتي استمرت سرًا خلال ثلاثة أرباع القرن تقريبًا. وبالتالي أصبحَت الصداقةُ بين شبيبة المدارس وبين الشعب مجرَّد ذكرى، تلك الصداقةُ التي نهل منها كلُّ الفكر الفرنسي للقرن التاسع عشر نوعًا من الغذاء. من جهة أخرى، كانت إهانةُ الهزيمة تُوجِّـهُ فِكْرَ الشبيبة البرجوازية كردَّةِ فِعلٍ نحو المفهوم الأكثر رداءة للعظَمة القومية.

ونظرًا لأن فرنسا كانت تتسلَّط عليها فكرةُ الغزو الذي عانت منه وأضعفَها فإنها لم تعدْ قادرةً على رسالة أسمى من رسالة الغزو.

وهكذا أصبحَت فرنسا أُمَّةً كغيرها لم تعد تفكر إلاَّ بأنْ تقتطعَ لنفسها حصتَها من الجسد الأصفر والأسود وبأن تحصلَ في إوروبا على السيطرة.

بعد حياة شديدة الإثارة إلى هذا الحد، لم يكن بالإمكان الهبوط إلى مستوىً أدنى بدون استياء عميق. وكانت النقطة القصوى لهذا الاستياء هي حزيران/يونيو عام 1940.

لا بد من قول ذلك، لأن ذلك صحيح، فقد كان أول رد فعل لفرنسا بعد وقوع الكارثة هو تقيؤ ماضيها، وماضيها القريب. ولم يكن ذلك نتيجةً لدعاية ﭭيشي. على العكس، كان السببَ الذي زوَّدَ قبل كل شيء الثورةَ الوطنيةَ بمظهر النجاح. وكان ذلك ردَّ فعل شرعي وصحِّي. فالمظهر الوحيد للكارثة والذي يمكن رؤيتُه على أنه خير كان إمكانيةَ تقيؤ ماضٍ كانت الكارثةُ نتيجةً له. ماضٍ لم تفعلْ فيه فرنسا شيئًا آخر غير المطالبة بامتيازاتِ رسالةٍ كانت قد تبرَّأَتْ منها لأنها لم تعد تؤمن بها.

في الخارج، لم يؤثِّرْ سقوطُ فرنسا على الصعيد الانفعالي إلاَّ في المكان الذي قدَّمَت فيه روحُ [ثورة] عام 1789 شيئًا.

يمكن للانحطاط المؤقت لفرنسا بصفتها أمة أن يتيح لها أن تعود من جديد بين الأمم إلى ما كانت عليه وإلى ما كان يُنتظَر منها أن تصبح منذ وقت طويل، أن تصبح مصدر إلهام. ولكي تستعيدَ فرنسا رِفْعةً في العالَم – رفعةً لا غنى عنها للمحافظة حتى على صحة حياتها الداخلية – فلا بد أنْ تصبحَ مصْدرَ إلهام قبل أن تصبح مِن جَرَّاء هزيمة الأعداء أمَّةً. ثم إنَّ ذلك سيكون على الأرجح مستحيلاً لعدة أسباب.

ثم إن حركة لندن الفرنسية هي في أفضل وضع يمكن تصوره، إذا عرفَت كيف تستخدمه. كانت رسميةً تمامًا بمقدار ما يكون ذلك ضروريًا لتتحدَّثَ باسم بلد. ونظرًا لأنها لم تكن تمتلك على الفرنسيين سلطةً حكوميةً حتى اسميةً، وحتى وهمية، وتستمد كلَّ شيء من الموافقة الإرادية فإن لها شيئًا من السلطة الروحية. فالإخلاصُ النزيه في الساعات الحالكة الأكثر سوادًا والدمُ المسفوك كلَّ يوم طوعًا باسمها أعطياها الحقَّ في استخدام أجمل كلمات اللغة بحُرِّية. كانت تتوضَّع تمامًا في المكان الذي ينبغي أن تكون فيه لكي تُسمِعَ العالَمَ لغةَ فرنسا؛ لغةً لا تستمدُّ سلطتَها من قوةٍ هدَّتْها الهزيمةُ ولا من مجد محاه العارُ، بل تستمدُّ سلطتَها أولاً من سموِّ فكرٍ يكون على قدر المأساة الحالية، ثم من تراث روحي محفور في قلوب الشعوب.

الرسالة المزدوجة لهذه الحركة سهلة التحديد. ألا وهي مساعدة فرنسا في أن تجد في عمق شقائها إلهامًا يتناسب مع عبقريتها ومع الحاجات الحالية للناس الأشقياء، ونشرُ هذا الإلهام في العالَم بعد العثور عليه أو الإمساك بأول الخيط الذي يوصل إليه.

إذا ركَّزْنا على هذه الرسالة المزدوجة فإن كثيرًا من الأشياء ذات الطابع الأقل سموًا ستُمنَح أيضًا زيادةً في ذلك. وإذا ركَّزنا أولاً على هذه الأشياء فإنها نفسها ستُمنع عنا.

بالطبع فإن المقصود ليس إلهامًا لفظيًا. فكلُّ إلهام حقيقي يمر في العضلات ويخرج على شكل أفعال؛ واليوم لا يمكن أن تكون أفعالُ الفرنسيين إلاَّ أفعالاً تساهم في طرد العدو.

مع ذلك يبدو من غير الصحيح التفكير بأن رسالةَ حركة لندن الفرنسية هي فقط رفعُ طاقة الفرنسيين في الصراع مع العدو إلى أعلى درجة ممكنة.

رسالتُها هي مساعدة فرنسا في العثور على إلهام حقيقي يتدفَّق بدافع أصالته نفسها وبصورة طبيعية من خلال بذل جهد وبطولة من أجل تحرير البلاد.

وليس الأمران سِـيَّـيْـنِ[7].

ذلك لأنَّ من الضروري تأديةَ رسالةٍ ذاتِ طابع سامٍ إلى درجة أنَّ الوسائلَ المبتذَلة والفعَّالة للتهديدات والوعود والنصيحة لا يمكنها أنْ تفيَ بالغرض.

على العكس فإن استخدام كلام يستجيب لأفكار صامتة ولحاجات صامتة خاصة بالكائنات البشرية التي تشكِّل الشعبَ الفرنسي هو وسيلة منسجمة انسجامًا رائعًا مع المهمة التي ينبغي القيام بها بشرط أن يُستخدَمَ كما ينبغي.

لذلك يَلْزَم أولاً في فرنسا وجود هيئة مستقبِلة. أيْ أناس مهمتهم الأولى وهمُّهم الأول هو كشف هذه الأفكار الصامتة وهذه الحاجات الصامتة وإرسالها إلى لندن.

ما هو ضروري جدًا لهذه المهمة هو: [1] اهتمامٌ شديد جدًا بالكائنات البشرية أيًا كانت وبروحها، [2] وقدرةٌ على التوضُّع مكانَها وعلى الانتباه إلى إشارات الأفكار غير المُعبَّر عنها، [3] وحسٌّ حدسيٌّ معيَّن بالتاريخ الجاري، [4] وملَكةٌ في التعبير الكتابي عن فُوَيْرِقات دقيقة وعن علاقات معقَّدة.

ونظرًا لاتِّساع مدى الشيء الذي تجب مراقبته ونظرًا لتعقيده فإنه يجب ربما أن يكون هناك عدد كبير من مثل هؤلاء المراقبين؛ لكن ذلك مستحيل في الواقع. وهكذا فإنه من المُلِحِّ على الأقل استخدامُ كلِّ من يمكن استخدامه على هذا النحو بدون استثناء.

وبافتراض أنَّ في فرنسا جهازًا مستقبِلاً غيرَ كافٍ – ولا يمكنه إلاَّ أنْ يكونَ غيرَ كافٍ – لكنه حقيقي فإن العملية الثانية والأهم بكثير تجري في لندن. إنها عملية الخيار. إنها العملية القادرة على تشكيل روح البلاد.

فمعرفة الأقوال القادرة على أن يكون لها صدىً في قلوب الفرنسيين كاستجابة لشيء موجود أصلاً في قلوبهم، هذه المعرفة هي معرفة فعلية فقط. ولا تحتوي على أية دلالة على الخير، والسياسةُ كأي نشاط إنساني هي نشاط موجَّه نحو الخير.

والحالة العاطفية للفرنسيين ليست شيئًا آخر غير واقع. من حيث المبدأ لا يشكِّل ذلك لا خيرًا ولا شرًا؛ فذلك مؤلَّف في الواقع من مزيج من الخير ومن الشر، بحسب نِسَبٍ يمكن أن تتغير كثيرًا.

هذه حقيقة جلية، ولكنْ يُستحسَن تكرارها، لأن العاطفية المتعلقة بالمنفى بصورة طبيعية يمكنها إلى حد ما أن تُنسيَ هذه الحقيقةَ.

من بين جميع الأقوال القادرة على إيقاظ صدىً في قلوب الفرنسيين، يجب اختيارُ الأقوال التي من المفيد إيقاظ صداها؛ وقولها وتكرارها؛ وإسكات الآخرين بهدف الحثِّ على إلغاء ما هو من المفيد إزالته.

ما هي معايير الاختيار؟

يمكن تصور معيارين. الأول هو الخير بالمعنى الروحي للكلمة. والآخر هو المنفعة. وتعني بالطبع المنفعة بالنسبة إلى الحرب وإلى المصالح القومية لفرنسا.

بخصوص المعيار الأول، هناك أولاً مسَلَّمة يجب النظر فيها. يجب التفكير فيها مليًا وبانتباه شديد وبتأنٍّ، في النفس والضمير، ثم تبنِّيها أو رفضها كليًا.

لا يمكن للمسيحي إلاَّ أن يتبنَّاها.

إنها المسَلَّمة التي تقول بأنَّ كلَّ ما هو خير على الصعيد الروحاني يكون خيرًا على جميع الصُّعُد ومن جميع النواحي وفي كل وقت وفي كل زمان وفي جميع الظروف.

هذا ما يُعبِّر عنه المسيح بالكلمات: "هل يُجنى من الشوك عنبًا أو من الحسك تينًا؟ هكذا كل شجرة جيدة تصنع أثمارًا جيدة، وأما الشجرة الرديئة فتصنع أثمارًا رديئة. لا تَقْدِر شجرةٌ جيدةٌ أنْ تصنعَ أثماراً ردِيَّةً ولا شجرةٌ رديَّةٌ أنْ تصنعَ أثماراً جيدةً"[8].

وهذا هو معنى هذه الكلمات. فوق المجال الأرضي والحسي المادي الذي تتحرك فيه أفكارُنا عادةً والذي يتكوَّن في أي مكان من خليط معقَّد من الخير ومن الشر، هناك مجال آخر، المجال الروحي، حيث يكون فيه الخير خيرًا فحسب، ولا يُنتج إلاَّ خيرًا حتى في المجال الأدنى؛ وحيث يكون فيه الشر شرًا فحسب ولا يُنتج إلاَّ شرًا.

إنها نتيجة مباشرة للإيمان بالله. ليس الخيرُ المطلق أفضلَ من جميع الخيرات فحسب – عندئذ سيصبح خيرًا نسبيًا – ولكنه الخير الفريد، الكامل، الذي يحتوي في داخله بدرجة رفيعة جميعَ الخيرات، بما فيها الخيرات التي يبحث عنها البشرُ الذين يحيدون عنه.

وكلُّ خير محض منبثقٍ مباشرةً عنه يمتلك خاصيةً مماثلة.

وهكذا، من بين لائحة الأصداء التي يمكن إثارتها من لندن في قلوب الفرنسيين يجب أولاً اختيار كل ما هو خير محض وحقيقي، بدون أي اعتبار لفرصة سانحة وبدون أي اختبار إلاَّ اختبار الحقيقة الأصلية؛ ويجب إرسال كل ذلك لهم مرارًا بلا كلل ولا ملل بواسطة كلمات بسيطة وصريحة بقدر ما يمكن.

بطبيعة الحال يجب كذلك رفض كل ما هو فقط شر وكراهية ودناءة وذلك بدون إعطاء الفرصة السانحة أيَّ اعتبار.

تبقى الدوافع المتوسطة التي هي أدنى من الخير الروحي من دون أن تكون بحد ذاتها سيئةً بالضرورة ، والتي تُطرح بشأنها مسألةُ انتهاز الفرصة.

بخصوص كل دافع من هذه الدوافع فإنه يجب النظر كليًا إذا أمكن، وباستعراض كامل، في جميع النتائج التي يمكنه أنْ يسبِّبَها في هذا الجانب أو ذاك وفي مجمل هذه الأحداث الممكنة أو تلك.

وفي حال عدم القيام بهذا الاهتمام فإنه يمكن بطريق الخطأ التسبُّبُ بما لا نريده بدلاً مما نريده.

مثلاً، اعتقدَ السِّـلْميون بعد عام 1918 أنه يجب التذكير بطعم الأمن والراحة حتى يتم سماعهم بسهولة. وهكذا كانوا يأملون في الحصول على تأثير يكفي لإدارة السياسة الخارجية للبلاد. فكانوا ينوون في هذه الحالة إدارتَها بحيث تؤَمِّن السلامَ.

لم يتساءلوا ما هي النتائج التي يمكن أنْ تؤدِّيَ إليها الدوافعُ التي يثيرونها ويشجعونها في حال كان التأثيرُ المكتسَب، على كِبَرِه، لا يكفي لتأمين إدارة السياسة الخارجية.

ولو أنهم طرحوا السؤالَ لظهرَت الإجابةُ مباشرةً وبصورة واضحة. في حالة كهذه، لم يكن بإمكان الدوافع التي تثار على هذا النحو أن تمنعَ الحربَ ولا أن تؤخِّرَها، بل فقط تَنصُرُ فيها المعسكرَ الأكثر عدوانيةً وحبًا للحرب وتُدنِّس لزمن طويل الحبَّ نفسَه للسلام.

بالمناسبة، إنَّ اللعبةَ نفسَها للمؤسسات الديمقراطية، كما نفهمها، هي دعوة دائمة لهذا النوع من الإهمال الجنائي المحتوم.

ولتجنُّبِ ارتكابه، يجب أن يقول المرءُ في نفسه بشأن كل دافع: يمكن لهذا الدافع أن يؤدِّيَ إلى نتائجَ في هذا الوسط أو ذاك الوسط؛ وفي أي وسط آخر أيضًا؟ يمكن أن يسببَ نتائجَ في هذا المجال أو ذاك المجال؛ وفي أي مجال آخر أيضًا؟ يمكن لهذا الموقف وذاك أنْ يَحْـدُثا؛ وأي موقف غيره أيضًا؟ وفي كل موقف، ما هي النتائج التاليةُ مباشرةً والتي تليها أيضًا؟ وما هي الجوانب التي يمكن أن تكون فيها كلُّ نتيجة من هذه النتائج مفيدةً وما هي الجوانب التي تكون فيها ضارةً؟ وما هي درجة احتمالية كل إمكانية؟

يجب إمعان النظر في كل نقطة من هذه النقاط وفي جميع هذه النقاط بالإجمال؛ وتعليقُ كلِّ مَيلٍ نحو الخيار لبضع لحظات؛ ثم اتِّخاذُ القرار؛ وتحَـمُّـلُ خطر الخطأ كما في كل قرار بشري.

بعد أنْ يتمَّ الاختيار، يجب وضعه على محكِّ التطبيق، وبالطبع يعمل جهازُ التسجيل الموجود في فرنسا على كشف النتائج تدريجيًا.

لكنَّ التعبيرَ ليس إلاَّ بدايةً. فالعمل هو أداة أقوى لتشكيل النفوس.

وله خاصية مزدوجة حيال الدوافع. فالدافع قبل كل شيء ليس حقيقيًا بالفعل في النفس إلاَّ عندما يؤدي إلى عمل ينفِّذه الجسمُ.

لا يكفي تشجيع هذه الدوافع أو تلك، الحاضرة منها أو التي هي في طور التشكُّل، في قلوب الفرنسيين، وذلك بالاعتماد عليها ليحوِّلوا بأنفسهم دوافعَهم إلى أفعال. يجب أيضًا تحديد الأفعال من لندن وإلى أقصى حد ممكن وبأكثر استمرارية ممكنة ومع أكبر قدر ممكن من التفاصيل وبجميع الوسائل المناسبة من إذاعة وغيرها.

كان أحد الجنود يقول وهو يروي سلوكَه الخاص أثناء العمليات العسكرية: "أطعتُ جميعَ الأوامر، إلا أنني كنتُ أشعر بأنه كان من المستحيل علَيَّ ومما يتجاوز شجاعتي بكثير أنْ أذهبَ لملاقاة الخطر بصورة إرادية وبدون أوامر".

تنطوي هذه الملاحظةُ على حقيقة عميقة جدًا. فالأمر هو حافز لفاعلية لا تُصدَّق. وينطوي في داخله، في بعض الظروف، على الطاقة اللازمة للعمل الذي يشير إليه.

بالمناسبة، إنَّ دراسةَ الأمور التي تقوم عليها هذه الظروفُ وما هو الذي يحدِّدها وما هي أنواعها ووضع لائحةٍ كاملة بذلك من شأنه أنْ يعنيَ الحصولَ على مفتاح لحل المشاكل الأساسية جدًا والعاجلة جدًا الخاصة بالحرب وبالسياسة.

إنَّ المسؤوليةَ المعترَفَ بها صراحةً والضخمة للواجبات الدقيقة والصارمة تدفع نحو الخطر بالطريقة نفسها التي يدفع بها الأمرُ. ولا تَظهَر هذه المسؤوليةُ إلا عندما تلتزم في العمل وبفعل هذه الظروف أو تلك الخاصةِ بالعمل. ويكون الاستعداد للإقرار بها كبيرًا بمقدار ما يكون العقلُ نيِّـرًا؛ وترتبط أكثر أيضًا بالنزاهة الفكرية، وهي فضيلة ثمينة جدًا تمنع المرءَ من أنْ يكذبَ على نفسه ليتجنَّبَ التنغيصَ.

الذين يستطيعون التعرُّضَ للخطر بدون ضغط الأمر أو بدون المسؤولية المحدَّدة هم ثلاثة أنواع. [1] هناك الذين يمتلكون شجاعةً طبيعيةً كبيرةً ومزاجًا لا يعرف الخوفَ إلى حد كبير ومُخيِّـلةً قلَّما تنصرف إلى الهواجس؛ فهؤلاء يذهبون غالبًا إلى الخطر برشاقة وبروحٍ مغامِرة وبدون بذْلِ كثير من الاهتمام لاختيار الخطر. [2] وهناك الذين تشقُّ عليهم الشجاعةُ، ولكنهم ينهلون طاقةَ الشجاعة من دوافعَ قذِرة. فالرغبة في الأوسمة والانتقام والحقد هي أمثلة على هذا الضرب من الدوافع؛ هناك عدد كبير جدًا منها، مختلف جدًا تبعًا للطبائع والظروف. [3] وهناك الذين يطيعون أمرًا مباشرًا وخاصًا صادرًا عن الله.

هذه الحالة الأخيرة أقلُّ نُدْرةً مما نعتقد؛ لأنها أينما تكون تبقى سريةً في الغالب، وغالباً ما تكون سريةً حتى على صاحب العلاقة نفسه؛ لأن الذين يكونون في هذه الحالة يكونون أحيانًا في عِداد الذين يعتقدون أنهم لا يؤمنون بالله. مع ذلك، وعلى الرغم من أنها أقلُّ ندرة مما نعتقد، فإنها للأسف ليست شائعة.

تُقابِل الفئتَينِ الأُخرَيَينِ شجاعةٌ أدنى بكثير، من حيث القيمة الإنسانية، من شجاعة جندي يطيع الأوامرَ من تلقاء نفسه، على الرغم من أنها غالبًا ما تكون استعراضية جدًا ومكرَّمة باسم البطولة.

تمتلك حركةُ لندن الفرنسية بالتحديد درجةَ طابع رسمي مناسِبة لكي تحتوي التعليماتُ التي ترسلُها الحافزَ المرتبطَ بالأوامر بدون أن تزيل بريقَ هذا النوعَ من النشوة الواضح والصافي الذي يرافق الموافقةَ الحرة على التضحية.

فينتج عن ذلك بالنسبة لها إمكانيات ومسؤوليات هائلة.

كلما كان هناك مستقبلاً في فرنسا أعمالٌ منجَزة بأوامرها وأناسٌ يتصرفون بحسب أوامرها كان لفرنسا فُرَصٌ في استعادة روح تتيح لها دخولاً منتصِرًا في الحرب – منتصرًا ليس فقط عسكريًا، بل روحيًا أيضًا – وإعادة بناء الوطن في السلام.

بالإضافة إلى الكمية، تكون مشكلة اختيار الأعمال أساسية.

فهي أساسية من عدة نواحٍ، وبعضُ هذه النواحي سامية ومهمة إلى درجة أنه يجب اعتبارُ أنه من الكارثي التقسيمُ الذي يضع هذا المجالَ بالكامل بين أيدي تِقَنِيِّي المؤامرة.

بصورة عامة جدًا، من المحتَّم في كل مجال من المجالات أنْ يسيطرَ الشرُّ أينما كان للتقنية سيطرةٌ مطلقة إما كليًا وإما بصورة شبه كلِّية.

يسعى التقنيون دائمًا لأنْ يجعلوا من أنفسهم سادةً مطْـلَقين، لأنهم يشعرون بأنهم يعرفون عملَهم؛ وهذا مبرَّر تمامًا من جهتهم. إنَّ المسؤوليةَ عن الشر الذي هو النتيجة الحتمية لذلك، عندما يتمكنون من القيام به، تقع حصرًا على عاتق الذين سمحوا لهم بالقيام بذلك. فعندما يتركونهم يقومون بذلك فالسبب فقط يعود دائمًا لعدم الحضور الدائم في الذهن للمفهوم الواضح والمحدَّد تمامًا للغايات الخاصة التي يجب أنْ تتعلَّقَ بها هذه التقنيةُ أو تلك.

يجب على التوجهات السياسية التي تُقرَّر في لندن بشأن العمل الذي يجري في فرنسا أنْ تُحقِّقَ عدةَ غايات.

الغاية الأكثر بديهية هي الغاية العسكرية المباشرة، فيما يخصُّ الاستخباراتِ وأعمالَ التخريب.

بهذا الصدد، لا يمكن لفرنسيي لندن إلاَّ أن يكونوا وسطاء بين حاجات إنكلترا والإرادة الطيبة لفرنسيي فرنسا.

الأهمية القصوى لهذه الأشياء بديهية إذا أدركْنا أنه أصبحَ من الواضح شيئًا فشيئًا أنَّ الاتِّصالاتِ فضلاً عن المعارك تَـبُـتُّ في الحرب. المزدوَجةُ "مقطورات-تخريب" تُقابِلُ المزدوَجةَ "مرْكب-غوَّاصة". وتدمير المقطورات يساوي تدميرَ الغواصات. العلاقة بين هذين النوعين من التدمير هي علاقة الهجوم بالدفاع.

وليس تخريب نظام الإنتاج أقلَّ أساسية.

إن حجم تأثيرنا ومقداره في العمل الذي يتم في فرنسا يتعلق بصورة رئيسية بالوسائل المادية التي يضعها الإنكليزُ تحت تصرُّفِنا. فتأثيرُنا في فرنسا، ذلك التأثيرُ الذي نمتلكه وكذلك أيضًا التأثير الذي يمكن أن نحصلَ عليه، يمكن أن يكون له استخدام مهم جدًا بالنسبة للإنكليز. هناك إذًا حاجةٌ متبادَلة؛ لكنَّ حاجتَنا أكبرُ بكثير؛ على الأقل في الوقت الحاضر والذي يؤخذ وحدَه غالبًا جدًا بعين الاعتبار.

في هذا الوضع، إذا لم يكن بينهم وبيننا علاقاتٌ ليست طيِّبةً فحسب بل حارة وودية فعلاً وحميمية إلى حد ما فإنَّ ذلك شيء لا يطاق ويجب أن يتوقف. وحيثما لا تكون العلاقاتُ الإنسانية على الشكل الذي ينبغي أن تكون عليه يكون هناك عمومًا خطأ من الجانبين. إلاَّ أنه من المفيد دائمًا تفكيرُ المرء بأخطائه لوضع حد لها أكثر بكثير من التفكير بأخطاء الآخر. بالإضافة إلى أنَّ حاجتَنا إلى ذلك أكبر بكثير، على الأقل حاجتنا المباشرة. ثم إننا مهاجرون كانوا هم قد استقبلونا، وهناك دَين امتنان. أخيرًا، من المعلوم أن الإنكليز لا يمتلكون استعدادَ الخروج بأنفسهم ووضع أنفسهم مكانَ الآخرين؛ فأفضلُ صفاتِهم ودَورُهم الخاص على هذا الكوكب يكاد يكون متعارضًا مع ذلك. وهذا الاستعداد هو في الواقع وللأسف شِبْهُ نادر إلى حد ما عندنا؛ لكنه يخصُّ بطبيعة الأمور ما نسمِّيه رسالةَ فرنسا. فلهذه الأسباب جميعًا يجب علينا بذلُ جهد لإيصال العلاقات إلى درجة الحرارة المناسبة؛ ويجب على الرغبة الصادقة من طرفنا في فهْمٍ خالٍ طبعًا من أي تلميح للتبعية أنْ تخترقَ عبر مخزون العلاقات لتصلَ إلى القدرة الحقيقية على الصداقة التي يخبِّئها هذا المخزونُ.

تلعب المشاعرُ الشخصية في أحداث العالَم الكبيرة دَورًا لا يُميَّـز أبدًا على كل اتِّساعه. فمسألة وجود صداقة أو عدم وجود صداقة بين إنسانَين أو بين وسطَين إنسانيَّين يمكن في بعض الحالات أن تكون حاسمةً في مصير الجنس البشري.

وهذا يمكن فهمه تمامًا. فالحقيقة لا يمكن أن تظهر أبدًا إلاَّ في روح كائن إنساني فريد. فكيف سينقلها؟ إذا حاول عرضَها فلن يُسمعَ منه؛ لأن الآخرين لن يعترفوا بهذه الحقيقة كحقيقة لأنهم لم يعرفوها؛ ولن يَعْـلَموا أن ما يقال هو حقيقي؛ ولن يوْلوا لذلك اهتمامًا كافيًا لكي يكتشفوا حقيقتَه؛ لأنه ليس لديهم أي مبرِّر للقيام بجهد الاهتمام هذا.

إلاَّ أن الصداقة أو الإعجابَ أو التعاطف أو أيَّ شعور طيِّب آخر يهيِّـئهم بصورة طبيعية لدرجة معيَّنة من الاهتمام. فالإنسان الذي لديه شيء جديد ليقولَه – لأنه لا يَلْزَم القيامُ بأي انتباه للأفكار المبتذلة – لا يمكن أن يسمعَه إلاَّ الذين يحبُّونه.

وهكذا فإن انتشار الحقائق بين الناس يتعلق بالكامل بحالة المشاعر؛ كذلك الأمر بالنسبة لجميع أنواع الحقائق.

إنَّ المنفيين الذين لا ينسون بلدَهم – أما الذين ينسونه فضائعون – تكون قلوبُهم منصرفةً بصورة لا تقاوَم نحو الوطن الشقي إلى درجة أن هناك قليلاً من المخزون العاطفي لمحبة الوطن الذي يسكنونه. ولا يمكن لهذه المحبة أن تُنتِشَ فعلاً وتكبر في قلوبهم إذا لم يُرغموا أنفسَهم بنوع من الإكراه. لكنَّ هذا الإكراه هو واجب.

ليس على الفرنسيين الموجودين في لندن واجبٌ تجاه الشعب الفرنسي الذي يحيا وأَعْـيُـنُه مشرئبَّةٌ إليهم أكثرُ إلحاحًا من العمل بحيث يكون بينهم وبين النخبة الإنكليز صداقةٌ حقيقية وحية وحارة وحميمة وفاعلة.

بمعزل عن المنفعة الاستراتيجية، يجب أن تساهم اعتبارات أخرى أيضًا في اختيار الأعمال. وتكون لهذه الاعتبارات أهمية أكبر أيضًا، لكنها تأتي في الدرجة الثانية، لأن المنفعة الاستراتيجية هي شرط لكي يكون العمل حقيقيًا؛ وحيثما تغيب المنفعة الاستراتيجية يكون هناك اضطراب، لا عمل، وتكون الخاصية غير المباشرة للعمل والتي تصنع قيمته الأساسية غائبةً في الوقت نفسه.

هذه الخاصية غير المباشرة، هاهنا أيضًا، مزدوجة.

يضفي العملُ امتلاءَ الواقع على الدوافع التي تُنْتِجه. والتعبيرُ عن هذه الدوافع، والمسموع من الخارج، لا يضفي عليها أيضًا سوى نصف واقع. فللعملِ خاصيةٌ مختلفة تمامًا.

يمكن لكثير من المشاعر أن تتساكن مع بعضها البعض في القلب. واختيار المشاعر التي يجب، بعد كشفها في قلوب الفرنسيين، إيصالُها إلى درجة الوجود التي يمنحها التعبيرُ الرسمي، هذا الاختيار تحدُّه أساسًا ضروراتٌ مادية. فإذا تكلمنا مثلاً كل مساء لمدة ربع ساعة مع الفرنسيين وإذا كنا مجبَرين غالبًا على تكرار الكلام لأن التشويش يمنع من التأكد من أنهم سمعوا ولأن التكرار هو بأية حال ضرورة تربوية، فلا يمكن أن نقول إلاَّ عددًا محدودًا من الأشياء.

ما إن ننتقل إلى مجال العمل حتى تصبح الحدودُ أضيق. يجب القيام باختيار جديد، بحسب المعايير التي لُخِّصَت مسبقًا.

إن الطريقة التي يتحول بها الدافع إلى فعل هي شيء ينبغي دراسته. ففعلٌ واحد يمكن أن يسببه هذا الدافعُ أو ذاك الآخر أو دافع ثالث؛ أو خليط من الدوافع؛ وعلى العكس يمكن بالمقابل لدافع رابع ألاَّ يكون قادرًا على التسبب بهذا الفعل.

من أجل جعل الناس ينجزون فعلاً ما ولكنْ ينجزونه تحت تأثير دافعٍ ما فإن أفضل طريقة، وربما الطريقة الوحيدة، تبدو الطريقةَ التي تقوم على الترابط الذي يتم بواسطة الكلام. بمعنى أنه كلما نُصِحَ بعمل ما عن طريق الإذاعة، وجبَ إرفاقُ هذه النصيحة بالتعبير عن دافع أو عدة دوافع؛ وكلما تكررت النصيحةُ وجب تكرار التعبير عن الدافع.

لا شك بأن التعليماتِ الدقيقةَ تُنقَل عبر وسيلة غير الإذاعة. لكن يجب ربما تكرارها جميعًا بتشجيعات تُنقَل عبر الإذاعة، وتنصبُّ على الموضوع نفسه، الذي يحدَّد فقط بمقدار ما يسمح الحذر، مع ذكر التفاصيل على الأقل والتعبير عن الدوافع أيضًا.

للعمل خاصية ثانية في مجال الدوافع. فهو لا يضفي فقط الحقيقةَ الواقعية على دوافعَ موجودةٍ مسبقًا في حالة شبه وهمية. إذْ يُظهِر أيضًا في النفس دوافعَ ومشاعر لم يكن لها وجود سابق أبدًا.

هذا يحصل كلما دفع الحماسُ أو ضغطُ الظروف العملَ أبعدَ من مجموع الطاقة التي يتضمنها الدافعُ الذي سبَّبَ العملَ.

إن هذا الآلية – التي تكون معرفتُها أساسيةً سواء لإدارة المرء لحياته الخاصة أم للتأثير على الناس – قادرةٌ أيضًا على إحداث الشر أو الخير.

فمثلاً، يحصل غالبًا أن ينتهيَ الأمر بمريض مزمن في عائلة تعتني به بحنان بفعل عاطفة صادقة إلى أن يولِّدَ لدى ذويه عدائيةً صامتةً غيرَ مباح بها لأنهم كانوا مجبَرين على أن يقدِّموا له طاقةً أكبر مما تحتوي عاطفتُهم.

في الشعب الذي تكون فيه مثل هذه الواجباتُ ثقيلةً جدًا تضاف إليها المتاعبُ الاعتيادية، ينتج عن ذلك أحيانًا مظهرٌ من اللامبالاة أو حتى من القسوة، التي لا يمكن فهمها من الخارج. لذلك فإن حالاتِ الأطفال الشهداء، كما لاحظ ذات يوم غرينغوار Gringoire[9] بمحبة، توجد في الشعب أكثر من أي مكان آخر.

إن مصادر هذه الآلية لإنتاج الخير توضِّحها قصةٌ بوذية رائعة.

يقول منقولٌ بوذي أن البوذا نذرَ أن يرفع إلى السماء وإلى جانبه كلَّ من يقول اسمَه راغبًا في أن يُخلِّصَه. وعلى هذا المنقول تقوم الممارسة المسماة: "ذِكْر اسم السيِّد". وتقوم على التكرار عدة مرات لبعض المقاطع السنسكريتية أو الصينية أو اليابانية التي مفادها: "المجد لسيد النور."

وكان هناك راهب بوذي شابٌّ قلِقٌ على الخلاص الأبدي لأبيه العجوز البخيل الذي لم يكن يفكر إلاَّ بالمال. فأحضر رئيسُ الدير العجوزَ ووعدَه بفلس كلما قام بذكر اسم السيد؛ وإذا جاء في المساء وذَكَرَ كم يجب له من الفلوس فإنها تُدفع له. فكرَّس العجوزُ، مسرورًا، جميعَ أوقاته الفارغة لهذه الممارسة. وكان يأتي كل مساء إلى الدير ليقبض ما يستحقه. وفجأةً اختفى عن الأنظار. وبعد أسبوع، أرسل رئيسُ الدير الراهبَ الشاب ليبحث عن أخبار والده. وهكذا علموا أن العجوز كان مستغرقًا في تلك اللحظة في ذكر اسم السيد إلى درجة أنه لم يعد يستطيع أن يعدَّ كم مرة مارس الذِّكْرَ؛ وهذا ما كان يمنعه من المجيء ليطلب مالَه. فطلب رئيسُ الدير من الراهب الشاب ألاَّ يفعلَ شيئًا وأن ينتظر. وبعد وقت جاء العجوز إلى الدير بعينين متألقتين وروى أنه حصل على حالة استنارة.

إلى مثل هذه الظواهر تُلَمِّح وصيةُ المسيح: "اكنزوا لكم كنوزًا في السماء... لأنه حيثما يكون كنزك يكون قلبك أيضًا".

هذا يعني أن هناك أعمالاً تمتلك خاصيةَ نقل جزء من الحب الموجود في قلب الإنسان من الأرض إلى السماء.

ليس البخيل بخيلاً عندما يبدأ بجمع المال. تُحفِّزه في البداية بلا شك فكرةُ الملذات التي يحصل عليها بالمال. لكن الجهود والحرمانات التي يفرضها على نفسه كل يوم تُسبِّب اندفاعًا. وعندما تتجاوز التضحيةُ الإغراءَ الأولي تجاوزًا كبيرًا، يصبح الكنزُ، وهو موضوع التضحية، بالنسبة له غايةً في ذاتها، فيعلِّق به نفسَه. يقوم هوسُ جامعِ الأشياء على آلية مشابهة. ويمكن ذِكْر كثير من الأمثلة الأخرى.

وهكذا، عندما تتجاوز التضحياتُ المقدَّمة لموضوع ما تجاوزًا كبيرًا الاندفاعَ الذي سبَّبها، ينتج عن ذلك بشأن هذا الموضوع إما حركةُ نفور وإما تعلُّق من نوع جديد وأشد وغريب عن الاندفاع الأول.

في الحالة الثانية، هناك خير أو شر بحسب طبيعة الموضوع.

إذا كان هناك نفور غالبًا في حالة المريض فذلك لأن هذا النوع من الجهد لا مستقبل له؛ فلا شيء من الخارج يتناسب في هذه الحالة مع التراكم الداخلي للتعب. البخيل هو الذي يرى كنزَه يكبر.

هناك أيضًا من جهة أخرى مواقف وتآلفات طباع، بحيث يوحي المريضُ في العائلة، على العكس، بتعلق متشدد. يمكن بلا شك، من خلال دراسة كل ذلك دراسةً كافية، اكتشافُ القوانين.

لكنْ حتى معرفة مختصرة بهذه الظواهر يمكن أن تزوِّدَنا بقواعدَ عمليةٍ. ولتجنُّب أثر النفور، يجب التحسُّب للنفاد الممكن للدوافع؛ فيجب من فترة لأخرى إعطاء سلطة التعبير الرسمي لدوافعَ جديدةٍ للأفعال نفسها، دوافعَ تستجيب لما يمكن أن يتولَّد تلقائيًا في سرائر القلوب.

يجب بصورة خاصة الحرصُ على أن تلعبَ آليةُ التحويل التي تربط البخيلَ بالكنز بطريقةٍ تُسبِّبُ فيها الخيرَ وليس الشر؛ يجب تجنُّب كل الشر الذي يمكن إذًا التسبب به أو يجب بأي حال التقليل منه إلى أقل قدر ممكن.

من السهل معرفة الكيفية.

تقوم الآلية التي نحن بصددها على ما يلي: بعد إنهاء العمل بجهد لأسباب خارجة عنه، يصبح العملُ بذاته موضوعَ تعلُّق. وينتج عن ذلك خير أو شر بحسب ما يكون العملُ بذاته حسنًا أو سيئًا.

عندما يَقتل المرءُ جنودًا ألمانيين خدمةً لفرنسا وبعد وقت معيَّن يصبح قتلُ البشر من طباعه فمن الواضح أن ذلك شر.

وعندما يساعد المرء عمالاً يهربون من الإرسال إلى ألمانيا وذلك خدمةً لفرنسا وبعد وقت معيَّن تصبح مساعدةُ البشر من طباعه فمن الواضح أن ذلك خير.

ليست جميع الحالات بهذا الوضوح، ولكنه يمكن النظر في جميعها بهذه الطريقة. وبغض النظر عن الاستثناءات، يجب دائمًا اختيار أشكال العمل التي تحتوي في ذاتها على اندفاع نحو الخير. ويجب القيام بذلك غالبًا جدًا حتى عندما نأخذ الاستثناءاتِ بعين الاعتبار. يجب القيام بذلك ليس فقط من أجل الخير، وهو ما قد يكفي، ولكن من أجل المنفعة أيضًا.

الشر دافع فعال أسهل بكثير من الخير، ولكن عندما يصبح الخيرُ المحض فعالاً في النفس يكون فيها مَصْدرَ الاندفاع الذي لا ينضب ولا يتغير، وليست هذه حالة الشر أبدًا.

يمكن للمرء تمامًا أن يصبح عميلاً مزدوجًا بدافع الوطنية من أجل خدمة بلده أفضلَ خدمة عن طريق خداع العدو. ولكن إذا كانت الجهود التي يقوم بها في هذا النشاط تتجاوز طاقةَ الدافع الوطني وإذا استساغَ بالتالي النشاطَ في حد ذاته فستأتي حتمًا تقريبًا لحظةٌ لا يعود يعرف فيها المرءُ من يخدم ومن يخدع، حيث يكون مستعدًا لخدمة أيٍّ كان ولخداع أي كان.

على العكس، إذا كان المرء مندفعًا بدافع الوطنية إلى القيام بأعمالٍ تزرع الحُبَّ لخيرٍ أعلى من الوطن وتُنَمِّيه فإن النفْسَ تكتسب صلابةً تصنع الشهداءَ ويستفيد الوطن من ذلك.

الإيمان أكثر واقعية من السياسة الواقعية. ومن ليس لديه اليقين في ذلك ليس لديه إيمان.

يجب إذًا تدقيقُ النظر وإمعانُه من أقرب نقطة ممكنة، باستعراض المشكلة عند كل مرة، وفي كل شكل من أشكال العمل الذي يشكِّل المقاومةَ غيرَ الشرعية في فرنسا.

إنَّ ملاحظةً دقيقةً على أرض الواقع، ويتم القيامُ بها فقط من وجهة النظر هذه، لهي ضرورية جدًا بهذا الصدد.

ليس مستبعَدًا أيضًا أنه من الممكن أن يكون هناك ما يستدعي لابتكار أشكالِ عملٍ جديدة، مع الأخذ بالحسبان لهذه الاعتبارات وللأهداف المباشرة في آنٍ معًا.

(على سبيل المثال، حياكةُ مؤامرةٍ واسعةٍ مباشرةً من أجل إتلاف الوثائق الرسمية الخاصة بمراقبة الدولة للأفراد، هذا الإتلاف الذي يمكن أن يتم بطُرُق متنوعة جدًا، كالحرائق، وغيرها؛ وقد يكون لذلك فوائد مباشرة وبعيدة هائلة).

يشكِّل التنظيمُ الذي ينسِّق الأعمالَ درجةَ واقع أعلى أيضًا من العمل؛ فإذا لم يُصنعْ هذا التنظيمُ بصورة سطحية، بل إذا نما كنبات وسط ضرورات يومية وصاغَه في الوقت نفسه حذَرٌ متأنٍّ بحسب الرؤية الواضحة للخير فإنه هنا تكمن ربما أعلى درجة ممكنة من الواقع.

هناك تنظيمات في فرنسا. ولكنْ هناك أيضًا، وهذا له أيضًا أهمية أكبر، نَوَياتُ تنظيمات، بذورُ تنظيمات، بداياتُ تنظيمات في طور النمو.

يجب دراستها وتأمُّلها على أرض الواقع واستخدامُ السلطة التي تقيم في لندن كأداةٍ لتشكيلها بحذر وتأنٍّ، كنحَّات يتصوَّر الشكلَ الموجود في كتلة الرخام ليستخرجه منها.

ينبغي لهذا التشكيل أن توجِّهَه في الوقت نفسه اعتباراتٌ مباشرة وغير مباشرة.

وكلُّ ما قيل سابقًا بخصوص الكلام والعمل ينطبق هنا أيضًا.

