الخيميائي

مقدِّمة التَّرجَمة نصفُها مسروق!

 

يوسف سامي اليوسف

 

كثيرًا ما حثَّني بعض الأصدقاء على مطالعة رواية الخيميائي للكاتب البرازيلي باولو كويليو، ولاسيما يوم باشرت بتأليف كتاب مخصَّص للفنِّ الروائي، وذلك قبل ثلاث سنين تقريبًا.[1] ولسوء الحظ، لم تقع تلك الرواية في يدي إلا مؤخرًا. إذ لقد حصلتُ على نسخة ترجمتْها السيدة لمى إسماعيل، وهي من الطبعة الثانية الصادرة في العام 2001؛ ولا أدري متى صدرت الطبعة الأولى.

غلاف الترجمة ذات المقدمة نصف المسروقة

وعلى أية حال، فقد أخذت الكتابُ إلى البيت مسرورًا بحصولي عليه في نهاية المطاف، وفتحته لأقرأه، فوجدت أن له مقدمة طويلة بعض الشيء؛ وهي بقلم شخص سمَّى نفسه باسم "الناشر"، ووقَّع في نهاية المقدمة على هذا النحو: "الناشر، دار سمير سلمون". ولا يدري المرء ما إذا كانت هنالك دار بهذا الاسم فعلاً، أم هي مجرد شيء خُلَّبي لا يتمتع بأيِّ وجود عيني. ويبدو أن "الناشر" ما كتم نفسه إلا لأنه نوى نيَّة سيئة!

وبدأتُ بتلك المقدمة مندفعًا ومتوقعًا أن أصادف شيئًا ذا بال. ولكنني فوجئت – بل صُدِمْتُ – حين شاهدت نصًّا كبيرًا مأخوذًا منِّي، دون أيِّ تغيير، ومعروضًا في وسط هذه المقدمة نفسها. ويقع هذا النص المسروق في الصفحة الثالثة عشرة، ابتداءً من السطر الثامن، ويستمر حتى نهاية السطر السادس عشر من الصفحة التالية، التي هي الصفحة الرابعة عشرة. وهو يبدأ على هذا النحو: "إن الحضارة الفرعونية تنبثق من رعشة الموت أو وجدان التناهي...".

في هذا النصِّ، أردُّ على الفيلسوف الدنمركي سورِن كيركغور، الذي يذهب إلى أن السأم هو باني الحضارات، بينما أذهب أنا إلى أن في الإنسان غريزة يسعك أن تسميها "غريزة التصدي للعدم والموت والزوال"، وأن هذه الغريزة هي التي بَنَت الحضارات، ولاسيما الصروح المعمارية الكبرى التي بناها الإنسان على الأرض، وخاصة الأهرام. إن الإنسان يجابه العدم بالإنشاء، ويتفوَّق على التدمير بالتعمير.

ولقد بلغتُ إلى هذه الفكرة بعدما أوغلتُ في الاطلاع على تاريخ مصر الفرعونية، وكذلك على الحضارة الفرعونية، التي أعتقد جازمًا بأنها أعظم حضارة بناها الإنسان طوال القرون الخمسين الأخيرة التي تشكِّل التاريخ البشري؛ وكذلك بعدما ترجمتُ كتاب الديانة الفرعونية للسير والِس بَدْج في السنة 1985، وكتبت له مقدمة ضافية، مدارُها على ماهية الحضارة الفرعونية والشخصية الفرعونية.[2] وأظن أنني لم أكتب في حياتي كلِّها نصًّا أجْوَد من تلك المقدمة التي مازالت طازجة حتى اليوم؛ كما أنني مازلت أطالِعها بين الفينة والفينة للاستمتاع بها وبلغتها الصافية. وكثيرًا ما قارنتُ في بعض مقالاتي بين الريازة الفرعونية والريازة الإغريقية، وكذلك بينها وبين الريازة البابلية، ثم الهندية التي أحسبها إنجازًا حضاريًّا عظيم المقدار.

إذن، راح "الناشر" ينتحل جهودي وينسبها لنفسه! وفي الحقِّ أن النصَّ المنتحَل لا يناسب فجاجتَه وقلَّةَ خبرته أو درايته بالكتابة، التي هي اختصاص، مثل الطبِّ الجراحي أو مثل الطيران. ولهذا فقد ظهر وكأنه حفيد صغير، راح يلبس عباءة جدِّه التي جاءت كبيرة عليه إلى حدٍّ هزلي!

فممَّا هو ظاهرة من ظواهر البرهة الراهنة أن ثمة أعدادًا كبيرة من الأمِّيين لا تطيق رسوخَها في الأمِّية؛ ولهذا، فإنها تحاول – بطُرُق احتيالية – أن تظهر بمظهر المثقَّفين. وهذه علامة من علائم انحطاط العالم الحديث. يقينًا، إن الأمِّيين الذين يحاولون أن يصبحوا كتَّابًا في هذه الآونة هم من الكثرة بحيث لا يحصيهم التعداد. وكلُّهم يجهلون ما فحواه أن الكتابة موهبة بالدرجة الأولى، ومثابرة بالدرجة الثانية. فمن لم يولد كاتبًا لن يصبح كذلك أبدًا، حتى ولو سَرَقَ تراث البشرية كلَّه!

***

ومما هو مثير للتقزز أن أمر الانتحال لم يتوقف عند هذا الحد. إذ لقد تابعتُ القراءة، كي أتفاجأ بمسروق آخر أُخِذَ منِّي. وهو يقع في أواخر الصفحة السابعة عشرة؛ أو قُلْ إنه يبدأ مع بداية السطر العشرين منها، وينتهي بانتهاء السطر الخامس من الصفحة التالية. وللحقِّ أن هذا المسروق الثاني قد خضع لتغيير طفيف في السطر الثاني والعشرين من الصفحة السابعة عشرة، وذلك ليسمح لعنوان الرواية التي يقدَّم لها بالدخول إلى السياق. ومدار هذا المسروق الثاني على فكرة مؤدَّاها أن النصَّ الأدبي كثيرًا ما يجيء بمثابة سياحة في داخل أقاليم الذات، الأمر الذي من شأنه أن يؤسِّس حُكْم القيمة على الجَوَّانية، أي على الذاتية أو على الداخلية.

ثم شعرت بأن الأمر ما عاد يطاق حينما رأيت مسروقًا ثالثًا، أُخِذَ منِّي بحذافيره أيضًا؛ وهو يغطِّي جميع سطور الصفحة الأخيرة في المقدمة. أما مدارُه فعلى التأويل الذي من شأنه أن يستنفر المُضْمَرات ويكشف المستورات الراخمة في مطاوي النصِّ الأدبي.

وإني لجازم بأن هنالك مسروقًا رابعًا، ولكنه ليس منِّي هذه المرة، بل من كاتب آخر لا أعرف اسمه. وهو يبدأ مع بداية السطر العشرين من الصفحة العشرين، وينتهي بنهاية السطر الثالث عشر من الصفحة التالية. ولقد عرفت أنه مسروق، لأن أسلوبه، بل جملة صيغته تختلف اختلافًا ماهويًّا عن بقية صفحات المقدمة. ومدار هذا النص الهادئ على الحب؛ وهو مكتوب بطريقة توحي بالحكمة والحيوية والرزانة وبالقدرة على التفكير الإنساني الأصيل.

ولست متأكدًا مما إذا كانت هنالك مسروقات أخرى في تلك المقدمة الشبيهة بكشكول المتسوِّلين! ولكن ما هو شديد النصوع أن "الناشر" غرٌّ وحديث عهد بالكتابة؛ بل هو غرٌّ حتى في تجربة السرقة نفسها! إذ إن لي خبرة طويلة بعشرات اللصوص الذين سرقوا مني حصرًا، ولكنهم كانوا جميعًا أخبث من أن يرتكبوا مثل هذه الحماقة التي لا يُقدِمُ عليها إلا مَن هو مصاب بضمور العقل. فمثل هذه السرقة المباشرة، التي هي نقل حرفي من موضع إلى آخر، لا بدَّ لها من أن تنكشف ذات يوم – وإن طال الزمن. وها هي ذي قد انكشفت بالفعل. ما ذا، ألن يخجل السارق، مع أنه قد ضُبِطَ بالجرم المشهود؟!

ومن الغرائب أن يسمح "الناشر" لنفسه بالإقدام على مثل هذا العمل الشائن الذي من شأنه أن يسيء كثيرًا لداره (إن كانت هنالك دار!)، وأن يشوِّه سمعتها، ويضرَّ بمصلحتها، ويؤثر سلبيًّا على مستقبلها؛ إذ إنه سوف يدفع الناس إلى عدم الثقة بها بعد اليوم. ولهذا، فإنني أنصح له بأن يكفَّ عن مثل هذه الأفعال، ثم أطالبه بأن يحذف جميع المسروقات من المقدمة في الطبعة الآتية.

ويبدو أن "الناشر " مغمى عليه فعلاً! وما ذاك إلا لأنه لم يفطن إلى أن تلك السرقات ما كان لها لزوم بتاتًا. فهي لم تسهم – ولو بما يعادل قلامة ظفر – في ترويج تلك الرواية الرائجة بطبيعة حالها. وبما أنه لم يذكر اسمه صراحة على المقدمة، فهو لم يستفدْ منها؛ إذ ما من أحد سوف يقول إنه "مثقف كبير"، لأنه ما من أحد يعرف اسم ذلك "الناشر". وإن الأفكار التي سرقها إنما نَسَبَها إلى مجهول؛ وهذا دليل على أن عقله ليس سليمًا بأيِّ حال من الأحوال!

ولو كان "الناشر" يتمتَّع بذهن حاضر، لَما وَثَبَ من الحديث عن أراغون وإلْزا إلى الحديث عن "التأويل" في نهاية مقدمته هذه؛ أي لَما أقحم هذا المسروق الأخير على المقدمة وخَتَمَها به. فلا يدري المرء ما شأن التأويل في هذا المقام، أو لماذا أقحمه على نحو مصطنع، بحيث ظلَّ ناشزًا ومجانيًّا وملصقًا بالمقدمة إلصاقًا، دون أن تكون له أية وظيفة. ومثل هذا الفعل هو برهان حاسم على أن "الناشر" غرٌّ – بل أرعن – ولا يعرف حتى أبجدية الكتابة!

***

لو كان "الناشر" خبيرًا بـ"التأويل" لفطن إلى أن "الجميزة" التي كان الكنز تحتها، والتي نبتت في الكنيسة المهجورة، هي شيء وثيق الصلة بالجميزة التي رأى فيها موسى ملاك الربِّ حين كان في جبل حوريب (وهذا خبر مذكور في الإصحاح الثالث من "سفر الخروج" في التوراة). ولو كان خبيرًا بالتأويل لَفَطِنَ إلى أن "الكنيسة المهجورة" نفسها هي رمز للدين الذي هَجَرَه الغربيون حتى بات مجرَّد طَلَلٍ عندهم. أما "الأهرام" في هذا النصِّ فتؤشر إلى عظمة الأزمنة الغابرة التي حلَّ محلَّها يباسٌ رملي أو صحراوي في الزمن الحديث. وربما أومأت إلى الشرق، رمز الأديان، وليس إلى "الجهة التي يأتي منها البرابرة"، كما قيل للراعي. وحتى الرحلة التي قام بها من الغرب إلى الشرق هي رحلة باتجاه النور الذي اتخذتْه الأديانُ نفسُها رمزًا للدين والاستنارة الروحية.

أما "الصحراء" التي سافر فيها سانتياغو، فهي إشارة إلى "الأرض اليباب" التي تحدث عنها ت.س. إليوت في قصيدته المشهورة: إنها رمز لعالم قاحل أصيب باللعنة. ولعل مما هو ناصع تمامًا أن كاتب الرواية نفسه يتبنَّى فكرة إليوت التي تتلَّخص في أن البشرية لا مخرج لها من أزمتها الراهنة – أزمة انعدام المعنى – إلا بالإنابة إلى دين الروح. لقد عاد سانتياغو من الشرق – ينبوع النور والاستنارة الروحية – إلى الكنيسة المهدَّمة، فوجد كنزه فيها، أي وجد الفحوى الذي سوف يخلِّصه من خواء روحه وقحلها وشعورها بعبث وجودها وافتقاره إلى المعنى.

فمما هو بيِّن تمامًا أنها "رواية خلاص"؛ أي إنها مسيحية في صميم قوامها الحيِّ دونما لبس. ثم إن طابعها التوراتي–الإنجيلي لا يخفى إلا على الأغبياء. فـ"القطيع"، مثلاً، هو مصطلح ديني معروف ومستمد من العهد الجديد؛ وهو يرمز إلى الجنس البشري الذي يبحث عن خلاص من هذا الشقاء المنداح بين القطب الشمالي والقطب الجنوبي. وهو شقاء صنعتْه الصناعة، أو حضارة السخام والإيدز، فلوثت البيئة وجعلت الحروب أكثر همجية من حروب المغول والتتار. إن "الراعي" و"القطيع" و"الخروف" هي مفردات وثيقة الصلة بالديانة المسيحية.

أما "الخيميائي" نفسه، فهو إيماء إلى أن العالم الحديث في حاجة إلى رجال عمالقة من شأنهم أن يحوِّلوا الرمل إلى ذهب، أي أن يحيلوا هذا البؤس العالمي إلى سعادة كلِّية، أو أن يستخلصوا الإنسان من أشداق التصحُّر الروحي قبل التصحُّر المادي.

وبذلك يتضح ما فحواه أن الرواية هي ملغمة من الرموز المتشابكة التي تحتاج إلى تحليل وتأويل. ولقد كان على "الناشر" أن يفسِّر الرواية، أو أن يؤوِّلها، بدلاً من أن يختلس جهود الآخرين وينتحلها، دون أن يحصل على أيِّ طائل: إن مقدمته الملفَّقة لم تشرح الرواية بتاتًا، ولم تمهِّد لقراءتها أو لِفَهْمِ ما يندرج في عقرها من مُضمَرات.

***

حينما انتهيت من مطالعة الخيميائي التي ترجمتْها السيدة لمى إسماعيل، تساءلتُ: أهذه هي الرواية التي نُقِلَتْ إلى خمس وأربعين لغة؟! إنها لا تستحق مثل هذا المجد الرفيع! ولكنني غيرتُ رأيي تمامًا حين قرأتُ الرواية نفسها عبر الترجمة التي قدَّمها بهاء طاهر. إنها حقًّا رواية جيدة. فلا ريب في أن ترجمة السيدة إسماعيل الهزيلة، المترعة بالأغلاط اللغوية، والمكتوبة بأسلوب مُضَعْضَع البنيان، قد أساءت للنصِّ الأصلي أيَّما إساءة. وما من شيء يشفع لها سوى أن تكون قد جاءت إلى الوجود قبل الترجمة الجيدة التي أنجزها بهاء طاهر في السنة 1996.[3]

غلاف الترجمة الصادرة عن دار الأزمنة الحديثة

غلاف الترجمة الصادرة عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر

وهنالك فرق شاسع البون بين المقدمة التي كَتَبَها ذلك الروائي المصري لترجمته وبين هذه المقدمة الملفَّقة التي كَتَبَها "الناشر". ففي الحقِّ أن بهاء طاهر قد وضَّح الرواية أو قرَّبها إلى الأذهان بأسلوب مباشر بسيط. ولا يدري المرء لماذا عَمَدَ "الناشر" إلى التعقيد دون أن ينجز أيَّ نفع على الإطلاق! ففي الحقِّ أن نهجه الانتحالي أو اللصوصي عديم الجدوى لأنه عديم الصلة بنصِّ الرواية نفسه.

***

ينبغي ألا يتساهل أحد مع هذه الطفيليات التي تعيش على حساب سواها من الكتَّاب، وتنتحل من النصوص ما تشاء دون أن يختلج لها ضمير. إذ لا يجوز أن نسمح للعاطل بأن يزدرد نتاج الفاعل، وبأن يحيل فعل الكتابة إلى مسخرة لا تستحق إلا الهزء والازدراء، بدلاً من التوقير والاحترام.

ومن مألوف عادة هذه الأشنيات الطفيلية الهامشية أن تلجأ إلى الصراخ والعربدة حين يُفتضَح أمرُها، وذلك بدلاً من أن تلوذ بالصمت وتشعر بالحياء والتبكيت. إن الإنسان الطيب يخجل، ولكنه لا يخاف؛ أما نقيضه الخبيث فكائن يخاف، ولكنه لا يخجل. ومع ذلك، فإن على الناس ألا يتنازلوا لهذه الطفيليات عن أيِّ شيء، مهما يَكُ طفيفًا. ولَكَمْ أصاب رسول الله (ص) حين قال: "قلة الحياء كفر."

وعلى أية حال، فإن ما أريده هو هذا: يجب على "الناشر" أن يتعهد لي بأنه سوف يشير إلى المصادر التي أخذ منها المسروقات الأربعة في الطبعة القادمة من الرواية. والأفضل أن يحذفها كليًّا من المقدمة. وإذا لم يفعل ذلك، فإنني سوف أحيل المشكلة إلى القضاء ليفصل بين الحقِّ والباطل.

*** *** ***

تنضيد: نبيل سلامة


[1] راجع: يوسف سامي اليوسف، مقال في الرواية، دار كنعان، دمشق، 2002. (المحرِّر)

[2] راجع هذه المقدمة في معابر، الإصدار الحادي عشر، باب "كتب وقراءات". (المحرِّر)

[3] الواقع أننا اطَّلعنا على أربع ترجمات للكتاب متوفرة بالعربية على الأقل. (المحرِّر)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود