من مسلم إلى المسيحيين في عيد الميلاد

كونوا ما أرادكم المسيح

 

القاضي محمد وسام المرتضى

 

أنا ابن جيل فُرِضَتْ عليه قناعاتُه، ومشاعرُه، ومخاوفُه، وهواجسُه، وانفعالاتُه، وأحاسيسُه. ولكوني نشأت في بيت مسلم صرف، وفي منطقة إسلامية صرف، وفي مدرسة إسلامية صرف، كان المسيحي بالنسبة إليَّ – أنا المسلم – هو ذلك "الآخر" الذي يهدِّدني في وجودي وفي كينونتي، هو الذي يخطفني ويذبحني ويقصفني، هو الغول غير الواضحة معالمه، الذي لم ألتقِ به أبدًا، الذي يرعبني مجرَّدُ التفكير فيه، الممتلئ شرًّا، البعيد كلَّ البعد عن أيِّ خير.

هكذا نشأت. وبعد الحرب، قصدتُ منطقتَه برفقة أحد الأصدقاء. وما إن وصلنا حتى بدأتْ ركبتاي تصطكان خوفًا. ومرَّتْ أيام، وظننتُ أن الوقت قد شَفى، إذ لم تعد ركبتاي تصطكان خوفًا؛ ولكن، مع أول تماس وحديث جديٍّ مع صديقة ما، في مناسبة ما، وجدتُ أن قلبي مازال يصطك كرهًا وحقدًا واحتقارًا لذلك "الآخر".

وتألمتُ – وفي الألم ما يشفي. وفي المسير، التقيتُ بالمسيحي عن مسافة قريبة جدًّا. وكان شفَّافًا معي، يُشرِكُني في مكنونات نفسه. وراقبتُ حركيَّته – وهو الملتزم – فوجدتُ فيه نموذجًا للإنسان العظيم؛ واكتشفتُ أن سرَّ عظمته يكمن في كونه ملتزمًا بالمسيح، ذائبًا في حبِّ الله، حريصًا على طاعة الله. ثم اكتشفتُ الأمر عينه في مسيحيين آخرين؛ فأدركت غفلتي، ووعيت أني كنت في كهف نفسيٍّ مظلم، سجنتْني فيه تراكماتُ الحرب، والأخبار، وحكايات الأهل، والقصف، والرعب.

ووعيتُ أني بقيت، بعد انتهاء الحرب، مصرًّا على أحكامي المسبَّقة، وعلى أن أبقى أسير ذلك السجن. ثم، بنعمة من الله، أدركتُ أنه لا محلَّ لإيمانٍ بالله مع انغلاق على إنسان يحب الله مثلما أحبه – أنا المسلم – ويلتزم طاعة الله ويفتش عن إرادته، تمامًا كما أفعل، إن لم يكن أكثر منِّي.

ونشأتْ صداقةٌ مع هؤلاء، وصاروا أقرب الناس إليَّ، بعد أن كانوا أبعد الناس عني: أصدقائي بحق، لا لأنهم أبناء مذهبي أو منطقتي أو زملاء مهنة أو لمصلحة، ولكن، ببساطة، لأنهم أصدقاء بحق، لأنهم صادقون. وهم صادقون لأنهم مؤمنون – مؤمنون على الطريقة المسيحية، لا يهمني. المهم أن إيمانهم يولِّد فيهم الصدق والخير والتواضع والرقة، ويجعلهم يعملون لِغَدٍ أفضل لمحيطهم، بدافع محبة الله وطاعته.

***

رسالة

يا إخوتي المسيحيين في هذا الوطن المعذَّب، المفتوح على القهر والفقر،

لا أتحدث كمسلم ينتقدكم. ولكن حديثي حديث المحب، المقدِّر، العارف والعالم بما يمكن للمسيحي أن يؤدِّيه، وما مؤهَّل له من دور.

أفهم المسيحية انتماءً إلى المسيح، وأعرف المسيح. أعرف أنه "هو الذي يستطيع أن يحدِّق في وجه الله ولا يخجل، لأن أحدًا من البشر لم يستطع أن ينسب إليه خطيئة. ولعله من القلة – إن لم يكن الوحيد – الذي نعرف كلماته، ولا نعرف مسافةً بينه وبينها..." (المطران جورج خضر، النهار، 25/12/93).

أعرف ذلك المسيح، وأعرف ما يمكن للشخص الذي يسكنُه المسيحُ أن يفعل. أعرف أكثر من شخص سَكَنَهم نورُه واجتاحهم حبُّه، فوضعوا أنفسهم على طريق يؤهِّلهم، هم بدورهم، إذا استقروا عليه، أن ينظروا إلى كلٍّ من وجهه ووجه الله، فلا يخجلون. يعرفون كلماتِه، ويترجمونها واقعًا في حياتهم؛ فلا مسافة بين هذه الكلمات ونمط عيشهم أو تفكيرهم أو أقوالهم أو أفعالهم.

أعرف أن مَن هو مثل هؤلاء، ممَّن يسكنهم نورُ المسيح وحبُّه وهَدْيُه، في استطاعته أن يفعل المعجزات – معجزات ترقى بأهميتها وبجدواها، لتماثل تلك التي أتاها معلِّمُه. في استطاعته أن يُحدِثَ شفاءً ليس كمثله شفاء؛ في استطاعته أن يكون – على حدِّ تعبير أحد الأصدقاء – "قنبلة ذرية من الخير"! يستطيع ذلك، إذا سمح فقط لفكر هذا المعلِّم أن يكون فكره هو، ولمنهج هذا المعلِّم أن يكون منهجه هو، ولحياة هذا المعلِّم أن تطبع ملامح حياته هو.

أن تكون مسيحيًّا يعني أن تنتمي إلى خطِّ المسيح، إلى طريقة الخير التي انتهجها، إلى منهج المحبة الذي ابتدعه، إلى سبيل الخلاص الذي أوْجَدَه – خير ومحبة وخلاص ليس لكَ فقط، أنتَ الذي تتبع هذا المنهج، أو لمحيطك المسيحي الذي هو من لونك، بل، قبل هذا وذاك، لمحيطك الإنساني، بكلِّ ألوانه وتشعباته، وأحيانًا "تعقيداته"، الذي يشمل، فيما يشمل، ذلك "الآخر" وهؤلاء "الغير".

أن تنتمي إلى المسيح يعني أن تكون أداة المسيح في ما يريد ويتمنى ويشاء. ولم يكن المسيح أبدًا ليرضى أن يكون لفئة دون أخرى، أو رجاءً لجماعة دون جماعة؛ بل كان، على ما جاء في النص القرآني الكريم، "آية للناس ورحمة" (سورة مريم، الآية 21)، أي لكلِّ الناس، دونما استثناء، خلاصًا لهم جميعهم، ورجاءً لكلِّهم.

إن المسيحي، الملتزمَ المسيحَ طريقًا ومنهجًا، مدعوٌّ أن يكون، على قدر قدرته ومؤهِّلاته، من حيث حضوره الاجتماعي والمهني أو مكتسباته الثقافية والمادية، عاملَ محبة في محيطه، مولِّدَ خير، محقِّقَ خلاص لِمَن حوله، مجاهدًا الظالمَ والفاسدَ والمستكبرَ والقاهرَ والفاسق، أيًّا يكن هذا، ولأية فئة انتمى، مناصرًا المظلومَ، ماسحًا دمعةَ المسكين، معزيًّا المقهورَ، آخذًا بيد الضعيف، أيًّا يكن هذا، ولأية فئة انتمى.

إن المسيحي، الملتزمَ المسيحَ طريقًا ومنهجًا، مدعوٌّ أن يرذل التعصب والغرائزية والتقوقع والخوف والكره والعنف والظلم والاستكبار والتشاؤم والأنانية والتعجرف والانحلال – وإلا كان في خطٍّ آخر، المسيحُ منه براء، وعلى منهج آخر، يتجافى مع رسالة المعلِّم، ويتناقض، إلى حدِّ الاصطدام، مع طرحه، ويلوِّث، إلى حدِّ التشويه، مشيئته، ويؤلمه، ويظلمه، ويصلبه.

إن المسيحي، الملتزمَ المسيحَ طريقًا ومنهجًا، مدعوٌّ لأن يكون تمامًا كما لو كان هو المعلِّم. أوليس كلامًا حقًّا هو القول: "أنا من أهوى ومن أهوى أنا؟" (الحلاج)

ألا يستطيع الملتزم بالنهج أن يترجمه واقعًا؟ ألا يمكننا، نحن البشر، أن نتقمَّص شخصية من ندَّعي انتماءنا إلى منهجهم؟ كيف أدَّعي حبَّ المسيح واتِّباعه، ولا أتصرف، على محدوديَّتي، مثلما كان ليتصرَّف هو، لو كان مكاني وفي ظروفي؟ أعصيٌّ ذلك عليَّ؟ أما أنا هو المقصِّر والعاصي؟ ألا تنطبق عليَّ الآيتان الكريمتان، الأولى القرآنية والأخرى الإنجيلية: "يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون؟ كَبُرَ مُقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون" (سورة الصف، الآية 2). "هذا الشعب يكرِّمني بشفتيه، وأما قلوبهم فبعيدة عنِّي جدًّا. فَهُمْ باطلاً يعبدونني." (متى 15: 8-9). ألم يقل المسيح: "أنتم أحبائي إن فعلتُم ما أوصيكم به"؟ ألا يعني ذلك أن حبَّه لأتباعه، وتاليًا رضاه عنهم، مرهون بأن يعملوا بوصاياه؟

ماذا يعني ما وَرَدَ في الجزء الأول من الإرشاد الرسولي من أنه على الكاثوليك أن يصلُّوا ويتوبوا ويهتدوا؟ هل يعني ذلك أنهم – وهم الذين يظنون أنفسهم على الصراط المستقيم – قد يكونون على بعض التديُّن أو الكثير منه، وقد يمارسون دينيًّا، ولكن ينقصهم الإيمانُ الفاعلُ الذي عبَّر عنه البابا بالتوبة والاهتداء؟

أأريدُ أن أنتمي إلى دين، إلى قبيلة، لا لشيء إلا لكي أؤمِّن حضورًا لي في وجه "الآخر"؟ أم أريد إيمانًا أنفتح معه على "كلمة الله وروحه"، كما وصف القرآنُ المسيحَ، وعلى وصاياه وسيرته ورسالته، التي تجعلني على صلة مع الله، منفتحًا عليه، ومن خلاله، منفتحًا على جميع البشر؟

***

ميلاد المسيح ووحدة المسلمين والمسيحيين فيه

السلام يوم وُلِدَ ويوم يُبعَث – أقولها على الطريقة القرآنية – وميلاده هو البشرى. فلنتأمل فيه وفي ميلاده، ولتكن فاتحة "عهد جديد"، يعي معها المسيحيون مفترَضات انتمائهم إلى منهج المعلِّم، ليساعدوا المسلمين على إيقاظ روح المسيح، التي يختزنها الإسلام بدوره، من سباتها.

فالمسيحية والإسلام، وإن كانا على اختلاف على تفاصيل تتعلق بذات المسيح وحيثيات مغادرته عالمنا الأرضي، إلا أنهما يتفقان، إلى حدٍّ بعيد، على المسيح الرسالة، والمسيح المنهج، والمسيح المشيئة، والمسيح الرؤيا. وما ينفعنا، نحن البشر، هو ذلك الذي تتفق المسيحيةُ والإسلامُ عليه. أما الآخر مما يختلفان فيه فلا يؤول علينا الجدلُ فيه بأيِّ نفع على صعيد ما تحتاجه حياتُنا على هذه الأرض. كما أن المسيح، في عليائه، ما كان ليتوقف عند هذا الاختلاف، بل كان ليأخذ علينا توقفَنا عنده واتخاذَنا إياه حاجزًا نفسيًّا يشلُّنا عن التعاون والبِرِّ. "فالمسيحية والإسلام إيمان واحد تجسَّد في دينين مختلفين." لا يرضى إيمانُهما الواحد هذا أن يتصارعا، ولا يقبل إلا أن يتحاورا ويتعاونا ويتكاملا، على هَدْي ما وَرَدَ في هذه الآيات: "يا أيها الناس، إنَّا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتَعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم" (سورة الحجرات، الآية 13)؛ و"لكلِّ وجهة هو مولِّيها، فاستبقوا الخيرات" (سورة البقرة، الآية 148)؛ "وتعاونوا على البِرِّ والتقوى، ولا تَعاونوا على الإثم والعدوان" (سورة المائدة، الآية 2).

"المسيحية المُتَصَهْيِنَة" و"الإسلام المُتَمَسْيِح"

سمعنا أخيرًا عن نماء لـ"مسيحية مُتَصَهْيِنَة" في أمريكا، تحمل لواء الصهيونية، بما له من مدلولات ظلم وانحراف واستكبار وعنصرية. والمفارقة أن نموَّ هذه الحركة متزامن مع ما هو الإسلام تحت وطأته: تشويهًا، من خارجه، لقيمه الأخلاقية والإنسانية ولدوره الرسالي الحضاري، وانقلابًا، من داخله، دينًا بلا إيمان، كما هو واضح في نماذج عدة، مطبوعًا بعصبية متحجِّرة، مقتصرًا على الاكتفاء ببعض العبادات الخارجية، العارية عن أيِّ مضمون روحي – هذا عدا عن حالات انقلبَ فيها التديُّنُ رياءً يُستعمَل لمصلحة ذاتية أو فئوية.

ولربما كان المطلوب، أمام هذا الوضع، وردًّا على تلك الحركة، "إسلامًا مُتَمَسْيِحًا" – إن صحَّ التعبير – مع الفرق أن الصهيونية غريبة كليًّا عن المسيحية، وهذه من الأولى براء، فتكون تركيبتُهما تركيبة المتنافر المتضاد؛ في حين أن الإسلام يختزن قيم المسيح كلَّها. فيكون الأمر هنا بمثابة انبعاث لهذه القيم، وإحياء وإيقاظ لها من سباتها العميق الذي أراد لها الشرُّ، من خلال إسقاط إنسانية الإنسان في غياهب الظلمات، أن تغطَّ فيه، لتخلو له الساحة، أو ليفرض حضورَه فرضًا بحجة التداعيات، ليعيث في الأرض فسادًا.

***

ويا إخوتي المسيحيين،

كونوا كما أرادكم المسيح. كونوا، إلى آخر الحدود، رُسُلَ المحبة – هذه "... التي تصفح عن كلِّ شيء وتصبر وتخدم ولا تحسد ولا تتباهى ولا تنتفخ في الكبرياء... ولا تسعى إلى منفعتها... وتتحمل كلَّ شيء" (1 كو 13: 4-7).

كونوا اللطفاء، المستقيمين، الرحومين، المتواضعين، الرؤوفين، فتحملوا بذلك الآخر – أي المسلم – حَمْلاً على أن يحبَّكم، وعلى أن يفرح بكم، فيجدكم، بنعمة من الله، أقرب الناس إليه، وتجدوه، بنعمة من الله، أقرب الناس إليكم، وتنتفي ظلمةُ الغربة عن العلاقة بينكم وبينه، وتساعدوه على أن ينبعث فيه ما يختزنه إيمانُه من قيم روحية سامية، مرتفعين وإياه إلى فضاء المحبة والرحمة والعدل والسَّماح، إلى الآفاق التي أراد لنا المسيح أن نحلِّق فيها وأن نقطف من ثمراتها. كونوا على ذلك النحو لتساعدوا في نشأة الوطن الجديد الذي "الله وحده ربُّه إذا كان ربَّ القلوب" (المطران جورج خضر).

وفي الختام، آيتان وَرَدَتا في القرآن دعاءً، الأولى عن المسيح، وبلسانه، تقول: "السلام عليَّ يوم ولدتُ ويوم أموتُ ويوم أُبعَثُ حيَّا"؛ والثانية، عن متعطِّشين للهَدْي والهُدى، وبلسانهم، تقول: "ربَّنا، إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان، أن آمنوا بربِّكم، فآمنَّا، ربَّنا فاغفر لنا ذنوبنا، وكفِّر عنَّا سيئاتنا، وتوفَّنا مع الأبرار" (سورة آل عمران، الآية 193).

عسى، بحقِّ ذكرى الميلاد، أن يُقبَلَ الدعاء، ويُرفَع البلاء، وتنفتح القلوب، وتستنير العقول، وتُبنى الجسور.

*** *** ***

عن النهار، الأحد 22 كانون الأول 2002

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود