حلمُ الشُّعراء العِظَام هو الوصُول إلى البسَاطة

الشِّعرُ هو محاولتُنا تلقِّي العالمَ في دقَّة، وإعادة إرساله في دقَّة

ديوان الشِّعر ليس عيادةً نفسيَّة، ولا خندقًا، ولا دبَّابة!

العلاقةُ بين الرَّجل والمرأة واحدٌ من مواضيع هذا الكون، وليست كلَّ الكون

حوار مع مريد البرغوثي

 

عاش في المنافي والأسفار المباغتة. لذلك ارتاح إلى حياة الفنادق التي علَّمتْه "عدم التشبث بالمطرح"، كما يقول، وروَّضتْه على قبول فكرة المغادرة. ولذلك كان للزمن وللمكان في حياته وأدبه معانٍ غير المعاني المألوفة.

شِعرُه مرآةٌ لشخصيته، ما توارَى منها وما ظَهَر. يتحدث بلغةٍ لا حذلقة فيها ولا تكلُّف. لا يحب الحديث عن ذاته؛ لكنَّ ذاتَه تحكي عنه، من حيث يدري ولا يدري، من خلال إبداعه الشعريِّ الإنساني، النابع من فيضِ روحه التي وسعتْ الوطنَ والناسَ جميعًا.

إنه الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي. عن كتابه رأيت رام الله فاز في العام 2000 بجائزة نجيب محفوظ التي تقدِّمها الجامعةُ الأمريكية سنويًّا لأفضل كتاب أدبي. وقد كتب مقدمةَ الطبعة الإنكليزية المفكر الفلسطيني الكبير المرحوم إدوارد سعيد.

في هذا الكتاب يروي الشاعر مريد البرغوثي ذكرياته وانطباعاته في مدينة رام الله، وقريته دير غسانة التي عاد إليها بعد ثلاثين عامًا من الغربة. كتب مريد هذه القصة في نسيج أدبي فريد، اقترنتْ فيه السيرةُ الذاتية للشاعر المغترب عن وطنه بسيرة الوطن المغتصَب. قال فيه الكاتب البريطاني پيتر كلارك:

رأيت رام الله أبلغ إفصاحٍ باللغة الإنكليزية عما يعنيه أن يكون المرءُ فلسطينيًّا اليوم. [...] ليس هناك كتابٌ آخر يبيِّن بهذا الاقتدار خلفيةَ الأحداث الراهنة في فلسطين/إسرائيل.

وقالت فيه صافي ناز كاظم:

يمكن لنا أن نعتبره أهم كتاب صدر في الـ49 سنة الأخيرة منذ سرقة فلسطين في العام 1947.

وقالت فيه صحيفة Washington Report:

أهمية كتاب رأيت رام الله تتجلَّى في حقيقة أنه بينما يتحدث كثيرون عن مشكلة "اللاجئين" يظل اللاجئون أنفسهم صامتين عمومًا وغير مسموعين. البرغوثي يبدِّد هذا الصمت بسرده القوي، الغنائي الشعري، المؤثر.

آخر أعماله الشعرية منتصف الليل. وهي قصيدة طويلة في كتاب، تتفجر فيها ذاكرةُ الشاعر في استرسال تلقائي، شبه لاشعوري، يرصد فيه لحظاتِ عامٍ انقضى وعامٍ يولد في حياة البشرية لأول مرة:

هذا ما تستطيعُ أن تفعلَه

أن تُلقي بها في السلَّة.

***

الرِّزنامة كلُّها،

بشهورها الاثني عشَرْ،

تَرْمِي مُضارِعَها في الماضي

كأنها "حقًّا" غابتْ

مع آخرِ أجراسِها:

مَباهِجُها... لكَ أنتْ

وأَوْجاعُها... إلى النِّسْيانْ.

***

على المسمارِ ذاتِه،

على الحائطِ ذاتِه،

علِّقِ الرِّزنامةَ الجديدة!

هذا ما تستطيع أن تَفْعَلَه.

(من ديوان منتصف الليل)

يعيش الشاعر مريد البرغوثي في القاهرة. وهو متزوج من الروائية والناقدة المصرية رضوى عاشور. أصدر البرغوثي العديد من الدواوين الشعرية، تقوم جميعًا على مفردات الهوية الفلسطينية ومعاناتها (راجع آخر المقابلة).

عن تجربته في الشعر والحياة، عن الزمان والمكان، وعن آخر دواوينه منتصف الليل، كان لنا معه في عمَّان هذا الحديث.

مدني قصري

***

 

مدني قصري: رام الله جزءٌ من المكان والزمان اللذين يختلفان في شعرك عن المكان والزمان عند أيِّ شاعر آخر...

مريد البرغوثي: عدتُ مؤخرًا من symposium في إنكلترا تحت عنوان "الكتابة والمكان"؛ والورقة التي قدَّمتُها كان عنوانها "المكان بصفته زمانًا". تتضمن الورقةُ محاولةً لبلورةِ مفهومٍ عن المكان بصفته وقتَ الناس فيه، بمعنى مسقط الرأس. المكان، حين تستعيده وأنت كبير، فأنت تستعيده كطفل، ولا تستعيد أوقاتَك فيه في أثناء عمر الطفولة. قد تجد المكانَ، لكنَّ وقتك فيه يكون قد جَرَفَه السنُّ ومشى مع التاريخ الذي أوصلك إلى الكهولة مثلاً.

الأمثلة التي تخطر على البال لا حدَّ لها لإثبات أنَّ الذي يعنينا أساسًا هو شكل الوقت، لا شكل المكان. وإذا كان العالم كلُّه مكانًا فالجسد الإنساني أيضًا مكان. جسدك مكان، عواطفك وقوتك وشجاعتك وانفعالاتك إلخ أمكنة؛ الجدار الذي يبنيه إسرائيل مكان: هذا المكان، ما يعني الناسَ منه هو شقاؤهم فيه؛ الجدار ومعانيه غير مكانية. المكانُ بؤرةٌ لكيف يقضي المرءُ وقتَه في المكان. الزنزانة مكان: شقاء المرء في زنزانته هو شقاءٌ على وقت محبوس في زنزانة، على عمرٍ مكبَّل مهدور. من هنا فإن أماكننا تُحيلنا إلى أعمارنا، خصوصًا في عالمنا العربي. في هذه اللحظة المعاصرة، مشكلتنا جميعًا في استرداد أماكننا المحتلة؛ مشكلتنا في الدفاع عنها وعن معانيها. فيصبح معنى المكان هنا هو الذي يحيلك إلى العجز.

مثال آخر: عندما تغادر مكانَك بهدف تحسين دخلك الاقتصادي، كأنْ تعمل في دول الخليج، ربما تستقر هناك بالحنين إلى مكانك المتروك. ولكن عندما تكون مجبرًا على ترك مكانك وممنوعًا من العودة إليه، فأنت لا تملك تَرَفَ الحنين. أنت غاضب! أنا لا أعيش في مكان، أنا أعيش في الوقت، في مكوِّناتي النفسية. أعيش في حساسيتي الخاصة بي. عشت في مدن كثيرة جدًّا، عشت في ثلاثين بيتًا؛ لكني لا أشعر أني أعيش في "مكان" أساسًا. أشعر أني أعيش في الوقت وفي الزمن. وعلاقتي بالمكان علاقة اعتباطية، لأن معظم الأماكن عشت فيها مضطرًا. يعني: المكان الذي لا تختاره، فكأنك لا تعيشه بشكل كامل مطلق. ومنذ ضياع فلسطين، أصبحتْ كلُّ الأماكن أماكنَ اضطرارٍ، والاختيارُ صار قليلاً. أنت توجد في أماكن نتيجة الظروف التي أملتْ عليك أن تكون هناك. تسكن في بيوت يختار أثاثَها سواك، وتسكن مدنًا هي التي تقرر أن ترحِّب بك أو تقول لك "مع السلامة"!

كسْرُ الإرادة يؤدي إلى الغضب. أحدهم يكْسِر إرادتَك: هذا لا يمكن الرد عليه بالحنين. هم يُديرون وقتَك. أنت لا تشعر أن المكان للـnostalgia الرخوة. أنا أزعم أنَّ دور الشاعر والفنان أن يجعل من هذا الغضب والسخط على التاريخ خاليًا من المرارة. المرارة شيء بغيض! هناك غضب نظيف. أما المتقزِّز، الكارِه للبشر، الكارِه للذات، فلا يمكن له أن ينتج فنًّا.

م.ق.: يذكِّرني هذا بالمكان والزمان المقدسين وبالمكان والزمان المدنسين في الذهنية البدائية: البدائي يكرِّر مكانَه وزمانَه لأنهما "مقدَّسان" sacred؛ وإذا لم يجد لهما نموذجًا في أساطيره، صار المكان والزمان "مدنَّسَين" profane...

م.ب.: في العقلية البدائية التغييرُ مخيف. المجهول يثير الحذر. في الثقافات القديمة تتكرَّر المُسلَّمات؛ ولذلك فهي لا تؤدي إلى تقدُّم. في الرسميَّات العربية شيء من السلوكيات البدائية بالمعنى الفلسفي، حيث يُظَنُّ أن مجرد اجترار المُسلَّمات سيرٌ وتقدمٌ في التاريخ. كأن مستقبلنا هو الماضي! نوازع عميقة فينا تريد منَّا أن نرسم المستقبل على أوراق الماضي. في بلادنا مَن يظن أن إعادة إنتاج الماضي هو المستقبل – وهذه كارثة! من الناس مَن لا يرى من المستقبل إلا الربع ساعة الأولى من فترة الخلافة الإسلامية. وهؤلاء الناس لا يملُّون من اجترار وتكرار الأحداث التي تمَّت خلال الربع ساعة الأولى من تاريخهم!

م.ق.: هل لتابوهات الأديان مسؤوليةٌ في ذلك؟

م.ب.: ما نصنعه بالدين مسئولٌ عن هذا. في إمكانك التعامل مع الفكر البشري اللاهوتي كلِّه بصفته سعيَ الإنسانية لفهم مصيرها ووجودها وسُبُل تنظيم حياتها تنظيمًا يحقق العدالة والإخاء والمساواة وكلَّ القيم الجميلة والابتعاد عن القيم القبيحة. لكن الذي نشاهده في أيامنا أن هناك مَن يعتدي باسم الدين، ومَن يقتل أيضًا باسم الدين! وقد تعرضتْ مجتمعاتُنا لأهوالٍ كثيرة نتيجة العبث بالفكرة الأولى لمفاهيم الأديان. وأبشع نموذج على استخدام الدين هو قيام دولة إسرائيل على أساس "ديني" على... أرض الغير.

النموذج الآخر يتمثل في هستيريا التكفير ومنع الاجتهاد. يأتي مفكرٌ مُصلح ديني بأبحاث وبمقولات، وبأفكارٍ تجديدية، فترفُض المؤسَّسةُ الدينية مناقشتَها وتُسارِع في اتهامه بالكُفْرِ، فيقضي المسكينُ بقيةَ عمره دفاعًا عن ذاته المتهَمة بالكفر، متخلِّيا عن فكره. هكذا يحدث التأخُّر، وهكذا نفتقد إلى التراكم الذي يؤسَّس بعضُه على بعضه الآخر. فنجد أن كلَّ مُصلح يبدأ من الصفر، ويخوض معركتَه وحيدًا. نصر أبو زيد، مثلاً، خسر طلابه وجامعته لأن أحدهم قال عنه إنه كافر!

تأتي مؤسَّسة رديئة سقيمة وتشتم شاعرًا، مثلاً، فيصبح هذا الشاعر، الذي شُتِمَ لأسباب غير شعرية، نجمًا بفضل شخصٍ رديء أو مؤسَّسة رديئة. فبدلاً من أن تقوم الرقابةُ بالحدِّ من انتشار الأذى فهي تزيد منه. وبالتالي، ورثنا دواوين عديدة من الشعر التافه، ولكنْ ذات الرواج الإعلامي الواسع، فأصبح الخطأ مضاعفًا. القيمة الشعرية لا يحدِّدها أنْ يبصقَ في وجهك شيخٌ! الكاتب الذكي لا يقع في براثن الرقيب. بلاهة المؤسَّسات التابعة لبعض الحكام أورثتْنا أعمالاً رديئة وحولتْ أصحابَها إلى نجوم. علينا أن نرفض الكتابَ الأدبي لعيوبه الأدبية وأن نحبَّه لمزاياه الأدبية.

م.ق.: كتابك رأيت رام الله أخرجَك من دائرة الشعر. هل كان هذا عن غير إرادة منك؟

م.ب.: إنه العودة بعد ثلاثين عامًا، وأول كتاب نثري أكتبه. صُنِّف الكتابُ كواحد من أفضل 50 كتابًا للعام 2005. هو أول تجربة لي في كتابة النثر. أنا، كعادتي، أطبع مسوداتي... بدأ كتابي هكذا... بدأ نثرًا، وظللت أكتب بلا توقف إلى أن انتهى الكتاب.

م.ق.: ما سرُّ اختفاء القصيدة "المنبرية" في شعرك؟

م.ب.: أنا بحثي عن شكل القصيدة لم يتوقف إلى الآن – ولا أظن أنه سيتوقف. لا يوجد شكل نهائي لكتابة الشعر. أنا في استمرار أبحث... لا أكتب القصيدة "الثورية" لأني أحب لشعري أن يكون مؤثِّرًا في القارئ. بينما القصيدة الحماسية المنبرية النارية لا تؤثر إلا ظاهريًّا وسطحيًّا وفي شكل مؤقت. فالشعراء الذين يذهبون إلى هذه القصائد بحجة أنهم يريدون التأثير يفقدون هذا التأثير في النهاية، لأنه تأثيرٌ عابرٌ، يقتصر على وقتِ الأمسية الشعرية ليس إلا. وبالتالي، فإن الأثرَ الباقي للشعر يأتي على مهلٍ وفي بطء. كثير من الشعراء الذين كانوا مِلْءَ الأسماع والأبصار لا يشتري كتبَهم أحدٌ الآن، لأن تأثيرهم انتهى. فكأن قصائدهم ملخصاتٌ لخطبٍ سياسية فيها وزنٌ وقافية. هذا لا يؤثر!

م.ق.: الصورة البصرية في شعرك من الأدوات غير المألوفة؟

م.ب.: يمكن لنا القول إن الشعر العربي خاطبَ الأذنَ عصورًا طويلة: كان يُروى ليُسْمَع ويُنشَد. وبدخولنا عصرَ الكتابة، أُضيفَت إلى الشعر ميزةُ القراءة. وأنا أزعم أن عناية الشعر العربي بالنبرة الحفظية وبالبُعد عن اللغة الرنَّانة راجعٌ إلى فكرة القصيدة التي تُكتَب على الورق وتُقرأ بالعين. عندي أنا الشعرُ أساسًا صورةٌ يمكن تحويلها إلى بديل مرئي؛ وأرى أنها أشد تأثيرًا من الكتابة التي تُخاطِب الأسماع. أفضِّل، للبعد عن المباشرة، اللجوءَ إلى الصورة، لأن الصورة تمنحنا ما يسمِّيه ت.س. إليوت بـ"المعادل الموضوعي"، حيث يتم خلق مشهدٍ مُوازٍ لموضوع القصيدة في الحياة الخارجية. الأثرُ الرائع للصورة في الشعر أنها لا تطلب من القارئ شيئًا، ولا تحدِّد له كيف يشعر. فهي ترسم لك مشهدًا، وتتركك لتتأمَّله – ثم أنت حرٌّ في أن تفكر كما تشاء. أنا لا أوصيك بشعورٍ!

الصورة الشعرية هي الفارق الأساسي بين الشعر وبين فنِّ الخطابة. لماذا؟ لأن الخطيب يريد أن يوجِّه شعورَك إلى اتجاهٍ يريده هُوَ، بينما الشاعر لا يسرق حريتك في الشعر. حريتك يتركها لك. الخطابة فنٌّ استعلائي، فيه فردٌ واحد يسوق مجموعَ مستمعيه؛ يريد أن يسوقهم إلى ركنٍ معيَّن، إلى عاطفةٍ معيَّنة، إلى شعور معيَّن. الشاعر لا يسعى إلى ذلك. الصورة في الشعر هي أشبه بدعوةِ القارئ إلى تأمُّل لوحةٍ معينة ليشكِّل حيالها أية عاطفة يريد.

م.ق.: مَن يقول الشعرَ بداخلك؟ – أهو الطفل، أم المرأة، أم الظل المكبوت؟

م.ب.: الطفل الذي بداخلي لا يفارقني! هو موجود لحظة كتابة القصيدة، وهو موجود لحظة اشتراك الناس في تلقِّيها (أي عندما أقرأها). لكني أيضًا، في لحظة قراءة القصيدة كما في لحظة كتابتها، أشعر أنني جسدٌ مكوَّن من كلِّ ما وَضَعَه التاريخُ في هذا الجسد.

م.ق.: الطفل ملخَّص التاريخ فينا...

م.ب.: ملخَّص التاريخ فينا هو الذي يجعلنا أكثر من مجرد أعمار وأحجام وأسماء. قراءة قصيدة أمام الناس هي نقدٌ تطبيقي متكرر، أتخيَّر فيه كلَّ كلمة. وكأن الشاعر يخترع شيئًا، فيظل يراقب صناعتَه ويدقِّقها. فعند القراءة، يلتزم الشاعرُ بحسٍّ نقدي. الطفل الغاضب هو الذي يعبِّر عن نفسه من خلالي. في أعمالي الشعرية الكاملة الصادرة في العام 1997 وضعتُ بيتَ الافتتاح لأبي تمام، يقول فيه:

كأن به ضغنا على كلِّ جانبٍ من الأرض أو شوقًا إلى كلِّ جانب

أشعر أنني هذا الذي عناه البيت. أنا مُقبِل على الحياة جدًّا؛ وعندي القدرة المؤلمة على التقاط قسوتها. الشعر هو محاولتنا تلقي العالم في دقة، وإعادة إرساله في دقة.

م.ق.: هل تعي المرأةَ بداخلك؟

م.ب.: المرأةُ ضرورةٌ لا تفارقني. هذا الاختلاط من الذكورة والأنوثة بداخل كل كائن بشري أمر أعيه جيدًا. عندي بيت شعر في المجموعة الكاملة يتحدث عن "رجل يُعنى برجولته وأنوثته ليكون جديرًا بالحب"!

أنا مؤمن أنْ ليس هناك شيءٌ اسمه "امرأة". هناك أفراد في هذا العالم، ذكور وإناث. أنا مع حرية كلِّ فرد؛ وبالتالي، لا أحكي عن المرأة بصفتها موضوعًا. هناك امرأة جميلة، وامرأة غبية، وامرأة سمجة، إلخ. فكرة المرأة كـ"موضوع" أمرٌ لا يليق بالشاعر. وضع المرأة على حِدة فيه شيء عنصري. صفات الكائن البشري، اختيار الرجال والنساء، له المعيار نفسه عندي. الموقف ليس من المرأة، ولكن من هذه المرأة بعينها. مجردُ وضع الناس على حِدة فيه إهانة.

م.ق.: لكن هناك أنوثةً طبيعيةً متميزةً عن الذكورة لا شك فيها...

م.ب.: الأنوثة كذلك لا تعريفَ لها. أنا لا أصدِّق التعميمات! عندما يتحدث الرجل عن الأنوثة فهو يتحدث عن نفسه، عن رغباته من المرأة. لا توجد قائمة أو فاتورة بأوصاف الأنوثة التي في المرأة؛ كما لا توجد قائمة بصفات الرجل. نحن نسبغ أوصافَنا نحنُ على التعريفات التي نضعها للأشياء أو للمخلوقات. تعريف البخيل للكرم غير تعريف الكريم للكرم. أنا أرتاب فيما هو تعريف. نزار قباني أسقط فقرَه الفكريَّ على امرأة عينية من الدانتيل والكريستال! أسوأ ما في التعريفات أن فيها تبسيطًا مُخِلاًّ، بينما الحياة مركَّبة، معقدة. هناك "أنوثات" بقدر ما هناك من تعريفات للأنوثة.

نحن مجتمعاتٌ كَبْتٍ سياسيٍّ وديني، وكبتٍ جنسي أيضًا – وهذا واقعٌ على الرجل وعلى المرأة على حدٍّ سواء. الكبتُ المثلث يكبِّل الرجال والنساء في هذه البقعة من العالم. المكبوت لا يتقن عملَه؛ والمكبوت هو أول ضحايا الأعراف والتقاليد والقوانين المتخلفة التي تتحكم في حياتنا.

علاقة الرجال والنساء مضطربة، في الغرب كما في الشرق، ومضطربة في الشمال كما في الجنوب. مازالت علاقةُ الرجل بالمرأة يشوبها ارتباكٌ كبير في الكون كلِّه. وهذه العلاقة، يجب ألا يغيب عن عقلنا العنصرُ الاقتصادي فيها، حيث عالم الصناعات الهائلة والاحتكارات التجارية الكبرى الذي يواصل، في دهاءٍ شديد، إفرازَ ممارساتٍ وقوانينَ تخدم الربح قبل أن تخدم الإنسان، رجلاً كان أم امرأة، فتلحق الضررَ بالطرفين (دخول الاقتصاد في حالات الزواج وقبوله أو رفضه، مثلاً). وكم يتدخل الاقتصاد في توازنات زائفة بين الجماعات الإثنية والعرقية والجنسية داخل المجتمعات. قوانين المعاشات والبطالة والرواتب والإجازات تحدِّد مدى الاضطراب في علاقة الرجل والمرأة في العالم كلِّه.

أنا أتحدى مَنْ يقدِّم تعريفًا للأنوثة أو للرجولة. المسألة أن للأنوثة لدى الأنثى تعريفاتٍ مختلفة عن الأنوثة كما يحدِّدها الرجل. وظنِّي أنَّ المسألة فرديةٌ تمامًا. هل يمكن إخراج الذكاء من عناصر الأنوثة؟ وهل يمكن معاشرة أنثى "غبية" في ارتياح؟! هتلر سيِّءٌ لأنه سيء، لا لأنه رجل؛ وغولدا مائير سيئة لأنها غولدا مائير، وليس لأنها امرأة! أنا مع حقوق الأفراد، وليس مع "حقوق الإنسان"! لا شيء أسوأ من تبسيط الأمور الذي يقتل كلَّ شيء.

م.ق.: و"التبسيط" لا يعني البساطة بالتأكيد...

م.ب.: لا شيء أسوأ من تبسيط الأمور الذي يقتل كلَّ شيء! حلم الشعراء العظام في العالم هو الوصول إلى البساطة. البساطة شيء عظيم جدًّا؛ ولا يصلها إلا كلُّ جهد عظيم. بينما التبسيط المُخِلُّ، وتسطيح المعايير والقيم والأفكار والحقائق، هو محرقةُ كلِّ كتابة إبداعية، ومحرقة كلِّ نقد: تبسيط النقاد، مثلاً، عندما يتحدثون عن "الأجيال" في الشعر، وكأنما تولد حساسيةٌ شعرية جديدة كلَّ اثنَي عشر شهرًا في العالم. القصيدة العربية ظلت محافظة خمسة عشر قرنًا على مقوماتها قبل أن تلد الحساسية الجديدة في القرن العشرين. والآن صاروا يقسِّمون الحساسيات الجديدة كلَّ أسبوع!

ليس كلُّ مَن تقدَّم في السنِّ صار من "الرواد". وليس كل شاب مجدِّد يبدأ من الماضي. كتَّاب التفعيلة والعمود، وكتَّاب قصيدة النثر – كلها وصمات ليس إلا! هذه أبوابٌ مغلقة لغرفٍ لم ندخلها بعدُ. ماذا نرى بعد أن ندخل هذه الغرف؟ صار النقاد يحكون عن الشعراء وكأنهم أرقامُ غرفٍ في فنادق. حتى الخليل بن أحمد [الفراهيدي] لم يصدر مرسومًا يطالب فيه الشعراء بأن يكتبوا على بحور الشعر؛ الخليل بن أحمد قال: لاحظتُ أن العرب كتبوا في هذه الأوزان. يعني كَتَبَ الشعراءُ كما أرادوا أولاً؛ ثم ثانيًا جاء باحثٌ ولخَّص لنا أساليبهم الموسيقية. وبالتالي، هذا الجدل كله حول موسيقى الشعر العربي هو خارج الموضوع، عقيم، لا طائل من ورائه.

اكتبْ كما تشاء! أقنِعْني فقط أن قصيدتك كان من الصعب أن تُكْتَب بطريقة أخرى. على القصيدة أن تبرِّر شكلَها وطولَها، لغتَها، بدايتَها ونهايتَها، موسيقاها وبناءها وصورَها. فإذا كانت القصيدة كتابًا كاملاً (أي طويلة) فيجب أن أُشعِر القارئَ أن ما قالتْه القصيدةُ لا يقال إلا هكذا، بهذا الحجم، وأنه لو اقتصرتْ (أي صارت قصيرة) لخربتْ. عندي، مثلاً، قصيدة من بيتين اثنين، لو زوَّدتَها ببيت ثالث لخربتْ؛ وعندي كتابٌ كامل من قصيدة واحدة.

م.ق.: المرآة من أدواتك الشعرية المتداولة... هل المرآة توأمٌ للمرأة؟

م.ب.: قالت المِرْآة:

ما أشدَّ تعاستي،

لا أحد ممَّن ينظرون إليَّ

يريد أن يراني.

عندما أحمل المرآة لا أريد أن أراها، بل أرى نفسي فقط فيها. في عالمنا كثير من الناس يعيشون معك العمرَ كلَّه، لكنهم لا يرونك ولا يعرفونك... يزورونك ليتعرَّفوا إلى أنفسهم فيك، فقط ليس إلا، وكأنك مِرْآتهم.

م.ق.: ديوانك منتصف الليل نافذةٌ تطلُّ بها على عالمك الخارجي أم على ذاتك الجَوَّانية؟

م.ب.: أطل على الذات. المُطِلُّ من النافذة يُطِلُّ على ذاته أساسًا. فالحياة لا تشاهَد، بل تعاش. نحن لا نتفرج على الحياة، بل نعيشها. من النافذة، أنت ترى الأمور بمكنوناتك الجَوَّانية. المسألة ليست المشاهَدة؛ المسألة هي أنت وإسقاطاتك الذاتية. فكرةُ تداخُل الذات والعالم تشِّكل أحدَ ركائز تجربتي الشعرية كلِّها. لا وجود لحياة مستقلة عن جسد الكائن الحي. جسدي هو مكان الحياة وجغرافيتها، تاريخها وأشواقها ومخاوفها وعواطفها. وقد يقترب هذا من فلسفة وحدة الوجود عند وليم بليك (الشاعر الرسام البريطاني).

وأعتقد أنَّ انفصال الجسد عن الكون هو من أسباب البلاء الشرقي الذي نعيشه، حيث اجتمعتْ العاداتُ والأعراف والقوانين على استثناء الجسد من أية عناية، وكأن الجسد يشكِّل عند الإنسان العربي مشكلة! من مظاهر الأمراض الثقافية عندنا أننا نتعامل مع جسد المرأة كمشكلة، ومع جسد المراهق كمشكلة، ونتعامل مع ما يلمُّ بهذا الجسد من رغبات ومخاوف وأشواق وشهوات بصفته مشكلةً أيضًا.

والمفارقة العجيبة أن بعض الأنظمة القمعية التي تتحكم في مصائرنا لا تجد بابًا لإهانتنا وإذلالنا إلا باب الجسد. خذْ التعذيب في السجون: إنه يقع على الجسد أولاً. حتى التعذيب النفسي، الذي يقال إنه أقسى أنواع التعذيب، يقع أوَّلاً على الجسد: فأنت تسمع بأذنيك الإهانة، وترى هذه الإهانة بعينيك... الحواس الخمس في جسدك هي التي تتلقَّى الإهانة والعذاب النفسي. البوابة هي الجسد. إن كل ما يُنْصِفُ الجسدَ مُغيَّب وممنوع؛ وكلُّ ما يعذِّب الجسدَ متوفر – ولله الحمد!

من شواغلي في هذه الحياة البحث عن مفهوم الحياة، وتأمل معنى الحياة. الحياة، في نظر أيِّ شخص، هي حياته؛ ومكان حياته هو جسده. ليس من قبيل الإنشاء أو التفلسف أن نقول إن الجسد الإنساني هو كونٌ تام!

م.ق.: وأين مكان الروح؟

م.ب.: في دقة شديدة أقول: الروحُ حدودُها الجغرافية الجسدُ. بعد اختراقك للحدود الشرطةُ تطلق عليك النار وترديك قتيلاً، وتصيرُ بعد ذلك لاشيء. الروح هي الجسد، والجسد هو الجسد. ثقافةُ الاستهانة بالجسد لا يمكن أن تدفع بالمجتمع إلى الأمام...

م.ق.: هذا الجسد صار من أدوات المرأة الشاعرة ومن إسقاطاتها الـerotic...

م.ب.: أنا أحب الجسد الذكي؛ والجسد الذكي يتنافى مع الضحالة. كثيرٌ من الدواوين الشعرية التي تسنَّى لي أن أطَّلع عليها في الصحافة العربية بتوقيع شاعرات عربيات صَدَمَني بضحالته؛ وقليلٌ منها يقترب من الشعر حقًّا. فقد ازدادت ظاهرة اعتبار "الخواطر" شعرًا! وقد تشابهتِ الكتاباتُ إلى درجة الملل، وتقلَّص الموضوعُ ليتعلَّق بالشهوة الجنسية وحدها. العلاقة بين الرجل والمرأة واحد من مواضيع هذا الكون، وليست كل الكون. فعلاقة الافتقاد أو الاشتهاء أو الصِّدام أو اللقاء بين الرجل والمرأة تكاد أن تكون الموضوع الأوحد لدى كثير من الشاعرات العربيات. ديوان الشعر ليس عبارة عن عيادة نفسية، ولا خندقًا للمعركة، ولا دبابة!

كل شيء في الحياة يمكن كتابتُه شعرًا – كلُّ مكانٍ، كلُّ وجه، كلُّ قضية... الحياة واسعة ومتعددة ومركَّبة؛ واقتصار الشاعر على غرضٍ واحد هو إفقارٌ للشعر. ولا أعتقد أن أيَّ طبيبٍ عاقلٍ سيوصِي المكبوتين بنشرِ دواوين شعرية ليتحقَّقوا جنسيًّا، سواء أكانوا رجالاً أم نساءً. سَمِعْنا عن العلاج بالأعشاب، وعن العلاج بالإبر الصينية، لكننا لم نسمعْ عن العلاج بإرسال "الخواطر" إلى دور النشر لتصبح دواوين شعرية!

م.ق.: لكنهنَّ معذورات...

م.ب.: الذكيُّ يتصرف، يستطيع أن ينشق، أن يخرج عن السِّرب. أنا لا أتقبل فردًا يعيش في قبيلة، ثم يرفض هذه القبيلة!

*** *** ***

حاوَرَه في عمان: مدني قصري[*]

 

مريد البرغوثي

من مواليد دير غسانة، رام الله، 1944

من أعماله الشعرية:

-        الطوفان وإعادة التكوين (دار العودة، بيروت، 1972)

-        فلسطيني في الشمس (دار العودة، بيروت، 1974)

-        نشيد للفقر المسلح (منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، 1976)

-        سعيد القروي وحلوة النبع (بيروت، 1978)

-        الأرض تنشر أسرارها (دار الآداب، بيروت، 1987)

-        قصائد الرصيف (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1980)

-        طال الشتات (دار الكلمة، بيروت، 1987)

-        عندما نلتقي (دار الكرمل، عمَّان، 1990)

-        رنة الإبرة (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1993)

-        القصائد المختارة (الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1994)

-        ليلة مجنونة (الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1996)

-        منطق الكائنات (دار المدى، دمشق، 1996)

أعماله الأخرى:

-        رأيت رام الله: سيرة (دار الهلال، القاهرة، 1997)


 

[*] مترجم وكاتب جزائري مقيم في الأردن. إيميله: Meryad2003@yahoo.fr.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود