|
حول
الانغلاق والانفتاح الشابُّ
المسلم لا يعرف ما المناظرة: فقد
تعلَّم أن مَن لَمَسَ القرآن كافر ويجب قتله! نحن
منغلقون في فَلَكِنا الإسلامي الخاص، وليست
لنا نافذة صغيرة ننظر منها إلى جارنا اليهودي
أو النَّصراني محمد أركون واحد من
أعلام الدراسات الإسلامية في الجامعات
الغربية، ويكاد أن يكون من المفكِّرين
القلائل في العالمين العربي والإسلامي الذين
يملكون مشروعًا فكريًّا حقيقيًّا، يتجاوز
إطار الجامعة والدراسات الأكاديمية، ليصبَّ
في همِّ التحديث والتنوير الذي طالما شغل
روَّاد النهضة العرب منذ نهاية القرن التاسع
عشر. أنجز محمد أركون، على
مدى الأربعين سنة الماضية من البحث والتدريس
في جامعة السوربون، عددًا كبيرًا من البحوث
والمؤلَّفات حول الفكر الإسلامي والظاهرة
الدينية، جاءت في معظمها باللغة الفرنسية،
وترجَمَها إلى العربية هاشم صالح. مشروع محمد أركون
الفكري مسكون، منذ البداية، بهاجس
الأنْسَنَة في السياق العربي الإسلامي،
وبهاجس القطيعة مع الخطابات الإيديولوجية
الموجَّهة إلى الخيال الاجتماعي. يعمل بجهد
دؤوب على فهم "الظاهرة الدينية" وفق منهج
التاريخ المقارن للأديان، وعلى إنتاج
تاريخنا الخاص بعمل الذات على الذات، وبتحقيق
قراءة نقدية للتاريخ الذي ينتجه الآخرون لنا. وككلِّ باحث ومفكر
قدير، يعي محمد أركون تمامًا صعوبة أن تصل
نتائجُ أبحاثه على الشكل السليم إلى الجمهور
الواسع من القرَّاء. لذا فهو شديد الحرص على
عدم الدخول في المهاترات الصحافية والانزلاق
إلى السِّجالات السياسوية. هذه المقابلة تنشد
إطْلاع القرَّاء على بعض مفاصل فكر محمد
أركون في شأن "الظاهرة القرآنية"،
بعيدًا جدًّا عن الاستعراض. محمد
علي الأتاسي *** نبدأ
هذا اللقاء بأسئلة مستبعَدة من مجال التداوُل
لدى أتباع الدين الإسلامي في عصرنا الراهن،
منها: لماذا لم يأمر الرسول بجمع القرآن إبان
حياته، بل تمَّ هذا في عهد الخليفة عثمان بن
عفان؟ وما هي المسائل التي أحاطت بجمع المصحف
وبانتقال الكلام الإلهي من منزلة الخطاب
الشَّفهي إلى منزلة الخطاب المكتوب
والمدوَّن؟ ولماذا لم تُرتَّب آياتُ القرآن
وفقًا لترتيب النزول؟ وماذا يمكن القول عن
حال اللغة العربية في ذاك الزمن وخلوِّها من
التنقيط، وعن منزلتها كلغة بشرية لم تتوقف عن
التطور والتبدل، قبل ظهور الإسلام وبعده؟ وما
علاقة هذا كلِّه بقدسية النصِّ القرآني؟ يُطرح
مثل هذه الأسئلة في كتاب، وليس في حوار يقرؤه
جمهور واسع، له تصورات مسبَّقة، وخصوصًا فيما
يتعلق بالدين. الموضوع يحتاج إلى تأسيس ووقت
طويل عندما يتعلق بالدراسات القرآنية. لا
أستطيع أن أقول الأمور ببساطة، من دون تحليل
وشرح لازمين، حتى لا يؤاخذني القارئ على ما
أقول وقد يخالف فكره. فالقضية هنا قضية تواصُل.
أنا الآن في صدد إنجاز كتاب كامل عن موضوع
القرآن وسورة التوبة. وعندما يصدر، يصير هذا
التواصل ممكنًا، لأنه يمكِّنني من أن أحيل
عليه. أنت تسأل، ولكن لست أنت مَن سيتحمَّل
مسؤولية إجابتي عن أسئلتك. المشكلة هي في
إبقاء التواصل مع الجمهور العريض. كلُّ
مسلم يقرأ القرآن، ويعيشه، ويفهمه فهمًا
عفويًّا، وليست هناك مشكلة. القرآن ليس
معقدًا بالنسبة إلى المسلم المؤمن، بل هو في
متناول الجميع. المشكلة، بالنسبة إلينا، تكمن
في معرفة الإشكاليات المرتبطة بهذا الواقع
المركَّب الذي يُسمُّونه "القرآن" في
اللغة المتداولة، ونسمِّيه نحن "الظاهرة
القرآنية"؛ وتكمن أيضًا في تحديد هذه
الإشكاليات. فهناك فرق كبير بين "الدين"
وبين "الظاهرة الدينية". والسؤال هو كيف
يمكن الاقتراب من الظاهرة القرآنية؟ وكيف
يمكن مقاربة الظاهرة الدينية في خصوص الإسلام
من خلال مقارنتها ببقية الأديان، من طريق
المنهج التاريخي المقارن بين الأديان؟
فالقراءة المؤمنة التقليدية تحاول أن تعيش
دينها وتفهمه بمعزل عن مقارنته بالأديان
الأخرى، ومن دون أن تنظر إلى الأديان الأخرى
أصلاً؛ في حين علينا نحن، كباحثين، أن نستفيد
من المعرفة التي تُنتَج من دراسة الأديان
الأخرى. لكن
إذا حاولنا مقاربة هذه الأسئلة من وجهة نظر
تاريخ الأديان المقارن، كيف يمكن لنا، مثلاً،
توظيف المعرفة العلمية لدراسة عملية جمع
المصحف والظروف التاريخية التي أحاطت بها، أو
ما تسمُّونه، في لغتكم، "تشكُّل المدوَّنة
النصِّية المغلقة والرسمية"؟ وماذا يمكن
لنا أن نقدِّم للقرَّاء في خصوص دراسة
الظاهرة القرآنية من خلال منهج تاريخ الأديان
المقارن؟ إن كلام
الله وتنزيله، ومن ثَمَّ تشكُّل "المجموعة
الرسمية المغلقة"، لا تختص فقط بمصطلح
القرآن، ولكن أيضًا بالإنجيل والتوراة. فسلطة
الكنيسة الكاثوليكية الرسمية، مثلاً، اختارت
أربعة أناجيل، سمَّتْها الأناجيل الصحيحة،
وسُمِّيَتْ بقية الأناجيل بالأناجيل "المنحولة". عندما
نتكلَّم عن المدوَّنة أو المجموعة النصِّية
الرسمية، نعني بـ"الرسمية" أن هناك
تدخلاً للسلطات الدينية والسياسية لمراقبة
جَمْعِ المصحف. وحين نقول "المجموعة
المغلقة"، نعني أن المصحف هو المجموع
الكامل والصحيح لآيات القرآن منذ أن اتُّخِذَ
القرار الرسمي، وأن النقاش انتهى في شأن عدد
الآيات وترتيب السور وتلاوات القرآن
الممكنة، وبدأ ما أسمِّيه عمل أو "صناعة
الأرثوذكسية": أي أنه سيتم بالتدريج، إبان
قرون من عمل الشارحين والمفسِّرين، تثبيت
القراءات ذات السلطة والمشروعية التي
ستحدِّد للمسلمين ما هو الدين الصحيح. ويمكن
لنا أن نعتبر أن نقطة اكتمال عملية الأرثذكسة orthodoxisation من الناحية التاريخية أتت مع
الطبري في القرن العاشر الميلادي. إن كلام
الله ظهر وتَمَوْضَع في التاريخ الأرضي للناس
من خلال موسى وعيسى ومحمد. إنها "مقاطع"
من "كلام الله" ظهرت في التاريخ،
وتجسَّدت بلغات بشرية: العبرية والآرامية
والعربية. المهم هنا المنزلة اللغوية للمعنى
وهو لا يزال في مرحلة الخطاب الشَّفهي.
فعندما يقول الله مخاطبًا الناس في زمن الوحي:
"أذانٌ من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج
الأكبر" [التوبة 3]، فإن المستمعين إلى هذه
الآية في ذلك الزمن كانوا يعرفون ويفهمون
ماذا يعني "يوم الحج الأكبر"؛ أما بعد
وفاة الرسول، فإن المفسِّرين اختلفوا في معنى
يوم الحج الأكبر: فمنهم من قال إنه يوم
النَّحْر، ومنهم من قال إنه يوم الوقوف. وهنا
نستطيع أن ندرك الفرق بين آلية عمل الخطاب
الشفهي الحيِّ لحظة إشهاره ونطقه، مع ما
يرافقه من منظومة سيميولوجية [= دلالية] تزيده
معنًى وتضفي عليه سياقًا بالنسبة إلى
المستمعين الحاضرين لحظة قوله، من جهة، وبين
الخطاب المكتوب، حيث تغيب المنظومة
السيميولوجية برمَّتها، من جهة أخرى. في هذا
المستوى، يجب علينا أن نقرأ كلَّ نصٍّ قرآني
بمعنى التفكير في الفرق بين الخطاب الشفهي
لحظة نطقه وبينه بعد تحوله خطابًا مكتوبًا
ضمن المجموعة الرسمية المغلقة التي يسمِّيها
المسلمون اليوم المصحف. ويجب ملاحظة أن كلمة
"مصحف"، كما هي مفهومة وسائدة اليوم، لا
تأخذ في الاعتبار، مثلاً، حال الكتابة باللغة
العربية في ذلك الزمن، أي زمن جمع المصحف، حيث
كانت خالية من التنقيط والشَّكل، وكانت هناك
حاجة إلى الاعتماد على الذاكرة الشفهية
لحَفَظَة القرآن من أجل الوصول إلى القراءة
الدقيقة لنصِّ المصحف، كما كان موجودًا في
ذلك الزمن. أما في المسيحية، فإن المسافة بين
الخطاب الشفهي والمدوَّنة النصِّية أعقد،
لأن المسيح تكلَّم باللغة الآرامية، وجاء
الإنجيليون بعده ليكتبوا الأناجيل باللغة
اليونانية. محاولة
المعتزلة أن يتعرَّضوا لمشكلة "خَلْق
القرآن" تعنينا اليوم، لأنها تلامس قضية
تهمنا كثيرًا، وهي تاريخية الظاهرة
الدينية. إنها صفحة من تاريخ الدراسات
القرآنية ومن التفكير في شأن المكانة
الثيولوجية [= اللاهوتية] واللغوية للنصِّ
القرآني. هي صفحة فُتِحَتْ بثمن باهظ من
الصِّراع والمِحَن والسجون، دام من القرن
الثامن إلى القرن الحادي عشر. ولقد فقدنا
اليوم هذه الصفحة من التاريخ؛ وقد اجتث
الفكرُ الإسلامي أصحابَها بحجَّة أن القائل
بخلق القرآن دمُه حلال! وفي
نهاية القرن التاسع عشر، أو ما يسمِّيه العرب
عصر "النهضة"، جرت محاولات مع تفسير
المنار لمحمد عبده ورشيد رضا وتفسير طاهر
بن عاشور. ولكن هل يمكن لنا اعتبار هذه
التفاسير "حداثية"، كما نفهم نحن
الحداثة اليوم؟ أستطيع أن أقول إن هذه
التفاسير ما هي إلا استمرار للتفاسير القديمة
وللتراث. وإلى يومنا هذا، ليست هناك إلا
محاولات قليلة لإدخال الحداثة ومناهج العلوم
الإنسانية في الدراسات القرآنية، كما هي
الحال مع أبحاث نصر حامد أبو زيد – والجميع
يعرف ما حَدَثَ له! ينقصنا
منهجان في
إحدى مداخلاتك في باريس، قبل سنوات، كان لك
رأي نقدي في الطريقة التي تجري فيها اليوم
استعادة كتاب علي عبد الرازق الإسلام وأصول
الحكم وكتاب طه حسين في الشعر الجاهلي،
من حيث عدم إدراك القصور المنهجي لهذين
الكتابين بالمقارنة مع منجزات العلوم
الاجتماعية الحديثة وما تفتحه أمامنا من آفاق
كانت غائبة عن إدراك صاحبَي الكتابين وفضاء
تفكيرهما. هل يمكن لك أن توضِّح لنا هذه
الفكرة؟ وُضِعَ
كتابا علي عبد الرازق وطه حسين في العشرينات
من القرن الماضي؛ وهما ينتميان إلى فترة من
تاريخ علوم الإنسان تعود إلى القرن التاسع
عشر، من حيث المنهج ومن حيث القضايا
المطروقة، أكثر مما ينتميان إلى ما تحقَّق في
علوم الإنسان والفكر عامة في أوروبا بعد
الخمسينات من القرن العشرين. ثمة، في تاريخ
الحداثة، قطيعة أساسية. فمنذ القرن
التاسع عشر حتى نهاية الحرب العالمية
الثانية، كان المنهج المتَّبع في جميع البحوث
الأكاديمية وفي الجامعات هو المنهج
الفيلولوجي [= الخاص بفقه اللغة]، الذي ظهر في
أوروبا مع إعادة اكتشاف النصوص اليونانية
واللاتينية مع بداية عصر النهضة. وإذا كان هذا
المنهج لا يزال إلى اليوم مهمًّا جدًّا،
ونحتاج إليه في تحقيقنا للنصوص القديمة كي
نتمكن من قراءتها قراءة تاريخية علمية مبينة
على تخريج فيلولوجي للنصوص القديمة، فإن
المنهج الفيلولوجي يكتفي بالتحقق من أن نصًّا
معينًا كَتَبَه فلان، وأنه كُتِبَ في تاريخ
معين. وهذا بالضبط ما فعله طه حسين في كتابه في
الشعر الجاهلي، حين طبَّق هذا المنهج على
تاريخ الشعر الجاهلي. أما علي عبد الرازق فلم
يكن في إمكانه أن يعمل أكثر من الذي عمله لأن
النطاق الإبستمولوجي لكتابة التاريخ ولسؤال
التاريخ كان محدودًا في زمنه. لكن هذا لا يمنع
من القول إن علي عبد الرازق وطه حسين قدَّما
عملين جديين ومهمَّين بالنسبة إلى السياق
المعرفي الذي صَدَرَ فيه هذان الكتابان وعمل
داخله هذان المؤلِّفان. أما ما
حدث بعد الخمسينات فهو الانتقال من المنهج
الفيلولوجي إلى المنهج التاريخي الذي يوظِّف
مكتسبات العلوم الاجتماعية لدراسة أيٍّ من
موضوعاته. أي أن المؤرِّخ، مثلاً، يطرح
إشكاليات السوسيولوجيا [= علم الاجتماع]
والبسيكولوجيا [= علم النفس] عند دراسته
القرون الوسطى؛ وهذا ما قدمتْه "مدرسة
الحوليَّات" الشهيرة في فرنسا. ثمة اليوم،
في فرنسا، كتبٌ مهمة في تاريخ القرون الوسطى
صَدَرَتْ، فغيَّرتْ الصورة السائدة للقرون
الوسطى تغييرًا جذريًّا (جاك لوغوف وجورج
دوبي، وأخيرًا جيروم فاشييه). هذا النوع من
التطور في مناهج البحث وفي الإشكاليات
الجديدة ينبعث من المراجعة النقدية
الإبستمولوجية للمناهج القديمة التي
استُعمِلَتْ سابقًا في كتابة التاريخ. أما
الكتابة التاريخية حول المجتمعات الإسلامية
والفكر الإسلامي تحديدًا، فإنه لم يتسنَّ
لها، إلى اليوم، أن تمتلك المنهج التاريخي
الحديث، ولا حتى المنهج الفيلولوجي. غياب
الأرضية المفهومية عندنا هذا
يقودنا إلى سؤال مركزي يخص جامعاتنا ومراكز
أبحاثنا في العالم العربي والإسلامي: فهناك
الكثير من الباحثين والأساتذة الذين يدرسون
أحدث مناهج العلوم الاجتماعية في جامعات
الغرب، لكنهم يبقون، بعد عودتهم إلى بلادهم،
عاجزين عن تطوير أو ابتداع مناهج ومدارس في
العلوم الاجتماعية العربية، بحيث يمكن لنا
المجازفة في القول إنه قد يكون لدينا باحثون
في السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا والتاريخ،
ولكن ليس لدينا علم اجتماع أو أنثروبولوجيا
أو علم تاريخ عربي، يعمل بشكل علمي على دراسة
المجتمعات العربية وفهمها، ويشكِّل فِرَقَ
بحث جماعية، ويطوِّر أدوات مفهومية جديدة.
إذا كانت هذه الفرضية صحيحة، فما السبب في
رأيك؟ هذا
يعود إلى أن الأرضية المفهومية الخاصة
بالحداثة الإبستمولوجية لا تزال غير موجودة
عندنا. لذلك، عندما يظهر كتاب يتقيَّد
بالمنهج الفيلولوجي، مثلاً، كما هي الحال مع
كتاب طه حسين، فإنه يثير مشكلات تمسُّ عند
البعض قضية جَمْع القرآن وقضية الخطاب
القرآني. ومن هنا، جاء رفض الكتاب، وحُكِمَ
عليه، لأن العلماء في ذلك العصر لم يسمعوا
بالمنهج الفيلولوجي ولم يتعرفوا إلى أهميته
في أية كتابة تاريخية تقدِّم لنا صورة
للماضي، أيًّا كان هذا الماضي، حتى وإن كان
الماضي الديني. ففي رأيهم أن الماضي الديني
يتعلَّق بنصوص أزلية، خارجة عن التاريخ، ولا
سبيل إلى طرح أيِّ سؤال فيلولوجي في خصوصها.
لا تزال هذه الذهنية، الغالبة إلى اليوم،
منتشرة ومؤثرة، وهي تفرض الرقابة رسميًّا،
بتأييد من الدول، على جميع ما يُثار من مشكلات
حول هذا الجانب. إن معظم النصوص "التاريخية"
عندنا مرتبط بالدين، ولا يمكن لنا أن نقرأ
نصًّا قراءة تاريخية من دون أن نمسَّ جانبًا
من جوانب الدين، سواء تعلَّق الأمر بالفقه أو
بالتفسير أو بأصول الدين. من هنا، كما قلت لك
سابقًا، فإن الكلام في هذه الموضوعات كلامًا
مسهبًا في الصحف يقطع التواصل مع القراء –
وأنا ضد قَطْع التواصل. لم
يتغيَّر الوضع منذ طه حسين! لكن
الذي يميِّز كبار العلماء عن بقية ممتهني
الكتابة هو قدرتهم على تحدِّي الحسِّ العام
والأفكار الجمعية المسبَّقة، انتصارًا للعلم
ولنسبية الحقيقة. التاريخ زاخر بأسماء الكثير
من العلماء الذين دفعوا أفدح الأثمان دفاعًا
عن آرائهم المغايرة للمعتقدات السائدة
والمكرَّسة. لماذا يتردَّد علماءٌ من أمثالك
في الانخراط أكثر في هذا الاتجاه؟ لكن هذا
ما فعلته في السابق – ولا أزال أفعله إلى الآن!
لقد قدَّمتُ قراءةً لسُوَرٍ قرآنية عدة، منها
سورة الفاتحة – فماذا أنتجت؟ قليل من الناس
قرأ ما كتبت، بما فيه النسخة الفرنسية من
الكتاب. وحتى إذا قُرِئَ الكتاب بالعربية،
فإن القارئ لا يمكن له أن يستوعب المناهج
والإشكاليات الإبستمولوجية التي يثيرها.
لماذا؟ لأننا في الوضع نفسه الذي كان الناس
يعيشونه في مصر والبلاد العربية في العشرينات
من القرن المنصرم؛ فالوضع لم يتغيَّر منذ زمن
طه حسين. فحتى المنهج الفيلولوجي لا يقبلون
به، لأنهم لم يسمعوا عنه ولم يدرَّس في
المدارس. وأنت تعرف أن منهج اللسانيات بات
يدرَّس اليوم في فرنسا بدلاً من الفيلولوجيا.
فإذا كنَّا اليوم لا ندرس المنهج الفيلولوجي
ولا نعرفه – مع أنه لا بدَّ من البناء على هذا
المنهج – لا يمكن لنا، مثلاً، أن ننتقل إلى
تحليل الخطاب الألسني من دون أن نتقيَّد
بالأسئلة الخاصة التي يثيرها المنهج
الفيلولوجي. من هنا أهمية الربط فيما بينهما.
فالمعرفة بناءٌ متواصل. ما
هي، في رأيك، الآليات التي يمكن لها أن تسمح
لهذه المناهج الحديثة بأن تؤثِّر فعليًّا في
النقاش العام وأن تقلِّل من سيطرة قوى
التقديس والقداسة على معظم فضاءات الفكر
والاجتماع في المجتمعات العربية؟ آلية
التاريخ المقارن للأديان – أولاً. فنحن
منغلقون في فَلَكِنا الإسلامي الخاص، وليست
لنا ولو نافذة صغيرة نستطيع النظر من خلالها
إلى جارنا اليهودي أو النَّصراني. مَن يعرف
شيئًا محترمًا وموثوقًا فيه، كالمعرفة
العلمية عن المسيحية؟ مَن يقدر من المسلمين
أن يتكلَّم على الثالوث عند المسيحية؟ لا أحد
يهتم بالمقارنة! كيف يتصوَّر المسيحيون
واليهود والبوذيون والهندوس ما نسمِّيه "المقدَّس"
le Sacré؟ هنالك
أيضًا مشكلة لغوية: فما نسمِّيه "المقدَّس"
يُطلَق بالعربية، في آنٍ معًا، على شيئين
مختلفين تمامًا من حيث بناء المفهومات،
ويُجمَع خطأً بينهما. في الفرنسية هناك مفهوم الـSacré
ومفهوم الـSainteté – وهما يحيلان على أوضاع
وتمثلات ومناسك دينية مختلفة جدًّا؛ في حين
أننا نطلق لفظ "المقدس" على هذا كلِّه
دونما تمييز. وهذا يعني أننا نمنع عقلنا من أن
يكتشف وجود هذا التمييز، ومن أن يعي تأثير هذا
التمييز في الفكر الديني وفي ممارسة العقائد
والمناسك؛ أي أننا نجهل مفاتيح لا بدَّ منها
للدخول في ما يسمِّيه الأنثروبولوجيون "الظاهرة
الدينية". فالظاهرة الدينية تبقى في إطار
ما لا يمكن التفكير فيه من خلال لغة يرفض
الناطقون بها التفكير، في مرحلة من مراحل
التفكير في هذه اللغة وبهذه اللغة، ويحرمون
أنفسهم، بالتالي، من أن تعطيهم هذه اللغة
الآلات اللازمة واللائقة ليستوعبوا المعرفة
بالواقع وبالموجود. مثلاً،
ينتمي "الأولياء" عندنا إلى مجال
المقدَّس؛ لكن "المقدَّس" هنا ليس بمعنى الـSacré – وحتى اليوم لا أملك ترجمة
مناسبة لهذه الكلمة! عندما نقول إن القرآن "مقدَّس"...
طيب، ولكن "قداسة" القرآن تنتج الـsacralisation – وهي هنا ليست بمعنى "تقديس"
القرآن، ولكن بمعنى المنع أو "التحريم".
لكن، مع ذلك، فإن هذا "الحَرام" لا
يغطِّي حقل الـSacré، لأن أصل هذه الكلمة نجده في اللاتينية
واليونانية، وكان يدل على الـSacré في العقائد التي رفضناها ومحوناها ومنعنا
الكلام عنها وقطعنا الصلة بها – وهي العقائد
"الوثنية" – في حين أن أوروبا استرجعتْ
الصلة بين الإيمان والأديان الوثنية، وبين
الإيمان والدين المسيحي. أما نحن فلم نستطع،
إلى اليوم، تحقيق ذلك، لأنه ليست لدينا
القاعدة والحقل التاريخي لذلك. الحداثة
لا تُعرَّف، ولكنها تُمارَس، كما مارستُها
الآن من خلال تطبيق الخطاب العلمي، وذلك
عندما رفضت أن أستعمل "القداسة" و"المقدَّس"
كما يستعملهما الحسُّ العام لدى الناطقين
بالضاد. فأنا لا يمكن لي أن أفكر بهذه الآلة
المفهومية، لأنها تجعلني في حال ذهنية وعقلية
تمنع على نفسها أن تفكر في الظاهرة الدينية
ككل، كما نلتمسها في تاريخها الكامل في
المرحلة الوثنية، ثم في مرحلة الأديان
التوحيدية. وإلى اليوم، هناك العديد من
الأديان لا تزال حية وموجودة عندنا، ونحن
نعيش مع الملايين من الذين يعتنقونها،
كالبوذية والكونفوشية واليهودية. وليس كوننا
في حرب شعواء مع اليهود معناه أن الدين
اليهودي ليس مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا
وجذريًّا وأصيلاً بالدين الإسلامي من حيث
الفهم الأنثروبولوجي للدين. إلى
اليوم، لا تزال الفكرة الغالبة عند المؤمنين،
لدى قراءتهم المصحف، أن الله يتكلَّم معهم
مباشرة، وفي هذه اللحظة بالذات، متناسين الـ14
قرنًا التي تفصلنا عن زمن الوحي، ومهملين
البُعد التاريخي الذي يحمله القرآن حول موقع
العرب في عالم ذلك الزمن، بالنسبة إلى الروم
والفرس، مثلاً، وما يدل عليه من الممارسات
التجارية والاجتماعية السائدة. هل تعتقد أن
من الممكن للقراءة المؤمنة أن تأخذ، في يوم من
الأيام، هذه الجوانب في الاعتبار في
تَعَامُلها مع النصِّ الديني؟ لا
أعتقد بذلك فحسب، بل إنني أنجزته مع طلبتي في
الجامعة! وهم، بدورهم، أصبحوا اليوم أساتذة
في العديد من الجامعات العربية، ولهم العديد
من المؤلَّفات في هذا المجال. لكن المشكلة
تبقى مشكلة الحريات الديموقراطية، ومشكلة
سياسات الدول، ومشكلة تأهيل الأجيال الجديدة
تأهيلاً مستنيرًا. هل
تعتقد، إذن، أننا خرجنا اليوم من دائرة
الإصلاح الديني إلى دائرة منهج النقد
التاريخي؟ لا، نحن
لم نخرج بعدُ إلى المستوى السوسيولوجي. وإذا
نظرنا إلى الأُطُر الاجتماعية للمعرفة
الغالبة، فسنرى أنها لا تزال تفكِّر داخل
نطاق ما أسمِّيه الإطار الميثوتاريخي
والميثو–إيديولوجي. فعندما نقرأ اليوم سيرة
ابن هشام في المدارس والجامعات، نقرؤها
قراءة ميثوتاريخية، من منطلق تقليدي، موروث
عن النطاق المعرفي للقرون الوسطى؛ أي أنها
قراءة تخلط بين معطيات يمكن اعتبارها تاريخية
ومعطيات ميثولوجية، مرتبطة بالمعرفة القصصية. النُّخَب
الوطنية هي المسؤولة، لا الاستعمار! يحضرني
هنا سؤال عن الأُطُر التي سمحتْ لعالِم مثل
جلال الدين السيوطي أن يطرح، في زمانه، فكرة
أن القرآن أوحِيَ إلى النبي محمد، وهو صاغه
بلغته البشرية، في حين يبدو طَرْحُ مثل هذه
الفكرة، في حاضرنا الراهن، شبه مستحيل. ما هو
السبب، في رأيك؟ السبب
واضح وبسيط: فالأُطُر الاجتماعية التي تفرض
رقابة صارمة على كلِّ خطاب ينبعث من مجتمع
إسلامي تكبِّله بالقهر وتمنع عنه المناظرة.
في زمان السيوطي، كان العلماء يحترمون ما
يقوله واحدهم، ويقبلون بمناظرته. أما اليوم،
فإن الشابَّ المسلم لا يعرف ما المناظرة، وما
قواعدها: فهو لا يتربَّى على ذهنية المناظرة؛
بل إنه سمع وتعلَّم وقرأ، في الخطاب الميثو–إيديولوجي
السائد، أن مَن لَمَسَ القرآن هو كافر ويجب
قتله (أعوذ بالله!). والسؤال
هو: كيف وصلنا إلى هذا الوضع الاجتماعي
والفكري في دولنا ومجتمعاتنا؟ وعلينا هنا أن
نعي أن هذا الوضع ظهر في دولنا بعد الاستقلال،
وفي ظلِّ حُكْم النُّخَب الوطنية، ولم يفرضه
الاستعمار علينا! فعندما ننظر إلى الاستقلال
في مجتمعاتنا، في الخمسينات والستينات،
نكتشف أنه أدَّى إلى تبنِّي سياسة ترفض
التفكير الحديث، اعتمادًا على استرجاع ما
سمَّيناه "الهوية" و"الخصوصية" و"الشخصية
العربية الإسلامية"، من دون أن ننتبه إلى
أننا، بتحررنا من المنظومة الاستعمارية،
قطعنا أنفسنا عن شيء لازم وضروري هو الحداثة،
كفكر وكممارسة. ألا
تعتقد أن خطاب التكفير والقهر ورفض المناظرة
كان حاضرًا على الدوام في فضاء الفكر
الإسلامي – وإنْ بشكل محدود – لكن ولادة
الدولة الوطنية وانتشار وسائل الإعلام
الحديثة، القادرة على التواصل مع ملايين
البشر، سمحا لأشخاص من أمثال محمد متولي
الشعراوي ويوسف القرضاوي بالوصول في خطابهم
إلى دوائر واسعة من الناس؛ الأمر الذي أدَّى
إلى تعميم نسخة محافِظة ومنغلقة من الإسلام،
فَرَضَتْ نفسها، في النهاية، كدين شعبي؟ – في
حين أن مثل هذا النوع من الخطاب المغلق بقي
لقرون عدة أسير دوائر ضيقة من الحلقات
الدينية. طبعًا،
هناك عوامل مرتبطة وذات وظيفية بنيوية؛ منها،
قطعًا، استخدام وسائل الإعلام من طرف الدولة
ومن طرف التيارات الإسلامية المناضلة. لكن
هناك أيضًا الضغط الديموغرافي [= السكاني]
والمدرسة التي أصبحت قناة من قنوات نَشْر
الجهل المُمَأسَس institutionnalisée.
وهذه المؤسَّسات تشترك جميعًا في الرفض التام
لتبنِّي أسُس التفكير الحديث. كيف
قبلت؟! في
السياق نفسه، اسمح لي أن أسألك: كيف قبلت –
وأنت الباحث الأكاديمي المشهود لك بسعة علمك
– أن تظهر في واحد من أسوأ برامج قناة الجزيرة
وأكثرها استعراضية واستخفافًا بالفكر
الحديث؟! – وأعني برنامج "الاتجاه المعاكس"
– في حين أن هناك الكثير من أقرانك في
الجامعات الغربية والعربية يقاطعون بالمطلق
هذا النوع من البرامج. دعنا
نفرِّق هنا بين ظهورين لي على قناة الجزيرة،
مختلفين من حيث الشكل والمضمون. فظهوري الأول
كان مع حسن الترابي من خلال برنامج "خير
جليس في الزمان كتاب"، استضافنا فيه الأخ
خالد الحروب – وهو باحث محترم، ولم يخبْ
ظنِّي فيه، ولم يخنْ الثقة التي وضعتُها في
برنامجه. لكن الأمر يختلف كثيرًا مع فيصل
القاسم، الذي أكد لي أنه سيستضيف إلى جانبي
أستاذًا عاقلاً حكيمًا، مستعدًا لإجراء
مناظرة حقيقية معي. وضمن هذه الشروط، لا أدري
ما السبب الذي يمنعني من أن أقبل، وأن أتوجَّه
إلى الجمهور الواسع الذي يشاهد قناة في أهمية الجزيرة.
فأنا أؤمن بتبليغ نوع من الثقافة العلمية من
خلال القنوات الحديثة للإعلام؛ وفي هذا أنا
أخالف العديد من الأكاديميين الذين يقاطعون
التلفزيون. لكني في برنامج "الاتجاه
المعاكس" وجدت نفسي أمام إنسان وحشي، لا
يحترم قواعد المناظرة، ففضَّلت السكوت، لأنه
لا مناظرة مع رجل لا يحترم كلمة الفكر. وفي هذا
يجب أن تسأل قناة الجزيرة عن كيفية
ممارستها لتبليغ نصيب من التثقيف والتربية
للرأي العام العربي والإسلامي ضمن الظروف
التي نعيشها. وإلى اليوم، إذا دعيت إلى الجزيرة،
أو إلى غيرها من القنوات الفضائية، فإنني
سأذهب وأتناول مجمل القضايا – ولكن بشرط أن
تحترم القناة التلفزيونية مَن يذهب إليها
بهذه المقاصد. لكنك،
عندما طرحتُ عليك في البداية أن نناقش في
العمق موضوعات من مثل تاريخية النصِّ
القرآني، قلت لي إنك تفضل عدم تناولها في
مقابلة صحافية، خوفًا من سوء الفهم الذي قد
ينجم عن ذلك لدى الجمهور الواسع من القرَّاء.
ألا تعتقد أن الظهور التلفزيوني يمكن له أن
يعرِّضك إلى مشكلات سوء فهم أوسع؟ هذا
الشيء مازلت أقوله وأكرِّره. لكن إذا فتحت الجزيرة،
أو أية قناة أخرى، المجال واسعًا لسلسلة من
المناظرات مع باحثين مهيأين لمناقشة مثل هذه
الموضوعات، فأنا مستعد أن أطرق جميع الأبواب،
وأن أتناول جميع الموضوعات المسكوت عنها –
لكن بشرط أن أتمتع بجميع الحرية، وأن أتمتع
بكفاية من الوقت لشرح هذه القضايا لجمهور
واسع لم يسمع بها قط إلى الآن. وهذا يتطلب
الكثير من التمهيد والتأنِّي والصبر، لأن هذا
يدخل في باب التربية والتعليم. وأنا هنا أحتاج
إلى وقت وإلى هدوء، في معزل عن المجادلة
والضجيج، حتى أستطيع أن أبلِّغ مثل هذه
القضايا. وهذا بالضبط ما لا تستطيع أية قناة
تلفزيونية أن تقدِّمه لك، لأنه يتنافى
بالمطلق مع آلية عمل التلفزيون ومنطق اشتغال
الصورة، ليس فقط في العالم العربي، ولكن في
كلِّ أصقاع الأرض حيث تسيطر الصورة
التلفزيونية. فمشكلة التلفزيون أنه يسطِّح
الثقافة ويفرض عليها منطقه الاستعراضي. ومع
ذلك، أنا أرفع التحدي، لأقنع وسائل الإعلام
بمساعدة الثقافة والفكر، لنبلِّغهما إلى
الجماهير. هذا
هو موقفي من "الحجاب" في فرنسا أريد
أن أتناول معك موضوع الحجاب في فرنسا
ومشاركتك في لجنة "ستازي" التي قدَّمتْ
توصياتها إلى الرئيس الفرنسي جاك شيراك. فأنا
فوجئت بموافقتك على المشاركة في لجنة
عيَّنَها رئيس للجمهورية، يمثِّل حزبُه
السلطةَ السياسية الحاكمة بقدر تمثيله
الجمهورية الفرنسية ككل – هذا بالإضافة إلى
أن أبحاثك السابقة تجنَّبتْ الخوضَ المباشر
في قضايا المرأة في علاقتها مع النصِّ
القرآني وقضايا القوامة والحجاب والميراث،
في حين أن لجنة "ستازي"، وتحت شعار
علمانية مؤسَّسات الدولة الفرنسية، خاضت في
تفاصيل لباس المرأة وعلاقتها بجسدها،
وارتباط ذلك بقناعاتها الدينية، وقدَّمتْ في
هذا المجال توصيات محدَّدة ودقيقة حول لباس
المرأة ومكانة جسدها في المجال العام. يمكن لي
أن أشرح موقفي بالآتي: هذه اللجنة مؤلَّفة من
أساتذة ومفكرين وعلماء، لهم تصور محدَّد
لمسؤوليتهم في تسيير المجتمع المدني، مبنية
على كلِّ ما حدث في تاريخ الفكر الفرنسي لبناء
الفكر الفرنسي. رونيه ريمون، على سبيل
المثال، عالمٌ مشهور، له دراية لا يمكن
المجادلة فيها حول مقاربته لهذا الموقف
التاريخي. هذه اللجنة طُلِبَ منها أن تحلَّ
مشكلاً حضاريًّا وفكريًّا يتجاوز مشكلة
الحجاب؛ وكان مطلوبًا من الأعضاء رَفْعُ
تحدٍّ لتاريخ الحضارات التي تعيش في فضاء
للمُواطَنة يعيش، بدوره، في طريق التغير
العميق. فرنسا،
مع خبرتها وثورتها وتاريخها الطويل، وجدتْ
نفسها أمام مشكل غير معروف من قبل في تاريخها،
وهو مشكل إدماج أكثر من 5 ملايين مسلم أتوا من
مجتمعات كتلك التي تكلَّمنا عنها؛ أي أنهم
أتوا بالجهل المُمَأسَس الذي فُرِضَ عليهم في
بلدانهم، وأتوا إلى فرنسا، وفي فرنسا عاشوا
معزولين عن الثقافة والفكر الفرنسيين. وأنا
من المناضلين الأوائل الذين خاطبوا الدولة
الفرنسية لكي لا تهمل هذه الجالية التي
مافتئت تزداد عددًا، وألا تتركها في جهلها
المُمَأسَس، وألا تتركها وحدها في مواجهة
الصعوبات والعراقيل داخل مجتمع لا تعرف
ثقافتَه ولغتَه، وتريد فيه أن تكسب لقمة
عيشها الكريمة. إن خطأ الدولة الأساسي كان في
استقدام هؤلاء العمال إلى فرنسا لتستغلَّهم
كعمالة، لكنها همَّشتْهم في المجتمع، ولم
تعتنِ بحقوقهم الثقافية والمعيشية. لقد قبلتُ
أن أشارك في هذه اللجنة لأعبِّر عن موقفي هذا،
ولأطلب – من داخلها – بما لم أنفك أطالب به
منذ السبعينات، وخاصة منذ قضية سلمان رشدي –
وإلى الآن، لم أحصل على جواب شافٍ لطلبي –
وأعني هنا إنشاء فضاءات ومعاهد عمومية
موجَّهة إلى المواطنين، تُقارِب الظاهرة
الدينية من خلال تاريخ الأديان المقارن. هل
تعتقد أنه يمكن لنا أن نحارب الجهل
المُمَأسَس بالدعوة إلى منع الفتاة
المحجَّبة من دخول المدرسة العمومية؟ الفتاة
المحجَّبة لم تُمنَع من دخول المدرسة إلى
يومنا هذا. وكل ما قيل عن توصية لجنة "ستازي"
بمنعها من دخول المدرسة هو كذب، ولا يمت إلى
الواقع بصلة. وعليك هنا التمييز بين عمل
اللجنة وتوصياتها وبين عمل المجتمع، بقواه
المتصارعة، حول قضية الإسلام في فرنسا، بصفة
عامة، وما فعلوه بتقرير اللجنة، بصفة خاصة.
فاللجنة ليست مسؤولة عمَّا يفعله ويقرِّره
الرأيُ العام في شأن توصياتها. اللجنة لم
تُشِرْ إلى الحجاب تحديدًا، بل أخذت في
الاعتبار جميع العلامات التي تدل على دين من
الأديان، ولم تُشِرْ إلى الإسلام إشارة خاصة.
وهذا يدخل في نطاق وظيفة العلمانية – كموقف فكري،
وليس كموقف سياسي. الإلحاح على
هذه الأسئلة يدل على ما لا يمكن
التفكير فيه – خاصة في نقطة حساسة كهذه – ضمن
إطار الخطابات السائدة في المجتمعات العربية
والإسلامية. إذا
كان القانون يعتبر أن الفتاة القاصر التي لها
من العمر 14 سنة أو 15 مسؤولة أمام القانون،
وتُحاسَب على أفعالها في حال ارتكابها جريمة
قتل أو سرقة، أفليس الأحرى أن نعتبر أن لهذه
الفتاة أيضًا حرية الاختيار بين ارتداء
الحجاب وعدمه، وأنها مسؤولة عن خياراتها –
على أن يجري تعليمُها بعد ذلك في المدارس أن
الحجاب يتعارض مع مبدأ العلمانية ومع تحرُّر
المرأة؟ قد يحدث
هذا. وإذا حَدَثَ، فإنه سيحدث من طرف الكفاح
السياسي أكثر منه من طرف الإيمان الديني
المحترم – وهذه أيضًا ظاهرة معروفة في
المجتمعات الأوروبية. إذ إن هناك خلطًا بين
المقاصد السياسية والمقاصد الدينية؛ ويجب أن
يؤخذ في الاعتبار هذا الخلط الذي لا يمكن
للدولة العلمانية أن تخضع له. وكم
هناك من أشخاص كافحوا وماتوا من أجل الدفاع عن
تحرر العقل من هذا الخلط، وليس تحرره من الدين
كما يروِّج البعض. يجب أن يكون واضحًا خلطُ
الفاعلين الاجتماعيين الذين لا يدركون
المقاصد الأسمى لهذا التمييز بين الإيمان
كإيمان وبين توظيف الإيمان لبلوغ أهداف
سياسية. أما البنت التي لها من العمر 13 عامًا،
فإنها لا تُقدِم بمفردها على هذا الخلط، بل هي
تؤطَّر في أُطُر إيديولوجية مهيمنة في بيئتها
العائلية والاجتماعية. ***
*** *** حاوَرَه: محمد
علي الأتاسي
|
|
|