حول أزمَة الهُويَّة والسَّلام والاحتلال في إسرائيل

 

حوار مع عاموس عوز

 وديفيد غروسمان*

 

هآرتس (تل أبيب)

يبدو عاموس عوز متحررًا وبليغًا بعد انتهائه من كتابه المقبل قصة غرام وظلام. في مقابله، لا يتخلَّى ديفيد غروسمان عن سلوكه الذي يجعله وكأنه شاب معجزة أمام حاخامه، ويبدو وكأنه يجبر نفسه على نوع من التحفظ، يتجلَّى في الأدب والاحترام أمام عميد القبيلة.  

ديفيد غروسمان

عاموس عوز

قبل ستة أشهر، اندلعتْ مساجلة كلامية محدودة بين الكاتبين: أراد عوز مقاطعة البرتغالي خوسيه ساراماغو، الحائز على جائزة نوبل للآداب، بينما ارتأى غروسمان عكس ذلك. وهذه قصة قديمة: فلطالما ظهر عوز أكثر ميلاً إلى الوسط وانتقادًا لأوروبا واليسار.

غير أن مناقشة جادة مع الكاتبين أظهرتْ أن نقاط الاختلاف ليست سوى فروق دقيقة. فكلاهما ينتخب حزب "ميريتس" [اليساري الصهيوني العلماني والمؤيِّد للسلام]، ويرفض حقَّ العودة للاجئين [الفلسطينيين]، ويدعم "وثيقة كلينتون". يجاهر عوز علنًا بضرورة الفَصْل الأحادي الجانب [عن الفلسطينيين]، بينما يجد غروسمان نفسه أكثر في مبادرات يوسي بيلين [الوزير العمالي السابق، الذي التحق أخيرًا بـ"ميريتس" والذي لا يعرف الكلل]. وبينما يبدو عوز معتدلاً في تفاؤله، يظهر غروسمان متشائمًا حصيفًا. وحيث يبدو عوز صاحب منطق، يتحمَّل غروسمان تناقضات سليمة.

والاثنان لم يُشفَيا بعد من جرَّاء أحداث الأشهر الثمانية والعشرين الأخيرة المأسوية، ويبدوان تائهين بين أنقاض اتفاق أوسلو [اتفاقات السلام الإسرائيلية–الفلسطينية للعام 1993]. ويحاول كلاهما التأقلم مع حياة بات يطبعها اليأس والإرهاب بطابعهما.

***

 

هآرتس: سؤالي الأول بسيط: ما هو الأكثر إثارة لهَوْلكما؟ وهل لا زلتما تريان بصيص أمل؟

عوز: الخبر السار أنه، للمرة الأولى في تسعين عامًا من الصراع، يعي الجميع الآن الحلَّ الأوحد: اليوم، يعرف اليهود أن الفلسطينيين لن يزولوا، كما يعرف الفلسطينيون أن الإسرائيليين لن يزولوا بدورهم. ويعرف كلُّ طرف خطَّ الفصل المستقبلي.

هآرتس: لماذا هذه النظرة الكارثية؟

عوز: لقد أصبح المريض جاهزًا نوعًا ما للجراحة، لكن الجراحين جبناء! لا يوجد حتى اليوم أيُّ قائد يجرؤ على القول: "دعونا نقوم بما يعلمه الجميع وما يجب أن يُفعَل." الكل يعرف أنه سيتم تفكيك معظم المستوطنات، وأنه لن يكون هناك حق عودة. إذًا ماذا ننتظر؟ السبب هو ما أدعوه "شارفات"! أنا مقتنع أن شارون وعرفات يفضِّلان الوضع الحالي على وضع قد يتأتى عن حلٍّ سياسي. فبزوغ فجر جديد لشعبينا يشكِّل بداية غروبهما.

هآرتس: ديفيد غروسمان، هل تشاطره هذا الرأي؟

غروسمان: أنا موافق على أداء الجبن السياسي للقادة الذين لا يبنون أمجادهم سوى على شجاعتهم البدنية! أنا موافق أيضًا على أن الحلَّ معروف، وأن العالم أجمع سيفرضه علينا يومًا، بعد أن يكون اشمئزازه مما يجري قد بلغ حدًّا كافيًا. غير أني أكثر تشاؤمًا من عاموس. فأنا أعتقد أننا، لو توصَّلنا يومًا إلى السلام، فلن يكون سلامًا ورديًّا وأبديًّا، بل محفوف بتشنجات العنف. نحن لن نعرف السلام الحقيقي في حياتنا هذه. سألتني ما الذي يثير هَوْلَنا: أكثر ما يثير هَوْلي أنا هو أنني لم أعد أؤمن بوجود إسرائيلي. ساوَرَني الشك دائمًا؛ وهو كابوس مشترك يعانيه اليهود كلهم الذين يعيشون هنا. لكننا، خلال عقود، توصَّلنا على الأقل إلى التعايش في عقلانية مع هذا الكابوس. والواقع أنه، منذ عامين، عاد أفق زوال إسرائيل وإنهاء التجربة "البطولية" الجارية هنا ليصبح ملموسًا.

هآرتس: ما الذي جعلك تحس فجأة بهذا الكابوس؟

غروسمان: إن الفضائح التي تخلَّلت الانتخابات الإسرائيلية تُظهِر أن الناس فقدوا أيَّ حسٍّ أخلاقي، واختفت، بكلِّ بساطة، أدنى مستويات الرياء الضروري للعيش في المجتمع. وهذا ناتج، إلى حدٍّ ما، عن الإرهاب. فعندما يُمسي محيطك أجسامًا ممزقة وبقايا بشرية، لا تعود تقوى على الإيمان بشيء! لا بدَّ من أن يتقاسم الأفراد وهمًا ويتقبَّلوا عقدًا اجتماعيًّا للإبقاء على ثقافة ما وعلى ديموقراطية. هذا كله تفتَّت إربًا. جئنا إلى هذه البلاد لنؤسِّس دولة لا نخشى فيها على حياتنا. أما اليوم فقد بدأت غريزة البقاء على قيد الحياة هذه تتلاشى، ولا يحلم الناس سوى بالذهاب إلى أمكنة أخرى.

عوز: أنا لا أشاطر ديفيد الأحاسيس ذاتها. لم تعد مخاوفي يهودية أو إسرائيلية، بل أصبحت عالمية. من الواضح أنه من بين النزاعات الـ29 التي تُدمي الكوكب اليوم، 27 تشهد تورُّط مسلمين. التعصب المسيحي ينشط في إطار العداء الأوروبي الجديد للسامية، فيما تكسب الأصولية اليهودية الوطنية الدينية أتباعًا جددًا. أما حقبة ما بعد الحداثة فهي حقبة النسبوية relativisme المخيفة. ثمة تطرفان يغذي أحدهما الآخر: إما أنه ليس ثمة إلا حقيقة واحدة، وكلُّ مَن لا يؤمن بها ينبغي أن يُقتَل، وإما أن الأشياء كلَّها متساوية، والقتلة لديهم أيضًا الحق في القتل! أما بالنسبة إلى العولمة، فهي في صدد تطفيل الجنس البشري وتحويله إلى مجرد أداة – وهو جنس لم تعد الحياة عنده سوى مجرَّد عملية شراء وبيع. باعتقادي أنه لا توجد ثقافة من دون تراتبية hiérarchie. وأنا واعٍ بأنني قد أُحدِثُ صدمة في كلامي هذا: لا توجد ثقافة مبنية على استطلاعات الرأي أو دراسات السوق. وبخلاف ديفيد، ما يخيفني، لم يعد الخشية من ذبح اليهود أو تدمير إسرائيل، بل من عالم الحرب العالمية الرابعة – هذا حيث يستطيع مجرَّد فرد ذائب في الجماعة أن يُفني مئات المدنيين بسلاح كيميائي حِرَفي.

غروسمان: عاموس، لا يسعني أن أتجاهل ازدياد عزلتنا وازدياد كراهية الغير لنا، وإلا كان هناك خطر اعتباري مصابًا بمَرَض العُظام! منذ بداية الانتفاضة الجديدة، ومنذ تجدد الأعمال المعادية للسامية في الخارج، شيء ما تغير داخلنا. بالنسبة إلى إسرائيل الحديث والعالمي، ذي التكنولوجيات الجديدة، هو في طريقه إلى مشاهدة تراجيديا المصير اليهودي مُطبِقَة عليه. أشعر وكأن اليهودي عاد ليصبح رمزًا. فلطالما ظهر اليهودي وكأنه مَجازٌ لشيء آخر، وقلما نُظِرَ إليه لشخصه. ولطالما وجد البشر صعوبة في النظر إلى اليهود على أنهم كائنات بشرية؛ بل ساد دائمًا مزج بين الشيطانية والمثالية – وكلاهما شكلان لنَزْع صفة الإنسانية shumanisation. وقد داوتْنا الصهيونية من هذا الأمر، على الأقل عبر إدخالنا مجددًا في التاريخ. واليوم يُعاد بنا، شيئًا فشيئًا، إلى ذاك المكان الرمزي. وهذا تطور خطير، لأنه يزكِّي البعد القُرباني والرضوخي الذي تتضمَّنه الثقافة اليهودية.

هآرتس: عاموس عوز، هل مشاعر ديفيد غروسمان غريبة عنك إلى هذا الحد؟ – مع أن أدبك كان يتناول هذه المشاعر قبل الانتفاضة.

عوز: تملَّكني دائمًا الشعور بأننا نسير على طبقة ركيكة من الجليد، ونحظى بحرية مشروطة، ونستغل رأسمال المحرقة Holocauste. من جهة أخرى، أنا مقتنع أن أجزاء واسعة من العالم العربي – بل الإسلامي – لم تهضم بعدُ العار المتمثل بقيام دولة إسرائيل في العام 1948: فقد رأوا فيها تكريسًا لثمانية قرون من الذلِّ والهوان. والأمر أكثر تجذرًا في العالم المسيحي: فالمسيحية تعلم أن أحدهم قتل الله. ومَن يستطيع القيام بمثل هذا العمل العجائبي لا يسعه سوى أن يكون قويًّا ومحتالاً وشيطانًا وذا طبيعة تفوق البشرية. كل يوم يفتح ملايين المسيحيين الصغار أعينهم، وأول ما يرونه صورة أحدهم ينزف على الصليب. عندما يكتشف الطفل المسيحي أن هذا هو الله الذي يموت، يتساءل: مَن المذنب؟ ويشغل هذا السؤال بال الملحدين أيضًا: فحتى أولئك الذين التحقوا باليسار قد رضعوا هذا الحليب من ثدي أمهاتهم. والأمر ليس معاداة للسامية، بمعنى إرادة قتل اليهود، بل هو مزيج من الذهول والخوف. أحيانًا يحملهم هذا على المغالاة في المستوى الأخلاقي المطلوب من اليهود: وكأنه، بعد تبرئة اليهود من أية مسؤولية جماعية في صلب المسيح، على اليهود أن يثبتوا أنهم يستحقون هذه التبرئة!

باستثناء إسرائيل، لا يعيش أي بلد في العالم في حرية مراقَبة. يقال في إسرائيل: "أحسنوا التصرف، تعيشوا – وإلا فستزولون." أكثر ما يخيفني هو رؤية كثيرين من إسرائيليي اليسار الداعم للسلام والمتنوِّر يتبنون هذه المقاربة، ويعتبرون إسرائيل دولة في حرية مشروطة – دولة يرتبط وجودها بأفعالها.

هآرتس: برأيكما، هل يعكس جزء من اليسار الإسرائيلي النظرة المسيحية المعادية للسامية الموجهة ضد الدولة اليهودية؟

عوز: خلال الفظاعات التي ارتُكِبَت في الجزائر وفي فييتنام، لم يُعِدْ المفكرون الفرنسيون والأمريكيون النظر أبدًا بحقِّهم في الوجود. لكن ما أراه وسط بعض المفكرين الراديكاليين الإسرائيليين ليس الكراهية حيال رجال الدين والمستوطنين واليمين أو القوميين وحسب، بل كراهية مُضْمَرة تجاه إنجازات إسرائيل كلِّها.

غروسمان: أنت تبالغ!

عوز: لربما أبالغ في استعمال كلمة "كراهية". يجب أن استعمل كلمة "اشمئزاز"؛ لكنه اشمئزاز مُضْمَر، يكتنز في باطنه أمورًا تجرحني أكثر؛ إذ لا تخرج هذه الآراء على لسان المسيحيين الأوروبيين، بل من داخل إسرائيل بالذات.

غروسمان: أعتقد أنك تغالي. الأشخاص الذين تتكلَّم عليهم يثورون على ما يجري هنا، ضد الهوة التي تزداد اتساعًا بين الحلم والحقيقة. فضلاً عن ذلك، ليس هذا اليسار كثير العدد. ما أعتبره أنا مشكلة هو واقع أننا، بعد أربع وخمسين عامًا من الوجود، لازلنا نشكك في وجودنا. هل نملك نحن اليهود جينة معينة تمنعنا من البقاء في مكان واحد؟ لطالما راوَدَ السؤالُ التالي فكرَ اليهود: هل نحن شعب يعيش في المكان أم في الزمان؟ في الدياسبورا [= الشتات] عرَّفنا بنفسنا كشعب يعيش في الزمان، شعب أبديٍّ. لكن حتى بعد إقامتنا هنا، لازلنا عاجزين عن اعتبار نفسنا فعليًّا شعبًا يعيش في مكان محدد.

هآرتس: بما أنكما متحدِّران من اليسار الإسرائيلي، كيف تكوَّنتْ نظرتكما السياسية؟ كيف تطورتما خلال السنتين الأخيرتين؟

غروسمان: كنت في الثالثة عشرة عندما اندلعت حرب الأيام الستة [1967]. أتذكر القلق الذي سَبَقَها؛ أتذكر إلى أية درجة كان إمكان رمينا في البحر ملموسًا. كان هذا الشعور قويًّا قويًّا، مما حَمَلَني على أخذ دروس في السباحة لدى YMCA! ثم جاء النصر. بالنسبة إلى جيلي كلِّه، كان هناك نوع من الدمج بين طاقة المراهقة الجنسية والطاقة على الغزو. لقد كان اختراقًا مفاجئًا وعنيفًا، كَسَرَ المحرَّمات ودخول الأماكن اليهودية المقدسة. ثمة بعض الشهوانية في العلاقة بين الغازي والمحتل. أتذكر تمامًا شعور الفحولة هذا الذي ترافق مع شعور بالخوف. وهذا الخوف هو ما دفع أهلي – وهم عماليون عريقون – إلى الانزلاق أكثر فأكثر إلى اليمين. وخلال أدائي الخدمة العسكرية تبنَّيتُ أنا أيضًا أهداف اليمين الإسرائيلي، وعملت في أجهزة الاستخبارات، واكتشفت كيف يفكر العرب في شأننا. لذا لا أستغرب المخاوف التي يُعرِبُ عنها اليمين الإسرائيلي.

غير أن الحرب في لبنان [1982] شكَّلتْ لي صدمة. فبصفتي ضمن الاحتياط، شهدت أشياء لم أعتقد يومًا أني سأراها. إثر عودتي بعد فترة وجيزة إلى القدس، توقفت الحافلة التي كنت استقلُّها بالقرب من حافلة تنقل فلسطينيين من بيت لحم ومخيَّم الدهيشة للاجئين الفلسطينيين. رأيت اليأس باديًا على وجوههم. كانوا يشبهون الأشباح، أجسامهم فارغة من أية حياة. ورأيت أخيرًا ما معنى أن تكون تحت الاحتلال. حاولتْ كتبي الأولى أن تفهم ما هو مرض الاحتلال هذا الذي يصيب شعبي. فهمت أن الشعبين تعلَّما نَصْبَ حجاب من الجهل: فالخاضعون للاحتلال يخجلون من وضعهم؛ والذين يحتلونهم يفضِّلون عدم رؤية ما تقترفه أيديهم. عندما ذهبت إلى مخيم الدهيشة لجمع معلومات لكتابي الهواء الأصفر في العام 1987، كان بعض الأطفال يرون للمرة الأولى إسرائيليًّا من دون بزة عسكرية! وَجَبَ على امرأة عجوز أن تكسر الحلقة التي انغلقت عليَّ، فتُدخِلني إلى كوخها حتى نبدأ الكلام.

هآرتس: وما الذي سبَّب لك الصدمة الأعنف خلال السنتين المنصرمتين؟

غروسمان: الإعدام الوحشي في رام الله! شكَّل الأمر لنا جميعا نقطة القطيعة، وأعاد إلى السطح مخاوفنا الأعمق. ومع أنه يجب النضال من أجل السلام، غالبًا ما أقول لنفسي إن لا أمل يلوح في الأفق. انظر إلى خريطة إسرائيل الأصغر – البلد صغير إلى حدِّ أننا نكاد ألا نستطيع كتابة اسمه من غير أن نرمي بعض الحروف إلى البحر... كل ما يجري حول إسرائيل مرعب: الأصولية التي تتغلغل في هذه البلاد، غياب الديموقراطية في البلدان العربية، وواقع أن الشرق الأوسط لم يتقبَّلنا فعليًّا. لكن، في النهاية، أقول لنفسي إن الخضوع للخوف يعني الاستسلام. ولا أبني أية أوهام حول حُسْن نية العرب تجاهنا. لكن دعونا نعترف: لم نبادلهم بدورنا بحُسْن نية أكبر! أقدِّر أنه، بفضل قوتنا العسكرية، يجب أن نتمتع بالشجاعة على الخروج من الحلقة المفرغة التي نمعن فيها منذ العام 1967، والتي تَحمِلُنا على تكرار الأخطاء ذاتها. وقبل القفز إلى غصن السلام، علينا القفز أولاً من على غصن الاحتلال. لكن يبدو وكأننا لا نزال خائفين!

هآرتس: في التحليل الأخير، هل فشل اليسار؟ هل أخطأ، أو قام بالخيار الصحيح؟

غروسمان: فشل اليسار فشلاً واضحًا؛ لكنه فشلٌ أفتخر بالمشاركة فيه! والذين اختاروا "أوسلو" كانوا يعون الخطر الذي هم مقبلون عليه. كانوا يعلمون أن حلَّ نزاع يعود إلى أكثر من مائة عام أمر بالغ الصعوبة. ارتكب اليسار خطأين أساسيين: الخطأ الأول هو إيمانه الكبير جدًّا بالعقل؛ أما الخطأ الثاني فهو تقويم خاطئ للقوى الموجودة.

من هذا المنظار، يتمتَّع اليمين بحدس أفضل ويعي أهمية الرَّدع – وهذا أساسي في المنطقة العنيفة والمظلمة حيث نعيش. لكن، في التحليل الأخير، لم تتناول أخطاء اليسار سوى تفاصيل صغيرة، كشخصية عرفات الذي يبدو إرهابيًّا في روحه؛ أما اليمين، فقد أخطأ في الأساس، معتقدًا أنه من الممكن الاستمرار في نظام الاحتلال. لذا لا أشعر بأيِّ ندم.

ثمة أمر آخر. لطالما آمنَّا بتجربتنا كضحايا، متجاهلين ما تتيح هذه التجربةُ جعلَه ممكنًا. وكردِّ فعل على العداء حيالنا، حوَّلنا الضفةَ الغربية إلى مخيم اعتقال واسع، وقُدْنا عمليات تلامس غالبًا حدَّ الجريمة ضد الإنسانية، أو تتعداها أحيانًا. وقد وضع مجتمعُنا قِيَمَه المتنوِّرة في الثلاجة، وتفكك نسيجُنا الأخلاقي. أخيرًا، أكَّدنا تقريبًا بعض الترسيمات المعادية للسامية التي تجعل من اليهودي كارهًا للأجانب، متلاعبًا، محبًّا للقوة، وكائنًا إمبرياليًّا لا يمكن الوثوق به. علينا الخروج من هذا الوضع.

هآرتس: عاموس عوز، ما الذي سبَّب لك الصدمة الأعنف خلال السنتين المنصرمتين؟

عوز: بصفتي مؤسِّس "اللجنة من أجل السلام والأمن"، أنا أناضل منذ ثلاثين عامًا في سبيل فكرة دولتين كأساس للسلام بيننا وبين الفلسطينيين. اليوم لم أعد أقوى على المزيد. ولئن كنت مازلت أؤمن بفكرة الدولتين، لم أعد أكيدًا من أن هذا سيقود إلى السلام. في أفضل الحالات، سيحل السلام؛ وفي أسوئها، سنكون مضطرين، بدل شنِّ حربين – حرب احتلال غير عادلة وحرب عادلة من أجل بقائنا –، إلى شنِّ حرب واحدة هي الحرب العادلة.

هآرتس: هذا يفسِّر أيضًا أنه في السنة 2003 لا يَعِدُ اليسار بالسلام، بل بالانسحاب.

عوز: شخصيًّا، لقد انسحبت فكريًّا. وفي نظري، كان على الفلسطينيين أن يقدموا اقتراحًا مقابلاً لما قدَّمه لهم إيهود باراك في كامب ديفيد [2000]. لكنني لم أتخيل يومًا أن الفلسطينيين سيشنون حربًا ضدنا بعد أن اقترحنا عليهم حلاً يعتمد على دولتين وعاصمتين في القدس وإعادة 92 إلى 95 في المائة من الأراضي. كان الأمر بمثابة صدمة!

هآرتس: في نظرة استعادية، هل تعتبر اتفاقات أوسلو خطأ؟

عوز: لم يُمنَح أوسلو يومًا واحدًا من الرحمة. إذ لم يكد حبر الأقلام يجف حتى بدأ بعضهم يحضِّر لـ"الجهاد"، فيما أكمل البعض الآخر الاستيطان. أوسلو لم يفشل، لأنه ما من أحد جرَّبه يومًا! لا أتقبَّل فكرة أن اليسار لم يتعلَّم أيَّ درس من الأحداث. عندما يتكلَّم رئيس حزب العمل على انسحاب أحادي الجانب من الأراضي المحتلة الأكثر اكتظاظًا، فهذا يعني تغيرًا جذريًّا بالقياس إلى المواقف التي كان هذا الحزبُ يدافع عنها قبل الانتفاضة. اليمين هو مَن لم يخرج بأية عِبْرة – ليس منذ أوسلو وحسب، بل منذ الثلاثينات: يعتقد اليمين دائمًا أنه يكفي ضرب الفلسطينيين لتهدئتهم!

هآرتس: ما رأيكما بشارون؟ هل تكرهانه؟

غروسمان: أنا لا أكرهه. أعتقد ببساطة أن نظرته إلى العالم ضيقة جدًّا. وهو يختصر كلَّ شيء في مفهوم واحد: القوة. لا يملك حلاً آخر يقدِّمه لنا. إنه يقود إسرائيل نحو دائرة بالغة الخطورة. بصفته قائدًا، يجب أن يرشدنا إلى المستقبل. غير أنه لا يفعل سوى أن يعود بنا القهقرى. والأغرب من ذلك شعبيته. إنه يتحرك في الفراغ. إنه رئيس وزراء بلا معارضة، وبلا ائتلاف. يفعل ما يريد. ولربما يفسِّر الأمرُ محاولةَ الإسرائيليين التشبث بشخص يجسِّد نوعًا من الاستمرارية والتصلب والإصرار السياسي، بينما ينهار كلُّ ما حولنا. بصفتي كاتبًا، لا أستغرب المشاعر التي يعبِّر عنها أنصار اليمين. فشارون يبعث شعورًا بالقوة والجبروت. ألبِسوه ثوبًا رومانيًّا، تجدوا أنه يشبه إمبراطورًا رومانيًّا. ثمة شيء توراتي في هذه الشخصية، نوع من العنف العريق الذي يهدِّئ الشعوب!

عوز: أنا لا أنظر إلى شارون بصفتي كاتبًا أو محلِّلاً نفسيًّا، بل بصفتي محلِّلاً سياسيًّا. شعبيته كبيرة لأنه يُنظَر إليه على أنه ذاك الذي قَهَرَ الفلسطينيين من غير أن يثير غضب أمريكا! وإذا كان شعبُه ينظر إليه على أنه المنتصر، فلأنه حَصَلَ باسم إسرائيل على النصر النهائي: اليوم يتسوَّل الفلسطينيون ما رَفَضوه في كامب ديفيد. الرأي العام يرى في شارون ذاك الذي سدَّد ضربة مميتة إلى العدو، وأعطى جوابًا للإحباط الناتج عن صور أطفالنا الممزقين. شارون يوحي بثقة مريحة، لكنه لا يعلم إلى أين يذهب.

هآرتس: هل يوجد في اليسار خلفاء لرابين وبيريس؟

غروسمان: ثمة فراغ. عميرام ميتسناع يدفع ثمن سنتين شكَّل فيهما حزبُ العمل ورقة التوت لشارون، من غير أن يقدِّم أيَّ عنصر موازِن لغرائزه. أشعر بالتعاطف مع "ميريتس". فقادتُه يفكرون بوتيرتين: يرفضون المساهمة في مناخ اليأس والعجز، وينجحون في تصعيد رهبة مفهومة من الخوف والانتقام.

عوز: أنا أيضًا أتعاطف مع "ميريتس"، ومع فكرة التفاوض تحت النار، ومحاولة إجراء مفاوضات جديدة مع الفلسطينيين. وإذا لم تنجح هذه المحاولة، يجب وضع حدٍّ أحادي الجانب للاحتلال.

هآرتس: هل تعتقدان أن اليسار سيستعيد أنفاسه ويقود إسرائيل نحو مستقبل حكيم؟

عوز: يقول صديقي جاموس [اللقب العربي لحاييم أورون، زعيم "ميريتس"] أن ما يجري في الرأي العام الإسرائيلي يشبه الزلزال. فعندما تتحرَّك الطبقات التكتونية [= الأرضية] تنزلق الطبقات السفلى من جهة والعليا من جهة أخرى. شهدت انتخابات 28 كانون الثاني انزلاقًا نحو اليمين. أما استطلاعات الرأي فتُظهِر أن الإسرائيليين، في ما يتعلَّق بعملية السلام، يقفون إلى اليسار أكثر منهم إلى اليمين. لذا يساورني قلقٌ شديد حيال سياسة شارون. فبعد تدمير السلطة الفلسطينية، ها هو في صدد تدمير الطبقة الفلسطينية الوسطى. أخشى أننا لن نجد بعد بضع سنوات مَن نحاوره!

غروسمان: اليوم، القادة الفلسطينيون مستعدون لقبول "ثوابت كلينتون"؛ وأنا أعرف هذا جيدًا. لكن إذا لم يساندهم أيُّ قائد إسرائيلي، فأنا أخشى من أن يقع المجتمع الفلسطيني في مطبِّ التطرف. وإذا استمرتْ خصخصةُ الإرهاب فهذا سيشكِّل كابوسًا للفلسطينيين والإسرائيليين على حدٍّ سواء. لكنني لا أعيش في الأوهام: فحتى لو تمَّ التوقيع على السلام مع عرفات، لن يزول الإرهاب كليًّا؛ إذ تلزمه سنوات قبل أن يخرج من حياتنا. لكن هذا ليس سببًا كي نتخلَّى عن جهود السلام، لأن الإرهاب ليس ما يهدِّد وجود إسرائيل؛ بل الخطر الحقيقي الذي يتربَّص بإسرائيل هو التشظِّي الاجتماعي الذي ينتج من الوضع الحالي.

يجب الصمود [بالعربية في النصِّ الأصلي] من أجل السلام. لقد ولدت دولة إسرائيل كي لا نكون ضحايا بعد الآن، كي لا يُضرَب جدِّي في غاليسيا [منطقة واقعة بين بولونيا وأوكرانيا]، وكي نأتي ونعيش هنا حياة طبيعية ونحمي أنفسنا. ما يسبِّب لي الاضطراب هو أنه، على الرغم من تفوقنا وامتلاكنا مائتي رأس نووي، لا نزال ضحايا مخاوفنا وقلقنا. علينا أن نواجه تاريخنا من غير أن نقع ضحاياه. يجب ألا نكرِّس طاقتنا لبناء سور واقٍ فحسب. إذ أشعر اليوم أن درجة هوسنا بسورنا الواقي بلغت حدَّ فراغه من أيِّ كائن داخله!

*** *** ***

عن le Courrier International، نقلاً عن هآرتس

ترجمة: نادين نصر الله


* نقلت صحيفة le Courrier International عن صحيفة هآرتس الإسرائيلية اليومية هذا الحوار الفكري–السياسي مع الكاتبين عاموس عوز وديفيد غروسمان، المؤيِّدين لمعسكر السلام. معًا تحدثا بوضوح تام عن الوضع المأسوي الذي يعانيه اليسار الإسرائيلي، فضلاً عن الإرهاب ومستقبل البلاد. (المحرِّر)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود