نحو عقد بيئي جديد

 

جميل قاسم

 

قامت القطيعة مع النظام القديم في الغرب الحديث على حالة من الانفصام، تقوم، في آن معًا، على العودة إلى الطبيعة، باعتبارها المنهل والموئل والمصدر، وعلى الخروج على الطبيعة أو اللاطَبْعَنَة dénaturalisation.

لقد ترتَّبَ على هذه القطيعة الجذرية بين الجديد والقديم (القائم على مفهوم عقلي مركزي، "لوغوقراطي") الإخلالُ بالتوازن البيئي–الحيوي–الاجتماعي والتذريةُ الفردية للبُنى الاجتماعية؛ فقامت الفردية في المجتمعات الحديثة على عقلانية مُدارة، وجرى استثمار المجال الحيوي بما يخدم حاجات التراكم الرأسمالي التي لا تُحصى.

في هذه "الحداثة الباهتة"، إذا جاز لنا استعمال تعبير مارسيل غوشيه، حلَّت الطبيعةُ الاصطناعية محلَّ الطبيعة الأصلية؛ إذ حوَّلتْ المجتمعاتُ الرأسمالية الحديثة الإنسانَ إلى إنسان اقتصادي، استهلاكي، ذي بعد واحد، يفتقر إلى القيمة والمنظور والمثال، في نظام يدمج في كنفه كلَّ أبعاد الكينونة، الخاصة والعامة. ويترتَّبْ على امتثال كلِّ القوى والمصالح في "النظام"، القائم على الاستهلاك والربحية وإشباع الحاجات الفائضة على القيمة والحاجة plus-value، تحويلُ الحياة الحديثة إلى موضة حياة معمَّمة، يتحول فيها الاستهلاكُ إلى "أخلاقية استهلاكية" تهدِّد أسُس التوازن بين اللوغوس والميثوس، الحاجة والرغبة، الروح والمادة، الطبيعة والمجال الإيكولوجي، وتحوِّل الإنسان إلى "إنسان امتثالي"، أو "إنسان أخير" (بتعبير نيتشه).

لقد فَصَلَتْ الحداثةُ الإنسانَ عن أبعاده الطبيعية والجماعية والكونية، نتيجة لعملية التفريد الأنانية المركزية، وأدَّى عصرُ الأنوار، رغم إيجابيات العودة إلى الطبيعة والإنسان كمعيارين للوجود والحقيقة، إلى بروز فلسفات وإيديولوجيات تاريخوية ووضعية وتطورية تقوم على سيادة العقل المركزي ومنطق القوة، وتطبيق معايير النقد الطبيعي على الظواهر الطبيعية الوضعية والأخلاقية والروحية والميتافيزيقية، على حدٍّ سواء.

في مجتمع الأتْمَتَة، الميديائية، التكنوقراطية، مجتمع الاستلاب والاغتراب، المجتمع الذي يستدعي فيه الفعلُ، كما يقول هايدغِّر، فعلاً آخر بلا غاية، ينطرح سؤالُ المعنى والغاية والقيمة. ما معنى الحياة؟ ما قيمة الحياة؟ وهذا السؤال هو سؤال البيئة الحيوية بامتياز.

لقد أثبتتْ تطوراتُ ما بعد الحداثة عدم كفاية الأنوار. فقد قامت علمانيةُ عصر الأنوار، المتأسِّسة على اللاقَدْسَنَة واللاطَبْعَنَة، التي أحلَّتْ المصلحة والمنفعة البروميثية محلَّ الأخلاق اللاهوتية الدينية، على الفصل ما بين القدسيِّ والدنيوي، لكنها أهملتْ الوصل بينهما؛ مما قاد إلى فكِّ عرى الإنسان بالإنسان والجماعة، الكائن بالكينونة، على الأصعدة الثقافية والرمزية والروحية، الأمر الذي يؤشِّر إلى الحاجة لفلسفة ما بعد أنوارية وما بعد حداثوية جديدة، تجدِّد المعنى والقيمة والماهية.

فإذا كان الدين، في المرحلة اللاهوتية الدينية، يقتصر على اللاهوت والفقه والشعائر فإن القداسة، في المرحلة الأنَسية الجديدة، تجد القداسة والروحانية والتعالي في كلِّ ما هو سامٍ وساحر وعجيب ومتعالٍ ورمزي. وأشكال القداسة لا تنطوي على محمولات ثيولوجية (لاهوتية) حصرًا، لكنها محايثة لأكثر أشكال الحداثة والعقلانية: في آداب الحياة وقواعد المعاملة والمعاشرة، في موضوعات الحبِّ والجنس والزيِّ والغذاء والمحافظة على البيئة، وفي الحق في الحياة وحماية المجال الإيكولوجي والرفق بالحيوان – ناهيك عن الإنسان!

والأخلاقية الجديدة، الأخلاقية الحيوية bioéthique، قد تلتقي مع التعاليم الدينية، وقد تستغني عنها بإحلال الخُلُقية moralité محلَّ الدين، بناءً على مفهوم الواجب المحض. فتحلُّ بذلك أخلاقيةُ الإنسان–الإله (أخلاقية المحبة والتواصل والإيثار) – وهي أخلاقية تقوم على الناموس والقانون والعقد – محلَّ اللاهوت والتقليد والاتِّباع، ويكون فيه التعالي كامنًا في السياسة والأخلاق والعلم والعمل – وهي أخلاقية وجودية ودهرية.

لقد وصل العلم في العصر الحديث إلى ذرى لم يصلها في تاريخه، فتوصَّل، مع تطور الهندسة الوراثية، إلى مزاولة فعل الخلق المنسوب إلى الآلهة، بحيث صار معها مفهومُ السيطرة على الطبيعة وتسخيرها، كما كان مطروحًا في عصر الأنوار، يعني التلاعب الجيني ومزاولة فعل الخلق البشري. لكن التطور العلمي المنفلت من عقاله بات يهدِّد – والحال هذه – بكوارث حقيقية (من ثقب الأوزون، إلى تسخين الكرة الأرضية، إلى تلوث المياه في الأنهار والبحار، إلى التصحُّر) – الأمر الذي يضع سؤال الفلسفة أمام ضرورة إقامة "عقد إيكولوجي" يستكمل "العقد الاجتماعي" الذي تأسَّستْ عليه الليبرالية الأنوارية.

هل يمكن أن يخلق البشر بشرًا آخرين، كما جرى خلق واختراع النعجة دولِّي وأخواتها؟ وهل يمكن القبول بالصناعة البيوتقانية، المتعلقة بالجينات البشرية، بحسب العرض والطلب ومنطق (أو "لامنطق") السوق التلقائي؟

يحوِّل المجتمع الغربي النيوليبرالي، القائم على "وحدانية السوق" والثقافة السلعية والعرض والطلب، اكتشافَ الخارطة الجينية إلى تجارة قائمة على دالة الربح والاستثمار والاستغلال المالي. ولا تتعلق مناوأة السياسة الاقتصادية الجينية بأسباب الذمة والضمير والأخلاق فحسب، ولكن بمناهضة السياسة "السوقية" التي تحوِّل الصناعة التقانية الحيوية (البيوتكنولوجية) إلى امتياز لحفنة من الشركات المتعددة الجنسية التي تتحكم بصناعة الحياة.

الإنسان ليس مجرَّد جينة جسدية، ولكنه شخصية كاملة، متكاملة، تلعب فيها الناشزة القحفية protubérance crânienne دور الفراسة الدماغية؛ وعليها تقوم علاقة الدماغ بالشخصية. وهذه الناشزة القحفية (الدماغ) هي أساس الشخصية الإنسانية. والدماغ هو مناط العقل الذي أصبح بموجبه الإنسان "حيوانًا عاقلاً"، يتميز عن الحيوان العادي؛ وهو أسُّ الأخلاق، والخير والشر، والضمير والاختيار. إنه الأمر الذي لا يقبل التلاعب manipulation التجاري. والإنسانية ليست موجودة في الجينة، ولكنها في كلِّية الشخصية، في جمعية العقل والروح والجسد.

إذا أكدتْ شرعةُ حقوق الإنسان ومبادئ عصر الأنوار على الاعتراف بالإنسان كذاتية تامة، باعتبار الإنسان كائنا يتحلَّى بالمسؤولية والمبادرة والاختيار، فإن ذلك يبرهن على إمكان الانتقال بالعقد الاجتماعي إلى عقد إيكولوجي جديد يتخذ من اكتشاف وارتياد الطبيعة والكون والمحافظة على البيئة والفنِّ والسِّلم موضوعاتٍ للتحقُّق الفردي والجماعي. وهذه الموضوعات يمكنها أن تشمل حاجات إنسانية وجمالية ورياضية وغذائية معقدة (منها على سبيل المثال النباتية végétarisme، أي الإقلاع عن عادة سفك الدماء – تلك العادة الحيوانية – والاكتفاء بالغذاء النباتي)، نحو الارتقاء بالإنسان إلى الإنسان الأعلى والإنسانية الأكمل.

وإذا تخلَّص الإنسان من العادات الضارة، وكافَحَ الأوبئة والأمراض، وحقَّقَ المساواة بين الأمم والشعوب والأفراد، تتجه أنظارُه نحو حاجات أكثر تعقيدًا، سعيًا إلى تحقُّقه، ليس كـ"إنسان أخير"، وإنما كـ"إنسان كامل". حينذاك يتخلَّص من الرواسب الحيوانية فيه، وتصبح الجنة الموعودة جنةً أرضية موجودة، فيما يتعدَّى عالم الكون والفساد والحروب والاستغلال والاستعباد والاستعمار.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود