هل تستطيعُ الفيزياءُ تفسيرَ كلِّ شيء؟

 

موسى ديب الخوري

 

البحث عن المعرفة الكاملة حلمٌ راود الإنسان منذ آلاف السنين. فما أساطيره ودياناته القديمة وفلسفاته وسِرَّانياته وشعائره إلا تعبيرات عن محاولة سبر أغوار المطلق وتمثُّل شكل الحقيقة. لقد أراد الإنسان أن يعرف العالم، فاخترع أدوات كثيرة، منها الحساب ومنها الفيزياء. ومذ ذاك، أصبح دور العلوم دورًا رائدًا في تقدُّمه وازدهاره. ولكن، إلى أيِّ حدٍّ ستستمر العلوم في تقديم المعرفة للإنسان؟ هل التقدم العلمي لانهائي وبلا حدود؟ أم أن هناك حدودًا للعلم لا يستطيع تجاوزها؟ وما الذي يقدِّمه العلم فعلاً؟ هل يكتشف العلمُ القانونَ الطبيعيَّ، أم يصفه، أم يفسِّره؟ وكيف نميِّز بين هذه الحالات؟ ما هي النظرية العلمية؟ وإلى أيِّ حدٍّ تُعتبَر مبادئ الفيزياء وقوانين الطبيعة والثوابت الكونية التي يكتشفها العلم حدودًا لا تقبل التغيير أو التعديل؟ ألا يمكن أن يقودنا العلم إلى عوالم جديدة مختلفة كليًّا عن مداركنا، وحتى عن قوانيننا العلمية الحالية؟ هل يستطيع العلم، في النهاية، أن يصل بنا إلى معرفة كاملة ونهائية؟ وإذا كانت الفيزياء تستطيع تفسير كلِّ شيء فماذا سيحصل عندئذٍ للنوع البشري، الذي يقوم تطورُه، بل ووجوده، على تقدُّم المعرفة؟

كتب فولفغانغ باولي W. Pauli في العام 1954 يقول: "إن النظريات الفيزيائية تنتج عن المواجهة بين الوقائع التي تهدف إلى تفسيرها والصور العقلية: فالنظريات تولد من فهم توحي به المادةُ التجريبية، وهو فَهْمٌ يمكننا أن نفسِّره، في أفضل الأحوال، بالعودة إلى أفلاطون على أنه العلاقة القائمة بين الصور الداخلية والأجسام الخارجية وسلوكها."[1] وفي هذا الإطار فإن حدود قدرتنا على تفسير العالم تخضع لعدم قدرتنا على الرصد والملاحظة المناسبين لبعض الظاهرات، أو عدم قدرتنا على وضع وإقامة مماثلات مُرْضِية. وهذه النقطة الثانية هي الأكثر جدلية، لا شك. إذ كيف يمكن التيقُّن، في النهاية، من تماثل بين صورة عقلية وواقع رصديٍّ يصبح أكثر فأكثر تجريدًا؟ أليست النظرية التفسيرية، في هذه الحالة، محاولة لوصف واقع وفق تصوراتنا الذاتية له في النهاية؟

يرى ستيفن واينبرغ S. Weinberg أن الفيزياء لا تعمل على وصف العالم، بل هي تفسِّره فعليًّا، متطوِّرةً تطورًا مستمرًا باتجاه نظريات أكثر عمومية وجوهرية. وهو يعتقد أيضًا أن الفيزيائيين سيتوصَّلون، بعد عدة مئات من السنين أو نحو ذلك، إلى مجموعة من المبادئ الأساسية التي ستسمح عموميتُها بأن تُستقرَأ منها حالاتُ انتظام العالم كلُّها. ولكن حتى وإن كان واينبرغ على حق، وهو ما يشك به جان–مارك ليفي–لوبلون[2] J.-M. Lévy-Leblond، فهل سنفهم فعلاً العالم عندئذٍ؟ بالمثل يعترف بول ديفيس[3] P. Davies أن الجمهور الذي يلتقي به من خلال محاضراته يجد، في غالب الأحيان، صعوبات كبيرة في القبول بأنه توجد أسئلة عادية في مظهرها وليس لها معنى فيزيائي، مثل: "ماذا كان يوجد قبل بداية الكون؟" أو "ما هو الحيِّز الذي وُلِدَ فيه الكون؟" فكيف يمكن أن نتمثَّل أن الزمان والمكان اللذين نختبر وجودهما اختبارًا يوميًّا لهما بداية، وبالتالي فهما لم يوجدا قبل وجود المادة؟ إن اعتيادنا على هذه المصطلحات الغريبة، على الرغم من أنها تفلت من إدراكنا المباشر والاعتيادي، يسمح لبعض الفيزيائيين بتشكيل الصور العقلية التي تشكِّل أساس النظريات الأساسية؛ فيستطيعون عندئذٍ أن يحاولوا تقاسُمَها مع زملائهم وطلابهم ومع عموم الناس. لكن هل يمكن فعلاً أن تصل الفيزياء في النهاية إلى تفسير كلِّ شيء؟

تفسير أم وصف؟

هل يفسِّر العلم الأشياء أم يصفها فقط؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه واينبرغ، محاولاً الوصول إلى إجابة حاسمة لصالح التفسير. كان الإبستمولوجيون، في النصف الأول من القرن العشرين، قد طرحوا بقوة هذه التساؤلات، التي يمكن أن يلخِّص إلى حدٍّ ما رأيَهم فيها، على سبيل المثال، قولُ فتغنشتاين L. Wittgenstein: "يكمن وراء تصورنا الحديث للعالم وَهْمُ أن القوانين المزعومة للطبيعة تفسِّر الظاهرات الطبيعية." وكان يعتقد أنه يكفي اكتشافُ سبب واقعة ما من أجل تفسيرها. غير أن برتراند راسل B. Russel نشر في العام 1913 مقالاً دافع فيه عن وجهة النظر القائلة بأن «كلمة "سبب" مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بعلاقات مضلِّلة، بحيث إنه يفضَّل حذفُها نهائيًّا من المصطلحات الفلسفية»[4]. وما كان ذلك ليترك للفلاسفة مثل فتغنشتاين سوى حلاً وحيدًا من أجل التمييز بين التفسير والوصف؛ وكان هذا الحلُّ غيبيًّا ولاهوتيًّا: فالواقعة يتم تفسيرها عندما يتم البرهان أن لها غاية ما.

إن التمييز بين الوصف والتفسير يتطلَّب، من هذا المنظور، معرفة الدافع. لكن قوانين الطبيعة لا تشتمل على دوافع غائية. ولجهله بوسيلة تمييز أخرى بين التفسير والوصف استنتج فتغنشتاين أن هذه القوانين لا يمكن أن تكون لها قيمة تفسيرية. فبين الذين يزعمون، برأي واينبرغ،[5] أن العلم يصف ولا يفسِّر هناك منهم من يحاول ربما أيضًا القيام بمقارنة ومقابلة العلم باللاهوت – اللاهوت الذي يفسِّر الأشياء، في رأيهم، استنادًا إلى مخطَّط إلهي – وهو أمر لا يأخذ به العلم أو يقع خارج نطاقه.

إن هذا النمط من التفكير هو نمط خاطئ، شكلاً ومضمونًا. ويرى واينبرغ أن على الفلاسفة المهتمين بمعنى مصطلح "تفسير" في العلوم معرفة ما الذي يقوم به الفيزيائيون والعلماء عندما يقولون إنهم يفسِّرون شيئًا ما. وهو يعرِّف، بالتالي، مصطلح "التفسير" في الفيزياء بأنه "ما يكون الفيزيائيون قد قاموا به عندما يصرخون مندهشين: آه!" لكن التعريفات المسبَّقة، كما يردف، بما فيها هذا التعريف، ليست ذات فائدة على الإطلاق! ويرى واينبرغ أن الفلاسفة الحديثين الذين كتبوا في معنى التفسير، مثل بيتر أخنشتاين P. Achinstein وكارل هِمْبِل Carl Hempel وفيليب كِتشر Ph. Kitcher وويسلي سالمون W. Salmon، طرحوا الموضوع من منظور صحيح عندما حاولوا أن يجيبوا على السؤال: "ماذا يفعل العلماء عندما يحاولون تفسير شيء ما؟"

تفسيرات ضرورية

يعلن العلماء المختصون بالعلوم البحتة، أكثر من نظرائهم في مجال العلوم التطبيقية، أن عملهم يشتمل على تفسير الوقائع. ولهذا من المهم بالنسبة لهم، كما بالنسبة للفلاسفة، تعريف ماهية التفسير تعريفًا واضحًا. وكما كان من الصعب دائمًا، بالنسبة للإبستمولوجيين، تعريف ماذا يعني تفسير حدث ما (يلجأ فتغنشتاين مثلاً إلى الحديث عن "ظاهرات طبيعية")، فإن هذه المهمة تبدو لواينبرغ أكثر سهولة بالنسبة للفيزياء (والكيمياء) مما هي بالنسبة للعلوم الأخرى. (هل يمكن حقًّا فصل التفسير الفيزيائي عن التفسير الاقتصادي أو البيولوجي أو الاجتماعي مثلاً، خاصة مع تطور علوم الشواش والانتظام الذاتي وغيرها من العلوم التي توحِّد فروع المعرفة وتجمع التفاسير أو الوصف في حالة من التصميم أو التشكيل الموحَّد؟) فالفيزيائيون، بنظر واينبرغ، يهتمون بتفسير حالات الانتظام والمبادئ الفيزيائية، وليس بحوادث منعزلة ومنفصلة. لكننا، من هذا المنظور، كيف نعرف أن التفسير لا يتسع ليشمل المبادئ الإنسانية والجمالية والرياضية وغيرها؟ بعبارة أخرى، هل يمكن أن يوجد تفسير بمعزل عن وقائع العالم الأخرى؟

يقول واينبرغ إن البيولوجيين والمؤرِّخين وعلماء المناخ وغيرهم يبحثون عن أسباب أحداث منفصلة، مثل انقراض الديناصورات أو الثورة الفرنسية. بالمقابل، فإن الفيزيائي لا يهتم بحدث منفصل وخاص، مثل التشويش الذي ظهر في العام 1897 على الصفائح الفوتوغرافية التي تركها بِكريل قرب ملح اليورانيوم، إلا عندما يكشف مثلُ هذا الحدث عن انتظام أو تناسق عام ما في الطبيعة، ألا وهو، في هذه الحالة، لااستقرارية ذرة اليورانيوم. وقد حاول كِتشر أن يعيد إطلاق فكرة أن طريقة تفسير حدث معزول تكمن في الرجوع إلى أسبابه. ولكن، بين اللانهاية من الأشياء التي يمكن أن تؤثر على حدث ما، أيها يمكن اعتباره من أسبابه؟ إن لانهاية من الأسباب تكمن وراء ظهور حدث ما، أكان فيزيائيًّا، كما يراه واينبرغ، ويمكن أن يؤدي إلى تفسير انتظام أو نسق عام، أم كان اجتماعيًّا أو بيولوجيًّا أو غير ذلك من ظاهرات الطبيعة من الأحداث التي يعتبرها واينبرغ منعزلة!

يعتقد واينبرغ أن بالإمكان تقديم إجابة أولية في إطار الفيزياء فيما يتعلق بالتمييز بين التفسير والوصف البسيط، وذلك مع الأخذ بعين الاعتبار ما يعنيه الفيزيائيون عندما يؤكدون أنهم فسَّروا تناسقًا أو انتظامًا ما. وفي الواقع فإن الفيزيائيين يفسِّرون مبدأ فيزيائيًّا عندما يبرهنون أنه يمكن أن يُستنتَج من مبدأ فيزيائي أكثر جوهرية منه. ولكن للأسف، كما نلاحظ، فإن كلَّ كلمة أو مصطلح في هذا التعريف يحمل معنى جدليًّا قابلاً للنقاش، بما في ذلك ضمير المتكلِّم باسم الفيزيائيين! لكن واينبرغ يعتقد أن ثلاثة مصطلحات بين هذه الكلمات هي الأهم، وهي التي يختارها للنقاش: "الجوهري" أو الأساسي، و"الاستنتاج" أو الاستقراء، و"المبدأ".

إن لفظة "الجوهري" لا يمكن أن تُحذَف من هذا التعريف لأن مفهوم الاستنتاج وحده لا يشير إلى أيِّ اتجاه؛ فهو يعمل في الاتجاهين. والمثال الأفضل على ذلك نجده في العلاقة بين قوانين نيوتن وقوانين كبلر. ونقول عادة إن قوانين نيوتن تفسِّر قوانين كبلر. ولكن تاريخيًّا كان نيوتن قد استنتج قانون الجاذبية من قوانين كبلر. ونحن اليوم، في دراستنا للميكانيكا، نتعلَّم كيف نستنتج قوانين كبلر من قوانين نيوتن، وليس العكس؛ ونحن مقتنعون تمام الاقتناع أن قوانين نيوتن أكثر جوهرية من قوانين كبلر. وبهذا المعنى تفسِّر الأولى الثانية، وليس العكس. مع ذلك، ليس من السهل أن نعطي معنى محددًا للمفهوم الذي وُفْقه يكون مبدأ فيزيائي أكثر جوهرية من مبدأ آخر.

لعل "أكثر جوهرية" تعني "أكثر كمالاً". ولا شك أن المحاولة الأشهر لإدراك المعنى الذي يعطيه العلماء للتفسير هي محاولة كارل هِمْبِل. ففي مقال شهير كتبه في العام 1948 مع بول أوبنهايم Paul Oppenheim يلاحظ: "إن تفسير انتظام عام يشتمل على تضمينه في انتظام أوسع منه، وذلك تحت قانون أكثر عمومية."[6] مع ذلك فقد استمرت الصعوبة في قبول تعريف مصطلح "التفسير". والحق أن التفسير يعني، على المستوى الفلسفي، معرفة الأسباب العميقة أو الجوهرية لوجود انتظام ما. أما على المستوى العلمي، فإن معرفة حالة أوسع أو قانون أشمل لا تعني، بالضرورة، تفسير الحالة الأدنى أو الخاصة. ولهذا يبقى التمييز بين الوصف والتفسير مسألة مفتوحة – ولعلها ستبقى مفتوحة مادام الحوار المعرفي قائمًا.

غرافيتونات متعددة

إن مثال قوانين نيوتن وكبلر مصطنَع بعض الشيء. بالمقابل، يكون من الأصعب في حالات أخرى معرفة أيِّ مبدأ يفسِّر الآخر. ومثال ذلك أننا، عندما نطبق الميكانيكا الكوانتية على النسبية العامة لأينشتاين، نجد أن الطاقة والدفع في حقل ثقالي يتحدان ليشكلا غرافيتونات – وهي قُسَيْمات كتلتها صفر ولفُّها يساوي 2. من جهة أخرى، فقد تمَّ البرهان أن كلَّ قُسَيْم كتلته صفر ولفه يساوي 2 يسلك تمامًا مثل الغرافيتونات في النسبية العامة، وأن تبادل هذه الغرافيتونات ينتج آثارًا ثقالية تتنبأ بها النظرية. كذلك فإن نظرية الأوتار الفائقة Superstring Theory تتنبأ بوجود قُسَيْمات تساوي كتلتها صفر ولفها 2. عندئذٍ هل تفسِّر النظرية النسبية العامة وجود الغرافيتونات، أم العكس؟ نحن نجهل ذلك. ولكن الإجابة على هذا السؤال هامة؛ إذ بها يتعلق اختيارنا في رؤية مستقبل الفيزياء: هل ستكون الفيزياء مؤسَّسة على الهندسة الزمكانية، كما في النسبية العامة، أم على نظرية مشابهة لنظرية الأوتار الفائقة التي تتنبأ بوجود الغرافيتونات؟

إن فكرة التفسير، بما هي استنتاج واستقراء، تصبح فكرة إشكالية عندما نأخذ بعين الاعتبار المبادئ الفيزيائية التي يبدو أنها تتجاوز المبادئ التي استُنتِجت منها. يتجلَّى ذلك بشكل خاص بالنسبة للترموديناميكا، علم الحرارة والفوضى. فبعد صياغة قوانين الترموديناميكا في القرن التاسع عشر، نجح لودفيغ بولتسمان L. Boltzmann في استقرائها من الميكانيكا الإحصائية – هذا الفرع من الفيزياء الذي يدرس الأجسام الماكروسكوبية المؤلَّفة من العديد من الجزيئات المفردة. وقد قُبِلَ تفسير بولتسمان للترموديناميكا بعبارات الميكانيكا الإحصائية، على الرغم من عدم قبول عدد من العلماء به، مثل ماكس بلانك M. Plank وإرنست زرميلو E. Zermelo وفيزيائيين آخرين، ممَّن يعتبرون أن قوانين الترموديناميكا مبادئ فيزيائية مستقلة، لا تقل عن غيرها أساسيةً وجوهرية. ومع ذلك، بيَّنتْ أعمالُ بكنشتاين J. Bekenstein وهوكنغ أن الترموديناميكا تطبَّق أيضًا على الثقوب السوداء، ليس لأنها مؤلَّفة من الكثير من الجزيئات، وإنما ببساطة لأن أيَّ قُسَيْم أو شعاع ضوء لا يمكن أن يفلت من سطحها. وبالتالي، يبدو أن الترموديناميكا تتجاوز الميكانيكا الإحصائية، على الرغم من إمكانية اشتقاق قوانينها من هذه الميكانيكا.

مع ذلك، يرى واينبرغ أن قوانين الترموديناميكا ليست بمثل جوهرية مبادئ النسبية العامة، ولا هي بالنموذج المعياري لفيزياء القُسَيْمات. ويقول إنه علينا أن نميِّز بين مظهرين للترموديناميكا: فمن جهة، الترموديناميكا منظومة شكلية تسمح لنا، بواسطة عدد محدود من القوانين البسيطة، بالوصول إلى نتائج هامة؛ وهذه الاستنتاجات تكون صحيحة في كلِّ مكان تُطبَّق فيه هذه القوانين. لكن مجال تطبيق هذه القوانين ليس لانهائيًّا. فليس ثمة معنى للترموديناميكا، على سبيل المثال، إذا حاولنا تطبيقها على ذرة واحدة.

فمن أجل أن نحدد فيما إذا كانت قوانين الترموديناميكا تُطبَّق على منظومة فيزيائية خاصة علينا أن نسأل فيما إذا كان يمكن استقراء هذه القوانين انطلاقًا من معرفتنا بهذه المنظومة. وذلك ممكن في بعض الحالات؛ بينما لا يكون ممكنًا في حالات أخرى. إن علم الترموديناميكا بذاته لا يفسِّر شيئًا، كما يقول واينبرغ؛ وعلينا أن نتساءل لماذا هو قابل للتطبيق على المنظومات التي ندرسها، أيًّا كانت هذه المنظومات. ونحن نقوم بذلك بأن نستقرئ قوانين الترموديناميكا انطلاقًا من أيٍّ من المبادئ الفيزيائية الأكثر جوهرية التي تُطبَّق على المنظومة المدروسة.

الاستقراء الضمني

إن مفهوم الاستقراء يقودنا إلى مسألة أخرى: من الذي يقوم بالاستقراء؟ نقول غالبًا إن واقعةً ما يتم تفسيرها بواسطة واقعة أخرى، دون أن نكون قادرين فعلاً على استنتاج أو استقراء الأولى من الثانية. فعلى سبيل المثال، سمح تطوير الميكانيكا الكوانتية في منتصف العشرينات من القرن الماضي، ولأول مرة، بحساب واضح ومفهوم لطيف ذرة الهيدروجين. وسرعان ما استنتج عدد كبير من العلماء حينئذٍ أن الكيمياء كلَّها قد تمَّ تفسيرها بواسطة الميكانيكا الكوانتية ومبدأ الجذب الكهرستاتيكي بين الإلكترونات والنوى الذرية. وقد أعلن فيزيائيون، مثل بول ديراك P. Dirac، في ذلك الحين، أنه قد تمَّ مذ ذاك فهم الكيمياء كلِّها. ومع ذلك، لم يكونوا بعد قد استنتجوا الخصائص الكيميائية لجزيئات أخرى غير الهيدروجين، وهو أبسطها. ولقد أثبتتْ التجربة هذه الفرضية. ويمكننا اليوم حساب خصائص الجزيئات الأكثر تعقيدًا، إنما ليس بمستوى تعقيد البروتينات أو الحموض النووية، وذلك بواسطة حسابات معقدة مرتكزة على الميكانيكا الكوانتية ومبدأ الجذب الكهرستاتيكي. وهكذا فإن معظم الفيزيائيين يصرِّحون اليوم بأن الكيمياء قد تمَّ تفسيرها بواسطة الميكانيكا الكوانتية وبواسطة الخصائص البسيطة للإلكترونات والنوى الذرية. مع ذلك، فإن الظاهرات الكيميائية لن تفسَّر تفسيرًا كاملاً في يوم من الأيام بهذه الطريقة؛ ولهذا السبب إنما تبقى الكيمياء علمًا قائمًا بذاته. ومع ذلك أيضًا، وعلى الرغم من صعوبة دراسة الجزيئات المعقدة بواسطة مناهج الميكانيكا الكوانتية، فإننا نعرف، رغم كلِّ شيء، أن الفيزياء تفسِّر خصائص العناصر الكيميائية. وهذا التفسير لا يوجد في كتبنا ونظرياتنا، بل في الطبيعة نفسها. فقوانين الفيزياء هي التي تتطلَّب أن تكون للعناصر الكيميائية خصائصُها المعروفة.

تصح هذه الملاحظات نفسها على مجالات أخرى في العلوم الفيزيائية. فالنموذج المعياري يشتمل، مثلاً، على نظرية للتفاعل النووي الشديد – وهي القوة التي تربط بين الكواركات، والتي تربط أيضًا بين قُسَيْمات النواة الذرية: إنها، في عبارة أخرى، ما يُسمَّى بالكروموديناميكا الكوانتية. وهذا العلم يفسِّر كتلة البروتون على أنها نتيجة للقوى الكبيرة التي تمارسها الكواركات بعضها على بعض داخل البروتون. ونحن لا نستطيع فعليًّا حساب كتلة البروتون. ويقول واينبرغ إنه ليس واثقًا من امتلاكنا لمنهجية أو خوارزمية مناسبة لذلك؛ ومع ذلك لم تعد كتلة البروتون أمرًا خفيًّا أو عصيًّا. ويقول واينبرغ إن لدينا الشعور بأننا نعلم لماذا هي على ما هي عليه، ليس لأننا حَسَبْنا، ولا حتى لأننا نستطيع القيام بذلك، بل لأن هذا الحساب لا يتطلَّب، بالإضافة إلى الأدوات الرياضية، سوى معرفة الكروموديناميكا الكوانتية.

إن الاعتراف بأن شيئًا ما تمَّ تفسيره، حتى ضمن هذا المجال المحدود نسبيًّا، أمر على غاية من الأهمية: فذلك يمكن أن يشير إلى المسائل الهامة فعلاً التي يجب دراستها، وربما إلى الاتجاه الذي على العلم السير فيه من أجل بلوغ مرحلة تفسيرية جديدة. ولهذا لسنا نوافق واينبرغ تمامًا حين يصرُّ أن حسابنا لكتلة البروتون، مثلاً، لن يكون سوى استعراض لمهارات رياضية، وأن ذلك لن يحسِّن في شيء فهمَنا لقوانين الطبيعة، لأننا نعرف معرفة جيدة التفاعل النووي الشديد، بحيث نعلم أننا لن نحتاج إلى أيِّ قانون طبيعي جديد من أجل إتمام هذا الحساب.

مبدأ أم حادث؟

من جهة أخرى، وعلى الرغم من أن الفيزيائيين يحاولون فقط تفسير المبادئ العامة، فإن الفرق بين المبدأ والحادث البسيط ليس واضحًا دائمًا. فما نعتبره، في بعض الأحيان، كقانون أساسيٍّ للطبيعة لا يكون أكثر من حادث طارئ. ويقدِّم لنا مثال كبلر، مرة أخرى، نموذجًا على ذلك. فقد حاول في شبابه تفسير أقطار مدارات الكواكب من خلال بناء هندسة معقدة تعتمد على المجسَّمات المنتظمة؛ ونحن نستطيع أن نلمح في تفسيره واضحةً الخلفيةُ اللاهوتية التي تشير إلى خلق كون منتظم وكامل وفق غاية معينة. أما اليوم فإننا قد نبتسم لسذاجة هذا الطرح، لأننا نعلم أن المسافات بين الكواكب والشمس نتجت عن حوادث حصلتْ لحظة تشكُّل المجموعة الشمسية، وأنه لا يمكن أن يخطر لنا على بال استقراؤها من أيِّ قانون أساسي.

يتساءل علماء الكونيات بشكل متزايد عما إذا كان الانفجار الكبير واحدًا من انفجارات كبيرة أخرى تحصل هنا وهناك في كون فائق أوسع بكثير من كوننا المرصود. وهم يتساءلون إذا كانت تظهر أو تتغير، في أثناء هذه الانفجارات الكبيرة الكثيرة، ثوابتُ الطبيعة الأساسية المعروفة لتأخذ قيمًا مختلفة، بل وحتى إن كانت قوانين الطبيعة لا تتخذ شكلاً آخر مغايرًا تمامًا للشكل الذي نعرفه لها. وفي هذه الحالة، فإن مسألة معرفة لماذا قوانين الطبيعة التي نكتشفها والثوابت التي نقيسها هي ما هي عليه تكون لها إجابةٌ لاهوتية واضحة ووحيدة: فمع مثل هذا النمط من الانفجار الكبير فقط إنما يمكن أن يوجد أحدٌ ما قادر، يومًا ما، على طرح هذا السؤال.

يأمل واينبرغ أننا لن ننجرف إلى مثل هذا المنطق أو المحاكمة العقلية، وأننا سوف نكتشف مجموعة وحيدة من القوانين التي تفسِّر لماذا ثوابت الطبيعة المعروفة هي على ما هي عليه. ولكن علينا أن نتذكر دائمًا أن ما نسمِّيه اليوم قوانين وثوابت الطبيعة ليس سوى آثارًا طارئة للانفجار الكبير الذي وُجِدنا من خلاله؛ وهي آثار محدودة بإشراط التواجُد ضمن حدود معينة من القيم (مثل بُعْد الأرض عن الشمس) – هذه القيم التي تسمح بظهور كائنات قادرة على التساؤل حول طبيعتها الخاصة وحول الكون وأصله ومصيره. فوجودنا على هذه المسافة من الشمس هو، في النهاية، وجود طارئ؛ لكنه، مع ذلك، يحمل إمكانية عظيمة بوجود حياة أخرى في الكون لأنه وجود طارئ.

وعلى العكس، من الممكن أيضًا أن تُعتبَر مجموعة من الظواهر على أنها حوادث بسيطة؛ في حين أنها، في الحقيقة، تظاهُرات لمبادئ فيزيائية أساسية. وربما نستطيع هنا أن نجد الجواب على سؤال تاريخي: لماذا حاول أرسطو (وغيره من الفلاسفة الطبيعيين، مثل ديكارت) أن يضع نظرية ديناميَّة تخلو من التنبؤ بمسار قذيفة ما مثلاً، على عكس قوانين نيوتن؟ بحسب أرسطو، تميل العناصر إلى العثور على مواضعها في الطبيعة: فالعناصر الترابية في الأسفل، والنارية في الأعلى، والمائية والهوائية توجد في حالة وسطية. لكن أرسطو لم يسعَ إلى معرفة سرعة عنصر ما. لسنا نتساءل هنا لماذا لم يكتشف أرسطو قوانين نيوتن، ولكن لماذا لم يعبِّر أرسطو أبدًا عن عدم رضاه لعدم وجود أداة أو وسيلة لحساب موضع وسرعة جسم ما؟ بل يبدو أن أرسطو لم يشعر حتى بوجود مسألة يجب حلُّها هنا!

يستنتج واينبرغ هنا أن أرسطو كان يفترض أن سرعة عثور الجسم على موضعه كانت مجرَّد حدث طارئ ولا تخضع لأية قاعدة أو قانون، وأنه كان من المستحيل استنتاج أيِّ انتظام أو تناسق حول هذه المسألة، وأن المسائل الوحيدة التي يمكن تعميمها كانت تتعلق بالتوازن فقط، أي الحالة التي توجد الأجسام فيها في حالة الراحة. لا شك أن أرسطو كان مخطئًا. ولكن لو قارنَّا نمط تفكيره بوضعنا الراهن لأدركنا كم كان من الصعب تخيُّل أن الديناميكا يمكن أن تكون محكومة بمجموعة من القوانين والمبادئ الدقيقة. وهكذا يخلص واينبرغ إلى أن أحد أكبر تحديات العلم هو التمييز بين الحوادث والمبادئ؛ الأمر الذي لا نستطيع البتَّ فيه حتى الآن. ويمكننا أن نُسائل واينبرغ عند هذه النقطة: هل يكفي أن نميِّز بين المبادئ والحوادث لكي نحظى بفرصة معرفة أكمل؟ بعبارة أخرى، ألن تكون معرفتنا المحكومة بالقوانين أشبه بتصورات أرسطو بعد ألفي سنة بالنسبة لأجيال ربما تكون قد تجاوزتْ كلَّ أُطُر تفكيرنا الحالي؟

النظرية النهائية

بعد أن أوضح واينبرغ مصطلحات "الأساسي" و"الاستقراء" و"المبدأ"، ما الذي يمكن فهمه من تعريفه الذي يقول إنه في الفيزياء يتم تفسير مبدأ ما عندما نستنتجه من مبدأ أكثر أساسية منه؟ يرى واينبرغ أن تعريفه يقع ضمن الإطار التاريخي للتطور المعرفي، أي ضمن منظور للعلم متَّجه نحو المستقبل. إننا نتقدم باستمرار نحو وصف أكثر كمالاً للعالم. وهكذا يأمل واينبرغ أننا سنصل في المستقبل إلى فهم كافة الانتظامات التي نرصدها في الطبيعة بفضل بعض المبادئ البسيطة وقوانين الطبيعة، التي يصبح من الممكن، اعتمادًا عليها، استنتاج كافة الانتظامات الأخرى في الكون. وعندئذٍ فقط، عندما نعرف هذه النظرية الفائقة والنهائية، سنستطيع التمييز تمييزًا صريحًا بين المبدأ والحادث، وتحديد ما هي وقائع الطبيعة التي تشكِّل نتائج لمبادئ معينة، كما وسنعرف ما هي المبادئ الأساسية التي تفسِّرها.

إذا كان العلم قادرًا، بالتالي (وفق واينبرغ)، على تفسير بعض جوانب الطبيعة والكون، هل يستطيع العلم تفسير كلِّ شيء على الإطلاق؟ من المؤكد أن الجواب هو لا. فسيكون ثمة دائمًا حوادث تظل غير مفسَّرة؛ ليس لأننا لا نستطيع تفسيرها، حتى مع امتلاكنا لكافة الشروط الدقيقة التي تمَّتْ فيها هذه الحوادث، ولكن لأننا لن نعرف أبدًا هذه الحوادث: فهي ضائعة في ضباب الزمن. لن نعرف مثلاً أبدًا ما هي الحوادث التي أدَّتْ لأن يكون لنا هذا العدد المحدَّد من المورِّثات، أو لماذا ضرب نيزك ضخم في نقطة محددة الأرض قبل 65 مليون سنة. إن الجزء الأعظم مما يحاول العلماء معرفته يتعلق بحوادث ضائعة في ضباب الزمن، وفق تعبير واينبرغ.

كذلك فإن العلم غير قادر على تفسير مبدأ أخلاقي، أيًّا كان. ويبدو أن ثمة هوة، غير قابلة للردم حتى الآن، بين ما هو كائن وما يجب أن يكون. ربما يستطيع العلم تفسير لماذا على الناس القيام ببعض التصرفات أو لا، أو لماذا تطور الجنس البشري بحيث إن بعض الأمور يجب القيام بها وبعضها الآخر يجب عدم القيام به. لكن لا شيء يمنعنا من تصعيد هذه القوانين الأخلاقية المرتكزة على البيولوجيا. فمن الممكن، مثلاً، أن يكون جنسنا قد تطور بحيث يلعب الرجل والمرأة دورين مختلفين في الحياة. ولكن بإمكاننا، كما يرى واينبرغ، أن نحاول خلق مجتمع تتناسب فيه الوظائف كلُّها بين الرجال والنساء. والمبادئ الأخلاقية التي يجب أن تُملي علينا إن كان يجب أن نتصرف على هذا النحو أم لا ليست، ويجب أن لا تكون، نابعة أو ناتجة عن المعرفة العلمية. ويمكننا القول، إضافة إلى واينبرغ، إن هذه المعرفة يمكن أن تلعب دورًا في تعديل مفاهيمنا الأخلاقية، لكن بأن الأخلاق، في التحليل النهائي، ليست قوانين مضافة على الطبيعة.

كذلك فإن يقينية تفسيراتنا العلمية محدودة. فلست أعتقد أننا سوف نصل إلى يقين كامل في أيٍّ تفسير من تفاسيرنا. وكما أنه توجد مبرهَنات رياضية عميقة تبيِّن لنا استحالة البرهان على تجانس منظومة رياضية ما، فإنه يبدو من المحتمل ألا نكون قادرين أبدًا على البرهان أن قوانين الطبيعة الأساسية متجانسة من وجهة نظر رياضية. لكن ذلك لا يُقلِق واينبرغ، كما يقول، لأننا، حتى لو كنا نعرف أن قوانين الطبيعة متجانسة رياضيًّا، لن نكون متأكدين من صحَّتها النهائية والمطلقة.

وأخيرًا، يبدو لنا من المؤكد أننا لن نستطيع أبدًا تفسير المبادئ العلمية الأساسية. ولهذا السبب بالذات يؤكد عددٌ من العلماء أن العلم لا يقدِّم أيَّ تفسير. ولكن النقد الذي يوجِّهه واينبرغ لهؤلاء هو أنه، بوجود مثل هذا النمط من التفكير، لا يمكن الوصول إلى معرفة أفضل أبدًا. ويعتقد واينبرغ أننا سوف نصل إلى مجموعة من القوانين الطبيعية البسيطة والكونية؛ وهي قوانين لن نستطيع تفسيرها. والنمط الوحيد من التفسير الذي يراه واينبرغ ممكنًا هو أن يتطلِّب التجانسُ الرياضي مثل هذه القوانين. لكن ذلك مستحيل، برأيه، لأننا، منذ الآن، قادرون على تخيُّل مجموعات من القوانين الطبيعية المتجانسة تمامًا من وجهة النظر الرياضية، إنما لا تصف الطبيعة كما نرصدها ونراها. ولكن هل لنا أن نعترض هنا على واينبرغ اعتراضًا بسيطًا: فالقوانين التي تصف اليوم حالات لا تتفق والطبيعة المرصودة، ألا يمكن أن توافق حالات طبيعية غير مرصودة، أو حتى يمكن تخليقها؟

يقول واينبرغ في النهاية إن أملنا في الحصول على تفسير نهائي يبقى بلا شك اكتشاف مجموعة من القوانين النهائية للطبيعة، والبرهان أنها النظرية الكاملة الوحيدة والمتجانسة من منظور منطقي؛ وهي يجب أن تكون كاملة، بمعنى أنها يجب أن تسمح حتى بوجودنا. ويعتقد واينبرغ أن مثل هذه النظرية ستتحقق خلال قرن أو قرنين؛ وعندئذٍ فإن الفيزيائيين، وفق واينبرغ، سيصلون إلى الحدود القصوى لمقدرتهم على التفسير والمعرفة![7]

ما لا تفسِّره الفيزياء

كثير من الفيزيائيين يحتاجون إلى الاعتقاد بأن التقدم العلمي سيقودنا يومًا إلى التفسير الشامل للظاهرات الطبيعية. ويبدو أن الفيزياء الكوانتية تقرِّبنا من مثل هذه النتيجة. لكن القناعة والاعتقاد لا يعنيان البرهان. وهكذا فإن مطبَّ المصطلحات يطاردنا دائمًا في بحثنا عن المعرفة الكاملة. ماذا عن المدرسة المقابلة؟ وماذا يقول التيار الأكثر تحررًا في السياسة العلمية من غائية علمية هدفها معرفة كاملة ونظرية نهائية؟

يأمل واينبرغ أننا سنفهم يومًا كافة انتظامات الطبيعة، وأنه سيأتي يوم تُستنتَج فيه كافة الانتظامات من بعض المبادئ البسيطة. لكن هناك تيارًا من العلماء (خاصة الفرنسيين) الذين يعتقدون بمحدودية مثل هذا النمط من التفكير؛ وأحدهم جان–مارك ليفي–لوبلون. وهو يرى، من منظور تاريخي، أن هذا التوجُّه قد يكون هامًّا في دفع هؤلاء العلماء الروَّاد باتجاه مزيد من الاكتشافات والمعرفة. إن هذا الإيمان قديم قِدَمَ الفيزياء والعلوم. ولنا مثال على ذلك في اكتشاف نيوتن للجذب الثقالي الذي سمَّاه الجاذبية الكونية. ففي أعماقه كان يعتقد أن اكتشافه سيحمل مفتاح المعرفة الكاملة التي ستفسِّر الكون في النهاية. ولنتذكر أيضًا اللورد كالفن Lord Kalvin الذي أعلن، في بداية القرن العشرين، أنه لم يبقَ شيء لاكتشافه في الفيزياء سوى بعض التتمَّات البسيطة التي لا بدَّ من إضافتها إلى الثوابت الكونية الأساسية. ومثل هذا الاعتقاد، في رأي ليفي–لوبلون، يندرج في مستوى الاعتقاد الديني أو التفكير اللاهوتي أكثر منه في الرأي العلمي.

إن نقد التفسير الكامل للكون يرتكز على ما هو أبعد من النقد التاريخي. فواينبرغ ومدرسته لا يقدِّمون في النهاية سوى الاعتقاد، دون أيِّ برهان. ولهذا لا يمكن أن نقدِّم لهم، بالمقابل، سوى الاعتقاد لدى الكثير من العلماء بأن الكون أغنى وأكثر تعقيدًا مما يتصوَّره الفيزيائيون والناس عمومًا؛ وبالتالي فإن الاعتقاد بإمكانية تفسير أعماق أعماقه أمر غير مقبول بشكل مطلق.

وهكذا، على خلفية صراع ثقافي لم يعد خافيًا، يذهب ليفي–لوبلون إلى نقد الأسلوب الأمريكي في نظرية واينبرغ، وإنْ بشكل مهذب وغير مباشر. يقول: "ما يبدو لي أمريكيًّا في رأي واينبرغ هو الطريقة التي يطرح فيها العلاقة بين المبادئ الفيزيائية الأساسية والمبادئ الإنسانية، بما فيها الأخلاق. يؤكد واينبرغ أننا لا نستطيع تأسيس الأخلاق على الفيزياء، الأمر الذي يُسعِدُنا؛ لكن تعبيره عن الحاجة إلى تحديدها يشير بوضوح إلى إطار ثقافي معين لا شك أنه يتصل بأصولية توراتية. ويبدو لي أنه لا يوجد في العالم اللاتيني، الفرنسي خصوصًا، مَن لديه الحاجة لإثبات مثل هذا اليقين!"[8] ويمكننا أن نضيف، على خلفية هذا الصراع الثقافي غير المعلَن تمامًا، أن الحاجة إلى تحديد الأخلاق أو إلى تحريرها يجب أن لا يلعب دورًا أساسيًّا، كما هي الحال هنا، في إثبات إمكانية المعرفة الكاملة أو لا. والحق أن نمط التفكير الأمريكي يرتبط، إلى حدٍّ كبير، بنمط معرفة أصولية تريد أن ترسم الكون وفق منظورها النفعي، إنما المحدَّد أصلاً في إطار أخلاقي موجَّه يمكن التحكُّم به.

يقدم واينبرغ حججًا أخرى في إطار نظرته: منها، مثلاً، أن الكيمياء، إذا بقيت علمًا مستقلاً حتى الآن، إلى حدٍّ ما، فذلك لأن الميكانيكا الكوانتية ومبدأ الجذب الكهرستاتيكي لا يكفيان لشرح الظاهرات الكيميائية شرحًا وافيًا. ويرد عليه ليفي–لوبلون أنه في مجال الكيمياء نفسه لا يكفي التفسير الفيزيائي حالما يصبح الجزيء المدروس معقدًا بدرجة معينة. وفي أفضل الأحوال يقوم الفيزيائي بعمل حساباته الخاصة بهذا الجزيء على الكومبيوتر. لكن هذه الحسابات لا تعطينا فكرة وافية عن حقيقة المسألة. فالفهم والتفسير يعنيان أن تكون لدينا معرفة عميقة بالآليات القائمة في قلب هذا التكوين. وكما قال أويغين فيغنر Eugene Wigner يومًا عندما قُدِّمَتْ له مثل هذه الحسابات التي كانت تصف سلوك منظومة كيميائية: "طيب، لقد فهم الكومبيوتر؛ لكنني أريد أنا أيضًا أن أفهم!" وينطبق ذلك على الفيزياء نفسها. فهناك الكثير من حالات الوصف للأجسام المجهرية، إنما غير الأولية، مثل نواة الذرة. إن التفاعلات الأولية بين العناصر التي تشكِّل النواة لا تفسِّر سلوكَها إلا تفسيرًا عامًّا. وعلى الرغم من النجاح الكبير لفيزياء القُسَيْمات الأولية، فلا يزال العلماء بحاجة إلى رصد ومهاجمة مختلف السويَّات المادية الدقيقة من أجل تدقيق وصفها ومعرفتها. فلا بدَّ لنا، في النهاية، من احترام هذه الاستقلالية أو الخصوصية، إن صح التعبير، لمختلف مظاهر الحقيقة. ولا شك أن الأمثلة تكون أوضح وأكثر بكثير إذا ما غُصْنا في تفاصيل العلاقات الفيزيائية البيولوجية للكائن الحي، أو إذا فتحنا ملفَّ العلاقات الإنسانية والاجتماعية.

يتهرب واينبرغ، بطريقة ليست فائقة الذكاء، من مثل هذه الأمثلة، وذلك بالتمييز الذي سبقه إليه أرسطو، بين ما هو مبدئي وما هو طارئ. لكن هل يمكن أن نعتبر أن لهذا التمييز قيمةً تفسيرية ما؟ من الواضح أنه يلائم حالات محددة فقط. فنحن لا نملك معايير تسمح لنا بالتأكيد أن مبدأ ما ليس هو نفسه نتيجة طارئة أو صدفة. وبالمثل، فإن قوانين، يمكن أن تبدو لنا طارئة، مثل قوانين الوراثة أو الجيولوجيا، لها أيضًا، على مستواها، قيمة مبدئية. فمفهوم "الصدفة" يستدعي نظرة نقدية، مثله كمثل مفهوم المبدأ. وكما يقول ليفي–لوبلون: "لسنا أكيدين من أنه يمكن الفصل فصلاً مطلقًا بين ما هو أساسي، أي ما يتعلق بالمبادئ، وما هو مركَّب ومعقد، أي ما يتعلق بالطارئ."

لكن واينبرغ يطرح، على الرغم من ذلك، في صالح مثل هذا التمييز، فكرةً لا يُستهان بها يسميها "ضباب الزمن". وهو يقول، فيما يتعلق بالصيغة الوراثية، أننا قد لا نعرف أبدًا لماذا هي على ما هي عليه، لأن أصلها يغيب في ضباب الزمن؛ أي أن أصولاً معرفية كثيرة ربما ضاعت في الماضي البعيد. لكن هذه الحجة مردودة في نظر ليفي–لوبلون. ويستشهد بريتشارد فاينمان الذي كان قد طرح مرة فكرة أن الانتظامات على المستوى ما تحت الذري، في فيزياء القُسَيْمات الدقيقة، يمكن أن تكون هي نفسها غير أولية ومركَّبة، بل نتيجة لتطور أكثر بدئية منها في ماضٍ لا يمكن ولوجه أبدًا: "نكتشف تناظرات رائعة في عالم القُسَيْمات هذا، وهو أمر جميل! ولكن لقد تطلَّب الأمر انتظار كبلر لكي يتبيَّن أن التناظرات الدائرية في مسارات الكواكب غير كاملة. فما الذي يؤكد لنا أن التناظرات في عالم القُسَيْمات الدقيقة ليست مركبة؟" ووفقًا لهذه الفكرة لفاينمان، يمكن القول، بالتالي، إن ما يعتبره واينبرغ الأكثر أساسية يمكن أن يكون طارئًا، ويغيب هو نفسه، بالتالي، في أصوله في "ضباب الزمن"!

لا شك أن الأمر الطارئ بامتياز، في النهاية – الأمر الطارئ الذي كان وراء كافة الأمور الطارئة الأخرى – كان ظهور الكون نفسه. إن واينبرغ وديفيس ومعظم الفيزيائيين يعتقدون أن الفيزياء الكوانتية ستكون قادرة على تفسير هذا الحادث. بالمقابل، يرى ليفي–لوبلون أننا لسنا في حاجة، من أجل تفسير هذه البداية، للفيزياء الكوانتية، ولا للزمن التخيُّلي الذي يطرحه هوكنغ Hawking، ولا لنظرية الأوتار الفائقة أو لنظرية التضخم الفائق. ففكرة بداية الكون طُرِحَتْ في الكوسمولوجيا التي ترجع إلى معادلات فريدمان–لوميتر في العشرينات. وهذه المعادلات تصف تطور الكون تِبعًا للزمن. ويمكن استخدام هذه المعادلات من أجل الرجوع بالزمن الحاضر إلى لحظة يمكننا تسميتها "الأصل"، ولكن حيث تتوقف هذه المعادلات عن كونها فاعلة وصحيحة؛ فالأمر يتعلق بفرادة رياضية. وهذا يعني أن هذه اللحظة الأولى ليست وحيدة؛ فهي لا تنتمي إلى محور الزمن.

من هنا يسجل ليفي–لوبلون دهشته لأن المقارنة لم تتم لهذه النقطة مع الصفر المطلق في الحرارة. فجميع الفيزيائيين يتفقون على أن هذا الصفر المطلق ليس من الحرارة؛ فهو صفر غير موجود، يمكننا الاقتراب منه بلا نهاية، إنما دون أن نستطيع بلوغه. فهذا الصفر المطلق هو، بالتالي، عدد مُنْتَهٍ، لكنه لامُنْتَهٍ من وجهة نظر تصورية. فلماذا لا يكون الأمر على هذا النحو بالنسبة لنقطة الصفر الكونية؟ من جهة أخرى، فإن نظرية التوسع الكوني تشتمل، ربما بشكل غير مباشر، على فكرة أن اللحظة الأولى من عمر الكون لم تكن واحدة؛ ومن هنا النتيجة بأنه لم يكن ثمة ما هو قبل الانفجار الكبير. وهكذا، مهما حاولنا، فلن نستطيع الوصول إلى لحظة الانفجار الكبير نفسها. إن سؤال الأصل هو سؤال سيئ الطرح؛ والسبب أننا نطرح تصورًا للزمن مرتبطًا بتجربتنا اليومية على مستوى مختلف تمامًا.

هذا لا يعني بالتأكيد أنه لا يمكن تمثيل البيغ بانغ Big Bang. فالشكلانية الرياضية تعطي مجالاً واسعًا لوضع بناءات مختلفة لتصورات بدئية كثيرة للكون. ومع ذلك، سيبقى هناك هذا الغموض المرتبط بأصل الكون. ويطرح ليفي–لوبلون مثالاً يشرح فيه هذه الفكرة: لنتخيل العالم الذي نحيا فيه أنه مستوي لانهائي، وأننا نحيا في برج لا نستطيع الخروج منه على هذا المستوي. ولهذا البرج نافذة ذات قضبان حديدية مشبكة. إن الضباب يغلِّف الأفق البعيد، لكننا نستطيع أن نرى ما يجري قرب البرج. والطريقة الوحيدة التي لدينا لقياس الأشياء هي قضبان النافذة. وملاحظة، مثلاً، أن حدَّيْ الطريق الموجود أسفل البرج يتقاربان كلما ابتعدا نحو البعيد، حتى يغيب الطريق في الضباب. وعندما ينزاح الضباب في أحد الأيام نلاحظ أن الطريق يصير نقطة في الأفق. ويمكن تحديد هذه النقطة تمامًا بفضل الإحداثيات المعتمدة على قضبان النافذة، بحيث ليس ثمة ما يمنع من اعتبار هذه النقطة أصل الطريق. ولكن يمكن أيضًا اعتبار أن هذه النقطة تقع على الأفق، وبالتالي في اللانهاية. وهذا المثل يبيِّن لنا أن درجة معينة من القياس يمكن أن تمثِّل، في الحقيقة، قياسًا لانهائيًّا. فالمسألة لا تتعلق بالفيزياء الكوانتية أو غيرها من أجل طرح ومعالجة مسألة الأصول.

مع ذلك، يبقى السؤال قائمًا: هل يمكن للفيزياء أن تفسِّر حادثة ظهور الكون والزمن والمكان والمادة إلخ؟ لا شك أن هذا السؤال ذو طبيعة ميتافيزيائية؛ بينما لا يمكن للفيزياء أن تجيب إلا بشكل فيزيائي. بعبارة أخرى، قد يأتي يوم تُطرَح فيه مفاهيم جديدة للزمان والمكان والمادة وغيرها، وتُطرَح نظريات جديدة حول أصول الكون؛ لكن الحديث عن ظهور الكون الطارئ، أو حتى الغائي، يبقى خارج نطاق الفيزياء. ولا شك أننا أصبحنا، خاصة مع فيزياء القرن العشرين، أسرى أكثر فأكثر لمصطلحاتنا. كان فيزيائيو القرن التاسع عشر أكثر فطنة وانتباهًا لهذه النقطة؛ في حين أن مصطلحات الفيزيائيين في القرن العشرين تتطلَّب منهم باستمرار تكريسَ وقت للتنبيه إلى ضرورة عدم الوقوع في خطأ الفهم. وهذا مصطلح الانفجار الكبير (البيغ بانغ) يُستخَدم استخدامًا خاطئًا، بحيث نجد العلماء ينبِّهون دائمًا: هذا المصطلح لا يعني أبدًا ما يمكن فهمه من كلماته! فما حصل ليس انفجارًا بالمعنى المعروف، ولم يحصل في مكان معطى ومحدَّد من الفراغ, ولا حتى في لحظة معطاة، إلخ.

إن الفيزياء، بهذا المعنى، لا تزال بعيدة حتى عن مجرَّد طرح فكرة النظرية الفيزيائية الكاملة. ولا بدَّ على الأقل من انتظار، ليس تطورًا في الفيزياء نفسها أو اكتشافات جديدة في حقول العلم فحسب، بل وحتى تطور في ذهنيَّتنا وأدمغتنا ونفسانيَّتنا لمواجهة مثل هذه المسألة من منظور أشمل وأعمق.

*** *** ***


[1] W. Pauli, Physique moderne et philosophie, Albin Michel, 1999, p. 152.

[2] J.-M. Lévy-Leblond, « Ce que n'explique pas la physique », entretien, La Recherche 349, janvier 2002, p. 87.

[3] P. Davies, « Avant le Big Bang », La Recherche 349, janvier 2002, p.32.

[4] B. Russel, “On the Notion of Cause,” Proceedings of the Aristotelian Society, vol. 13, 1912-1913.

[5] S. Weinberg, « La physique peut-elle tout expliquer ? », La Recherche, 349, janvier 2002, p. 25.

[6] C. Hempel & P. Oppenheim, Philosophy of Science, vol. 15, n° 135, 1948, p. 135.

[7] S. Weinberg, Facing Up: Science and Its Cultural Adversaries, Harvard University Press, 2001; S. Weinberg, Le Rêve d’une théorie ultime, Odile Jacob, 1997.

[8] J.-M. Lévy-Leblond, « Ce que n’explique pas la physique », La Recherche, 349, janvier 2002, p. 87.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود