|
الأساطير الهندية وأثرها في التراث
الثقافي الهندي (2 من 2) أثر الميثولوجيا على التراث الأدبي
الهندي لقد
رأينا أن الأساطير هي الفسحة بامتياز للتعبير
عن الأفكار الأخلاقية والفلسفية؛ لكن هذه
تنعكس أيضًا في آداب الهند وفنونها. فيما يلي
نتناول الصلة القائمة بين الأساطير والأدب
السنسكريتي القديم. ويدل مصطلح "الأدب
القديم" على أعمال الشعراء والكتاب
المسرحيين من القرن الأول إلى القرن السابع
الميلادي، وبذلك يستثني الكتب المقدسة (الفيدا
والأوبنشاد) والملاحم الكبرى (الراماينا
والمهابهارتا) وقصص المآثر الأسطورية (البورانا). كثيرًا
ما يتناسى الباحثون أن أول الشعراء الكبار في
الأدب السنسكريتي القديم كان بوذيًّا، وليس
هندوسيًّا. صحيح أن أشفاغوشا – وهو الاسم
الذي عُرِفَ به – دَرَسَ الملاحم الهندوسية
حتى تضلَّع بها وأنه كان، ربما، من أصل
براهمي، إلا أنه استوحى الأساطير البوذية
بصفة رئيسية. إنه يمثل ذلك العصر في التاريخ
البوذي حينما راح المذهب المَهايني للبوذية
("المركَبة الكبرى")، الغنيُّ
بالإيحاءات الجمالية والباطنية، يستبعد
شيئًا فشيئًا الموقف المتشدِّد للرهبان
البوذيين الأوائل القائلين بأن السعادة
القصوى لا تتأتى إلا عن طريق قتل شهوات النفس
وقمع رغباتها. ففي قصيدة فلسفية له يروي فيها
سيرة البوذا[1]،
استفاد أشفاغوشا من بعض الأساطير المحرِّكة
للشعور عن طفولة تَتْهاغَتا وشبابه: حول زهده
بملذات الحسِّ، وبحثه عن الحقيقة، وصراعه مع
الشر، وتحقيقه للإشراق الروحي (النيرفانا) في
ظلِّ شجرة بودهي (الصورة 4)، وحول إلقائه أولى
مواعظه (الصورة 5). لقد سَرَدَ أشفاغوشا كلَّ
هذه القصص بشاعرية تشهد بأستاذيَّته، ولم
يتوانَ عن تلقيح قصيدته بذلك العنصر المعجِز،
الذي من دونه لا يمكن للشعر أن يفعل في النفس،
ولا يمكن، والحالة هذه، للنكهة التعبدية
البوذية أن تترسَّخ في نفوس عامة الناس.
عندما
ولد الأمير سِدْهرتا زُلزِلَتِ الأرض
الثابتة مثل سفينة وسط عاصفة هوجاء، وهطل
وابل من المطر المعطَّر بعطر الصندل من سماء
لا سحاب فيها (الصورة 2). وعندما قرَّر سدهرتا
ترك قصره تحت جنح الظلام، ألقى الآلهةُ
والملائكة أنفسهم تحت حوافر فرسه لِكَتْم
الصوت، وغرق حراس القصر كلُّهم في سبات عميق
حتى لا يعرف أحدٌ شيئًا عما اعتزم الأمير أن
يفعل. وفي أثناء تأمله تحت شجرة بودهي تحدَّاه
مارا في أن يشهد له أحدٌ بأن لديه الاستعداد
أن يصبح بوذا، فلمس سدهرتا الأرض بيده
اليمنى، فزُلزِلَت هذه مرتين لتشهد له (الصورة
3). وعندما بلغ أسمى مراتب الإشراق أمطرت عليه
الشجرة براعم. إن أشفاغوشا يبلِّغ، من خلال
هذه القصص وأمثالها، فكرة الكمال الإلهي الذي
يرمز إليه البوذا.
*** إن
الشعر والمسرح السنسكريتيين بعد أشفاغوشا
تتخلَّلهما الأساطير، لكن هذا لا يعني البتة
أنه في ذلك العصر لم تُكتَب سوى الأعمال
الدينية؛ ذلك أن بعض المسرحيات دنيوية
بالكلِّية في روحها. نكتفي هاهنا بذكر مركبة
الطين لشدراكا وختم ركشَسا، وكذلك بعض
القصائد الغزلية التي تتحدث عن الحب بين
الزوجين. ولكن حتى في هذه القصائد نجد ذكرًا
وافيًا للقصص الأسطوري، بآلهته جميعًا. وثمة
قلة نادرة جدًّا من المنظومات، مثل ميغهادوتا
(= "رسول السحاب") لكاليداسا – لعلها أشهر
منظومة بالسنسكريتية –، تخلو من الإشارات
إلى الشخوص الأسطورية أو القصص. إذا
استثنينا هذه التأثيرات غير المباشرة
للأساطير على الأدب غير الديني، فإن معظم
القصائد والمسرحيات مبنية بناءً غير مباشر
على ثيمات مستقاة من الراماينا والمهابهارتا
وقصص البورانا. ولسوف نذكر فيما يلي كوكبة من
الشعراء وكتاب المسرح ممَّن اعتمدوا
اعتمادًا مباشرًا على الأساطير في استقاء
موضوعاتهم (ونستثني منهم كاليداسا الذي سوف
نجيء على ذكره في آخر هذه الفقرة من البحث).
وهذه الكوكبة من الأدباء هي التالية: ماغها،
بهارَفي، كوماراداس، فاتسابهَتي، بهاسا،
بهافابهوتي. * يعود
السبب الرئيسي في شهرة ماغها إلى قصيدته
الطويلة المؤلَّفة من خمسة عشر نشيدًا
والمُعَنْوَنة بـمصرع شيشوبالا. هذا
الموضوع استقاه ماغها من المهابهارتا، وبطله
كرشنا[2]،
ملك منطقة دفارِكا، والمستشار الحكيم الذي
دعم آل بَندو وصار صديقًا حميمًا لأرجونا
وأسرَّ إليه بتعاليم البهغفدغيتا، ولعب
دورًا هامًا في الحرب الكبرى بين آل بَندو وآل
كورو. إن شيشوبالا، ملك منطقة شِدهي، انقلب
عدوًّا لدودًا لكرشنا لأن روكميني، خطيبته،
رفضتْه وتزوجت كرشنا. وبمناسبة تقديم
يودهِشترا لقربان راجا سويا، اقترح
بهيشما منح كرشنا مكانة العزَّة. عارض
شيشوبالا هذا الاقتراح، مدَّعيًا بأنه يوجد
أبطال آخرون يستحقون هذه العزَّة أكثر من
كرشنا، وأوسعه سبًّا وشتمًا. وبعد أن احتمل
كرشنا منه الإهانات وقتًا طويلاً انقضَّ عليه
في آخر الأمر وصَرَعَه (الصورة 7). هذه هي
الخطوط العريضة للقصة في المهابهارتا التي ظل
ماغها وفيًّا كلَّ الوفاء. تضم قصيدة شيشوبالا
وصفًا خلابًا لمدينة دفارِكا، عاصمة كرشنا
على الساحل الغربي ولجبل فاتَكا الأسطوري. الصورة 7:
كرشنا يصرع شيشوبالا. * وكذلك
قصيدة كيرَتارجونيا لبهارَفي – وهي إحدى
القصائد السنسكريتية الميلودرامية – تعتمد
على إحدى قصص المهابهارتا. إذ لما صار نشوب
الحرب بين آل بَندو وآل كورو أمرًا محتومًا،
أُشيرَ على أرجونا أن يطلب الأسلحة السماوية
من الآلهة، فذهب إلى جبال الهملايا وشرع في
تقشفات شديدة. لقد حاولت الحوريات السماوية
أن يغوينه؛ وقد استجاب لإغوائهن أول الأمر،
لكنه استطاع بعد ذلك ردَّهن ورجع إلى تأملاته.
ظهر له إندرا (رب السماء)، وأمره برفع الصلاة
إلى شيفا، فامتثل أرجونا. قَبِلَ شيفا
مبدئيًّا؛ إنما لكي يمتحن قوة أرجونا ويطمئن
إلى أنه يستحق الأسلحة التي يطلبها، ظَهَرَ
له في زيِّ صياد ودخل معه في شجار. أطلق شيفا
سهمًا على خنزير بري كان أرجونا قد أصابه
ويتعقَّبه، فادَّعى الاثنان ملكية الحيوان،
وبلغ الأمر بهما أن اقتتلا عليه. وأخيرًا، بعد
أن اطمأنَّ شيفا إلى بسالة أرجونا ومهارته في
النِّزال، كَشَفَ عن نفسه، وأعطاه السلاح
الرهيب المعروف باسم باشوبَتا أسترا (الصورة
8). الصورة 8:
شيفا يعطي كرشنا سلاح باشوبَتا. * كذلك
تقوم قصيدة جانَكي هارَنا الملحمية
لكوماراداس على قصة مأخوذة من الراماينا –
قصة اختطاف سيتا؛ وفيها يتضح أثر كاليداسا
الذي كان كوماراداس من المعجبين به أشد
الإعجاب. تشتمل قصيدة جانَكي هارَنا على
وصف خلاب للغابة التي أمضى فيها راما ردحًا من
الزمن مع لكشمن وسيتا (الصورة 9). وأشهر فقرات
هذه القصيدة تتحدث عن الدمار الرهيب الذي لحق
بالمعتزل السِّلمي للنساك من جرَّاء مكائد
الشياطين. يلتمس الرائي الكبير فِشفامِترا
راما ولكشمن طالبًا مساعدتهما لحماية النساك.
رافق البطلان الشابان فِشفامِترا إلى
المعتزل وطردا الشياطين وهدَّآ من رَوْع
النساك. * أما
فاتسابهَتي فيلجأ هو الآخر إلى الراماينا من
أجل وضع منظومته الهامة مصرع رافَنا. فإذا
كان اختطاف سيتا يسجِّل بداية الصراع الطويل
بين القوى الإلهية والشيطانية، فإن إحباط
مساعي رافَنا ومصرعه يضعان حدًّا لذلك الصراع
(الصورة 11). وعلى الرغم من عنوانها، فإن
القصيدة تغطي قصة الراماينا كلَّها، بصرف
النظر عن كون القصص المتأخرة قد تمَّ وصفها
وصفًا أكثر تفصيلاً وحيوية. وما يثير المشاعر
هو تناوُل فاتسابهَتي للجانب الوجداني. ثمة،
على سبيل المثال، وصفه لسيتا قبل اجتيازها
لنيران التعذيب لإثبات براءتها: إن طلبها
الهواء والبحر والأرض والشمس لتشهد ببراءتها
يُظهِر قوة سيتا الداخلية ويضيف إلى احتدام
الموقف (الصورة 10).
* ومتى
انتقلنا من الشعر إلى المسرح نجد كذلك أن
الأساطير أهم مصدر للأفكار الموحية. إن
مسرحية أُتَّارا راما شاريتا
لبهافابهوتي (مؤلَّفة من سبعة فصول) تستمد
موضوعها من الشوط الأخير لأسطورة راما. إن
راما يتنكَّر لسيتا استرضاءً لرأي الناس، على
الرغم من يقينه بأن عِرضها لم يُدنَّس إبان
الفترة التي ظلت فيها في لانكا سجينة لرافانا
(الصورة 10)، لأن الحكيم فالميكي قد أجارها في
معتزله. فهناك ولدت ابنيها: لافا وكوشا.
ومَضَتْ سنون، وترعرع الولدان بطلين باسلين.
يقرِّر راما إقامة شعيرة أشفاميدهايجنا.
ويمر حصان القربان يمتطيه تشاندراكيتو، ابن
لكشمن، بكلِّ المناطق، فلا يجرؤ ملك أو شيخ
قبيلة على إيقاف الموكب. لكنما حين يصل الموكب
إلى معتزل فالميكي، يبرز له فَتَيان يستبسلان
في المقاومة. يأتي راما إلى الموقع على عجل،
فتنكشف هوية لافا وكوشا، وبذلك يجتمع الأب
بولديه. الصورة 11:
القتال بين جيش راما (يحارب إلى جانبه لكشمن
وهنومَن) وبين رافَنا (ذي الرؤوس العشر)
وشياطينه. * وبهاسا،
الذي أثنى عليه كاليداسا نفسه، يستمد موضوعَي
اثنتين من مسرحياته من الراماينا، وخمسة
أُخَر من المهابهارتا. ففي مسرحية برايتما
ناتَكا، يتخيل بهاسا انعقاد لقاء بين راما
ورافَنا قبل اختطاف سيتا، وبذلك يخرج عن نصِّ
الراماينا المأثور. ومن
المسرحيات المقتبسة عن المهابهارتا تُعتبَر
مسرحية دوتا غهاتوتكَتشا أشهرها؛ وفيها
يمضي غهاتوتكَتشا، ابن بهيما من إحدى
الأبالسة الإناث (الـراكشَسا)، إلى آل
كورو رسول سلام. لقد استطاع بهاسا أن يُدخِل
في مسرحيته هذه حوارًا بين دريودهَنا وكرشنا.
يدافع الأول عن نفسه بشدة ضد الاتهام
الموجَّه إليه بحرمان آل بَندو من إرثهم
الشرعي، فيتهم كرشنا نفسه بأنه لم يكن نظيف
اليد وبأنه طالما لجأ إلى المكر والحيلة. *** ولكن
في حين أكثر الكتابُ المذكورون آنفًا من
الاقتباس من الأساطير القديمة لبناء
أعمالهم، وبذلوا جهودًا كثيرة لتقديم هذه
الأساطير في صورها الأصلية، لم يستطع أيٌّ
منهم أن ينقل الروح الباطنة للأساطير الهندية
ذلك النقل البديع كما فعل كاليداسا. نشير هنا
باختصار إلى قصيدتين لكاليداسا هما: راغهوفَمشا
وكوماراشَمبهَـفَم، وكذلك إلى مسرحيتين
من مسرحياته هما: فِكرامورفَشي وشَكونتلا. * إن
قصيدة راغهوفَمشا (= "سلالة راغهو")
تتحدث عن الملوك المنتمين إلى السلالة
الشمسية. يُذكَر في هذه القصيدة ثلاثون ملكًا
على وجه التقريب. لكن الموضوع محبوك بشكل
رئيسي حول خمسة أجيال، يمثل لها ديليبا
وراغهو وأجا ودَشترَتا، وأخيرًا راما نفسه.[3] لقد بقي الملك
ديليبا أبتر، منقطع النسل، مدة طويلة من جراء
لعنة سورَبهي، بقرة إندرا التي أهملها الملك
غير متعمِّد خلال إقامته الوجيزة في الجنة.
لقد حاول الملك ديليبا، بناء على نصيحة
أستاذه فَسِشْتها، استرضاء نَنْديني، ابنة
سورَبهي، وذهب حتى تقديم نفسه للسبع الذي
انقضَّ على سورَبهي لافتراسها. بيد أن السبع
كان أحد رُسُل شيفا المرسَل بناء على طلب
سورَبهي لاختبار مدى إخلاص ديليبا للبقرة
المقدسة وتكفيره عن ذنبه. وبذلك ذهبت اللعنة
ورُزِقَ ديليبا بولد. سمَّى
ديليبا ولده راغهو. وعندما شبَّ الولد صار
تشاكرافَرتي، أي "فاتحًا للعالم". وقد
هزم حتى الفرس والإغريق، وخلَّف لابنه أجا
مملكة امتدت من جبال الهملايا إلى كيرَلا.
تزوج أجا من أميرة جميلة تدعى إندومَتي،
وأخلص لها. لكن زواجهما لم يقيَّض له أن يستمر
طويلاً؛ إذ تبيَّن بعد سنين عديدة أن
إندومَتي هذه كانت حورية منفيَّة مؤقتًا من
الجنة؛ فلما انتهت مدة نفيها سقط من السماء
إكليل من الزهور رأتْ فيه إشارة إلى ضرورة
عودتها إلى موطنها، فارتفعت إلى السماء
واختفت. عندئذٍ ركب الملك أجا الحزن والملال. دَشترَتا
كان ابن أجا من الحورية، وهو بدوره والد راما.
ومن هذه النقطة يبدأ كاليداسا حكايته،
بأسلوبه الفريد المستعصي على أية محاكاة
وبإدخاله تعديلات على القصة الأصلية. وفي
رواية كاليداسا نقع على انعكاس لفكرتين
سَبَقَ أن تحدثنا عنهما، ألا وهما: تواكل
الإنسان والطبيعة، وأفضلية الـدهرما
على رغبات الفرد وحقوقه. * تقوم
القصيدة الثانية لكاليداسا – كوماراشَمبهَـفَم
– على الأساطير التي تتناول شيفا وبارفَتي.
وبدلاً من الهموم "الدنيوية"، المنزلية
والاجتماعية، التي تهيمن على قصيدة راغهوفَمشا،
يأخذنا الشاعر هذه المرة إلى أعالي الهملايا
المغطاة بالثلوج والمعروفة باسم كيلاشا. هناك
نجد شيفا، ربَّ النساك، غارقًا في تأملاته.
على أن الضرورة تقضي بإخراجه من اعتكافه
وترغيبه في الزواج لأن وحده الولد الذي ينجبه
له القدرة على إبادة الشيطان تارَكا الذي
زَرَعَ بذور الفوضى الشديدة بين الآلهة
والبشر على حدٍّ سواء. وبأمر من إندرا يحاول
إله الحب – مادهَنا[4]
– زرع الحبِّ في قلب شيفا؛ لكن شيفا يكتفي
بفتح عينيه وإلقاء نظرة على مادهَنا تُحيله
رمادًا من فوره. ثم يحاول فاسَنتا، إله
الربيع، الاحتيال عليه، فيحوِّل منطقة
الهملايا الثلجية المقفرة إلى جنة ملذات
حقيقية زاخرة بالخضرة وشذى الزهور وعيون
الماء والنسمات العليلات. لكن حتى هذه
المناظر البديعة لا تهز شعرة في شيفا. وأخيرًا
تظهر على الساحة بارفَتي، ابنة هملايا، التي
وجد فيها الآلهةُ جميعًا مَن يليق بها أن تكون
عروسًا لشيفا. لقد حاولت بارفَتي في البداية
إغواء شيفا بسحرها ودلالها، فأتتْه متزينة
بالأزهار العطرة؛ لكنه لم يحرك ساكنًا هذه
المرة أيضًا. تتعلَّم بارفَتي من هذا درسًا،
وتقرِّر أن تحيا حياة تقشُّف، فتقوم على خدمة
شيفا بكلِّ إخلاص، وهكذا تظفر بقلبه. إن ما
فشلت الفتنة الظاهرة في تحقيقه حقَّقتْه
صلوات المتعبِّدة بكلِّ يسر. على أن شيفا كان
يريد الاستيقان من طهارة نوايا بارفَتي،
فارتدى زيَّ برهمي وذهب إلى والد بارفَتي،
محاولاً إقناعه بأن شيفا، بشعره الأشعث وجسمه
القذر، لا يصلح زوجًا لكاعب عذراء رقيقة مثل
بارفَتي. فيقول له هملايا إن ابنته عزمت على
الزواج من شيفا عزمًا لا رادَّ له، وإلا فسوف
تموت عذراء. إذ ذاك يكشف شيفا عن هويته،
ويوافق على الزواج من ابنة أعالي الجبال،
ويتم الاحتفاء بزواج شيفا وبارفَتي في الجنة
بابتهاج لم يسبق له نظير (الصورة 12). وبعد مدة
يولد من هذه الزيجة ولد. وقد عُرِفَ هذا الولد
بلقب سكنداكَرتِكيا أو كومارا بسبب إبادته
الشيطان تارَكا. الصورة 12:
الاحتفال بزواج شيفا وبارفَتي (تحمل في حضنها
الفيل غنيشا صغيرًا). * أما
مسرحية فِكرامورفَشي[5]
(= "أورفَشي، جائزة البطولة") فقد بناها
كاليداسا على أسطورة فيدية جميلة عن ملك يدعى
بورورَفَس يهوى حورية تدعى أورفَشي. يتم
استعمال العنصر الميتافيزيائي بحرية تامة في
مختلف الأساطير الواردة في هذه المسرحية. لقد
نزل غضب الآلهة على أورفَشي، فتحولت إلى نبتة
زاحفة. بيد أن الملك يحصل على حَجَر سحري من
الجنة، بلمسها إياه تعود مرة أخرى إلى صورتها
الأصلية. إنما لم يكن مسموحًا لأورفَشي أن
تبقى على الأرض طويلاً، فكان لا بدَّ لها من
أن تعود إلى السماء؛ لكن الآلهة تطلب عون
بورورَفَس في معركتها ضد الشياطين، فتجيز له
استبقاء أورفَشي معه لقاء عونه. إن فكرة العلاقات
المتبادلة بين الإنسان والقوى السماوية
فكرة متكرِّرة في الأساطير عمومًا، على
اختلاف مصادرها، و"التوكل" ليس من طرف
واحد. * وأما
مسرحية شَكونتلا، فهي درَّة من دُرَر
الأدب العالمي. تقوم حبكة هذا العمل على
أسطورة من المهابهارتا حول بنت تولد من علاقة
بين حكيم وحورية، فتنشأ في صومعة وتتزوج من
ملك. لقد خرج كاليداسا في الواقع عن الأسطورة
الأصلية من حيث بعض التفاصيل، لكن عمله
يبلِّغ الفكرة الأساسية للأسطورة. تبدأ
المسرحية في جوٍّ من السذاجة والبساطة
والسلام والجمال الطبيعي (الصورة 13)؛ ثم تسير
رويدًا رويدًا تسير نحو حياة مفتعَلة باذخة
في قصر ملكي في المدينة، بكلِّ تعقيداتها
وخيباتها؛ لكي تعود في النهاية إلى الطبيعة،
إذ يتم اتحاد البطل والبطلة مرة أخرى بحضور
هملايا. إن الدرس من المسرحية شديد الوضوح: إن
السعادة والهناء القانع يتملَّصان منَّا
عندما نخلُّ بتناغم الحياة الكلِّية التي
نكون فيها جزءًا لا يتجزأ من الطبيعة الأم.
لكن كاليداسا يبلِّغ أيضًا فكرة أخرى لا تقل
عن الأولى أهمية، ألا وهي أن الحبَّ يصير
أخلص وأمتن عندما يتدرَّج من الصعيد الجسماني
إلى الصعيد الروحاني، وأن المعاناة
والآلام يمكن أن تلعب خلال هذه العملية
الانتقالية دورًا خلاقًا. لقد انجذب كلٌّ من
دُشْيَنتا وشَكونتلا إلى الآخر بدافع هوى
جارف، فذهب حبُّهما كما جاء، إذ حصل بينهما
سوء تفاهم أدَّى إلى انفصالهما. غير أن
تطهُّرهما في نار المعاناة وحَّدهما في
النهاية بأواصر من الحبِّ عميقة صافية. الصورة 13:
شَكونتَلا قبل زواجها من الملك دُشيَنتا، رمز
التناغم مع الطبيعة. * في
القرن الثاني عشر أخذت اللغات الإقليمية
تحلُّ محلَّ اللغة السنسكريتية كوسيلة
للتعبير الخلاق. تشكِّل رائعة جاياديفا غيتاغوفندا
آخر النصوص باللغة السنسكريتية التقليدية.
تتكلَّم الفقرات الافتتاحية للقصيدة بإيجاز
عن تجسدات فشنو العشرة (التي تضم البوذا أيضًا)
التي يكتمل بها دورنا البشري الحالي، لكن
بقيتها موقوفة كلَّها لأسطورة كرشنا. وكرشنا
هذا هو عينه كرشنا راعي البقر في غابات
فرِنْدافانا، المرتدي ثوبًا من الحرير
الأصفر، والمطوِّق عنقَه بالياسمين،
والمكلَّل بريش الطاووس، والعازف على الناي (الصورة
14). إن كرشنا ينقاد إلى إغراء راعيات البقر
الفاتنات، ناسيًا رادها، حبَّه المخلص
الحقيقي. ولكن سرعان ما يتلاشى هذا السحر،
ويعود كرشنا إلى رادها التي أحبَّتْه حتى
العبادة (الصورة 15). هذه القصيدة رمز إلى الروح
الخالدة – كرشنا – التي، إذ تتجسَّد، تنسى
أصلها الإلهي وماهيَّتها الحقيقية، فتنجذب
إلى عالم الكثرة والتنوع؛ لكنها أخيرًا ترجع
إلى المصدر الذي أتت منه (بما يشبه "عودة
الابن الضال" في القصص المسيحي).
*** إن
مرحلة الانتقال من اللغة السنسكريتية إلى
اللغات الإقليمية لم تؤثِّر البتة في دور
الأساطير في الأدب، ولاسيما في الأدب المنظوم.
إن أول عمل أدبي استُهِلَّتْ به هذه الفترة
كان ترجمة الراماينا. لقد شكَّل الحافز القوي
للتعبد ومحبة الحق والإخلاص له في علاقة
صميمية العاملَ الحاسم في الشعر الهندي في
القرون الوسطى في طول البلاد وعرضها، فلقيت
الأساطير القديمة عن الآلهة الكبار في
البانثيون الهندوسي اهتمامًا منقطع النظير
من قبل الشعراء، الروحانيين منهم والرائين.
ولأن الأساطير الهندية غنية جدًّا ومذهلة
التنوع، فقد وجد فيها كلٌّ تعبيرًا عن مزاجه
الروحي الخاص. لقد
ألهبتْ الأساطير الخاصة بشيفا وفشنو شعراء
نايانامار وألفار في جنوب الهند على الترتيب.
وبحسب الروايات، كان ثمة إثنا عشر شاعرًا
فيشناويًّا وثلاثة وستون شاعرًا شيفاويًّا.
وقد ظهر في تلك الفترة عددٌ لا يستهان به من
المقتطفات الأدبية أعدَّها مؤلِّفون مغمورون
في أغلب الأحيان؛ وهي تضم كلَّ الأساطير
الخاصة بشيفا وفشنو كما سَرَدَها هؤلاء
الشعراء. ولقد ترنَّم شيعة طائفة لنغايات،
المعروفون أيضًا، بالـفيراشائيفا – "الأساطير
الشيفاوية" – وعبَّروا من خلالها عن
خبراتهم السرَّانية الأعمق. ولقد كان باسا
فاراجا، مؤسِّس هذه الطائفة، من كبار الزعماء
الروحيين المؤثِّرين في جنوب الهند. وفي
الطرف الشمالي للهند، كانت كشمير نواة
الطريقة الشيفاوية. إنما من وجهة نظر الإنتاج
الأدبي إجمالاً تبدو الطريقة الفشناوية –
وهي طريقة "بهكتية" في الأساس – أقوى
تأثيرًا، وبخاصة فيما يتعلق بالشعر في
البنغال وغوجرات وراجستان وأوريسا وآسام
ومناطق أخرى من شمال الهند. وقد نظم الشعراء
مستوحين أساطير راما وكرشنا – "تنزُّلي"
فِشْنو – القصائد والأناشيد التي ما تزال
تُغنَّى إلى يومنا هذا، ولاسيما في الساعات
الأولى من الصباح والمساء. * الشاعر تولسي داس
(حوالى 1550-1623) لقد
أثَّرتْ منظومة رام تشارِتا مانَسا
لتولسي داس في حياة الملايين من عامة الناس،
رجالاً ونساء، بغضِّ النظر عن الطوائف
والمراتب الاجتماعية والثقافية. وتكاد
القرون الأربعة التالية أن تخلو من أيِّ
مكافئ للتأثير القويِّ لهذا العمل المقتبَس
عن الراماينا. لقد كان الشعراء البهكتيون قبل
تولسي داس يلجأون إلى القصص الأسطوري لحياة
راما التي حبكوها في قصائدهم ومحاضراتهم
الدينية. من بين هؤلاء رامانندا من فارنسي،
الذي تتلمذ عليه مريده الشهير كبير، الصوفي
العظيم. وعلى الرغم من أن كبير – المسلم –
انتمى إلى جناح نيرغونا ("عديم الصفات")
للحركة البهكتية، واعتبر الحقَّ الأسمى غير
قابل للوصف، فلم يتحرج من مخاطبة الله باسم
راما أيضًا. ومن بين المؤسِّسين لأسطورة
الشعراء الفيشناويين من البنغال نذكر الشاعر
سورداس (الذي لا يقل نتاجُه أهمية عن الشاعر
تولسي داس)، وميرابين، الأميرة التي صارت
قديسة–شاعرة، وتغنَّتْ في قصائدها بصِبا
كرشنا وشبابه في قصائد تفيض عذوبة ومحبة. * وفي
العصر الحديث تحول عددٌ من الكتاب الهنود عن
التراث الأسطوري، وتوجَّهوا إلى الغرب
لاستيحاء الأفكار. لكنما سرعان ما تبيَّن
لأولئك الكتَّاب بالإنكليزية أن تقاليد
الأدب الهندي تضرب بجذورها في الأساطير، وأن
هذه الجذور لا يمكن التضحية بها لمن يريد أن
يتعمق في فهم الحياة الهندية ووصفها وصفًا
مقنعًا ومبدعًا.[6] لقد
نهل الكتَّاب في كلِّ لغات الهند تقريبًا من
معين الأساطير. نذكر هنا، على سبيل المثال،
بهاراتندو هَريش تشندرا الذي يُعتبَر أبا
الأدب الهندي الحديث والذي اقتبس موضوعات عدد
من مسرحياته الكبيرة من المهابهارتا. وكذلك
قصيدتا ساكيت وكامايان لمائيتهيالي
تشارَن وجايا شيكْهَر براساد، على الترتيب،
مبنيتان على الثيمات الأسطورية. وإن مهاديفي
فارما لجأتْ إلى الأساطير الفيدية وأساطير
سيرة البوذا في عدد من قصائدها. وفي عهد ما بعد
الاستقلال، الذي يتميز بنهضة الثقة
والاعتزاز بالتراث، ازداد الاهتمام
بالأساطير بهدف استيحاء الأفكار والموضوعات. * رابندرانات طاغور
(1861-1941) بيد
أن أحسن نماذج العودة إلى التفسير الخلاق
للأساطير في الأدب الهندي الحديث نقع عليه في
أعمال رابندرانات طاغور. إن طاغور في هذا
المجال، كما في المجالات الأخرى التي اهتم
لها، هو خير من يمثل لهذا التيار. لقد قدَّم في
عدد من محاضراته ومقالاته تأويلات حاذقة
للمعاني العميقة للأساطير. ففي مقاله الشخصيات
المهملة في الشعر جاء على ذكر عدد من الشخوص
المؤنثة في الراماينا والمهابهارتا. وقد كتب
قصائد في كاشا وديفاياني ودهرِتَرَشترا
وغندهاري أهاليا وأرميلا وغيرهن؛ وبعض
قصائده تتحدث عن أوباغوبتا وفاسافادتا
وسوداسا البستاني وغيرها من الشخوص المستقاة
من الـجاتكا وغيرها من المؤلَّفات
الأسطورية البوذية. غلاف ترجمة تركية
لمسرحية طاغور تشيترا وأخيرًا
نشير إلى مسرحية طاغور الشهيرة تشيترانغدا
(الصورة 16) المبنية على قصة من قصص
المهابهارتا. إن أرجونا في جولاته يبلغ
كاماروبا، حيث يتشاجر مع الأميرة تشيترانغدا
التي لم ينجب والداها صبيًّا، فربياها تربية
الفتيان حتى أجادت فنون الحرب كلَّها. إنها
تدخل في جدال ساخن مع أرجونا، يستتبعه نِزال،
فيُدهش أرجونا من بسالتها. أما الأميرة
فتُغرَم بالبطل البَندوفي (من آل بَندو)
الجميل. لقد تحركتْ فيها طبيعة الأنثى
المكبوتة، فتحولت الفتاة المسترجلة إلى
امرأة حقيقية. وتنتهي القصة بزواج الأميرين،
ويثمر هذا الزواج عن طفل يسميانه بابهوفاهَنا. الصورة 16:
الراقص الهندي الكبير أناندي براساد (في دور
أرجونا) يؤدي مع فرقة مسرحيةَ طاغور تشيترا
(1953). أثر الميثولوجيا على العمارة والنحت
والرسم والموسيقى لقد
كان دور الأساطير في التعبير الفني الجمالي
للثقافة الهندية من القوة بحيث إن أيَّ تقدير
أو إدراك لمعاني الفنِّ الهندي يظل متعذرًا
بدون حدٍّ أدنى من الإلمام ببعض الأساطير
الرئيسية والرموز المتعلقة بها. ولسوف نكتفي
بذكر عدة نماذج من الطيف الواسع للفنِّ
الهندي لإظهار العلاقة الوثيقة بين الأساطير
والفن. لعلَّ
الأنسب هو تصدير هذا القسم من بحثنا بفنِّ
المعمار والنحت. إذ تكاد جميع التماثيل في
الهند أن تكون منحوتة في الجدران والأعمدة
والبوابات والأسقف أو المتائف الواصلة بين
الجدران والأعمدة والأسقف. وباستثناء
التماثيل المعدنية في جنوب الهند، قلما توجد
تماثيل منفصلة. لذا يمكن اعتبار المعمار
والنحت فنًّا واحدًا لا يتجزأ. إذا
شئنا أن نبدأ بتمثيل الأساطير الخاصة
بالبوذا، يمكن لنا أن نتوجَّه إلى أحد الآثار
المبكرة القائمة، ألا وهو البرج البوذي في
سانتشي (الصورة 17). إن البرج الرئيسي غير
مزيَّن البتة، بيد أن البوابات الأربع التي
أضيفت إليه بعد قرنين من بنائه مزينة بالنقوش
تزيينًا بديعًا. ينتمي هذا الأثر التاريخي
إلى المرحلة المبكرة من البوذية، والبوذا ما
يزال يُعتبر معلِّمًا حكيمًا، وليس شفيعًا
مخلِّصًا. ولأنه لم يكن قد أُلِّه بعد، لا
توجد أية تماثيل تمثل له في سانتشي، إنما
يُدلَّل على وجود السيد بمقعد خال تحت شجرة
بودهي (الصورة 18) أو برموز أخرى، مثل أثر
القَدَم وعجلة الدهرما والمظلة الملكية
وقصعة الصدقات وعصا الترحال. الصورة 17:
برج سانتشي، منظر عام. على
الرغم من أن صورة البوذا لا تظهر في لوحات
سانتشي، لكن الأساطير المتعلقة بحوادث حياته
الرئيسية ممثَّلة فيها. فعلى سبيل المثال،
توجد لوحة تمثل الحلم الذي ترى فيه الملكة
مايا، أمُّه، قبل ولادة سدهرتا فيلاً ناصع
البياض يندس في بطنها (الصورة 1). وبعض الحوادث
الأخرى تمثِّل لزهده، وإغراء الشرِّ، وترويض
الفيل الثَّمِل نالاغيري، وعودة البوذا إلى
كبيلافَستو، مسقط رأسه. وكذلك تظهر في هذه
اللوحات مناظر من قصص الـجاتَكا التي
تتناول تجسُّد للبوذا السابق وبعض اللوحات
الخاصة بقصص الـجاتَكا تمثل مهابكَبي
وشدانتها وفَسنتارا. الصورة 18:
تفصيل من إحدى بوابات سانتشي، يمثَّل فيه
للبوذا بمقعد خالٍ تحت شجرة بودهي. * وإذا
تركنا الأساطير البوذية للتعريج على
الأساطير الهندوسية، لا بدَّ أن نقع على
تماثيل فشنو. فالأسطورة التي تروي نوم فيشنو
على لفَّات الثعبان شيشاناغا، كما ذكرنا،
تظهر في صورة لوحة توجد في معبد داشافاتارا
وديوغره في الهند الوسطى (الصورة 19). إن هذا
الثعبان يطفو على بحر اللبن البدئي؛ والإله
العظيم يستريح واضعًا ذراعه اليسرى تحت رأسه،
بينما زوجه لكشمي تدلِّك قدميه. وفوق هذه
الصورة الرئيسية المستلقية، توجد ثمة أشكال
مصغَّرة لبرهما وشيفا وإندرا. وفي أوداياغيري
بالهند الوسطى نقع كذلك على التجسد الثالث
لفشنو: فَرْهافاتارا (تجسد الخنزير). ويظهر
فشنو في صورة الخنزير لإبادة الشيطان
هرانياكشا ولرفع الأرض عن مياه الفيضان (الصورة
20). في المعبد الساحلي في مهابالِبورَم، قرب
مَدْراس (شيناي الحالية)، نجد تمثيلاً رائعًا
آخر لفشنو مستلقيًا على الثعبان.
إن
بعض النماذج المؤثرة للنحت الهندوسي مكرَّسة
لمختلف الأساطير الخاصة بشيفا؛ ففي بعضها،
كما نجد في المعبد الشيفاوية الشهيرة في
خاجوراهو، يظهر شيفا وبارفَتي (أو هارا–غاوري
كما يُدعَيان في بعض الأحيان) في وصال حميم
يرمز إلى اتحاد الوعي والطاقة، شكتي (الصورة
21). وفي معبد كيلاشا في إلورا توجد أشهر لوحة
تُظهِر شيفا وبارفَتي جالسين معًا على جبال
كيلاشا هادئين ساكنين. وهنا يظهر رافَنا، ملك
لانكا الشيطان مزلزِلاً الجبال. الصورة 21:
ثنائي شيفا وبارفَتي، خاجوراهو. إن
زواج شيفا وبارفَتي[7] يشكِّل أبدع
لوحة بمعبد جزيرة إليفَنْتا (الصورة 22) على
مقربة من مومباي (بومباي سابقًا). وفضلاً عن
ذلك، يوجد تمثالان آخران لشيفا في إليفَنْتا
يستحقان الذكر، ألا وهما: أ. أردهنَريشفرا،
أحدي الجنس المقدس[8]؛
ب. مهيشامورتي – وفيها يظهر شيفا مثلَّث
الرؤوس (الصورة 23). وهذه اللوحة الأخيرة لا
تمثِّل المجموعة المؤتلفة لثلاثة آلهة في
صورة واحدة، كما يمكن لبعضهم أن يظن، بل
بالحري المظاهر أو "الأقانيم" الثلاثة
للإله نفسه؛ وبذلك تقدِّم لنا اللوحةُ فكرة
فلسفية هامة، ألا وهي أن الحقَّ واحد، إنما
يمكن النظر إليه من منظورات مختلفة.
إن
المعبد الهائل والمدهش في كوناراك في أوريسا
مكرَّس لسوريا ديف – إله الشمس (الصورة 24).
ويظهر هذا البيت المعمور على شكل مركبة
بدواليبها الـ24 المنقوشة بدقة (الصورة 25)،
تجرها ستة جياد مطهمة. إن الأسطورة الخاصة
بإله الشمس القائد لمركَبته تحت القبة
الزرقاء، من بزوغ الفجر إلى غسق الليل،
منقوشة في الحجر. وهناك مصاطب عديدة تقف عليها
النساء مطبِّلات، وأصابعهن على الطبول،
معلنات استهلال سَفَر إله الشمس. وإن قصة هبوط
الغانغا (نهر الغانج) من الفردوس على الأرض
بعد مرورها من خلال شَعْر شيفا هي موضوع لعدد
من اللوحات التي يوجد أحسنُها في
مهابالِبورَم على مقربة من مَدْراس.
*** والرسم
كذلك وسيلة تعبير للأساطير. ولسوء الطالع لم
يبقَ إلا قليل جدًّا من الرسوم القديمة. إن
الجدرانيات الجصِّية مشبَعة بالأساطير
البوذية (الصورة 26). وهناك دلائل واضحة تشير
إلى أنه في وقت مضى كانت جدران عدد من المعابد
الهندوسية مغطاة بالرسوم الملونة التي تمثل
عددًا من الشخوص والحوادث الأسطورية. الصورة 26:
جدرانية تمثل البوذا، أجانتا، الكهف التاسع. إن
مدرسة راجبوت للمنمنمات (التي يرجع تاريخها
إلى القرن السادس عشر) والأساليب البِهارية
والدوغرية في الرسم التي ظهرت بعدها تُبرِز
ولع الفنانين بأساطير رادها وكرشنا (الصورة
27). هذا ولم يتورع رسامو أسلوب مدرسة راجبوت في
تمثيل الحالات العشقية الحميمة (الصورة 28)
لتزيين صفحات مصنفات علم الجنس الراقي (مثل
الـكاماسوترا)، رمزًا إلى حال الوصال بين
شيفا وشكتي. وفي العصر الحديث راح رسامو
النهضة البنغالية[9]
يرسمون بدقة متناهية مشاهد فريدة من حياة
البوذا والأساطير الهندوسية، وبخاصة تلك
التي تتعلق بكرشنا. وخلال العقود الأخيرة،
ظهر الاهتمام من جديد بالأساطير، كما تدل
عليه أعمال بعض الفنانين المعاصرين.
*** كذلك
فإن الموسيقى الهندية تدل على نفوذ الأساطير
المستمر في الموسيقى الهندوستانية
الكلاسيكية وهيمنتها عليها، وبخاصة عندما
يتم تقديمها بأسلوب دهروباد. وإن المقطوعات
البديعة التي تصوِّر مآثر راما وشيفا
وسَرَسْفتي ديفي وغيرهم من الآلهة ما تزال
تحظى بالتقدير والشعبية منذ أجيال. كذلك ما
تزال أساطير كرشنا تحظى بشعبية لا نظير لها
عندما تُعزَف بالأساليب الكلاسيكية للموسيقى
الهندوستانية، مثل تومري ودادرا. وإن الرقص
الهندي الكلاسيكي تسود عليه الصبغةُ
الدينية، ويستقي موضوعاتِه من الأساطير بصفة
رئيسية. وهنا نجد تنوعًا شديدًا: ففي مَدْراس،
حيث يزدهر رقص الكتهاك والمانيبوري، يتم
تمثيل أساطير رادها وكرشنا الرومانسية،
المأخوذة في أغلب الأحيان من الـغيتاغوفندام
لجايا ديفا، بحركات وقورة وإيماءات دقيقة من
العيون والأصابع، يرمز كلٌّ منها إلى دقائق
ما يجري في النفس البشرية. ومن خلال رقص
البهارات ناتيام والكاتهاكالي، يتم تمثيل
القصص الرامايانية والأساطير الشيفاوية. ومع
أن للأساطير الكرشناوية مكانتها الثابتة،
لكن المنزلة الأولى من نصيب أساطير شيفا،
وبخاصة في مظهره الناتاراجا – سيِّد الرقص
الكوني (الصورة 29). إن شيفا يظهر وفقًا لهذه
الثيمة الأسطورية من السكون البدئي، فيرقص
ويرقص، حتى يظهر العالم إلى الوجود؛ ثم، حين
يصيبه الإعياء، تبدأ حركاته بالتباطؤ حتى
يسكن، فيرجع العالم إلى حالة الانحلال. الصورة 29:
ناتاراجا، شيفا "ملك الراقصين". خاتمة لقد
أقدمنا على كتابة هذا البحث الوجيز بهدف لفت
انتباه القارئ العربي إلى عدد من خواص
الأساطير الهندية، وللتدليل على الدور
الخلاق الذي تلعبه في التراث الثقافي النقلي
الهندي إجمالاً، وللفت النظر إلى بعض
التعبيرات الخاصة بهذا المنقول العريق. بيد
أننا نعي مبلغ تقصيرنا في هذا الباع. فالمواد
المتوفرة لدارس الأساطير الهندية واسعة
جدًّا وشديدة التنوع. ولقد كنَّا مضطرين إلى
اختيار عدد محدود من النماذج من مخزون هائل من
الرموز والمفاهيم الفلسفية والأخلاقية
والأعمال الفنية الرائعة. لم نأتِ في هذا
المقال إلا على ذكر الأساطير الأشهر، فيما
اقتصرنا على إشارات سريعة إلى الأعمال
الشعرية والنحتية. ولا
نلمس اليوم أثر الأساطير في فنون الرسم
والموسيقى والرقص وحسب، بل وفي مجالي المسرح
والسينما. واليوم يُبدي منتجو البرامج
الإذاعية والتلفزيونية رغبة شديدة في العودة
إلى الأساطير لاستمداد الموضوعات التي
ينتجونها. فلقد أخذت الأساطير تحرِّك مشاعر
الشعب الهندي على نحو جديد. لم يعد الناس
يفهمون من الأساطير إلا مدلولاتها الخارجية،
وغابت عنهم رموزها الميتافيزيائية التي
تنطوي على عمق الوجود والحياة؛ لكنها مازالت
تؤثر فيهم، وما تزال معانيها تفعل فعلها في
نفوسهم من حيث لا يعون. وبذلك تستمر تلك
الخاصية المميزة للأساطير الهندية في
علاقتها الوثيقة بحياة الناس العملية. وهذا
يصدُق اليوم كما كان يصدُق في العصور القديمة
والعصر الوسيط. وقبل نصف قرن تقريبًا كان "مفكرون"
عديدون يعتبرون الأساطير شيئًا أكَلَ الدهرُ
عليه وشرب. أما اليوم، فقد عاد اهتمام عامة
الناس بها مترجَمًا إلى اختيار آباء عديدين
أسماء مستقاة من الأساطير لمولوديهم الجُدد:
لم يعد اليوم اختيار أسماء من نحو ناكولا
وياياتي وتشيترا وأديتي وديفاياني
وآروندهاتي وإندراماني بالأمر المستغرَب بعد
أن كاد أن يصير مستهجنًا؛ وهذا إن دلَّ على
شيء فإنما يدل على رغبة مكنونة في الناس
باستعادة هويتهم الثقافية. عود
على بدء: أجل، إن الثبات والتحول معًا هما
سداة المنقول الهندي ولحمته. ولأن الأساطير
جزء لا يتجزأ من ذلك المنقول، فإنها تعكس هذين
الميلين المتزامنين بصورة ملموسة. إن
المفاهيم الأساسية والقيم الخاصة بالأساطير
العظيمة تُظهِر ثباتَها واستمراريتها غير
المنقطعة، لكن مع تجدد تفسيراتها وتأويلاتها. لم
يتردَّد صانعو الأساطير الهندية فيما مضى في
إبعاد بعض الآلهة إلى خلفية المشهد الأسطوري
العام وإبراز آلهة أخرى إلى المقدمة. فليس من
المستبعد، إذن، أن تنضم اليوم آلهةٌ جديدة
إلى البانثيون الهندوسي. ومن الملحوظ، في
أيامنا هذه، أن يضع الفنان القروي تماثيل
طينية للمهاتما غاندي إلى جانب تماثيل شيفا
وراما وكرشنا في الأسواق التي تقام في
المعارض الشعبية التقليدية أو بمناسبة
المهرجانات (كهومب). كذلك كثيرًا ما نقع في
حوانيت الرصيف على تقاويم وبوسترات عليها صور
المهاتما وراماكرشنا بارَمهامسا، وهالة
القداسة التقليدية حول رأس كلٍّ منهما. ولعله
في يوم آتٍ سوف تُنسَج الأساطير حول أساتذة
روحيين معاصرين، مثل راماكرشنا ورامانا
مهارشي وأنانداماي ما ورام داس
وكريشنامورتي، مثلما نُسِجَتْ في الماضي حول
كرشنا والبوذا وشنكرا ورامانوجا وغيرهم من
حكماء الهند ورائيها الخالدين. *** *** *** مراجع مختارة -
Arnold, Edwin (Sir), The Light
of Asia & The Indian Song of Songs (Gita-Govinda), Jaico
Publishing House, Bombay-Calcutta. -
Aurobindo, Sri, Savitri: A
Legend and a Symbol (followed by the author’s letters on the poems), Sri
Aurobindo Ashram, Pondicherry, 1954. -
Campbell, Joseph (with Bill
Moyers), The Power of Myth, Edited by Betty Sue Flowers, Doubleday, New
York, 1988. -
Chakraverty, Anjan, Indian
Miniature Painting, Tiger Books International, London, 1996. -
Coomaraswamy, A.K., The Dance of
Siva: Fourteen Indian Essays (with a Foreword by Romain Rolland), Asia
Publishing House, Bombay, 1956. -
Craven, Roy C., Indian Art: A
Concise History, Thames, New York, 1985. -
Daniélou, Alain, The Myths and
Gods of India, The Princeton Bollingen Series, Inner Traditions
International, 1991. -
Dutt, Romesh Chandra (tr.), The
Ramayana & The Mahabharata (1899), http://www.sacred-texts.com/hin/dutt. -
Filliozat, P., « Kālidāsa »,
in Encyclopædia
Universalis,
vol. 9, 1975. -
Floyd, Leela, India Music,
Oxford University Press, 1980. -
Gandhi, Indira & Jean-Louis
Nou, Eternal India, B.I. Publications, New Delhi, 1980. -
Garratt, G.T. (Ed.), The Legacy
of India (with an Introduction by the Marquess of Zetland), Oxford
University Press, 1951. -
Gaston, Anne-Marie, Bharata
Natyam: From Temple to Theatre, Manohar, New Delhi, 1996. -
Ghose, Sudhin N., Folk Tales and
Fairy Stories from India, Dover Publications, 1996. -
Gray, John E.B., Oxford Tales
from India, Oxford University Press, 2001. -
Herbert, Jean, La mythologie hindoue : son message, Albin
Michel, Paris, 1958. -
Hutchins, Francis G., Animal
Fables of India, Amarta Press, 1985. -
Jansen, Eva Rudy, The Book of
Hindu Imagery: The Gods and Their Symbols, Binkey Kok, Havelte, 2001. -
Kalidasa, The Recognition of
Sakuntala, Oxford University Press, 2001. -
Kapoor, A.N., V.P. Gupta &
Mohini Gupta (Eds.), An Encyclopaedic Dictionary of Indian Mythology, New
Delhi, Radha, 2004. -
Mitchell, George, The Hindu
Temple: An Introduction to Its Meaning and Forms, University of Chicago
Press, 1988. -
Mitchell, Pratima & Liba
Taylor, Dance of Shiva, London, Hamilton, 1989. -
Régnier, R. & M.-T. de Mallmann, Filliozat, P., « Inde : Les
arts », in Encyclopædia
Universalis,
vol. 8, 1974. -
Shepard, Aaron, Savitri: A Tale
of Ancient India, A. Whitman, Morton Grove, Il., 1992. -
Sivaramamurti, Calambur, The Art
of India, India Book House, Bombay, 1977. -
Varenne, Jean, « Langue et littérature sanskrites », in Encyclopædia Universalis, vol. 14, 1976. -
Vaudeville, C., « Tulsī-Dās »,
in Encyclopædia
Universalis,
vol. 16, 1976. -
Zimmer, Heinrich, Myths and
Symbols in Indian Art and Civilization, Edited by Joseph Campbell, Bollingen
Foundation, Pantheon Books, New York, 1946. -
Zimmer, Heinrich, The Art of Indian Asia: Its
Mythology and Transformations, Edited by Joseph Campbell, Bollingen
Foundation, Pantheon Books, New York, 1955. -
روائع طاغور في الشعر
والمسرح،
نقلها إلى العربية د. بديع حقي، دار طلاس،
دمشق، 1993 (طب 2). -
المهابهاراتا: ملحة الهند
الكبرى،
بترجمة وتقديم عبد الإله الملاح، دار ورد،
دمشق، 2002. [1]
ثمة ترجمة ممتازة لهذه القصيدة
بعنوان "يقظة الإيمان" قام بها فقيه
البوذية والزِنْ الكبير د.ت. سوزوكي؛ جاء
فيها: "أصل الأشياء كلِّها واحد، هو هو،
كامل الهدوء والسكينة، ولا يُبدي أية علامة
من علامات الصيرورة. أما الجهل فهو أعمى
ومتناسٍ بحق لطبيعة الاستنارة؛ وهو، من
جراء ذلك، لا يمكن له أن يتعرَّف بحق إلى
تلك الأحوال والفوارق والنشاطات كافة التي
تتميز بها ظاهرة الكون." [2]
وهو غير كرشنا، الشاب الوسيم الذي ذاع
صيتُه من جرَّاء تغزُّله برادها وراعيات
البقر من فراجا. [3]
الواقع أن الجزء الأخير لهذه القصيدة
يلخِّص الراماينا كلَّه. [4]
يقابله إيروس–كوبيدون في الميثولوجيا
الإغريقية–الرومانية. [5]
ترجمها إلى الإنكليزية شري أوروبندو
بعنوان البطل والحورية. [6]
إن ميخائيل مادهو سودان – وهو مسيحي من حيث
العقيدة، مستغرب من حيث التعليم – اختار
قصة درامية من الراماينا موضوعًا
لقصيدته الشهيرة ميغانادا فادها كافيا
التي تصف مقتل ميغانادا أو إندراجيت، ابن
رافَنا، على يد لكشمن. وتورودت، التي صرفت
معظم عمرها القصير في إنكلترا، كتبت قصيدة
مبنية أساسًا على حكاية "ساتيافان
وسافيتري" المستقاة من المهابهارتا. ومن
جانبه، بنى شري أوروبندو أيضًا ملحمته
الشعرية سافيتري على هذه الحكاية نفسها. [7]
موضوع عمل كاليداسا العظيم كوماراشَمْبهَـفَم
كما مرَّ بنا. [8]
تظهِر هذه اللوحة شيفا في وجهيه الأنثوي
والذكري، حيث يبدو فيها نصفُه امرأة ونصفُه
الآخر رجل. يقابله هرمافروديتوس (= هرمس +
أفروديتي) في الميثولوجيا الإغريقية. [9]
أمثال غاغانِندرانات وأبِندرانات طاغور (شقيقي
الشاعر المعروف) وكستين مازُمْدار
وناندلال بوش وأسِت كومار هالدار. |
|
|