|
العالم
الأصل... الشعر الأصل وُجِدْنا في عالم قديم – عالم
موجود، متكامل العناصر – قبل أن نأتيه
بملايين السنين. ولكي نتمكن من البقاء على هذا
الكوكب وَجَبَ علينا أن نفهمه أولاً. لكن ما
كان ثمة مجال للمقارنة بين مداركنا البدائية
وقدراتنا العقلية المستحثَّة حديثًا، من جهة،
وبين هذا العالم الذي هو من التعقيد الداخلي
والسعة الخارجية ما يستعصي على التقدير، من
جهة ثانية. فماذا كان الحل؟ كانت الكلمة هي الخطوة
الأولى. فيوم أدرك الإنسان أنه أعجز
من أن يفهم هذا العالم، أي أن يتوصل إلى حقيقته،
إلى الماهيات الأصلية، إلى الأسماء الأولى
والجوهر النقي للأشياء، فإنه، بدلاً من
قبول الهزيمة، لجأ إلى الحيلة، فقام، في
مرحلة أولى، بنقل الموجودات إلى لغة يفهمها،
ومن بعدُ بقراءة هذه "اللغة". لقد وجد
الأشياء ولم يجد أسماءها، فتولَّى تسميتَها
بنفسه. فلأشبِّه ذلك بما قام به
الآثاريون بترجمتهم كتابات الحضارات القديمة
إلى لغتنا: فمن دون تلك الخطوة، كان من
المتعذر عليهم التعرف إلى تلك الحضارات. وكما
أننا لم نسمع آثاريًّا ادَّعى أنه قد فهم على
وجه الدقة نفسيةَ إنسان حضارة قديمة ما أو
شخصيتَه أو تمكَّن من تقمُّصها، مثلاً، فإنه
كان، وما يزال، وسيبقى، من المتعذر علينا أن
نقع على لغة العالم الحقيقية، على
الأسماء الحقيقية والماهيات الأصلية للأشياء.
وما فعلناه في فجر الإنسانية، رفضًا منا
لتقبُّل المستحيل، هو أننا أدخلنا العالمَ في
لغتنا (كان ذلك شجاعةً وجُبنًا في الوقت عينه!)؛
أعدنا تشكيلَه لغويًّا لكي تغدو قراءتُه
ممكنة؛ سمَّينا الأشياء بالأسماء التي نعرف
ونفهم؛ حفرنا، بآلاتنا العقلية البدائية (كما
هي اليوم)، مداخل جانبية إلى العالم بعد أن
أقررنا باستحالة فتح بابه، أو ربما باستحالة
العثور على بابه حتى. لكننا، بمرور الدهور،
توهَّمنا أن هذه هي أسماء الأشياء ولا أسماء
غيرها، وأن هذا هو العالم ولا عالم غيره،
وأننا، بفضل آلاتنا تلك، قد "تلقينا العالم"،
وأن هذا الأخير هو الذي صَنَعَنا، غافلين عن
حقيقة كونه ما هو إلا العالم الذي نحن
صنعناه، منذ اليوم الأول الذي وُجِدْنا فيه،
عندما شرعنا في إعادة خلقه لغويًّا. (كمثال توضيحي بسيط نسأل: ما
هو الماء؟ ما هو اسمه الحقيقي قبل أن يوجد
الإنسان ويشربه ويدعوه "ماءً"؟ ما هي
ماهيته الحقيقية، مجردةً من مصطلحاتنا
العلمية ومن شطارة اللغة؟ ما هو "الماء"
أصلاً؟!) لقد صنع الإنسان مع عقله ما
صنعه المعلِّم مع تلميذ خامل الذهن لا يقدر أن
يستوعب الرياضيات: قام المعلم بتحويل
المعادلات الرياضية إلى أمثلة تطبيقية من
الحياة اليومية يسهل على التلميذ استيعابُها.
ومع أن التلميذ سيتوهم أنه قد فهم الرياضيات،
إلا أنه سيلاقي في المستقبل الصعوبةَ ذاتها،
بل العجز، أمام أية مسألة رياضية، وذلك لأن ما
"فهمه" هو أمثلة المعلِّم التطبيقية،
وليست الرياضيات. والواقع أن الإنسان قد تلقى
من العالم، حتى اليوم، ذلك الجانب النافع
لحياته وحسب. ولإيضاح الفرق بين حدود معرفته
هذه وبين المعرفة النقية التي أشرت إليها
آنفًا، سأشبِّهه بالفرق بين معلومات الكبش عن
العشب ومعلوماتنا نحن البشر عن العشب! ولو استبدلنا بكلمة "العالم"
في السطور أعلاه كلمةَ "الشعر"، سيسهل
فهمُ مقصدي من السطور أدناه – مع عدم إغفال أن
الشعر ذاته هو أحد وسائل الإنسان لـ"تلقي"
العالم. نحن نكتب الشعر الجميل، لكن
الشعر الأجمل بإطلاق لن يكتبه أحدٌ أبدًا! ذلك
لأن الشعر، في ماهيته الأولى، شعور،
إحساس، فكرة، شيء كيميائي ليس غير – ما يعني
أن معرفة ماهيته شيء متعذر على القدرة
البشرية تعذُّر معرفة ماهية هذا الكون عليها.
وما بين هذا الشيء الكيميائي والورقة مسافة
طويلة وفضاء من مادة كثيفة، تخرج الفكرةُ
بعدها – مسمَّاةً "قصيدة" – منهكة،
شائخة، لا تشبه صورتها الأولى إلا كما يشبه
الشيخُ الصبيَّ الذي كانه يومًا. إن تحويل
الفكرة/الشعور/الإحساس إلى أدب (كلمات، لغة،
تأريخ، تجسيد لثقافة عصر) وفن (بلاغة، تشكيل،
إيقاع، ذائقة، إلخ) هو، في حقيقته، عملية
صياغة فكرة أخرى تمامًا: إنها عملية إدخال
الشعر في لغتنا البشرية سعيًا إلى مقاربته،
مثلما كنا قد أدخلنا العالم في لغتنا
لمقاربته. ومن دون هذه العملية سيُصاب
الإنسانُ بالبكم: يحس بالشعر، لكنْ لا يقدر أن
يعبِّر عنه! لكنْ إذا كانت الفكرةُ "المدونة"
ليست هي ذاتها الومضة الشعرية الأصلية، فأين
تذهب تلك "الومضة" إذن؟! بعض الشعراء
يخسر إلى الأبد حقَّه فيها وحظَّه السعيد
باللقاء معها عندما يتوهم أنه قد "دوَّنها"،
فيعيش حياته مطمئنًا إلى هذا الوهم – وَهْم
أن قصيدته التي دوَّنَ هي الشعر ذاته؛ وبعضهم
تعود إليه تلك الومضة، تحت طائلة شعوره بأنه
لم يَفِهَا حقَّها، في هيئة فكرة "أخرى"
لا تشبه الأصلية إلا شبهًا غامضًا أو جزئيًّا،
فيصوغ منها مقاربةً أخرى (أي قصيدة أخرى) لن
تكون أحسن حظًّا من سابقتها؛ الأمر الذي يدفع
بعضًا ثالثًا، عنيدًا، إلى تكرار المقاربات
والمحاولات، حتى يقضي عمرَه كلَّه في عذاب
المجاهدة من أجل اللحظة الألذ، لحظة الاتصال
ثانية بالومضة الأولى – تلك اللحظة
المستحيلة! أردت بذلك القولَ إنه مثلما
وقف الإنسانُ عاجزًا عن التوصل إلى ماهية
الكون والعالم الأرضي، عجز كذلك عن التوصل
إلى إدراك ماهية الشعر. والفارق كله هو أن
العالم إمكانية فيزيائية وجدَها الإنسانُ
متاحةً قَبْليًّا، فيما الشعر إمكانية روحية
للإنسان دورٌ في وجودها. ويقودني هذا إلى اعتبار أنه
لا يوجد شعر "صادق" (أي تام الشفافية)
أبدًا – مع نبل محاولات الإنسان كلِّها في
هذا السبيل. شعر العالم كلُّه هو مجاهدة عنيدة
يحدوها أملُ أن يلتقي الإنسانُ يومًا بصورته
الأولى، بإحساسه الأول حين وجد نفسه على هذا
الكوكب. كل شعر الإنسان حتى اليوم هو سجلُّ
جهوده من أجل الخلاص من الحواجز الهلامية
التي تفصله عن روح الكون؛ جهوده من أجل العودة
إلى رحم الكون، ومن أجل أن يصير الكائنَ التام
الشفافية، أن يكون هو الكلمة، وأن تكونه
الكلمة... تلك الجهود التي لن يقيَّض لها أبدًا
أن تنال غايتها، لأنها، لو فعلت، فلن يغدو
لوجود الشعر من مبرِّر! ولو توخينا الصراحة لقلنا:
مادمنا نقدِّم الشعر عبر واسطة مادية (الكلمات،
اللغة)، فلا أمل لنا بولادة الشعر الحقيقي،
لأن الشعر الحقيقي لا لغة له: إنه – في
بساطة – قَبْل اللغة. واقتناعنا بتعذر ولادة
الشعر الحقيقي يوضح لنا تواضُع وسائلنا
الإدراكية. لقد بلغ بنا الوهمُ حدَّ أننا بتنا
نعتقد أن اللغة (التدوين، نشر الكتب) هي ناقل
الإحساس الشعري عبر الأجيال. ألا ما أشد
تواضُع عقولنا! بل إن الشعر إنما تنقله الروح
من جيل إلى جيل. فلا تكرار طبعات الدواوين،
ولا عدد الحائزين على "جوائز الشعر"، ولا
أية وسائل أخرى نحن نبتكرها، هو ما ينقل
الإحساس الشعري من جيل إلى جيل. إنما مَن يؤدي
هذه المهمة هو نفسه الذي يبتكرنا، كما دأب مُذْ
كان الشعر إلى اليوم – عنيتُ الروح. *** *** *** [1] كاتب وشاعر عراقي مقيم في السويد؛ إيميله: samirtahir@gmail.com. |
|
|