التنظيمُ الذي يُبَـلْوِر ويَلتقِط الكلماتِ الصادرةَ رسميًا، التنظيمُ الذي يترجِم إلهامَها بكلمات مختلفةٍ ومختلفةٍ عنه، التنظيمُ الذي يحقِّقها في أفعال منسَّقة يشكِّل التنظيمُ بالنسبة لها ضمانَ فعالية متزايدة باستمرار، التنظيمُ الذي يكون وسطًا حيًا حارًا مليئًا بالأُلْفة والأُخوَّة والحنان – هذه هي الأرض النباتية التي يمكن فيها للأشقياء الفرنسيين الذين اقتلعَتْهم الكارثةُ أن يعيشوا فيها ويجدوا الخلاصَ بالنسبة للحرب وللسلام.

يجب أن يتم ذلك الآن. فبعد النصر، وفي الهيجان الذي لا يقاوَم للشهوات الفردية في الراحة والسلطة، سيكون من المستحيل قطعًا القيام بأي شيء.

يجب أن يتم ذلك مباشرةً. فهذا أمر عاجل بصورة لا توصف. فإضاعة الفرصة قد تعني تحَمُّـل مسؤولية ربما تُعادلُ جريمةً تقريبًا.

المَصْدر الوحيد لفرنسا من أجل الخلاص والرِّفعة هو استعادة التواصل مع عبقريتها في عمق شقائها. وهذا يجب أن يتم الآن، في الحال؛ في حين أن الشقاء ما يزال ساحقًا؛ وفي حين أن أمام فرنسا في المستقبل إمكانيةَ أن تجعل من وميض الوعي الأول من عبقريتها المستعادة حقيقةً معبِّرةً عنه خلال عمل حربي.

بعد النصر، ستكون هذه الإمكانيةُ قد انقضت، ولن يقدِّم السلامُ معادِلاً لها. لأن تخيُّلَ عملِ سلام وتصوُّرَه أصعب بكثير من تصور عمل حرب؛ فللمرور عبر عمل سلام، يجب أن يمتلكَ الإلهامُ بالأساس درجةً عاليةً من الوعي والنور والواقعية. ولن تكون هذه هي الحالة في فرنسا في وقت السلام إلاَّ إذا أدَّت المرحلةُ الأخيرة من الحرب إلى هذه النتيجة. يجب أن تكون الحربُ معلِّمةً تطور الإلهامَ وتغذِّيه؛ ومن أجل ذلك يجب أن ينبثقَ في غمرة الحرب إلهامٌ عميق وأصيل ونورٌ حقيقي.

يجب أن تكون فرنسا حاضرةً من جديد بالكامل في الحرب وتشارك مقابل دمها في النصر؛ لكن هذا لا يمكن أن يكفيَ. يمكن لهذا أن يحصل في الظلمات، وعندئذٍ ستكون الفائدة الحقيقية ضعيفةً.

يجب فضلاً عن ذلك ألاَّ يكونَ غذاءُ طاقتها الحربية شيئًا آخر غير عبقريتها الحقيقية، التي عثرَت عليها في أعماق الشقاء، على الرغم من درجة الوعي الضعيفة حتمًا في البداية بعد ليل كهذا.

يمكن إذًا للحرب نفسها أنْ تَصْنعَ من ذلك شعلةً.

المهمة الحقيقية لحركة لندن الفرنسية هي، نظرًا حتى للظروف السياسية والعسكرية، مهمةٌ روحيةٌ قبل أن تكون مهمةً سياسية وعسكرية.

يمكن تعريفها بأنها توجيه الضمير على مستوى البلاد.

يتطلَّب شكلُ العمل السياسي المذكور هنا بإيجاز أن يسبقَ كلَّ خيارٍ تأمُّلٌ يتزامن مع عدة اعتبارات من نوع مختلف جدًا. وهذا يتطلَّب درجةَ انتباه عالية، من مستوى الدرجة نفسها التي يتطلَّبها العملُ الخلاَّق في الفن والعلْم.

لكنْ لماذا تتطلَّب السياسةُ التي تَـبُـتُّ في مصير الشعوب والتي تهدف إلى العدالة انتباهًا أقلَّ من الفن والعلْم اللذَّينِ يهدفان إلى الجَمال والحق؟

للسياسة صلة قوية جدًا بالفن؛ وبفنون مثل الشعر والموسيقى والعمارة.

إن التأليف المتزامن على عدة صُعُد هو قانون الإبداع الفني ويشكِّل صعوبتَه.

ينبغي على الشاعر، عند ترتيب الكلمات واختيار كل كلمة، أنْ يأخذَ بالحسبان معًا خمسةَ أو ستةَ مستوياتِ تأليفٍ معًا على الأقل. قواعد النَّظْم – عدد المقاطع والقوافي – في شكل القصيدة الذي يعتمده؛ الترتيب النحوي للكلمات؛ ترتيبها المنطقي بالنسبة إلى تطور الفكرة؛ التتابع الموسيقي البحت للأصوات المتضمَّنة في المقاطع؛ الإيقاع المادي إن جاز التعبير والمؤلَّف من الانقطاعات والوقفات ومدة كل مقطع وكل مجموعة مقاطع؛ الجو الذي تضعه حولَ كلِّ كلمةٍ إمكانياتُ الإيحاء التي تنطوي الكلمةُ عليها، والانتقال من جو إلى آخر كلما تعاقبَت الكلماتُ؛ الإيقاع النفساني الذي تؤلِّفه مدةُ الكلمات المقابلة للجو الفُلاني أو لحركة التفكير الفُلانية؛ آثار التكرار أو الحداثة؛ وأشياء أخرى بالتأكيد؛ حس داخلي فريد بالجَمال يضفي وحدةً على كل هذا.

الإلهامُ هو توتُّرُ ملَكات النفس الذي يجعل درجةَ الانتباه اللازمة للتأليف على مستوياتٍ متعددةٍ ممكنةً.

كلُّ من ليس قادرًا على مثل هذا الانتباه سيحصل يومًا ما على القدرة عليه إذا ما أصرَّ بتواضع وثبات وصبر تدفعه رغبةٌ ثابتة وعنيفة.

وإذا لم تكنْ تتملَّكه رغبةٌ ما فليس لزامًا عليه أن يقرِضَ الشِّعرَ.

السياسة، هي الأخرى، فنٌّ يحكمه التأليف على مستويات متعددة. فكل من يجد لديه مسؤوليات سياسية، إذا كان لديه في داخله الجوع والعطشُ إلى العدالة، لا بد من أن يرغب في الحصول على هذه الملَكة في التأليف على مستويات متعددة، وبالتالي لا بد حتمًا من أن يحصل عليها مع مرور الوقت.

اليوم حصرًا يستعجلنا الوقتُ. والحاجاتُ مُلِحَّة.

يتجاوز منهجُ العمل السياسي المذكور هنا بإيجاز إمكاناتِ العقل البشري، على الأقل بحسب ما نعرف من هذه الإمكانات. ولكن هذا تحديدًا ما يجعل له قيمة. يجب عدم التساؤل عما إذا كنا قادرين على تطبيقه أم لا. فسيكون الجواب دائمًا: لا. يجب تصوره بطريقة واضحة تمامًا، وتأمُّلُه مليًا وكثيرًا، وغرسُه بصورة دائمة في المكان الذي تتجذَّر فيه الأفكارُ في النفس، ويجب أن يكون المنهجُ حاضرًا في جميع القرارات. عندئذٍ يكون هناك احتمال ربما لأن تكون القراراتُ حسنةً على الرغم من أنها ناقصة.

فالذي يَنْظُم أبياتًا وهو راغب في أن يُفلِح في نَظْم أبيات جميلة تضاهي أبياتَ راسين لن يَنْظمَ أبدًا بيتًا جميلاً. وبصورة أقل أيضًا إذا لم يكن لديه حتى هذا الرجاء.

لتأليف أبيات يَكْمن فيها بعضُ الجَمال، تجب الرغبة، من خلال ترتيب الكلمات، في بلوغ الجَمال الصافي والإلهي الذي قال عنه أفلاطونُ أنه يسكن في الجانب الآخر من السماء.

إحدى الحقائق الأساسية للمسيحية هي أن التقدم نحو أقل نقص ليس ناتجًا عن الرغبة في أقل نقص. وحدَها رغبةُ الكمال تمتلك خاصيةَ تدمير الجزء من الشر الذي يلوِّث النفسَ. من هنا تأتي وصيةُ المسيح: "كونوا كاملين كما أبوكم السماوي كامل."

كلما كانت اللغة البشرية بعيدةً عن الجَمال الإلهي وكلما كانت الملَكاتُ الحسية والفكرية للبشر بعيدةً عن الحقيقة، كانت ضروراتُ الحياة الاجتماعية بعيدةً عن العدالة. وبالتالي فإنه من غير الممكن ألاَّ تحتاجَ السياسةُ لجهود ابتكار خلاَّقة بمقدار ما يحتاج الفنُّ والعلْم.

لذلك فإن معظمَ الآراء السياسية والنقاشاتِ التي تتعارض فيها الآراءُ غريبةٌ عن السياسة مثلما أن صِدام الآراء الجمالية في مقاهي مونـﭙـارناس Montparnasse غريب عن الفن. فالرجل السياسي في حالة ما كالفنان في الحالة الأخرى لا يجدان هناك سوى حافز معيَّن يجب أن يؤخذَ بمقدار قليل جدًا.

لم يُنظَر أبدًا تقريبًا إلى السياسة كفن من نوع راقٍ إلى هذا الحد. بل إننا اعتدنا منذ قرون على النظر إليها فقط، أو بصورة رئيسية على أية حال، كتقنية للحصول على السلطة والمحافظة عليها.

بَيْدَ أنَّ السلطةَ ليست غاية. فهي بطبيعتها وجوهرها وتعريفها تشكِّل وسيلةً فقط. وموقعها من السياسة كموقع البيانو من التأليف الموسيقي. فالمؤلف الموسيقي الذي يحتاج إلى بيانو لتأليف الألحان يجد نفسَه متضايقًا إذا كان في قرية لا يوجد فيها بيانو. ولكن إذا زوَّدوه بواحد فما عليه عندئذٍ إلاَّ أن يؤلف.

ولتعاستنا خلَطْنا بين صناعة البيانو وبين تأليف سوناتَه[10].

ليس المنهجُ التربوي شيئًا يُذْكَر إذا لم تكن فكرتُه الملهِمة مفهومَ نوعٍ من الكمال الإنساني. وعندما يتعلق الأمر بتربية شعب ينبغي أن يكون هذا المفهومُ مفهومَ حضارة. يجب عدم البحث عنه في الماضي الذي لا يحتوي إلاَّ على ما هو ناقص. ولا في أحلامنا المستقبلية الرديئة بالضرورة مثلنا، وبالتالي الأدنى من الماضي بكثير. يجب البحث عن إلهامِ مثْلِ هذه التربية، كما عن المنهج نفسه، بين الحقائق المكتوبة من الأزل في طبيعة الأشياء.

وإليكم بهذا الشأن بعضَ الإشارات.

هناك أربع عقبات بصورة خاصة تفصِلُنا عن شكلِ حضارةٍ يمكنه أنْ يساويَ شيئًا. مفهومُنا الخاطئ عن العظَمة؛ وانحطاط الشعور بالعدالة؛ وعبادتنا للمال؛ وغياب الإلهام الديني فينا. يمكن التكلُّم بضمير الجمع الأول [نحن] بدون أي تردُّد، لأنه من غير المؤكَّد أن يكون هناك على سطح الكرة الأرضية في الوقت الحالي كائنٌ إنسانيٌّ واحد ينجو من هذا العيب الرباعي، ومن غير المؤكَّد أكثر أيضًا أن يكون هناك واحد في العِرْق الأبيض. ولكنْ إذا كان هناك بعضٌ من البشر ينجون من تلك العيوب، كما ينبغي أنْ نأملَ ذلك على الرغم من كل شيء، فإنهم مختبئون.

مفهومُنا عن العظَمة هو العيب الأخطر وهو العيب الذي لا نكاد ندركه على أنه عيب. على الأقل لا نكاد ندركه على أنه عيب فينا؛ فهو يشكِّل لنا صدمةً إذا كان عند أعدائنا، ولكنْ على الرغم من التحذير المتضمَّن في كلام المسيح عن القشة والخشبة[11] لا نفكر بالاعتراف به كعيب فينا.

مفهومُنا عن العظَمة هو المفهوم نفسه الذي ألهم حياةَ هتلر برُمَّتِها. وعندما نستنكر هذا المفهومَ بدون أدنى أثر لمراجعة ذاتنا فلا بد أن تبكيَ الملائكةُ أو تضحكَ، إذا كان هناك ملائكةٌ تهتمُّ بدعايتنا.

يبدو أنه ما إنْ تمَّ احتلالُ إقليم طرابلس [تريبوليتانا] la Tripolitaine[12] حتى أُوقِفَ فيها التعليمُ الفاشي للتاريخ. وهذا جيد جدًا. لكن قد يكون من المهم معرفة النقاط التي يختلف فيها، بالنسبة للعصور القديمة، التعليمُ الفاشي للتاريخ عن تعليم الجمهورية الفرنسية. كان لا بد أن يكون الفَرْق ضئيلاً، لأن سيد التاريخ القديم في فرنسا الجمهورية، السيد كَرْكوﭙـينو Carcopino[13] كان يُلقي في روما محاضراتٍ عن روما القديمة وعن غالية la Gaule[14] كانت مخصَّصةً تمامًا لإلقائها في هذا المكان ولاقت فيه ترحيبًا كبيرًا جدًا.

اليوم، لدى فرنسيي لندن بعضُ المآخذ على كَرْكوﭙـينو، ولكنْ ليس على مفاهيمه التاريخية. كان هناك مؤرخ آخر من السوربون يقول في كانون الثاني/يناير عام 1940 لشخص كان قد كتب شيئًا قاسيًا إلى حد ما عن الرومان: "إذا وضعَت إيطاليا نفسَها ضدنا يكون معكَ حق." وهذا غير كافٍ كمعيار للحكم التاريخي.

غالبًا ما يستفيد المهزومون من عاطفية لا مبرر لها حتى أحيانًا، لكنْ فقط المهزومون المؤقتون. يكون الشقاءُ هيبةً كبيرةً جدًا عندما تضاف إليه القوةُ. فشقاء الضعفاء ليس حتى موضوعَ اهتمام؛ هذا إذا لم يكن موضوعَ نفور. عندما حصل المسيحيون على القناعة الراسخة بأن المسيح، على الرغم من صَلْبه، كان قد قام بعد ذلك من بين الأموات ولا بد أن يعود قريبًا بالمجد ليكافئَ ذويه ويعاقبَ الآخرين جميعًا فإن التعذيبَ لم يعدْ يخيفهم. لكنْ سابقًا عندما كان المسيح فقط كائنًا نقيًا تمامًا تخَلَّوا عنه حالما لامسه الشقاءُ. والذين كانوا يحبُّونه أكثرَ ما يحبُّون لم يستطيعوا أن يجدوا في قلوبهم قوةَ تحَمُّـل المخاطر من أجله. تكون التعذيباتُ أعلى من الشجاعة عندما لا يكون هناك حافزُ ثأر من أجل مواجهتها. ولا يحتاج الثأرُ إلى أنْ يكون شخصيًا. فاليسوعي الذي يعاني من التعذيب الشديد في الصين تَـشُـدُّ أَزْرَه العظَمةُ الزمنية للكنيسة، على الرغم من أنه لا يمكنه أن يتأمل لنفسه أيةَ نجدة منها. ليس هنا في هذه الدنيا من قوة أخرى غير القوة. وهذا يمكن أن يكون مسَلَّمةً. أما القوة التي ليست من هذه الدنيا فملامستُها لا يمكن أنْ تُشْرى بثمن أقلَّ من الانتقال عبر ضَرْبٍ من الموت.

ترجمة: محمد علي عبد الجليل

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] فرسان الهيكل (فرسان المعبد) Knights Templar أو the Order of the Temple إحدى أشهر الحركات المسيحية السرية التي نشأت أثناء الحروب الصليبية وبالأخص تقريبًا بعد الحملة الصليبية الأولى سنة 1096. دعمتهم الكنيسةُ الكاثوليكية رسميًا في عام 1129. فزاد حجمهم بسرعة وقويَت شوكتُهم. كانوا يلبسون لباسًا أبيض مع صليب أحمر وكانوا مدرَّبين ومسلحين جيدًا. بنوا قلاعًا كثيرة في أوروبا والأرض المقدسة. كان فرسان الهيكل يُعرفون أيضًا باسم الجنود الفقراء للمسيح ومعبد سليمان، وكانوا من أشهر الجيوش المسيحية في الشرق الأوسط لمدة حوالي قرنين بعد الحملة الصليبية الأولى لضمان سلامة الحجاج الأوروبين الذين كانوا يسافرون إلى القدس بعد انتصار الصليبيين. (المترجم)

[2] عبادة العقل culte de la Raison وعبادة الكائن الأسمى culte de l'Être Suprême أو الثيوفيلانتروبية [حب الله والبشر أو: حب الله من خلال البشر] Théophilanthropisme: هي مجمل الأحداث والاحتفالات والطقوس الدينية والمدنية التي حدثَتْ في فرنسا من نهاية عام 1792 إلى بداية عام 1794. (المترجم)

[3] الخَوْليُّ: هو رئيس العمال في مزرعة (أو مصنع). وجمعُه: خَوَل. والخَوْليُّ أيضًا هو الراعي الحسنُ القيامِ على الماشية. وهو أيضًا القائم بأمر الناس السائسُ له. والخَوَل: هم الخدم والأتباع والعبيد. الجذر الاشتقاقي هو الفعل: "خالَ"، بمعنى: رعى ودبِّر الأمرَ وأدارَ وأشرف. يقال: خالَ على أهلِه خَوْلاً: دبَّرَ أمورَهم. ومنه: خوَّلَه إدارةَ الشركة، أيْ: عهِدَ إليه بإدارتها. وخوَّلَه الشيءَ تخويلاً: ملَّـكَه إياه. والتخوُّلً: التعهُّد. وفي الحديث: "كان النبيُّ يتخوَّلُنا بالموعظة مخافةَ السآمة." (البخاري: العِلْم، باب: ما كان النبي يتخوَّلهم بالموعظة...، رقم 68. ومسْلم: صفات المنافقين وأحكامهم، باب: الاقتصاد في الموعظة، رقم 2821). (المترجِـم)

[4] جواشيم دوبيللي Joachim du Bellay (1522 – 1560): شاعر فرنسي، كتبَ بيانَ مَدْرسة الـﭙـلَـيَّـاد La Pléiade [الثريا] (جماعة أدبية مؤلفة من سبعة شعراء فرنسيين): La Deffence, et Illustration de la Langue Francoyse [الدفاع عن اللغة الفرنسية وإيضاحها]. (المترجم)

[5] برقية [إرسالية أو رسالة] إمْس Dépêche d'Ems الاستفزازية، نسبةً إلى مدينة إمْس Ems الألمانية (حالياً: باد إمس Bad Ems): هي الصيغة التي نشرَها بسماركُ Bismark، رئيسُ وزراء مملكة ﭙروسيا، بتاريخ 13 تموز 1870 للمعلومات التي كان قد أرسلها بالبرق غيُّـوم الأول بخصوص ترشيح ليوﭙولد هوهنتسولرن Leopold de Hohenzollern-Sigmaringen (ابن عم الملك البروسي [الألماني] وليام الأول) لعرش إسبانيا الشاغر. هذه البرقية كانت السبب وراء اندلاع الحرب الفرنسية-الألمانية [الفرنسية-البروسية]. (المترجم)

[6] أونوريه دو بلزاك Honoré de Balzac (1799 - 1850): روائي فرنسي، ولد في مدينة تور Tours بفرنسا. يُعتبر مع فلوبير مؤسِّسَي الواقعية في الأدب الأوروبي. كان إنتاجه الغزير من الروايات والقصص يسمى في مجموعه بالملهاة الإنسانية Comédie humaine، وكان بمثابة بانوراما للمجتمع الفرنسي في فترة الترميم (1815-1830) وملكية يوليو (1830-1848). أشهر رواياته: «الثوار الملكيون» Les Chouans و«إهاب الشجن» La Peau de chagrin، و«أوجيني غرانديه» Eugénie Grandet، و«الأب غوريو»Le Pére Goriot و«الزنبقة في الوادي» Le lys dans la Vallée و«الأوهام المضيَّعة» Illusions perdues و«خوري القرية» Le Curé de Village و«ابنة العــم بِتّ» La Cousine Bette و«ابن العم ﭙـونس» Le Cousin Pons و«المرأة ذات الثلاثين ربيعاً» La femme de trente ans، وغيرها. (المترجم)

[7] سِـيَّينِ: مِثْـلَين، متماثلَينِ. وهي مثنَّى منصوب بالياء (لأنه هنا خبر ليس)؛ ومفرده: سِيّ. والسِّـيُّ: المِثْـلُ والنظير. يستوي فيه المذكَّر والمؤنث. فيقال: "هو سِـيُّـكَ" و"هي سِـيُّـكَ". و قد يقال: "هم سِيٌّ"، أيْ: متساوون. ويقال: "هذان سِـيَّـانِ"، أيْ: مِثْـلان أو متماثلان. جاء في كتاب العين (الخليل بن أحمد): "السِّيُّ: المكان المستوي. وهما سِيَّانِ، أيْ: مِثْلان، أراد بهما: سواءان. غير أنَّ العرب تقول: هما سواء. وإذا جمعوا سِيَّانِ قالوا: سواسية ولم يقولوا: سواسين." وذكَرَ كتابُ المحيط في اللغة (الصاحب بن عَبَّاد): "وقوله في البيع: لا يسْوَى ولا يساوي، أيْ: لا يكون هذا مع هذا سِـيَّـيْـنِ، من السواء. (ذكره أيضاً الأزهري في تهذيب اللغة وابن منظور في لسان العرب) ويُجمع السِّيُّ: أسواء، كما قال: "الناسُ أسواءٌ وشتَّى في الشِّيَم." وفي حديث جُبَير بن مُطْعم: قال له النبيُّ: "إنما بنو هاشم وبنو المُطَّلب سِيٌّ واحد". وفي رواية أخرى "شيءٌ واحد". وتقول: "سِيَّان زيدٌ وعمْرو." وجاء في صحيح ابن حِبَّان (باب فضل رمضان، ج 14، ص 362): "ذكرَ الإخبارُ بأن عشر ذي الحجة وشهر رمضان في الفضل يكونان سِـيَّـيْـنِ." (المترجم)

[8] متَّى 7: 16. (المترجِم)

[9] ﭙـيير غرينغوار Pierre Gringoire (1475 – 1538): شاعر وكاتب مسرحي فرنسي. (المترجم)

[10] السُّوناتَه sonate هي تأليفية موسيقية بثلاثة أو أربعة أجزاء لآلة واحدة (بيانو) أو لآلتين (بيانو وكمنجة). (المترجم)

[11] في المسيحية، يقول يسوع: "أنت ترى القشة التي في عين أخيك، بينما الخشبة التي في عينك لا تراها. فعندما تُخرِج الخشبةَ من عينك، حينئذٍ سترى بوضوح كيف تُخرِج القشةَ من عين أخيك." (لوقا، 6). "لماذا تنظر القذَى الذي في عين أخيك وأما الخشبة التي في عينكَ فلا تفطن لها. أو كيف تقدر أن تقول لأخيكَ يا أخي دعني أُخرِج القذى الذي في عينك وأنتَ لا تنظر الخشبةَ التي في عينكَ. يا مرائي! أَخْرِجْ أولاً الخشبةَ من عينك وحينئذٍ تبصر جيداً أن تُخرِجَ القذى الذي في عين أخيك." (متى7: 3- 5) وفي الإسلام، عن أبي هريرة قال: قال النبيُّ: "يبصرُ أحدُكم القذى في عين أخيه وينسى الجِذْعَ في عينه!" (رواه ابنُ حِبَّان في صحيحه، وأبو نعيم في الحلية، وصحَّحه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم 33). والقذى هو ما يقع في العين أو في الماء والشراب من نحو تراب ووسخ ويكون صغيراً جداً. والجِذْع هو واحد جذوع الشجر. وهو المعنى الذي يؤديه الشاعرُ: "-عجِبْتُ لمن يبكي على موت غيره / دموعاً ولا يبكي على موته دما. / وأعجَبُ من ذا أنْ يرى عيبَ غيرِه / عظيماً وفي عينيهِ عَن عيبِه عمى." (المترجم)

[12] إقليم طرابلس [تريبوليتانا] في ليبيا la Tripolitaine: هو الإقليم الذي عاصمته طرابلس الغرب Tripoli والذي يشكِّل مع برقة la Cyrénaïque ليبيا Libye. (المترجم)

[13] جيروم كَرْكوﭙـينو Jérome Carcopino (1881 – 1970): مؤرخ فرنسي ومختص بالتاريخ الروماني romaniste، مؤلِّف سيزار César (1936) والحياة اليومية في روما في أوج الإمبراطورية (1939). (المترجم)

[14] غالية la Gaule هي المنطقة التي تقابل تقريباً فرنسا وبلجيكا حالياً، سكنها بصورة خاصة الكلتيون (السلتيون) Celtes (الغاليُّون Gaulois). لتمييزها عن منطقة بلاد الغال Galles والتي هي وِيلْز Wales. (المترجم)

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني