تاريخ القرآن

كتاب و"نعرات طائفيَّة"!

 جورج مسُّوح

كتاب تاريخ القرآن للعلاَّمة ثيودور نولدِكِه (1836-1930)، المستشرق الألماني الكبير، صَدَرَ بالعربية في نهاية العام الفائت [2004]، بدعم من مؤسَّسة "كونراد أدِناوِر". وهذه الترجمة العربية، التي حقَّقها جورج تامر مع فريق عمل من أربعة أشخاص، هي الأولى بعد أكثر من قرن وربع قرن على صدوره. جورج تامر، أستاذ الفلسفة في إحدى الجامعات الألمانية، كان أصدر ترجمةً ممتازة لكتاب يورغن هابرماس الحداثة وخطابها السياسي، صدرتْ عن "دار النهار" (2001).

ما إن صدر هذا الكتاب الموسوعي الضخم، المؤلَّف من 841 صفحة من القَطْع الكبير، حتى سارعت إحدى "المرجعيَّات الدينية"، عِبْر "مدير شؤونها الدينية"، إلى الطلب من المديرية العامة للأمن العام "منع تداول هذا الكتاب وسحبه من المكتبات واتخاذ الإجراءات القانونية المناسِبة"، وذلك لأن الكتاب، بحسب هذه "المرجعية"، "يطعن بالقرآن الكريم، وبالنبي محمد (ص)، وبأمَّهات المؤمنين، ويثير النعرات الطائفية ويمسُّ بمشاعر المسلمين".

تلقَّفت المديرية العامة للأمن العام هذا الطلب ولبَّتْه، – وهل في وسعها إلا أن تلبيه؟! – إذ وجدت أن الكتاب "يتضمن مخالفاتٍ فقهيةً وإساءةً للديانة الإسلامية وإثارةً للنعرات الطائفية". واللافت في خطاب "الأمن العام" أنه أضاف إلى حيثيات منع الكتاب تعبيرًا لم يَرِدْ في خطاب المرجعية الدينية، هو تعبير "مخالفات فقهية". هنيئاً للبنانيين – إذ بات في مديريات الأمن "علماء دين" يحكمون في ما هو مؤيِّد للشَّرع وفي ما هو مخالف له!

وما يثير الانتباه في الرسالتين هو الاتهامات الواردة في حقِّ كتاب علمي، لم يدَّعِ صاحبُه يومًا أنه داعية ضد الإسلام. هو كتاب يقارب تاريخيًّا مسألة التنزيل القرآني وتكوُّن النصِّ وجَمْعَه، وذلك في منهجية صارمة، لا مكان للانفعال العاطفي فيها. فثيودور نولدِكِه Theodor Nöldeke أجرى بحثًا علميًّا صادقًا، رَبَطَ فيه بين ما وَرَدَ في القرآن وبين الظروف التاريخية التي أحاطت بنزوله وروايته عِبْرَ التاريخ. والمؤلِّف في ذلك لم يبتعد عمَّا هو مألوف في الإسلام: إذ إن معرفة الظروف التاريخية للآيات وارتباطها بأحداث وقعتْ في حياة الرسول – وبمعنى آخر معرفة "أسباب النزول" وقواعد "الناسخ والمنسوخ" – تؤدِّي دورًا مهمًّا في فهم الآيات وتفسيرها التفسير الصحيح.

من هنا، لا يتضمَّن هذا الكتاب أية إساءة إلى التنزيل القرآني. ذلك أن "تاريخية" النص لا تلغي "أزليته" أو "عدم خلقه". فالكلام الإلهي، إسلاميًّا، انسكب على قلب الرسول وعلى الناس كافة بلغة بشرية، تخضع لقواعد الصرف والنحو، في ظروف تاريخية معينة، وفي بقعة جغرافية محددة. وهذا لا ينفي، بأيِّ شكل من الأشكال، "إعجاز" هذا الكلام، وعدم قدرة أيٍّ امرئ على الإتيان بمثله. ثم أليس فهم البشر للكلم الإلهيِّ فهمٌ تاريخي، مرتبطٌ بالثقافة والمجتمع والبيئة المحيطة؟ إنْ كان الكلام إلهيًّا، ففهمُه بلا شك بشري.

أما أكثر ما يثير الاستغراب فهو تعبير "إثارة النعرات الطائفية" الذي أضحى "لازمةً" كلَّ مرة يشاء فيها مستعملُ هذا التعبير التأكيدَ أن المسألة المُثارة للبحث قد تؤدي بالبلاد إلى الانقسام الطائفي. لا ندري كيف يثير هذا الكتابُ "النعرات الطائفية" في لبنان؟! – البلد القدوة في "العيش المشترك"، الذي مافتئ رجالُ الدين، من الطوائف كلِّها، يتغنون بثراء بلدهم "الرسالة"! هل يثير هذا الكتاب "النعرات الطائفية" لأن اسم مترجمه يوحي أنه مسيحي؟ إنْ كان الأمر كذلك – وهذا ما نرجِّحه – فبئس الوطن والمواطنون! – مسلمين ومسيحيين.

كتاب نولدكِه لا يسيء إلى الإسلام أو إلى نبيِّ الإسلام. الإساءة التي تأتي من داخل الأمَّة أعظم من التي تأتي من خارجها. والدفاع عن الإسلام لا يتحقق بقمع الكتب والمفكرين، بل باجتثاث أصول الإرهاب عند أولئك الذين – زورًا باسم الإسلام – يقومون بأقبح الأعمال وأشنعها.

*** *** ***

عن النهار، الأحد 18 أيلول 2005

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود