|
بين الانفتاح
والانغلاق قراءة نقدية في
التراث المسيحي يقول إلياس خوري في
روايته مملكة الغرباء ما معناه إننا لا
نكتب حكايةً ما لم تكن قد كُتِبَتْ من قبل. في
هذا المعنى، كلُّ قصة فهي استعادة ما، هي
إعادة رواية. نحن نعيش في الحكايات؛ ولا أعتقد
أننا نستطيع تصور العالم من دونها. ولعل إحدى
أبرز مشكلات عصرنا تكمن في أن كثرًا منَّا
باتوا مقتنعين، في التربية مثلاً، بأن
التكنولوجيا ضرورية أكثر من الحكايات. لماذا إيراد فكرة
كهذه في مستهلِّ هذه القراءة؟ إذا كان ما
يقوله إلياس خوري صحيحًا، يصبح التاريخ، في
آخر المطاف، – إذا جرَّدنا كتابتَه من كلِّ
ما يجب أن يرافقها من صرامة واحترام للمناهج
العلمية (وهذا طبعًا غير ممكن، اللهم إلا
نظريًّا) – إعادةَ سَرْدِ حكايات قُصَّتْ
وكُتِبَتْ في ما مضى وكتابةٍ مكرَّرة لها، في
شكل أو في آخر. لعبة الكتابة التاريخية، إذًا،
هي لعبة إعادة التوليف، إعادة السرد، إعادة
رواية الأحداث من زوايا أخرى، وبتركيزات
مختلفة. أهمية ملاحظة كهذه
بخصوص موضوع التراث بين الانفتاح والانغلاق
تقوم في أن ثمة أساليب كتابة للتاريخ غائبة
كليًّا – أو تكاد أن تغيب – عن موروثنا
وحاضرنا الثقافيين. على هذا المستوى، نحن في
حاجة إلى إعادة قراءة التاريخ الكنسي وكتابته
انطلاقًا من زاوية الانغلاق والانفتاح.
بكلمات أخرى، نحن نحتاج إلى كتابة تاريخ
لجدلية الانغلاق والانفتاح في التراث –
وأذكِّر أن التراث يتضمن، في جملة ما يتضمن،
كلَّ معطيات تطورنا النفسي والمجتمعي في
الماضيين البعيد والقريب – كما نكتب تاريخ
الفكر المسيحي والبُنى الكنسية والفنَّ
المقدس. إن كتابة من هذا
النوع ضرورية، أولاً، لنتعرف إلى هذا التاريخ:
فنحن كثيرًا ما نواجه الحاضر بجهلنا التاريخ
جهلاً مدقعًا. فضلاً عن ذلك، إن إعادة قراءة
التاريخ من زوايا غير اعتيادية كفيلة بأن
تكشف لنا أبعادًا جديدة في ماضينا، وتاليًا
في حاضرنا. ولكن ثمة ما يضاهي المذكور أهمية.
نحن نعيد قراءة التاريخ وكتابته حتى ننزع عن
الماضي طابعه الميثيَّ (نسبة إلى ميثة[1]
myth) ونتعامل معه في
هدوء ورويَّة. إذ غالبًا ما نُفْرِط في تمجيد
ماضينا أو في احتقاره، أو نسعى إلى إبراز بعض
جوانبه دون الأخرى، أو إلى طَمْسِ ما نعتبره
غير متناسب وصورتنا الحالية. هذه المساهمة إنْ هي
إلا قطرة صغيرة في بحر هذه المهمة. فقراءة بعض
محطات الماضي هنا لا يمكن لها أن تكون إلا
انتقائية وسريعة وعمومية. بيد أني، على الرغم
من هذا، لن أحاول مرورًا "محايدًا" على
بعض الماضي – وهذا، في رأيي، غير ممكن أساسًا
– بل أتوسل أيضًا شيئًا من قراءة له تقويمية،
محاولاً الخلوص إلى استنتاجات تخص الحاضر
والمستقبل، لا من باب برمجة الأخْيَريْن، بل
بغية طرح بعض الأفكار على بساط النقاش، عسى أن
يسهم الحوار في شأنها في صنعهما. ولكن قبل
الانتقال إلى مقاربة الماضي، لا بدَّ من
التوغل خطوة أبعد في بحث جدلية الانفتاح
والانغلاق في التراث. جدلية
الانغلاق والانفتاح في التراث هل التراث المسيحي
منفتح أم منغلق؟ يزيَّن لي أنه يمكن إيضاح بعض
الرهان الذي يطرحه هذا السؤال عبر المثل
الآتي: لقد دخل كاتب هذه السطور مرة في نقاش مع
أحدهم عما إذا كانت القيم الإنسانية
المعاصرة، كحرية الفرد وكرامته والمساواة
بين المرأة والرجل وغيرها، بنات عصر "الأنوار"
أم هي منتَج الحضارة المسيحية. كان الكاتب يصر
على عدم انبثاق هذه القيم من المسيحية، بل من
تيار إنساني كان ينحو باللائمة على مسيحية ما
بعد عصر النهضة، فيما راح محدِّثُه يشدِّد
على تأصُّل هذه القيم في الموروث المسيحي أو
في بعضه. هل ثمة من حلٍّ لهذه المعضلة؟ طبعًا،
بعد أن تمثَّلت المسيحية اليوم – ولاسيما
الغربية – إرث عصر التنوير في معظمه، لا أسهل
من أن تدَّعي لنفسها أن تكون مصدر هذا الإرث،
وخصوصًا أن في النصوص التأسيسية المسيحية
كثيرًا من العناصر التي يمكن تأويلها على
أنها متطابقة مع ما أتت به "الأنوار". ولكن ماذا عن العناصر
التي المسيحية في ضيق معها إلى اليوم؟ قبول
المثلية الجنسية homosexuality،
مثلاً، بات يُعتبَر في عدد من المجتمعات
الأوروبية اليوم جزءًا لا يتجزأ من الاعتراف
بحرية الفرد التي توسَّع مفهومُها، بذلك،
ليشمل حرية الخيار الجنسي، بما فيها حرية
اختيار الشريك الآخر، ذكرًا كان أم أنثى. ومن
نافل القول إن المثلية الجنسية لا تزال
مرفوضة أو مكروهة أو مستهجَنة في عدد لا
يستهان به من الأوساط الدينية المسيحية وفي
مجتمعات كثيرة ذات ثقافة مسيحية. من جهة أخرى،
لا يسعنا إنكار أن عددًا من القيم الإنسانية
الحديثة قائم فعلاً، ولو في شكل برعمي أو
جنيني، في النصوص المسيحية ذات الطابع
المرجعي. يزيَّن لي أننا لا
نستطيع التوصل إلى حلٍّ لهذه المعضلة ما لم
نأخذ في الاعتبار البُعد التأويلي hermeneutics؛ وهذا يعبِّر
عنه أبلغ تعبير ما سمعتُه مرة من السيد هاني
فحص في أثناء حديث له في جامعة البلمند، إذ
قال مصيبًا إن الاجتهاد يجب أن يلحق
بالحياة، لا العكس. تطور المجتمع، إذًا، –
وأعني هنا تطور الثقافة في معناها الواسع –
يفضي إلى تطور الأساليب التأويلية؛ ووحده هذا
التطور يكشف لنا أبعادًا جديدة في النصوص
التأسيسية كانت خافية على المفسِّرين من
أسلافنا، وذلك من دون الوقوع في المفاضلة بين
تفاسير الحاضر. هل هذا يفضي بنا إلى
الاستنتاج أن لا "جوهر" للأديان؟ –
وتاليًا لا جوهر للمسيحية. طبعًا، ثمة معطيات
"ثابتة" في المسيحية؛ أي أنها تبدو لنا
غير متغيرة، على الرغم من تعاقب العصور وعمل
التاريخ. ولكن، حتى الثابت – إذا أقررنا
بوجوده – هو في تداخُل وتشابُك مع متحرِّك
التاريخ والمجتمع ومتغيِّرهما. الثابت يخضع،
في كلِّ حقبة زمنية، لإعادة القراءة والتأويل
والترجمة، إذا جاز التعبير. التراث، تاليًا،
ليس قطعة جامدة: فحتى في أكثر البُنى
المجتمعية جمودًا، يمكن لنا رَصْدُ ضربٍ من
التغير، الذي يفسَّر بوصفه محافَظة على
الأصول وأمانة لها. وتاليًا، إن المعطيات
التأويلية الجديدة، المحكومة بحركية التغير
المجتمعي وتداعياته على تطور الفكر، هي التي
تسمح باكتشاف "أصول" للقيم المعاصرة في
الإرث الديني المسيحي. ينتج من هذا أن
السؤال المطروح أعلاه عن مدى انفتاح التراث
المسيحي أو انغلاقه سؤال مغلوط. فالانفتاح –
أو الانغلاق – ليس جوهرًا قائمًا في التراث
ذاته – وإن تكن ثمة معطيات في التراث قد
نصنِّفها إلى "انفتاحية" أو "انغلاقية".
الانفتاح أو الانغلاق موقف إنساني في التعاطي
مع هذا التراث. وهو، تاليًا، موقف تأويلي له،
يُبرِز تلك العناصر التي يراها أكثر انسجامًا
وذاته ويشدِّد عليها. ألا ندور هنا في حلقة
مفرغة؟ – إذ كيف يسعنا اعتبار أن الانفتاح
والانغلاق لا يقومان في التراث ذاته، فيما
نقول إن ثمة عناصر "انغلاقية" أو "انفتاحية"
فيه؟ هنا ألفت إلى البُعد التأويلي مجددًا. إن
اكتشاف الفلسفة الحديثة الأكبر يكمن، في
رأيي، في وعي البُعد التأويلي لوجود الإنسان،
الذي تعود أصوله إلى ما يُدعى "زمكانية"
هذا الوجود، أي إلى كونه في الزمن والمكان،
وخضوعه الوجودي لظاهرة الزمن. وجودنا
ومقاربتنا الوجودَ لا يمكن لهما أن يكونا إلا
مفسَّرين، وكذلك تعاملنا مع المفاهيم
المستخدمة في اللغة والأشياء ككل. وتاليًا، لا
وجود لمقولتَي الانفتاح أو الانغلاق خارج
تأويلنا وتقويمنا البشريين – وهذان نسبيان
بالضرورة: فما قد نصنِّفه اليوم "انفتاحًا"
قد تجد فيه الأجيال الآتية "انغلاقًا"،
وما قد يقع اليوم في دائرة "جوهر" الدين،
قد يصبح غدًا من العَرَضيات. بعد هذه الملاحظات
الطويلة، أودُّ، في ما يلي، أن أستعرض، عبر
قراءة تاريخية سريعة، مَعْلَمَيْن من معالم
"الانفتاح" أو "الانغلاق" في الإرث
المسيحي. التاريخ إنْ
حكى لا نغالي إذا قلنا إن
التراث المسيحي كلَّه إنْ هو إلا مجموعة
تأويلات متعاقبة لظاهرة يسوع الناصري، أو
تأويلات على التأويلات. وهذه كلُّها قام بها
أشخاص آخرون: فيسوع نفسه لم يترك أيَّ أثر
مكتوب. وبعيدًا عن التقليل من شأن إيمان
المسيحيين بكون العهد الجديد، الذي يتكلَّم
مباشرة على يسوع، موحى به، وبقطع النظر عن
مفهوم الوحي، فإن كُتُب هذا العهد لا تشذُّ عن
هذه القاعدة، على الرغم من أنها، في عرف
اللاهوت المسيحي، الشهادة الأقرب والأدق عن
الناصري. ولئن يكن المسيحيون متفقين على
الطابع المرجعي لهذه الكتب، إلا أني أجيز
لنفسي، في المَعْلَم الأول خصوصًا، عدم
التوقف عند العهد الجديد والانتقال إلى بعض
وجوه التراث التي كُثُر منَّا أقل إلفة بها. أحد أهم المحاور التي
نستطيع بواسطتها مقاربة إشكالية الانفتاح
والانغلاق في التراث هو الموقف من الفلسفة.
ففي القرون الأولى للمسيحية، لم تكن الفلسفة
ترفًا فكريًّا، بل جزء من الحركة الثقافية
اليومية. والفلسفة لم تكن مقتصرة على
المنظومات الفكرية "العليا"،
كالأفلاطونية والأرسطوية، بل كانت هناك
تيارات فلسفية "شعبية"، تتراوح بين
الأصالة الفكرية والتلفيق syncretism، أي تجميع
العناصر من هنا وهناك. ومواجهة الفكر المسيحي
التياراتِ الفلسفية، على تنوعها، والدخول في
أخذ وردٍّ معها، لم يكونا، في دورهما، ترفًا
ثقافيًّا، بل مسألة حتمية. لقد كان يوستينوس
الفيلسوف (توفي نحو العام 165) أول مَن أخذ على
عاتقه، في شكل شبه منهجي، محاولة مدِّ جسر إلى
الفلسفة وجعلها جزءًا من المنظومة المسيحية.
ولقد تسنَّى له ذلك عبر تعليمه الشهير عن "الكلمة
الباذِر" logos
spermatikos؛
إذ اعتبر أن الكلمة الإلهي Logos، كما نادت به
المسيحية، بَذَرَ من نفسه في الشعوب جميعها،
بحيث إن شذرات الحقِّ في فلسفة اليونان
وأدبهم إنما هي ثمار عملية "الزرع" هذه.
قطعًا، لم يكن يوستينوس الفيلسوف يجد تعارضًا
بين تعليمه المنفتح على الفلسفة وإخلاصه
لمعلِّمه، يسوع الناصري. غير أن خطوته هذه في
اتجاه الفلسفة لم تكن محكومة بقراءة منفتحة
لرسالة يسوع فحسب، بل أيضًا بإعجاب المعلِّم
الكنسي بالفلسفة ورغبته في قراءة التراث
اليوناني في كلِّيته انطلاقًا من يسوع. يُضاف
إلى هذا اقتناع يوستينوس بأن "استيعاب"
الفلسفة ضرورة للمسيحية إذا رغبتْ في اجتذاب
مثقَّفي الإمبراطورية الرومانية الذين
تتلمذوا على فكر الإغريق. بيد أن الخط الذي
دشَّنَه يوستينوس، والذي سيتواصل مع
معلِّمين كنسيين، أمثال إقليمنضُس الإسكندري
(140-216؟) وأوريجنِس (نحو 185-254)، وصولاً إلى
ديونيسيوس المنحول في بدء القرن السادس، لن
يكون هو وحده السائد في الكنيسة. فالثابت أن
عددًا من معلِّمي الكنيسة آثروا الانكفاء،
والاكتفاء بالمعطى الإنجيلي، بعيدًا عن
تأثير الفكر اليوناني، فيما أقبل بعضهم الآخر
على هذا الفكر، ولكنْ على شيء من الحذر،
داعيًا إلى الانتقاء والاكتفاء باتخاذ ما لا
يتعارض مع المسيح. ولئن كانت الغلبة في صوغ
العقائد لاستخدام بعض التعبيرات والمفاهيم
ذات الأصل الفلسفي، إلا أن آباء المجمع
المسكوني الأول (نيقية، العام 325)، مثلاً،
كانوا حريصين على عدم الزجِّ بأيِّ تعبير من
خارج الكتاب المقدس في دستور الإيمان. أما
تعبير "المساوي [للآب] في الجوهر" omoousios، فليس إلا
الاستثناء الذي يؤيِّد القاعدة ويدعمها. تضاف
إلى هذا موافقةٌ للسلطة الكنسية ضمنيةٌ على
ما قام به، مثلاً، الإمبراطور يوستنيانوس
(527-565) من إغلاق للأكاديمية الفلسفية في أثينا
في العام 529. ولا نجد إقبالاً عارمًا، يكاد أن
يكون غير مشروط، على الفلسفة بعد أوريجنِس
إلا لدى ديونيسيوس المنحول. وقد تبنَّى
ديونيسيوس منطق الفلسفة الأفلاطونية المحدثة
وعباراتها، بغية "تعميدها"، حيث يحفل ما
وصلنا من نصوصه بالمصطلحات الفلسفية
الإغريقية؛ الأمر الذي جَعَلَ بعض الدارسين
يذهبون إلى أنه سَقَطَ في عكس ما رمى إليه. يستطيع المرء
بالطبع، أن يتابع رَصْدَ جدلية القرب والبعد
بين المسيحية والفلسفة في القرون الوسطى
والعصر الحديث. غير أن ما قيل كافٍ ليُظهِر أن
لا موقف موحَّدًا من الفلسفة في المسيحية.
فمواقف المعلِّمين الكنسيين تتأرجح بين
الرفض المطلق والانفتاح الواسع. أترك تقويم
هذه الظاهرة للقسم الأخير من هذه المساهمة.
أما هنا فأكتفي بالإشارة إلى أن موقف بعض
المعلِّمين المسيحيين المنفتح على الفكر
اليوناني كان واحدًا من العوامل المركزية
التي سمحتْ للمسيحية بالاستمرار في العالم
الروماني وزوَّدتْها بطاقة التكيف بحسب
المعطيات المجتمعية والثقافية الجديدة التي
واجهتْها بعد خروجها من النطاق اليهودي. لا ريب في أن
التحدِّي الأكبر الذي اضطر الفكر المسيحي إلى
التعاطي معه بعد مواجهته الفلسفة كان تحدِّي
العلوم الحديثة، ابتداءً من عصر النهضة. لقد
أعاد المذهب الإنساني Humanism
الاعتبار للإنسان ولحياته الأرضية، بعد أن
كان فكر القرون الوسطى في الغرب قد قذف
بالقيمة كلِّها إلى الحياة المنتظَرة بعد
الموت. ونجحت ثورة علم التشريح، وما تلاها من
تعمق المعرفة بآليات عمل الجسم البشري، في
اكتشاف "تساوي البشر" جميعًا، بعد أن
باركت المسيحية الإقطاع والمنظومات الملكية
المطلقة طوال قرون. بيد أن أخطر نقاط التحدِّي
كانت مسارعة العلوم، إذا جاز التعبير، إلى
"اقتطاع" بعض النطاقات التي كانت
الكنيسة تعتبرها واقعة ضمن إطار "جوهر"
المسيحية: فالفيزياء وعلم الفلك الحديثان
اضطرا المسيحية إلى التخلِّي عن تفسيرها
الحرفي لبعض نصوص العهد القديم في شأن حركة
الأجرام السماوية.[2] أما نظرية النشوء
والارتقاء فزعزعتْ الاعتقاد بأن الإنسان
خَرَجَ على صورته الحالية من بين يدي الخالق،
كما قد توحي الفصول الأولى من سفر التكوين.
ولم تألُ علومُ التاريخ والأدب والاجتماع
والتحليل النفسي جهدًا في تفكيك نصوص الكتاب
المقدس، بعهديه، محلِّلة إياها على غير وجه،
وكاشفة ما تقوم عليه من بُنى أدبية ومجتمعية
ونفسية غير بادية للعيان. إننا نجد، إلى
اليوم، تيارات مسيحية أصولية تتعامى عن
فتوحات هذه العلوم، وتتغرغر بدفاع عن
السَّالف لا يُقنع إلا من تبنَّى سلفًا موقف
هذه التيارات. هذا يدل على الضيق الذي عانتْه
وتعانيه المسيحية إلى اليوم من جرَّاء
التحديات التي تصوِّبها العلوم إليها،
واحدًا تلو آخر. ولكن ثمة مسيحية رأت
أن لا جدوى من التصدي، وأن الإخلاص لرسالة
يسوع، والدخول في معترك جريان التاريخ الذي
لا يوفِّر أحدًا، يحتِّمان الاستفادة من
الحداثة في ما تفتحُه من آفاق، بغية تجديد
مناهج التفسير ووضع مداميك اجتهادية جديدة
تحاكي العصر ولا تهابه. إن وجود تيارات منفتحة
على الحداثة وأخرى منغلقة حيالها، جنبًا إلى
جنب، يُظهِر أن التكلم على جوهر منفتح أو
منغلق للمسيحية غير مجدٍ في ذاته. الأهم هو
التنبه إلى وجود مسيحيات منفتحة أو منغلقة،
تنبثق من الاحتكاك اليومي بالمعطى المجتمعي
والتاريخي المتبدل. الخط الفاصل، إذًا، لا
يُسوَّغ رسمُه بين المسيحية، من جهة، وتيارات
أو فلسفات أو أديان أخرى، من جهة ثانية. الخط
بين الانفتاح والانغلاق واقع في قلب الكتلة
المسيحية عينها. وليس نادرًا أن يخترق هذا
الخط كلَّ واحد منَّا، فيكون منفتحًا في بعض
الأمور ومنغلقًا في أخرى. تقويم هل من نتائج يمكن
الطلوع بها مما سبق؟ إذا كان التحليل الذي
وَرَدَ أعلاه يميل إلى تفكيك القول بتراث
منفتح أو منغلق في ذاته، فإنه يُظهِر، في
المقابل، التنوع الكبير الذي احتضنتْه
المسيحية، منذ البدء، في المواقف التي اتخذها
المنتمون إليها من الفلسفة والعلوم. قوة
المسيحية لا تكمن في جوهرها الانفتاحي (حتى
إذا اعتبره البعض موجودًا)، بل في قدرتها
على استيعاب التنوع. طبعًا، من غير المسموح
به إضفاء صفة الإطلاق على هذا التنوع أو
اعتباره غير ذي حدود. فكثيرًا ما تصرَّف
المسيحيون في شكل غير متسامح، ساعين إلى
استئصال ما اعتبروه خطرًا على نصاعة العقيدة،
مستخدمين في سبيل ذلك أعنف الوسائل. بيد أنه
لا يسعنا، في المقابل، إنكار وجود مواقف
مختلفة، أو حتى متضاربة، بإزاء شؤون كبرى في
نِطاقَي الفلسفة والعلم كانت قادرة على أن
توجد وتستمر تحت مظلَّة المسيحية التاريخية.
نحن مدعوون اليوم إلى وعي معنى هذا التنوع وما
يقدِّمه من إمكانات وطاقات، بغية تثميرها
والإفادة منها. في هذا المعنى،
نَزْعُ الطابع الجوهراني عن التراث المسيحي
قد يؤدي إلى خضَّات وجدانية لدى الباحثين عن
ثبات يستمدونه من هذا التراث. غير أنه، في
رأيي، يشكِّل فرصة كبرى للمنضوين تحت لواء
المسيحية. فهو يحثهم على عدم الاستقالة من
الحرية المعطاة لهم بحجة أن التراث يمتلك
أجوبة عن الأسئلة كلِّها، ويدفعهم، تاليًا،
إلى وعي مسؤوليتهم والعمل بمقتضاها في ما
يختص بقراءة التراث وتفسيره والتفاعل معه.
التثمير والإفادة المذكوران أعلاه يمكن
تحقيقهما في غير مجال. ولكن سأكتفي بالإشارة
إلى المستويات الثلاثة الآتية: أولاً:
إن قراءة منفتحة للتراث تقتضي أخذ مسألة إعادة
الوحدة بين الكنائس على محمل الجد. على هذا
المستوى، ثمة موقفان متطرفان يجب تجنبهما:
الأول هو القائل بأن الخلاف في الكنيسة هو
القاعدة، لأن الخلافات بين المسيحيين كانت
قائمة منذ تأسيس الكنيسة. موقف كهذا لا ينتبه
إلى الفرق بين الاختلاف والخلاف، ويصرف
النظر عن رغبة السيِّد في اتحاد من قالوا إنهم
أتباعه. الموقف الثاني هو ذاك الموقف "الإقصائي"،
الذي تدَّعي فيه كلُّ كنيسة أنها "تملك"
الحقيقة في ملئها، وتقيس الآخرين بمقياس مدى
محافظتهم على ما "تملكه" هي. طبعًا،
تجنُّب هذين الموقفين يفترض أن يفكر
المسيحيون مليًّا في الحدود بين الاختلاف،
وأن يتفقوا على ما هو مُلزِم لإعادة الوحدة
وما يمكن أن يبقى ضمن حدود التنوع الذي لا
يهدِّد الوحدة، بل يُغنِيها. ثانيًا:
إن قراءة منفتحة للتراث تطالبنا بـموقف
منفتح حيال الأديان الأخرى، وبالدخول في
حوار مثمر معها. لقد عرف التاريخ فترات كانت
فيها الأديان – ولاسيما التوحيدية – قادرة
على أن تتحاور، من دون تكفير متبادل، إلى حدِّ
التناضُح أحيانًا. من الضروري اليوم بمكان
التزوُّد بهذا التراث المشترك في مواجهة
التيارات، "دينية" كانت أم "دنيوية"،
التي تمس بكرامة الإنسان، عن قصد أو عن سذاجة.
ليس المقصود هاهنا حوارًا عاطفيًّا يعتبر أنه
توصَّل إلى نقاط مشتركة بمجرد ترديد بعض
الكليشيهات. اليوم، ثمة تيارات وفلسفات كاذبة
pseudo-philosophies
وطروحات سياسية وبرامج اقتصادية ووسائل
تقنية تهدِّد بالإطاحة بما يجعل الإنسان
إنسانًا في صميم كيانه، أي تهدِّد بضرب كرامة
الإنسان وحريته وفَرادته. المسألة، إذًا، في
التحليل الأخير، ليست الأديان في ذاتها، بل الإنسان،
الذي الأخيرة مدعوة إلى أن تكون في خدمته.
الأديان، مهما سَمَتْ، ليست قيمة في ذاتها. وحده
الإنسان هو القيمة الكبرى؛ والأديان لا
تصبح قيمة إلا بمقدار إخلاصها له. وعبثًا
تحاول بعض التفسيرات والممارسات الدينية
سَحْقَ الإنسان باسم الله وحقوقه. الله لا
يصبح قيمة في معزل عن الإنسان. هذا هو أحد
أبرز معاني تجسد الكلمة وتوحيد الناصري نفسه
بالضعفاء بين البشر في الإصحاح الخامس
والعشرين من إنجيل متى.[3]
الأديان، إذًا، مدعوة إلى الدخول في حوار
جِدِّي يتناول كيفية خدمة الإنسان المسحوق أو
المهدَّد بالسحق، وإلى اعتماد مسلك جِدِّي
يفضح سذاجة تلك التيارات التي تشيِّئ الإنسان
أو تهمِّشه أو تلغيه. يزيَّن لي أن السبب
الأساس الذي يجعل الحوار بين الأديان حاجة
ملحة، لا ترفًا فكريًّا، يكمن في أن الأديان
مختلفة، إلى اليوم، في ما ينتمي وما لا ينتمي
إلى دائرة الكرامة الإنسانية. مرة أخرى –
وربما أكثر من أيِّ وقت – الكرة في ملعب
الأديان. وهذه مطالَبة بتمييز "علامات
الأزمنة" والعمل بمقتضى هذه العلامات.
وعندي أن دروس التاريخ تُظهِر أن جريان الزمن
لا يوفِّر أحدًا: فحتى المنظومات الدينية قد
تصير إلى زوال إذا بات البشرُ مقتنعين بعدم
جدواها. ثالثًا:
إن قراءة منفتحة للتراث تدعونا إلى الدخول في حوار
جِدِّي مع العلم والفنِّ والثقافة على وجه
العموم. لقد ولَّت عهود كان فيها الفكرُ
الديني ركيزة العلم والثقافة. فمنذ عصر
النهضة، راح العلم يسلك طريقًا مستقلاً عن
الشأن والخطاب الدينيين. والفلسفة، التي كانت
خادمة للاهوت في العصور الوسيطة، انفصلتْ
عنه، وتحولتْ إلى نشاط عقليٍّ قائم في ذاته
ومنكبٍّ على تحليل نقدي لكلِّ جانب من جوانب
حياتنا. أما الفن، الذي كان في العصور القديمة
أسير الدين والسلطة السياسية، متحالفًا
معهما أو دائرًا في فَلَكِهما، فقد اخترق
تدريجيًّا نطاقات الحياة اليومية جميعها على
نحو لم تشهده القدامة، وما عاد شبه محصور
بالتعبير السياسي–الديني. معاني هذا التطور
المجتمعي كثيرة؛ ولكن أحد أبرزها هو تراجُع
قدرة الفكر الديني على التأثير في قناعات
الإنسان ومسالكه ما لم يلجْ باب الحوار
الرصين مع العلم والثقافة. على الصعيد الأول،
يمكن للدين تحدِّي العلم الذي يعتريه إلى
اليوم ضيقٌ عند مساءلته عن تعريف الإنسان وعن
حقِّه في التصرف بالمادة الإنسانية الأولى من
دون أن يرسم لذاته أية حدود. فرصة الدين اليوم
تكمن، إلى حدٍّ ما، في قدرته على فضح هشاشة
المقدِّمات الفلسفية والخُلُقية التي يرفع
عليها بعضُ العلم صَرْحَه باسم التقدم وتحرير
الإنسان من مشكلاته. وعلى المستوى
الثاني، الدين مطالَب، عبر الاحتكاك المستمر
بالتيارات الثقافية، على أنواعها، ببلوَرَة ذائقة
تمييزية بين ثقافة كاذبة وأخرى أصيلة. ليس
معيار الأصالة والكذب هنا التطابُق مع طروحات
تفسير ما من تفسيرات الدين، بل الصدور من
خبرة إنسانية تعبِّر عما يختلج في أعماق هذا
الكائن القلق أو تكشف بُعدًا جديدًا من أبعاد
وجوده. وإذا كان الدين مدعوًّا إلى التصدي
للثقافة الكاذبة وفضحها، فليس كثيرًا عليه أن
يفيد من الثقافة الأصيلة ويستلهمها لإعادة
النظر في مناهجه ولغته وطرائقه التفسيرية،
بحيث تصبح رسالته أكثر قدرة على مخاطبة الناس
في واقعهم، وتاليًا أكثر إقناعًا. رُبَّ سائل يسأل: ما
قراءة التراث هذه التي تتوخَّى رَسْمَ
المستقبل؟ كما أشرت في البدء،
هذه الملاحظات لا ترسم ولا تُبَرْمِج، بل
تطلق التفكير أو تتابعه في شأن تعتبره ملحًّا.
والحقُّ أنه إذا عجزنا عن تلمُّس طريق
يُطِلُّ من التراث على اليوم والغد إطلالةً
خلاقة، فإن التراث يفرغ من معناه. وما حاجتنا
بعدُ إلى التراث إذا فُقِدَ المعنى؟ *** *** *** عن
النهار، الأحد 31 آب 2003 [1]
إن نَزْعَ الطابع الميثي، أي ما يُعرَف في
الإنكليزية بـdemythologization،
مفهوم نَحَتَه اللاهوتي الألماني رودولف
بولتمان (1884-1976) بالنسبة إلى لغة العهد
الجديد. بيد أن هذا المفهوم بات يُستخدَم
اليوم خارج النطاق اللاهوتي حتى، صائرًا
بذلك ملك العلوم الإنسانية ككل. راجع مثلاً
كتاب: Le conflit des interprétations (ص 380-386). إن استعمال
الميثة أعلاه بمعنى سلبي هو استعمال محض
وظائفي، لا يُراد منه التشهير بالميثة
عمومًا. فالميثة، في كلِّ حضارة إنسانية،
هي، على الغالب، من أكثر التعبيرات
الثقافية عمقًا عما يتجاوز المنطق العقلي
الصرف. بيد أن الكاتب يعتبر أن هناك، لدى
الجماعات، نوعًا من الميثة السلبية، هو
أقرب إلى الإيديولوجيا، بمعنى أنه يسوِّغ
تصورًا عن الذات عنصريًّا أو فوقيًّا،
كالميثة الآريَّة في الفكر النازي مثلاً،
أو بنية سلطوية، كمقولة تفوُّق الذكر على
الأنثى، إلخ. [2]
من ذلك استجابة الرب (يهوه) لقائد بني
إسرائيل يشوع بن نون وإيقافه الشمس في كبد
السماء مدة يوم كامل وتثبيته للقمر ريثما
ينتقم "شعبُه المختار" من أعدائه (سفر
يشوع، الإصحاح 10)! (المحرِّر) [3]
يقول يسوع: "الحق الحق أقول لكم: كلما
صنعتم شيئًا من ذلك [أطعمتم الجياع، وسقيتم
العطاش، وآويتم الغرباء، وكسوتم العراة،
وعُدتُم المرضى، وزرتم السجناء] لواحد من
إخوتي هؤلاء الصِّغار، فلي قد صنعتموه." (متى
25: 40) (المحرِّر)
|
|
|