التيَّار الفلسفي في وحدة الوجود

قراءة في كتاب

إشكاليَّة وحدة الوجود في الفكر العربي الإسلامي

 

حمزة رستناوي[1]

 

ما هي الأسباب التي دفعت الباحث محمد الراشد إلى دراسة وحدة الوجود في التراث العربي الإسلامي؟ يجيبنا الراشد:

لقد شكَّلت وحدةُ الوجود تيارًا واضحًا في تاريخ الفكر العربي الإسلامي عبر المراحل والأحقاب كلِّها. ولكنها حينما غدت بمثابة محور واحد لقطاع كبير أوغل فيها إيغالاً مفرطًا، عُدَّتْ واحدةً من أهم عوامل انهيار الحضارة العربية وسقوطها.

فمهمة الحضارة، في رأي الراشد،

[...] تتمحور على نقطتين جوهريتين قوامهما: تفسير العالم أولاً، واكتشافه وتغييره في منحى التطور الصاعد ثانيًا. ولقد اقتصر التيارُ الأحادي – أي وحدة الوجود – على النقطة الأولى وحدها، أعني تفسير العالم وتأويله فقط. وانطلاقًا من إيغال التيار الأحادي في تفسير الوجود وتأويله إلى حدِّ الإفراط فقد شكَّل عامل كبح لمسيرة الحضارة.

فدراسة الراشد لإشكالية وحدة الوجود هي دراسة لجزئية ساهمت في الانهيار والسقوط الكلِّي للحضارة العربية. والكتاب الذي بين أيدينا – إشكالية وحدة الوجود في الفكر العربي الإسلامي[2] – يهتم باستعراض تيار وحدة الوجود في الخط الفلسفي والفكري المحض. وقد خصص الراشد كتابين لدراسة تيار وحدة الوجود في التصوف الإسلامي، هما على التوالي: نظرية الحب والاتحاد في التصوف الإسلامي ووحدة الوجود من الغزالي إلى ابن عربي[3]، يليهما كتاب ثالث بعنوان مسارات وحدة الوجود يرصد تطور هذه النظرية من القرن الثامن الهجري حتى العصر الحديث.

إن وحدة الحقيقة الوجودية تعني أن الجزء لا يمثل الكل، وبعبارة أدق، أن الجزء يرمز إلى الكل ولا يمثِّله، باعتبار الأجزاء تحقق وجودها عبر تجلِّيات المطلق وصدوراته وفيوضاته وتعيناته. إذًا فالجوهر الإلهي الأول المطلق يبقى واحدًا في ذاته؛ وهذا يعني تعالي الذات عن الأسماء والصفات بحسب التصوف، أو تعالي الذات الإلهية عن فيوضاتها بحسب الفلسفة. فالخط العام، – فلسفيًّا وصوفيًّا، – في مراحله الأولى، فهم وحدة الوجود على أساس سريان الحقيقة الإلهية في الإنسان والكائنات. فالعدد "واحد" يبدع الكثرة من جراء سريانه في الكثرة، من غير أن يتكاثر أو يتبعَّض في ذاته: العدد واحد يرمز إلى الله؛ والعلاقة بين الخالق والمخلوقات كالعلاقة بين الواحد والأعداد المنبثقة عنه؛ والذات الإلهية مستقلة استقلالاً مطلقًا كاستقلال الواحد عن الأعداد اللاحقة، كما يقرر ابن السيد البطليوسي وغيره. وهكذا انطلقت النظرية الواحدية، وأقامت بنيانها على أساس الموازنة بين "الكون الأكبر" و"الكون الأصغر"، على لغة ابن عربي. وهذا الفهم يعود إلى جذور تاريخية بعيدة المدى، نجد ملامحها في الأساطير العربية القديمة في سورية ومصر وما بين النهرين.

فالفكر الأحادي في التراث العربي الإسلامي يبقى تيارًا واحدًا، وإن اتخذ صيغًا ومناحي متعددة. لكن التيار الفلسفي كان أنقى وأوضح، وكان في إمكان هذا التيار الأحادي من خلاله أن يؤدي دوره "الحضاري" لو أنه انطلق من النتائج التي توصل إليها ابن رشد فيما بعد؛ في حين نجد أن التيار الصوفي لم يستطع تحقيق التصور الممكن في قامته النهائية للمساهمة في بناء الإنسان والحضارة، بل سار في الطريق المظلم، حتى غدت النظرية لدى ابن عربي أحيانًا، ولدى معظم تلاميذه، ضربًا من الوثنية والغموض والإبهام واللامعقول، فماتت إرادةُ الوجود موتًا نهائيًّا على يد المتصوفة اللاحقين – وبذلك مات الإنسان العربي!

إن نظرية وحدة الوجود ليست وليدة الفكر العربي الإسلامي بمقدار ما هي إسهام إنساني مشترك، قام كل من اسپينوزا في الغرب وابن عربي في الشرق الإسلامي بصياغة مجملة له. فالعلاقة بين الله والعالم في الذهنية الهندية ليست علاقة خلق وإبداع من عدم، وإنما هي علاقة فيض وصدور وتجلٍّ: "إنِّي أنا هذا الخلق نفسه لأني أُخرِجُه من نفسي"، يقول الفيدنتا اللاثنوي الهندي. فكرة الله لم تتبلور بعدُ، وعملية الخلق تتخذ منحًى عامًّا، اعتبارًا من حكماء أسفار الأپنشاد وانتهاءً بطاغور، وحتى غاندي القائل بأن الله كامنٌ في الصخرة – كل صخرة على الإطلاق! فالفكر الهندوسي يراوح بين إسقاط الألوهية على العالم (= تشبيه) حينًا، وبين تعالي الألوهية عن العالم حينًا آخر (= تنزيه).

أما في الصين، فإن انسجام العقل الصيني مع الروح "العلمية" وتركيزه على التفاعل مع الحياة المعيشة تفاعلاً واقعيًّا أدَّيا بالضرورة إلى افتقار الأفكار والعقائد الصينية إلى مفهوم "ما وراء الطبيعة". ولعل كتاب التغيرات (الذي جمعه وُو وانغ) يُعَد إحدى الوثائق الفلسفية القليلة التي عنيت بما وراء الطبيعة في الصين، حيث تقوم بنيته الجوهرية على أن الظواهر الكونية هي ثمانية فقط، يمثل كلٌّ منها متوالية ثلاثية الخطوط، بحيث ترمز المتوالية إلى كونية إيجابية بظاهرة أخرى سلبية. وقد أطلق كتاب التغيرات على الظاهرة السلبية اسم ين (أي القمري)، بينما أطلق على الظاهرة الإيجابية اسم ينغ (أي الشمسي).

ننتقل الآن إلى وحدة الوجود عند الإغريق. فالأورفية، مثلاً، كانت تعتقد بوحدة الوجود: زفس، الإله الواحد، إله في كلِّ شيء، وهو في كل مكان. لذا آمنت الأورفية بأن الهدف الجوهري للإنسان يتمركز على محور الحقيقة الروحية، ولا يستهدف التلاشي البسيط في ذروة اللانهاية الإلهية. وهنا لا بدَّ أن نعرج قليلاً على أفلاطون قبل التحول إلى نقطة أخرى. فأفلاطون يعرِّف الكينونة بالقوة، أي أن الكينونة تفترض القوة، وتكون خاضعة لها بالضرورة؛ إنها "فاعل العقل ومفعوله". ولذا كان طبيعيًّا أن يكون نصيبُ فكرة العدم عنده الرفضَ المطلق. وهذا ما نتحسبه من محاورة "مشكلة الخطأ ومسألة اللاوجود". ففي الحوار الدائر بين ثيئيتيتس والغريب، نجد هذا الغريب يطرح مقولاتٍ على غاية من الخطورة: "إن كل مَن يحاول التعبير عن الوجود لا يتكلم البتة." وهل يمكن أن يضاف موجودٌ ما من الموجودات إلى غير الموجود؟!

ولعل هذا الطرح رافق الفكر الغربي على طول امتداده. وسنرى، عبر تجوالنا السريع، هذه الملامح والخطوط العامة لوحدة الوجود في الفكر الغربي، سواء في إغريق الأمس البعيد أم في الغرب القريب. فالله عند أرسطو هو "المحرك الذي لا يتحرك"، أي الذي حرك العالم ثم تركه وشأنه. وما كان هذا سوى بداية الطريق، حيث إن فكرة إقصاء وجود الله حققت نموًّا كبيرًا مع التغيرات الاقتصادية ونمو البرجوازية في أوروبا في العصر الحديث وبداية عصر التنوير الذي أقام صرح فكره على العقلانية المحض، حيث ولدت نظرية "الدين الطبيعي"، مقرةً بوجود الله مع رفضها للوحي الإلهي. فالله لم يعد "واجب الوجود"، كما كان الأمر في العصر الوسيط وما قبله، بل غدا مجرد فرضية احتمالية تقتضيها الحياة وبنية التركيب العقلي والنفسي للإنسان. لذا قال فولتير: "إذا كان الله غير موجود فلا بدَّ من اختراعه." وقد تابعه على ذلك فيودور دوستويفسكي وغيره كثيرون. إلا أن معظم رواد الأنوار لم يجدوا ضرورةً لمثل هذه الفرضية، فقالوا بأزلية العالم – وهذا يعني دمج الله في العالم بالضرورة.

ولنقف في ختام هذه الجولة السريعة عند باروخ (بندكت) اسپينوزا، رائد وحدة الوجود في الفكر الغربي، حيث ينطلق اسپينوزا من ثلاثة مصطلحات محورية هي:

1.     جوهر: ويعني به الحقيقة الأساسية الثابتة وبناء قوانين العالم؛

2.     صفة: وهي أحد مظاهر الجوهر أو الحقيقة غير المتناهية، كالاتساع والفكر؛ و

3.     عَرَض: وهو شيء معيَّن أو شكل حادث.

واسپينوزا يعني بـ"الجوهر" النظام الأبدي أو سنَّة الله. فهو، إذن، يقسِّم العالم إلى جوهر، أي إله، وعَرَض، أي مادة، وحادث، هو العالم المادي المحسوس. بيد أن "الجوهر"، أي الله، هو حقيقة تتسامى على المادة. إذًا ليس العالم هو الله، ولا الله هو العالم؛ وإنما، بعبارة أدق، إن العالم كامن في الله: فالله هو كل شيء. اسپينوزا يرفض، إذن، أي تشخص للإله، ويجيب رجلاً اعترض على تصوره اللاشخصي والغامض لله قائلاً:

عندما تقول إنني أنكر بأن يكون لله بصر وسمع وإرادة وما إلى ذلك فإنك لا تعرف أيَّ نوع من الله إلهي. وأظن أنك تعتقد بأن الإله أعظم كمالاً من الله الذي يتصف بالصفات السابقة. وهذا لا يدعو إلى إثارة الدهشة في نفسي، لأنني أعتقد أن المثلث، لو استطاع أن يتكلم، لقال بنفسه إن الله مثلي في أضلاعه، ولقالت الدائرة إن طبيعة الله دائرية في سموها. وهكذا يخلع كل شيء صفاتِه الخاصةَ على الله.

يستحيل، إذن، وجودُ شيء أو تصوُّره من دون الله. فمن المؤكد أن موجودات الطبيعة كلَّها تحتوي على فكرة الله وتعبِّر عنها بحسب درجتها في الماهية والكمال. ومع اسپينوزا، ينتهي كل صراع بين الدين والفلسفة. ذلكم هو إله اسپينوزا: إنه الوجود كله، – يؤطِّره ويحتويه، – بحيث يتعذر أن يوجد شيء خارج نطاقه. فهو إله متسامٍ، وليس إلهًا شخصانيًّا.

وللوقوف عند نظرية وحدة الوجود خارج إطار الفكر العربي الإسلامي، تبقى أمامنا محطتان اثنتان هما: الرواقية والأفلاطونية الحديثة. فالكون، بنظر الرواقية، قديم أزلي، بيد أن نظامه حادث، وهو كون واحد. ويقول الرواقيون بوجود مبدأين للكون: أولهما مبدأ "فاعل"، والآخر "منفعل". وما المادة إلا هذا المبدأ المنفعل، باعتبارها جوهرًا خاليًا من أية الصفات؛ أما المبدأ الفاعل، أي الإلهي، فهو ذلك العقل الكائن في المادة ذاتها الذي يمنح الأشياء والكائنات صورها.

أما الأفلاطونية الحديثة فقد صيغت صياغةً نهائيةً على يد أفلوطين وأستاذه نومينوس، ابن مدينة أفاميا، وتلميذه فرفيريوس الذي جمع رسائله الأربع والخمسين ونشرها باسم التاسوعات. وتبدأ ميتافيزيقا أفلوطين بثالوث مقدس: الواحد، فالعقل، فالنفس. وهذا الثالوث ليس متساويًا، بل يتسامى حده الأول عن الثاني، والثاني عن الثالث، على التدريج. فالواحد، أي الله، يتصف بالجود والكمال، ولا بدَّ أن يفيض عنه كائنٌ أدنى منه وفقًا للقانون العام الذي ينص أن كلَّ كائن يصل حدَّ الكمال لا بدَّ له أن يلد كائنًا آخر مشابهًا له ولكنه أدنى منه كمالاً. ولذا يصدر عن الله أول ما يصدر العقل الكلي أو الروح المطلقة؛ ثم إن العقل يفيض بدوره، فتولد النفس الكلية التي تنتشر محقِّقة الأشكال الكامنة في العقل الكلِّي كافة؛ ثم تفيض النفس الكلِّية بدورها بالنفوس الجزئية. وهذا يعني أن الأشياء كلها صادرة عن الموجود الأول: الله؛ فهي إذن مترابطة ومتطابقة ترابطًا وتطابقًا كاملين. لذا كان هذا العالم هو خير العوالم الممكنة: هو خير في كلِّيته، وما الشر إلا ضرب من العدم.

أما في خصوص ديانات الشرق القديم، فنحن حيال وحدة وجود حيوية ذات طابع أسطوري. فالساميون عامة كانوا يدينون بعبادة الطبيعة التي اتُّخِذَتْ لديهم رمزًا للألوهية. ودائمًا ما تتمظهر هذه الديانات في عبادة قوَّتَي التوليد والنمو، المنبثقة بالضرورة عن طبيعة المجتمع الزراعي. فإيل (أي الله) يمثل، في التصور الفينيقي الكنعاني الأسطوري، جماع الآلهة المتعددة، أي جميع ظواهر الكون. وإذا ما وضعنا تصور "الأسماء الحسنى" في هذا السياق، فإنه يتضح لنا أن هذه الأخيرة هي الجمع من الواحد. فالعلاقة بين الوحدة والكثرة هي علاقة جدلية من طراز أسطوري عميق الدلالة. ولنقف عند هذا النص من ملحمة التكوين البابلية إينوما إيليش التي تتحدث عن بداية الكون والإله مردوخ:

ثم جلسوا ليعلنوا أسماءه –

وكلهم يتذكَّر أسماءه في المكان المقدس:

تعالوا نعلن للملأ أسماءه الخمسين.

فالخمسون تنطوي على الواحد وتشير إليه، كما ينطوي الواحد على الخمسين ويشير إليها.

أما في وادي النيل، فيكاد المصري القديم لا يفرق بين الآلهة والأشياء والبشر إلا في حدود الشكل، حتى إنه ليعد الناس والآلهة والعناصر الكونية شيئًا واحدًا من حيث الجوهر. أي أن المصريين لم يكونوا ليؤمنوا بإله واحد متعالٍ على العالم، بل كانوا يؤمنون بوحدة الوجود، وحدة الكون، وحدة الله والعالم والإنسان، لأنهم اعتقدوا بأن الكائنات كلَّها، من نجوم وأقمار وأنهار وآلهة وبشر، ذات جوهر واحد، كقوس قزح تطغى فيه ألوانٌ بعينها على غيرها وفقًا لتغير الظروف:

فملك مصر هو نفسه أحد الآلهة وممثل البلاد بين الآلهة؛ وهو فضلاً عن ذلك الوسيط الرسمي الوحيد بين الشعب والآلهة، والكاهن المعترَف به الأوحد للآلهة كلِّها. وأنَّى للملك أن يكون إلهًا إذا لم يكن الإلهُ الملك حالاًّ فيه، فيصبح الاثنان واحدًا.

وهذا ضرب من الحلول، كما قد يخيَّل لفريق من الناس. ولكن الحلول نفسه مرفوض في الذهنية الأسطورية المصرية.

لقد قمت حتى الآن بعرض مختصر لنظرية وحدة الوجود في المرحلة ما قبل الإسلامية على الامتداد العالمي. عنوان كتابنا هو إشكالية وحدة الوجود في الفكر العربي الإسلامي؛ وهناك عنوان فرعي هو "الله والإنسان والعالم في الحضارات الإنسانية: دراسة تحليلية رؤيوية" (كل ما سبق يدخل في إطار العنوان الفرعي). فلندخل الآن إلى لب "الإشكالية".

هناك حدث جديد هو القرآن، باعتباره نصًّا تأسيسيًّا، ونصوص ثانوية، متمثلة بالحديث والفقه وعلم الكلام والتصوف إلخ. وبالتالي، كان الشاغل الأكبر عند رواد وحدة الوجود المسلمين هو رغبتهم في الحفاظ على توازن مع الوسط الديني المهيمن آنذاك. لذا قام الفلاسفة المسلمون، مثلهم مثل الصوفية، بتأويل الآيات القرآنية حول خلق العالم بروح نظرية الفيض، حيث تصدر الأشياء في العالم من الله. ويُعد أبو نصر محمد الفارابي (ت 329 هـ) أول مَن أدخل نظرية الصدور في الفلسفة العربية الإسلامية، ثم تناوَلها عنه عددٌ كبير من الفلاسفة، في مقدمتهم أبو علي ابن سينا. فالتفلسف، وفق الفارابي، هو الطريق الوحيد للعروج إلى الله؛ وهو العلم الوحيد القادر على وضع صورة شاملة للوجود الإنساني. هذه النزعة المنطقية لدى الفارابي ساهمت في تبنِّيه فكرتي "الممكن الوجود" و"الواجب الوجود"، بدلاً من فكرتَي "الحادث" و"القديم" الكلاميتين، حيث كان الوسط الذي يعيش فيه يقول بنظرية "الخلق من عدم" (الفهم النصِّي السنِّي لنظرية الخلق في القرآن الكريم). ولهذا، كان هم الفارابي وغيره من فلاسفة الإسلام محاولة التوفيق بين الإله كما جاءت به الفلسفة وبين الإله كما جاء به القرآن – وإن لم يوفَّق في محاولته! فلنتساءل الآن عما أضافه الفارابي إلى نظرية الفيض والصدور على الأفلاطونية الحديثة:

1.     عملية الصدور ليست إرادية، بل هي تلقائية (فكرة مشتركة).

2.     إقامة بناء تراتُبي في الصدور: فالمراتب الثلاث الأولى (السبب الأول، الأسباب الثواني، العقل الفعال) ليست في جسوم، والأصناف الثلاثة الأخيرة (النفس، الصورة، المادة) كائنة في أجسام؛ والأجسام ستة أجناس أيضًا، وهي: السماء والإنسان والحيوان والنبات والمعادن والعناصر الأربعة، ومن هذه الأجسام يتألف الكون الكبير. ولا يخفى أن نظام الفارابي، وفق هذه الصورة، هو نظام لا يمسُّ العمود الفقري لنظرية الفيض الأفلاطونية، بل هو نظام معدَّل عنه على مستوى الفروع والتسميات فقط.

3.     تمسَّك الفارابي بالأرقام: ففي كتابه مبادئ الموجودات أو السياسات المدنية يضع ستة أصناف؛ بينما الرقم أربعة رائده في رسالة في إثبات المفارقة. وسنجد الرقم عشرة يسيطر على كتاب أراء أهل المدينة الفاضلة والمدينة الجاهلية والمدينة الفاسقة والمدينة المبدلة والمدينة الضالة – و"الجواب لدى الفارابي نفسه"، كما يقول الراشد.

4.     الموجودات الفائضة، على كثرتها، تشكل كلاًّ واحدًا مع الموجود الأول العادل (فكرة مشتركة).

يطرح د. طيب تيزيني نظرية الفيض الفارابية، قائلاً بأن "المعلم الثاني"، بموقفه هذا، حقق تجاوزًا لأرسطو وأفلوطين معًا، لأنه

[...] لم يتبنَّ فكرة الفيض الأفلاطونية تبنيًا غير نقدي، بل إنه فعل العكس من ذلك: فقد اكتسبت على يده تطورًا ملحوظًا.

ذلك أن

[...] الفارابي قد أكسب فكرة الفيض، من خلال ماديته الاجتماعية، مضمونًا جديدًا: وحدة وجود مادية. وهذا يشكِّل خطوةً بارزةً في فهم تراث الفارابي الفلسفي.

إن الأدلة التي بين يدينا على "وحدة وجود مادية" عند الفارابي ضئيلة. فالفارابي يلح دائمًا على "خسة" المادة: الأصناف العليا في نظريته الفيضية ليست أجسامًا، وهناك إعلاء للعقل والروح. ونحن نشاطر الراشد في قوله إن وحدة الوجود الفارابية ليست مادية في النهاية.

يبقى أن نقول إن الفارابي هو أول مَن قال بوحدة الوجود في الفكر العربي الإسلامي ضمن نظرية متكاملة، على خلاف الكندي الذي قدم "إرهاصات" مبدئية لنظرية الفيض، إذ قال بتأثير الفلك الأعلى في الفلك الأدنى، على الرغم من أنه لم يقل بالصدور واعتمد الخلق من عدم. فالكندي، على غرار الأورفيين الإغريق، يعتبر أن الجسم هو السجن الحقيقي للنفس الإنسانية وأنها إذا ما تحررت منه تغدو قريبة الشبه بالله، وذلك في رسالته القول في النفس. وبذلك يشاطر أبو يعقوب الكندي التيار الصوفي لوحدة الوجود في الفكر العربي الإسلامي مذهبَه. إن الفارابي، بحسب حسين مروة: "وضع نظرية الفيض الأفلاطونية في سياق التطور التاريخي للفلسفة العربية، من حيث هي علم وإيديولوجيا"؛ وقد قاده تعريف الفارابي للفلسفة بأنها "العلم بالموجودات بما هي موجودة" إلى القول بوحدة الحقيقة الفلسفية. فالفارابي انطلق من وحدة العقل ووحدة الفلسفة معًا.

وننتقل الآن إلى أبي علي الحسين بن سينا (ت 1037 هـ)، الذي يؤكد في نظريته على عدم صدور المادة عن الله مباشرة، لأن صدورها عن الله يعني اختلاف الجهات في ذاته العلية. وهو يرى أن مهمة النفس العروجُ باستمرار إلى تلك المنزلة الرفيع؛ وهذا لا يتحقق إلا للعارفين:

هبطتْ إليك من المحلِّ الأرفع         ورقـاء ذات تعزُّز وتمنُّـع

والعارفون يمتازون على مَن عداهم بأن أرواحهم انطلقت من القيود – وهذا سر ينبغي ألا يذاع للعامة؛ والفيلسوف إنما يفضي به إلى خاصة مريديه، كما يقرِّر الشيخ الرئيس في مقامات العارفين. إن ابن سينا يرفض مقولة "الاتحاد بالله" رفضًا مطلقًا، غير أنه يجعل من الحب والمعرفة وسيلةً وحيدةً للوصول إلى الله ويعدُّهما الخلاص الوحيد للنفس. يقول المستشرق هنري كوربان:

إن ابن سينا خلط بين الوحدة الوجودية والوحدة العددية. ولعل هذا الخلط أن يكون هو القلب الذي لا مفرَّ منه والذي يجعله التفكير الفلسفي يحدث لحقيقة التجربة الصوفية بمعارضتها.

يطرح ابن سينا مقولة "العقل القدسي" أو الإشراقي، وهو العقل الذي يتمتع به الفلاسفة والعارفون؛ وهؤلاء يتلقون المعارف عن العقل الفعال مباشرةً، دونما حاجة إلى وسيط، أي عن فلك الأقمار، أو العقل العاشر، بحسب نظرية صدور الموجودات والفيض. فنظرية العقل القدسي أو الحدس قد غدت منطلقًا للفلسفة الإشراقية في ما بعد على يد السهروردي. ومهما يكن من أمر، فإن نظرةً فاحصةً عن نظرية الخلق الإلهي عند ابن سينا وترتيب الموجودات لديه، وبخاصةً رسائله في التصوف، تجعلنا نقرِّر أنه كان يقول بضرب من الوحدة المطلقة. فهو يميز في كتابه النجاة بين ثلاثة أنواع من الموجودات:

1.     الممكن بذاته: ويشمل جميع الأشياء التي في طبعها أن توجد أو لا توجد؛

2.     الممكن بذاته الواجب بغيره: ويشمل كل ما تراه من أشياء وحركات؛ و

3.     الواجب بذاته: الله.

فـ"الخلق من عدم" غير وارد في التصور السينوي لمفهوم الخلق، كقول سلفه الفارابي بذلك. وهذا يقودنا إلى نظرية الفيض أو الصدور التي انطلق منها ابن سينا والتي دفعتْه إلى إسقاط العقلانية والحس والتخيل على الأجرام السماوية، كما فعل من قبله مفكرو ما بين النهرين، وبخاصة خريجو مدرسة حرَّان. وهكذا فإن فكر ابن سينا ساهم، إلى حدِّ ما، في تكوين التصوف الإسلامي بما احتوى من تأثيرات غنوصية.

وننتقل الآن إلى الضفة المغاربية للفلسفة العربية الإسلامية، حيث يقف محمد الراشد عند خمس محطات هي: ابن مسرة، ابن السيد البطليوسي، ابن باجة، ابن طفيل، ابن رشد. فابن مسرة وابن السيد البطليوسي لا يخرجان عن الخطوط العريضة التي رسمها الفارابي وابن سينا من قبل. إلا أن ابن السيد البطليوسي ينطلق في البرهنة على نظريته في الصدور من براهين رياضية محض، على خلاف ابن سينا:

فإذا كان الرقم اثنين منبثقًا عن الواحد، فهو صدور عنه أو تجلٍّ له، إن صح التعبير. ولكن تبقى ذات الواحد متفردةً تفردًا أبديًّا عن ذوات الأعداد اللاحقة لها والصادرة عنها. والأمر نفسه بالنسبة للذات الإلهية والكائنات الصادرة عنها، مع الفرق الكبير واللانهائي بين الله والعدد.

أما ابن باجة، فإنه يرى أن المعرفة لا تتم بطريق ذوقي، على نسق الخط الصوفي، وإنما تتم عن طريق التأمل الفلسفي. ويضع ابن باجة كتابه تدبير المتوحد على نسق مدينة الفارابي الفاضلة، ولكنه في الجوهر أبعد ما يكون عن الفارابي و"مدينته": فهو يعالج فيه إشكالية الإنسان الفاضل في مجتمع غير فاضل، ويحدد الطريق التي توصل الإنسانَ إلى مرتبة الألوهية. وإن تطلُّع ابن باجة إلى الوصول نحو المرتبة الإلهية كان بمثابة البذرة الأولى لتحقيق نظرية "الإنسان الكامل"، على نسق "الأنبياء النيتشويين"، كما أُطلِقَ عليهم في الغرب.

أما ابن طفيل، فيركِّز على اتفاق العقل والوحي: فحي بن يقظان، ذلك الرجل المعزول في جزيرته، استطاع، بالاعتماد على عقله الطبيعي، الكشف عما توصل إليه أبسال عن طريق نزوعه الصوفي المبني على الشريعة والوحي، فتمكن، بكدحه المستمر، من الوصول إلى الحقيقة عبر إشراقات العقل الفعال. وأهمية ابن طفيل تكمن في تجاوُزه لفكرة الواسطة، حينما عدَّ العقل التأملي المنطلقَ لتحقيق الفرد لشرطه الإنساني، من خلال الوصول إلى الله عبر منطق عقلي محض. وهذا هو الجديد الذي قدمه ابن طفيل في قصته حي بن يقظان: فالقرابة واضحة بين قصة حي عند ابن سينا وبين نظيرتها عند ابن طفيل (وقد ألمح ابن طفيل نفسه إلى ذلك). غير أن حيًّا عند ابن طفيل أقرب إلى "الإنسان الطبيعي" منه عند ابن سينا: فصورة حي عند ابن سينا تمثل العقل الفعال؛ أما قصة ابن طفيل فتشبه أن تكون تمثيلاً للعقل الإنساني الطبيعي الذي يسري عليه نور العالم العلوي، وهو يماثل نفس النبي محمد – عليه السلام – إذا عرف حق المعرفة:

فابن طفيل توصل من خلال آرائه حول العالم الإلهي الواحد إلى إزالة الهوة بين الإنسان والإله: فالإله في الإنسان، والإنسان في الإله، وكلاهما تجسيد للعالم الإلهي الواحد.

وأما خامسهم، ابن رشد، فهو رائد القائلين بوحدة الوجود العقلية – وهذا ما حدث لأول مرة في تاريخ الفكر العربي الإسلامي. فالاتصال عند ابن رشد لا يتم بالنسك، كما يقول ابن طفيل وابن باجة وغيرهما، وإنما يكون الاتصال بالإدراك العقلي المحض، أي بالمنطق وحده. وهنا تلوح لنا طبيعة العلاقة بين الله والإنسان والعالم: إنها علاقة جدلية، أساسها كون الله بمثابة تيار روحي يسري في أجزاء العالم كلِّه؛ أي أن الله هو القانون الضابط للعالم، لا من خارجه، بل من خلاله، باعتبار أن العقل الإلهي يسري في الوجود كله. وهذا نَفَس واضح في وحدة الوجود يرفض الاتصال بالعقل الفعال عن طريق الإشراق الصوفي، كما عند ابن سينا.

ونصل في الفصل السادس من الكتاب إلى "وحدة الوجود في الفكر العربي الإسلامي الحديث". ويُفرِد الراشد لكلٍّ من محمد إقبال وأحمد حيدر وتيسير شيخ الأرض موقفًا. فمحمد إقبال

[...] يريد إقامة صرح فلسفي إسلامي من خلال المعطى القرآني من جهة، وعلى ضوء المعطى العلمي من جهة أخرى. ومن هذا المنطلق، عمد إلى بناء الفكر الفلسفي في الإسلام بناءً جديدًا [...]،

بحسب المقتطَف الذي أورده الراشد من مقدمة د. عادل العوا لكتاب إقبال تجديد الفكر الديني في الإسلام. ولا شك أن إقبال شاعر عظيم، يمتلك رؤيا على نسق المتصوفة الذين عرفناهم؛ ولكنه، على صعيد الفكر، أتساءل: ماذا أضاف إلى الصياغة الأخيرة التي توصلتْ إليها نظريةُ وحدة الوجود عند ابن عربي أو ابن رشد أو سپينوزا؟

أما الشيخ أحمد حيدر، فيعيدنا إلى نغمة العقل الفعال لدى الفارابي والحكمة المشرقية لدى ابن سينا، ولكن مع ملاحظة ما حدث في العالم من تطورات في العلوم الإنسانية والفلسفية والاجتماعية: فنحن الآن مطالبون بطروح مختلفة، متجاوِزة على أقل تقدير؛ نحن الآن ننتمي إلى فضاء حداثوي – أو هكذا نأمل – وليس إلى فضاء قروسطي. غير أن الشيخ في نتاجه يقدم تفسيرًا باطنيًّا صوفيًّا لنصوص قرآنية عديدة وأحاديث نبوية استُهلِكَتْ شرحًا وتفسيرًا وتعليقًا من قبل، مثل: "فأينما تُوَلُّوا فثمَّ وجه الله"؛ "اللهم لا مفرَّ منك إلا إليك"؛ "كان كنزًا مخفيًّا فأحبَّ أن يُعرَف فخلق الخلق..."؛ إلخ. ويقول الراشد:

يلوح لي أن المرحوم أحمد حيدر استطاع أن يصل إلى نظرية في وحدة الوجود من خلال صياغة شملتْ النظرياتِ السابقةَ كلَّها، محققًا ضربًا من التزاوج بين نظرية الفيض والصدور ونظرية الأنوار والتجلِّي الإلهي، ومعتمدًا، بالوقت نفسه، على معطيات العلم الحديث. وهنا تبرز عظمتُه كمفكر عربي إسلامي من الدرجة الأولى في العصر الحديث.

يعمد الراشد هنا، وفي أماكن أخرى من كتابه، إلى استخدام لغة إنشائية خطابية تبجيلية، لا تنتمي لحقل البحث العلمي والفلسفي[4]، مع أننا – نذكِّر – في صدد "دراسة تحليلية رؤيوية" (كذا!). فما علاقة العلم الحديث بـ"نور الأنوار" و"العقل الفعال" و"الفيض الإلهي" و"التسبيح الفطري" للمخلوقات و"الحقيقة المحمدية" إلخ؟ أتمنى على الراشد أن يكون صارمًا في استخدام مصطلحاته، فيتبنى لغةً رصينةً تفرضها ضرورةُ البحث!

أما تيسير شيخ الأرض، فيبدو واثقًا تمامًا ومتفائلاً عتيدًا في قدراته الذهنية والعقلية. فكتابه دراسات فلسفية: محاولة ثورة في الفلسفة هو ثورة حقيقية، أو بمعنى أدق، الوصول إلى "أول ثورة حقيقية" (كذا!) في تاريخ الفلسفة، كما يورد في مقدمة الكتاب. فالفلسفة، من سقراط الذي أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض وحتى هيدغِّر حديثًا، ليست إلا "ثورات زائفة". وهو ينطلق في ذلك من الوجدان، باعتبار أن الوجدان قلب الوجود، أي "وجود الذات في قلب المطلق"، بحسب تعبيره الحرفي. إننا مع تيسير شيخ الأرض خارج الإطار الفلسفي بمعناه الخاص؛ وحبذا لو صنَّفه الراشد ضمن التيار الصوفي في وحدة الوجود والتيار القائل بالوحدة المطلقة بالأخص، كابن سبعين والعفيف التلمساني. فتيسير شيخ الأرض لا يقدم رؤيا فلسفية أو فعلاً معرفيًّا يرقى إلى "الثورة الفلسفية" أو محاولة ثورة بأيِّ شكل من الأشكال، بل يتحفنا بمصطلحات عجائبية، كـ"الأجدوان" و"الأجدوانية" (كذا!)، وهما مشتقان من "الوجدان"!

ثم يعرض الراشد لمحاولتين معاصرتين: الأولى لعبد الجبار الوائلي، وتقوم على "وحدة الوجود العقلية"، حيث ينطلق فيها الوائلي من عقلنة المادة. فالخلية الحية تملك قسطًا من العقل مادامت تتصف بالحياة؛ تملك عقلاً بدائيًا خاليًا من العواطف والغرائز، لكنها تملك الإرادة والإدراك والتذكر والاختيار. وأبسط جزء من المادة – وهو الذرة[5] – يملك عقلاً يتناسب مع بساطتها؛ وكذلك الأبسط من الذرة، كالفوتون. وهذا يعني أن العالم كلَّه ما هو إلا "عقول أولية" تتصف بإمكانية التفاعل المستمر. فالكائن الحي يتكون من "عقول خالصة، وليس من روح ومادة، كما يتوهم الواهمون". وهذا يعني أن هناك وحدةً متكاملةً في الوجود كلِّه: وحدة الوجود العقلية. وإن "العقل العام"، أي عقل الله، هو مجموعة العقول المنبثقة في ذرات العالم كلِّه. فكل ما في الوجود ما هو إلا ركام العقول المتفاوتة في الدرجات التي تؤلِّف العقل العام؛ وهذا الأخير لا يأخذ شيئًا من خارجه، باعتباره هو الطبيعة ذاتها. ويتابع الوائلي:

[...] بينما الوحدة التي قال بها اسپينوزا وأستاذه برونو وابن عربي وحدة مغلوطة، لأنهم يقولون بوحدة الطبيعة والعقول المنبثقة فيها من دون أن يوحدوهما في عقل عام مسيطر على أجزائه.

وهذا يعني أن الوجود كلَّه، بنظر الوائلي، مجرد فكرة:

الله فكرة الأفكار الكبرى. فالعقل العام هو الله، والعقول البسيطة هي أفكار في العقل العام، تُمِدُّه بأفكارها العقلية. وإنها لا تأخذ شيئًا من العقل العام، كما أنها غير قادرة على الذوبان فيه. بكلام آخر: إن العقل العام هو الذرات الإلهية المطلقة، المنزَّهة عن تجلِّياتها وصفاتها، على لغة الفكر الصوفي؛ أي العقل العام هو الذرات المتعالية عن صدوراتها وفيوضاتها، على لغة الفكر الفلسفي.

ويتساءل الوائلي عن صفات العقل العام، عن بداية تطور العقول الجزئية، وعن نهاية المطاف لهذا التطور، ليجيب بالنفي: نفي إمكانية معرفة ذلك لعدم إحاطة العقل الجزئي–الإنساني بمضامين العقل العام. فالله، عند الوائلي، هو العالم. يعقِّب الراشد، بعد عرضه نظرية الوائلي في وحدة الوجود العقلية:

أولاً: الوائلي يخطو على طريق الفيلسوف الألماني لايبنتس، الذي أسقط العقلَ على جميع "المونادات" التي يتألف منها العالم، وبذلك عدَّ أن العالم هو الله. وهكذا سقط الوائلي في المطب نفسه الذي سقط فيه الفكرُ الغربي حينما ألَّه الكون.

ثانيًا: إن نظرية الوائلي مصداق لقوله تعالى: "إنْ مِن شيء إلا يسبِّح بحمده." ولكن القرآن، حينما جعل كلَّ شيء يمارس التسبيح، جعل الذات الإلهية متعاليةً على العالم تعاليًا مطلقًا.

وهنا أورد عددًا من التساؤلات حول مقولات الوائلي ومحمد الراشد:

1.     إن محاولة عقلنة الخلية مقبولة إلى حدٍّ ما. أما عقلنة الذرة وأجزائها فتلك رؤية متطرفة تحتاج إلى برهان لإثباتها؛ ونحن غير قادرين على تأكيدها من باب أن دراستنا، في حدِّ ذاتها، لم تصل إلى نتائج حاسمة على الصعيد العلمي.

2.     إن تحويل الوجود كلِّه إلى مجرد "فكرة" هو نظرية مثالية تُسقِطُ البعدَ المادي عن العالم بعد "فلترته" عقليًّا عبر صيغ اختزالية.

3.     إذا كان العقل العام، بنظر الوائلي، يُمِدُّ العقول البسيطة بأفكارها العقلية ولا يأخذ منها شيئًا، كما أنها غير قادرة على الذوبان فيه، فالعلاقة، بحسب الوائلي، هي علاقة جامدة، أحادية الاتجاه، لا ترتقي إلى جدلية العلاقة بين الإلهي والأرضي (أو الله والإنسان).

4.     لا يصرِّح الوائلي بالمنابع التي صاغ منها فرضيته، وخاصة المنابع الغربية.

5.     إن نظرية الوائلي لا يصح أن تستمد مشروعيتَها وبراهينَها من الآيات القرآنية، بل من طروحاتها الخاصة والمنطقية. إذ إن محاولة ربط النظريات بالنص القرآني هي محاولة خطيرة تسخِّر النصَّ لتسويغ النظرية، بينما النص له كيان مستقل. وأركز هنا على الفصل بين النص الديني والنص العلمي والنص الفلسفي. فالقرآن كتاب هداية وأخلاق، وليس كتابًا علميًّا.

والمحاولة الثانية التي يوردها الراشد هي وحدة الوجود الحيوية، مثلما يقدمها د. رائق النقري في كتابه الإيديولوجية الحيوية. يحدِّد النقري مفهومه عن الله في قوة ووضوح، دونما تطرُّق إلى مقدمات وشروح، ودون اللجوء إلى براهين وأدلة. فالله موجود كمسلَّمة؛ أما كيف نفهمه فهو، بحسب النقري، الكل الحيوي باعتباره القوة الخلاقة والدفق المستمر في الكائنات كلها. والله ليس جوهرًا أصلاً، بل هو قابلية التحول الدائم للأشياء. فإذا كانت الكتلة تتحول إلى طاقة والطاقة تتحول إلى كتلة، كما تفيدنا الفيزياء الحديثة، فلماذا لا نتجاوز فكرة الجوهر أصلاً؟

ولكن، كيف نحقق ضربًا من الانسجام بين مفهوم الله، باعتباره اصطلاحًا تندرج تحت لوائه الكائنات كافة، وبين مفهوم الله، باعتباره مجرد اسم يملك فعالية الخلق السارية في الكائنات؟ الله بالنسبة للكون كالروح للبدن – وإن كان النقري يعد الروح والجسد واحدًا، متجاوزًا الانفصال بين الروح والمادة. فإمكانية تبرير مفهومه عن الله – الذي يبدو مشبعًا بالتناقض – ممكنة في ضوء المنطلقات الفلسفية والعلمية والمنطقية التي ينطلق منها.

لقد مرت فكرةُ الله – بحسب النقري – بأدوار عدة وفقًا لحركة القانون الحيوي للمجتمع: فكانت الخطوة الأولى هي معرفة الله من خلال فكرة الخوف من الموت والحلال والحرام. وقد تابع مفهوم الله نموَّه، حتى وصل إلى الإله المجرد الذي ليس له شبيه ولا شكل ولا وزن ولا صفة، كما تقول الحيوية، الأمر الذي جعل للزمان تأثيرًا مباشرًا على مفهوم الإله. ومن خلال هذا الطرح، نستطيع وضع إطار للتزاوج بين مفهوم الله لدى الصوفية، كعبد الكريم الجيلي في الإنسان الكامل وابن عربي في فصوص الحكم إبان تحليله للحديث القدسي "كنت كنزًا مخفيًا...". في عبارة أخرى، نجد أن النقري يبني جسرًا بين الله والإنسان، كما بنى جسرًا بين الله والعالم: فالإله لدى الحيوية لا يتدخل في شؤون العالم ولا يحرك العالم، لأنه هو والعالم حركة – وهذا يدفعنا إلى التساؤل عن دوره في تجربة الحق والخلق.

لكأني بالنقري يريد أن يقرر، كما قرَّر جان پول سارتر من قبل، بأن الله موجود؛ ولكن المشكلة ليست مشكلة وجوده أو عدم وجوده، لأنه في الحالتين لا شيء يتغير، وإنما المشكلة في هذا الإنسان الذي يجد ذاته، وفي أن لا شيء يحرره من ذاته، حتى في حالة إيجاده برهانًا على وجود الله، على لغة سارتر أو كما تقول الحيوية. فالمعضلة تكمن في هذا الإنسان الذي يكتشف تفرُّده، أو بمعنى أدق، يكتشف احتواءه على الخلق. لقد حصر سارتر المشكلة في الإنسان الذي يكتشف ذاته، حريته، تطلُّعه إلى المطلق. وإذن: "إن الإنسان يجعل نفسه إنسانًا ليكون الله." وفي النهاية، نصل مع النقري إلى نتيجة مُفادها أن تجربة الحق والخلق هي تجربة إلهية بقدر ما هي تجربة إنسانية وكونية. إنها تجربة الحياة ذاتها – إرادة الحياة. إن طروح النقري تجسيد للحسِّ الفلسفي الخلاَّق عبر الحيوية، بكلِّ أبعادها ومناحيها. وهو يتقاطع مع الفكر الغربي في قوله بتأليه الكون، ويتقاطع كذلك مع بعض الصوفية المسلمين القائلين بالوحدة المطلقة، أمثال ابن سبعين والعفيف التلمساني.

وينهي الراشد كتابه إشكالية وحدة الوجود في الفكر العربي الإسلامي بالفصل السابع الذي يخصصه لبحث "وحدة الوجود في الفكر العلمي الحديث"، حيث يقول:

يكاد علماء القرن العشرين يتفقون على عدم تأليه العلم، تلك الأسطورة التي راجت في القرنين الثامن والتاسع عشر، ولاسيما بعد ظهور الميكانيكا الكوانتية وعلائق الارتياب، وبالتالي، ولادة النزوع اللاحتمي.

بيد أن للعلم قوانينه الخاصة القائمة على التجربة والاستقراء والاستنتاج؛ فهو يتعامل مع الواقع والأشياء باعتبارها موضوعًا للمعرفة، ولا يتعامل مع "أحلام" الإنسان! فالخيال يسبق النظريات العلمية ويمهِّد لوضعها؛ لكن ليس الخيال هو الذي يلي صوغ النظريات العلمية علمًا. فالعلم يقول لنا رأيه في واقعة مادية أو ذهنية، ولكنه يقف عند هذا الحد فقط؛ يقول لنا إن الكون يتألف من ذرات وكهارب ويقف عند هذا، لكنه لا يقول لنا إن الذرات عقول، أو إن هناك روحًا تسري في الذرات والفضاء الكوني، ولا يقول لنا إن الله "نور الأنوار"، مثلاً، – وهذا ما يغيب عن طرح الراشد للعلاقة بين وحدة الوجود والفكر العلمي الحديث. باختصار، هذا لا ينفي اعتماد العلم كبداية – وهذا منطق سليم –؛ ولكننا نختلف مع الراشد على تبعات هذا الاعتماد.

العقل الديني عمومًا (الراشد في مثالنا هذا) يطرح رؤية توفيقية غير "مؤصَّلة" عند طرحه قضية العلم والدين والعلاقة بين الاكتشافات العلمية والنص القرآني. وسأورد هذا المقطع من كتاب الراشد:

فالكون كله عبارة عن ذرات متناهية الصغر، وكل ذرة مؤلَّفة من كهارب سالبة وموجبة، والكهارب تتحول إلى طاقة، والطاقة تتحول إلى كهارب، والكهارب نور. إذًا فالكون كله نور. والله نور الأنوار، على لغة السهروردي. ونور الأنوار هنا هو الذات الإلهية. وبما أن الطاقة مصونة ومحدودة في الكون، إذًا هناك استحالة الخلق من عدم. (ص 278)

يمكن تصنيف مقولات النص السابق للراشد ضمن حقلين دلاليين: حقل علمي، وحقل فلسفي صوفي شخصاني. فلنفكك نص الراشد:

-       الكون كله عبارة عن ذرات

-       كل ذرة مؤلَّفة من كهارب سالبة وموجبة

-       الكهارب تتحول إلى طاقة وبالعكس

-       الكهارب نور

-       الكون كله نور

-       الله نور الأنوار

-       نور الأنوار هو الذات الإلهية

-       الطاقة مصونة في الكون

-       استحالة الخلق من عدم

في نصِّ الراشد هذا، تتداخل مقولاتُ الحقلين العلمي والصوفي، بحيث تُنتِج نظامًا للكلام يتيح لنا الوصول إلى النتيجة المتمثلة في نظرية الإشراق النوراني للسهروردي. وعند الدخول في التفاصيل أكثر، يتضح لنا الخلل في المنطق. فأن تقول: "الكون كله نور" غير أن تقول: "الكون كله طاقة". فالفرق يتم تمريره عبر "حيلة لغوية" يمكن كشفها بإعادة الاعتبار الوجودي للظلام؛ فالقول إن "الكون كله نور" يكشف لنا عن الغائب–الحاضر في هذه العبارة، وهو الظلام. وهنا نتساءل ونقول: "الكون سريان النور في الظلام"؛ ثم نتساءل أكثر ونضيف: "أو سريان الظلام في النور"! إننا أمام ثنائية "الفاعل/مفعول به"، "الذات/الكينونة"؛ والمسألة هي في كيفية النظر إلى العلاقة بين طرفي الثنائية.

الراشد في كتابه إشكالية وحدة الوجود في الفكر العربي الإسلامي يصوغ الحلقة الأولى من سلسلة ما يسميه بـموسوعة وحدة الوجود في التصوف الإسلامي؛ وهو جهد رائد وسبَّاق ينطوي على بحث مضنٍ وتنقيب تراثي كبير. وقد قدَّمه الراشد عبر لغة سهلة وأسلوب ممتع، قابل للتداول بين القراء غير المختصين. فالراشد "باحث" بامتياز. ولكن إلى أيِّ مدى يقترب من صفة المفكر الباحث، أي مَن يضع نتاج الآخر في مقدمات تولِّد رؤيةً ابتكارية – هذا هو السؤال الذي نطرحه عليه.

د. حمزة رستناوي

إن حوالى ثلاثة أخماس الكتاب تحدِّثنا عن وحدة الوجود في حضارات الشرق الأقصى والفكر الغربي والفكر العربي القديم والفكر العلمي الحديث، مع مدخل عام في مقدمة الكتاب. وإن لهذا التوزيع الكمي دلالته: فمعظم صفحات الكتاب تناقش موضوعًا خارج إطار العنوان الأساسي للكتاب: "إشكالية وحدة الوجود في الفكر العربي الإسلامي"؛ وهذا يعكس الدور الهام الذي قامت به هذه الحضارات خارج الدائرة العربية الإسلامية في صوغ "النظرية العربية الإسلامية لوحدة الوجود"، إن جاز التعبير. فنحن أمام نظرية أو نظريات متعددة في وحدة الوجود: وحدة وجودية، وحدة مادية، وحدة عقلية، وحدة حيوية، وحدة روحية... فكلها نظريات عابرة للحدود بين اللغات والأعراف والأديان.

إن نظرية وحدة الوجود هي نظرية إنسانية بامتياز، كان للحضارات العربية قبل الإسلام وللحضارة العربية الإسلامية دورها الهام في صياغتها. إلا أنني آخذ على الراشد إصراره على "تعريب" هذه النظرية – وقد أكون مخطئًا، لكني أود مناقشة فكرتين من أفكار الراشد المبثوثة في كتابه للتدليل على ذلك.

يجزم الراشد بأن الفلسفتين الرواقية والأفلاطونية الحديثة هما فلسفتان سوريتان بامتياز! صحيح أن أحد مؤسِّسي الرواقية الثلاثة هو زينون السوري، وصحيح أن الأفلاطونية الحديثة جهد مشترك لمدرسة الإسكندرية ساهم فيه نومينوس وفرفيريوس السوريان؛ ولكن هذا لا يعفينا من النظر إلى النصف الآخر من الكأس، ألا وهو الفكر الإغريقي وإسهاماته الجادة في المضمار. فالرواقية والأفلاطونية الحديثة نتاج فكر خصب ينتمي إلى الشرق والغرب معًا؛ إنه وليد الحضارة الهلنستية.

والنقطة الثانية التي سأطرحها هي حول دور التأثيرات العربية الإسلامية في تفتح فكر النهضة الغربي عبر ترجمة كتب ابن سينا والغزالي والفارابي وابن رشد عن طريق يوحنا الإسباني وغونديسالفي وغيرهما. حدوث هذه التأثيرات أمر محسوم؛ إلا أن ذلك يفيد معنى التكامل الإنساني لإنتاج ثقافة مشتركة ذات خصوصيات معينة. فالرد على مقولة "المركزية الأوروبية" لا يتم عِبْرَ "مركزية عربية"، بل عبر طرح إنساني عبرعرقي، عبرديني، تفاعُلي، موضوعي. فالحقيقة هي الحقيقة، ولا تحتمل أية قيمة مضافة إليها!

*** *** ***

عن الحوار المتمدن، العدد 1137، 14/03/2005


[1] طبيب وكاتب وشاعر سوري؛ إيميله: hamza005@scs-net.org.

[2] محمد الراشد، إشكالية وحدة الوجود في الفكر العربي الإسلامي، دار الأوائل، طب 2: دمشق 2002، 287 ص.

[3] عرض لهذا الكتاب في معابر عقبة زيدان في إصدار تشرين الأول 2005؛ فليراجَع. (المحرِّر)

[4] من مقدمة كتاب أحمد حيدر ما بعد القمر يقتطف الراشد ما يلي: "العلم عبادة. وخير ما يعبد عابدٌ أو يعرفه عالمٌ أن يهتدي المرءُ إلى أن لله سرًّا في مكنونه، وبهذا السر يعرف الحقائق الوجودية في نفسه وما حوله." ويعلق الراشد على هذا بأن الشيخ أحمد حيدر "يمخر عباب وحدة الوجود في مسار علمي"!

[5] برهنت الفيزياء الكوانتية على عدم صحة فكرة الذرة (أو أي قسيم من قسيماتها الأولية) بوصفها اللبنة الأساسية في بناء المادة. (المحرِّر)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود