|
الحلم المتبقِّي وجهي مشدودٌ نحو السماء. الرذاذ
المتساقط من فوق، على استحياء، ينزلق من فوق
جبيني إلى خديَّ ورقبتي، وينسلُّ داخل قميصي،
فيزيد فيَّ الإحساس بالانتعاش. طاقة الورد،
التي ما تزال بين يديَّ منذ وقت، تلتصق بي
أكثر، ويفوح أريجُ ورودها الحمراء، فينتفض
قلبي. كم
هو رائع هذا الصباح الربيعي! أحس بتأثيره
يخترقني في قوة، وأنا جالس على مقعد خشبي في
الحديقة التي اعتدت المرور بها مرات عديدة في
اليوم. يجاور هذه الحديقة شارعٌ يسمونه "شارع
العشاق". هذا هو الاسم الذي عرفتُه به منذ
أن بدأت عملي فوق أرصفة هذا الحي، داخل
زواريبه وممراته. في هذا الشارع تعودت أن أرى
المحبين يتنزهون فوق مساحته التي تبدو ممتدةً
إلى غير ما نهاية، مستظلين بفيء أشجاره
المتلامعة الخُضرة من دفق النجم الملتهب
صيفًا، مستسلمين شتاءً لأمطار سمائه تسقي
كياناتِهم العطشى. الربيع
يدق على رحم الطبيعة، حييًّا، متأنيًا،
مستئذنًا. طاقاته الكامنة في الأعماق المظلمة
تريد أن تفصح عن ذاتها. عملية الولادة بدأت،
والرحم تستجيب، فتُخرِج من مياهها الحياةَ
التي زرعتْها، في كلِّ خلية من خلاياها، نفحةٌ
من الروح الكلِّية. قبل
قليل ابتسمتُ لها. كنت أمشي متمهلاً أمام مدخل
العمارة التي تسكن في أحد طوابقها، أترقب
خروجها بلهفة عاشق غِرٍّ. فتحتْ مظلتها
الصغيرة، ووطئتْ الرصيف. التقت عيونُنا.
ابتسمتُ. بادلتْني بابتسامة شحيحة، ثم ابتعدت،
وهي تحاول أن تحمي بمظلتها ثوبَ الطبابة
الأبيض الذي تحمله فوق محفظة كتبها الجامعية.
هممتُ أن أمدَّ يدي لها بوردة حمراء من الطاقة
التي أحملها، لكني لم أفعل! تسمَّرتُ في مكاني،
ورحت أتأملها بدهشة مَن تنفتح عيناه، للمرة
الأولى، على وجه أنثى. ذهبتْ
قبل قليل، ولن تعود حتى حلول العتمة، كعادتها
كلَّ يوم. وأنا لن أترك هذا الشارع قبل أن أحظى
منها بابتسامة أخرى. ما
الذي يشدني إلى هذه الفتاة بالذات؟ أتساءل. هي
ليست خارقة الجمال، لا. هي ليست جميلة حتى. أنا
أعرف هذا. لكن شيئًا ما في وجهها يضيء في قوة!
هل هو نظرتها، ابتسامتها، أم هو شيء آخر؟ لا،
ليس النظرة، ولا الابتسامة، بل شيء ما خلفهما
معًا. شيء نابع مما هو داخل الجسد الذي تراه
عيناي، وهو الذي يفيض من العينين، ومن
الشفتين، وهو الذي يحرِّك فيَّ أعمق أعماقي،
فيجعلني أعود، في لحظة، طفلاً صغيرًا يحمل
بين يديه ورودًا قطفها في الصباح الباكر من
حقل أبيه، ثم التقى في طريق عودته طفلةً أضاء
وجهُها أمامه حين ابتسمتْ له، فأحب أن يهديها
من وروده وردة، وحين وقف قبالتها مدَّ إليها
يده ليطلب منها أن تصبح صديقته التي تشاركه كلَّ
صباح قطف الورود ولعبة الغميضة في فسحة دارهم
القديمة، وحين يأتي المساء يتشاركان معًا
حلوى التين والجوز. أليس هذا هو الحب؟! الحب،
البراءة! أحس بقلبي يُعتصَر وتملؤه غُصَّة.
الحب، البراءة! * * * تتدافع المشاهد، التي
رأيتها صباح هذا اليوم على شاشة التلفزيون،
إلى ساحة الذاكرة. قبل
أن أترك غرفتي إلى محل الزهور الذي أعمل فيه،
فتحتُ التلفزيون الصغير المركون في الزاوية.
جلست أمامه، وأنا أزدرد بعض اللقيمات وأحتسي
كأس الشاي. طالعتْني الحشودُ ترفع الأعلام
واليافطات، وهي تخبُّ وتزعق. استعذت بالرحمن!
حتى في "يوم الحب" نرفع شعارات الكراهية،
ونهتف للثأر! ولكن ممَّن؟! مرَّ عام، والحال
كما هي. زعماء القبائل يتناحرون ضمن مساحتين
من الأرض تفصلهما حدودٌ وهمية، والرعاع، من
هنا وهناك، يُساقون إلى الشوارع احتجاجًا
وتأييدًا. يخرجون باسم الحب للقبيلة، – عفوًا
للوطن! – والحب للحقيقة، والحب للإنسان.
يرفعون أعلامًا مختلفة الألوان والمذاهب
والاتجاهات. يزعقون، ويتقاذفون الشتائم
والسباب. هذا كله يحدث باسم الحب، وباسم
الإخلاص، وباسم الولاء! وأتساءل مستغربًا: هل
أصبح للحب وجهٌ آخر في هذا الزمن الصعب؟! أم
أنني ما أزال إنسانًا ساذجًا، تفاجئه أمورٌ
تغيب توصيفاتُها عن شاشة ذاكرته الواعية، لأن
إدراكه السليم يرفض القبول بواقع مُصابٍ
بالجذام؟! ويلح عليَّ سؤال، وأنا أحدق في
الشاشة الصغيرة أمامي، عازفًا عن لقيماتي
القليلة وعن كأس الشاي المفضل عندي: ما الذي
يريد هؤلاء الشباب أن يقولوه في غمرة الحماس
هذه التي، منذ أن بدأت، مافتئتْ تتصاعد
وتلتهب؟ ألا يمكن أن تكون دفقةُ حماسهم هذه هي،
في العمق، احتجاجًا خفيًّا، لبس لبوسًا آخر،
على ما لا يستطيعون الإفصاح عنه مخافة
الاعتقال، أو النفي، أو التجويع؟ ألا يريد
هؤلاء الشباب، ربما، أن يقولوا، هكذا علانيةً
وأمام الملأ أجمع: "أيها العالم، انظر
إلينا، نحن شباب هذه الأوطان المغلوبة على
أمرها، لم تعد لدينا اليوم قضايا كبرى، ولا
معارك مصير، نستطيع من خلالها امتحان
بطولاتنا وتضحياتنا. أنظمتنا الاستبدادية
التعسفية التي تهددنا بالتهميش والإقصاء
تطال ذواتنا، وبناء هوياتنا، والمشاركة في
صنع مجد أوطاننا. لذلك، ولأنهم جعلوا منا
رعاعًا عاجزين ومستلَبين، سهل عليهم زجُّنا
في مسيرات الولاء لسلطة كراسيهم التي يتمسكون
بها تمسُّكهم بأرواحهم! لكننا، على الرغم من
ضعفنا أمام الجبروت، وأمام الخوف الذي زُرِعَ
في كياناتنا، وأمام الهدر الذي مورس على
عقولنا ونفوسنا، خرجنا الآن نفجِّر غضبنا
وحنقنا في شوارعهم، ثورةً على الحال التي
أوصلونا إليها، لا مناصَرةً لمواقفهم التي لم
يعودوا أصلاً مقتنعين بصحة نواياهم تجاهها.
أيها العالم، نحن طاقة الحياة تقاوم الموت
والتلاشي، تنطلق لإثبات ذاتها، ولو لمرة
واحدة، ولتقول لنفسها، وللآخرين أيضًا، إنها
يمكن، في وقت ما، أن تخرج لتحرق كلَّ ما يعترض
طريقها." أرتخي
على ظهر المقعد الخشبي وأتنهد. يحضر إلى
ذاكرتي وجهُ أبي، وترن في أذني كلماتُه: "أنتم
الشباب مظلومون، لأنكم تعيشون من غير أحلام.
أما نحن فقد كانت لنا أحلامنا، يا أحمد، وكانت
لنا رؤانا، وانتظاراتنا الطويلة من غير ما
كلل. ولقد منحَنا هذا كله الثباتَ والتوازن،
ولو إلى حين. وحين أفقنا بعد دهر، أدركنا أن
الزمن قد سبقنا بآلاف السنين، واكتشفنا أننا
مازلنا أنقياء وسُذَّجًا، وأن أحلامنا التي
أضاءت كهوفنا طوال تلك السنين أصبحت غريبة،
بعيدةً عن هذا الحيِّز من الأرض التي نسكنها
على هذا الكوكب. ورحنا نتضاءل! أجسامنا، التي
كانت فارعة كشجر السنديان، بدأت تنكمش، كي
يستطيع المكان الذي نعيش فوقه احتواءها،
ونفوسنا التي كانت طافحة بالطموحات راحت
تتقيأ ما بداخلها كما تتقيأ المعدةُ ما يزيد
عن حاجتها من الطعام لتعيد للجسم توازنَه.
وهكذا بدأنا نتعلم التوازن. تعلمناه في زمن
قصير وسريع! كان التوازن هنا هو الانحسار،
انحسار كل شيء، وتضاؤله وصَغاره! وها نحن الآن،
كما ترانا، وقد حوَّلنا أحلامَنا إلى إشباع
حاجاتنا الأساسية، وحوَّلنا طموحاتِنا إلى
معرفة تدبير الحال! الخيبات والهزائم، يا بني،
سفَّهتْ القضايا كلَّها، ولم تترك وراءها إلا
الخراب. جيلنا، يا أحمد، يعيش فقدان الحلم في
خلايا جسمه، وفي النَّفَس الذي يتنفسه. جيلنا
يعيش منفاه داخل وطنه. فهل هنالك أصعب من هذا؟!
ومع ذلك، يا بني، أعود لأقول لك: لقد كانت لنا
أحلامٌ لن ننساها، وكان لحياتنا معنى!" يصمت
أبي، ثم ينظر إلي، والحزن يطفر من عينيه، ثم
يتابع: "وعلى الرغم من كلِّ شيء فنحن، في
المحصلة، أفضل منكم بما لا يقاس، لأنكم الجيل
الذي لم يعرف الحلم والانتظار، جيل يعيش
الوهم فقط، الوهم والاستبداد. وهذا هو الأصعب
والأقسى!" * * * المطر ما يزال يهطل رذاذًا
ناعمًا يغسل شعري ووجهي وصدري، وأنا متسمِّر
على المقعد ما أزال. كلمات أبي تتردد في ذهني،
فيزداد إحساسي بالغُصَّة. نعم، نحن الشباب لم
نفتح أعيننا على ضوء أحلام تملأ نفوسنا فرحًا
وغبطة، وتنعكس على وجوهنا ألقًا لا يخبو! ها
هي ذاكرتي تروح تستعيد الكثير من المشاهد
التي تمر أمامها كل يوم على شاشة المحطات
الفضائية في برامج كثيرة ومتنوعة تصدِّرها
إلينا أجهزةُ العولمة الثقافية للقضاء على ما
تبقَّى عندنا من ثقافة. برامج صناعة النجوم،
برامج الموضة، مباريات ملاعب كرة القدم التي
لا تنتهي أبدًا، برامج الإثارة الحسية
والفيديوكليپات المخدِّرة لإنسانية الإنسان.
هل هذا هو تراثنا الإنساني الذي مازلنا نحمل
رفاته على أكتافنا حتى اليوم، ونسير به عبر
أروقة التاريخ، ونحن نندب مجدَه وعزَّته؟! ولكن،
لماذا تستطيع العولمة الحديثة أن تمدَّ
أصابعها الخفية، فتلعب بمجتمعاتنا كما يلعب
صاحب مسرح العرائس بدماه الصغيرة؟! لماذا
تلجأ، عن طريق ثقافتها المطروحة للعامة، إلى
إعادة تشكيل واقع الناس، وبخاصة الشباب منهم؟
أليس لأن الشباب في مجتمعاتنا هذه فقدوا
القدرة على الفعل واختبار الذات؟ أليس لأن
شبابنا مهدورو الكيان، محيَّدون، مهمَّشون،
مبعَدون عن المشاركة في صناعة مصير أوطانهم؟
الأنظمة السياسية، التي وُجِدَتْ أصلاً كي
تحمي وترعى، هي أول مَن أخلَّ وأرخى، تهاوَن
وظَلَم. تربَّعتْ على كراسيها المذهَّبة،
وأطلقتْ صفاراتِ إنذارها، فتجمَّع الشباب
صاغرين. اقتادتهم، ووضعت على عيونهم عُصاباتٍ
سودًا، ثم ختمت على آذانهم بالشمع الأحمر،
وجعلتْهم يدورون في أمكنتهم كما يدور الثور
حول بئر ماء، دون أن يحسَّ بما حوله كي لا
يُصابَ بالخوف والهلع. وبدأت
لعبة الدولة الكبرى في عالمنا الذي اختل
ميزانُه. مدَّتْ يدها الطويلة، ورفعتْ عن
العيون العُصاباتِ السود، ونزعتْ عن الآذان
الشمع الأحمر، فأراحت الشباب من الدوران من
غير ما طائل. ثم قالت لهم: "ارفعوا رؤوسكم،
وافتحوا عيونكم جيدًا، كي تقرؤوا شعاراتي
البراقة وتفهموها كما أريد: الحرية،
الديموقراطية، حقوق الإنسان..." وكيف يفهم
المهدور، المتآكل، مُطفَأ الوعي والإدراك؟!
لا. هم لم يفهموا، ولكن خُلِبَتْ ألبابُهم،
وطاشت عقولُهم، فاختل توازنُهم، وراحوا
يترنحون كالسكارى. أشارت لهم بإصبعها الصغير،
فلحقوا بها، وأبصارهم معشَّاة لا تميِّز
الدرب. الشوارع الفسيحة أمامهم مكتظة بأماكن
الفسق والفجور، وأبوابها مشرَّعة على
مصاريعها. قالت لهم الأخت الكبرى على لسان
علمائها النفسانيين: "الكبت الجنسي أصل
المشاكل كلِّها." فأرخى الشباب سراويلهم،
وأظهروا أعضاءهم الجنسية للعيان! المحالُّ
التجارية الفخمة متخمة ببضائع الاستهلاك،
وإشباع الرغبات الآنية، وكماليات الحياة
التي لا تزيد النفس إلا خواءً وجشعًا. فراحوا
يبيعون أنفسهم وضمائرهم كي يمتلكوا كل ما
فيها، وهم يظنون أنهم يماشون ركب الحضارة
والانفتاح. هم يريدون أيضًا أن يحققوا بطولة،
نجوميةً حرمتْهم منها أنظمتُهم التعسفية! "تعالوا"،
قالت لهم الأخت الكبرى. "ستكونون نجومًا،
وستكونون أبطالاً!" وجنَّدت إعلامَها في
برامج ملأت شاشاتِ أجهزتهم الحديثة،
فرفعتْهم بها إلى السماء. ولكنهم لم يصبحوا
نجومًا مضيئة، ولا أبطالاً صناديد، بل تحولوا
إلى كتل فحمية سوداء تستمد لونها من دمار
نفوسهم وخراب حريتها. "أنتم في حاجة إلى
الترويح عن النفس، إلى البسمة، فكفاكم
أحزانًا"، قالت لهم الأخت الكبرى أيضًا،
وأغرقتْهم في برامج التسلية، والحظ،
والفكاهة. وضحك الشباب حتى تشقَّقتْ أشداقُهم.
فهذا أفضل لهم بما لا يقاس من البكاء على
الأطفال المشردين، والجياع، والجرحى،
والمقتولين ظلمًا في أراضينا المحتلة كلِّها،
وأكثر إراحةً للنفس من مشاهدة توابيت الشهداء
الذين يسقطون كلَّ يوم في كل بلد عربي، محتلٍّ
وغير محتل. هل
هذا هي العولمة إذن؟! تخلق للشباب واقعًا
بديلاً عن واقعهم الميت، واقعًا يوصل إليهم
إحساسًا ببهجة مزيفة، فيلغي عندهم الإحساس
الأصلي، يدير عقولهم إلى الاتجاه الخاطئ،
ليخصي عندهم التفكير، والشك، والمساءلة! * * * وأتساءل، أنا العبد الفقير
إلى الحقيقة، الجالس على مقعد خشبي في حديقة
يغسله فيها الرذاذُ اللطيف المنهمر من السماء:
أليس من الأفضل، وسط هذا الزيف والضياع، أن
أعيش حقيقتي مع هذا الإحساس النقي الذي يملأ
كياني كلَّه كلما رأيت وجه هذه الفتاة الذي
يعيدني ألقُه إلى أيام الطفولة والبراءة
والحب غير المعلَّب؟ أوليس ما أعيشه اليوم هو
الحلم المتبقي لمن لا حلم له في هذا الزمن
الأسود؟ أوليس هذا هو الحب كما يجب أن يُعاش
ويُعرَف، لا كما يعيشه ويعرفه الكثير من
الناس الذين رأيتهم اليوم يخرجون في "عيد
الحب"، يرفعون باسم الحب يافطات الحقد
والكراهية؟ ما الحب، أتساءل، إن لم يكن في
الأصل محبةً تشمل الإنسان والطبيعة والكون
كلَّه؟ ما الحب إن لم يكن عطاءً من غير مقابل،
وتسامُحًا من غير مِنَّة؟ ولماذا نعمد، نحن
الشعوب العربية، كلما أطللنا على نوافذ الغرب
المزوَّقة بألف لون ولون، إلى اختزال الحب في
قلوبنا وتضييع معناه في نفوسنا؟ أحقًّا،
كما يقال، لم يعد في الغرب حب ولا محبة؟ هل
أصبح الغرب كله آلةً صناعية تحرِّكها أزرارٌ
إلكترونية تعطِّل نبضات قلب الإنسان، وتلغي
أحاسيسه الرقيقة؟! لا أظن ذلك. الغرب لا يعني
السياسة والاقتصاد فقط، ولا يعني
التكنولوجيا المعطِّلة لإنسانية الإنسان فقط.
فلو فتشنا فيما وراء ذلك، لرأينا فلاسفة،
وشعراء، وكتَّابًا، وعلماء بيئة، وروحانيين،
ما يزالون يصرخون في سماء العالم، داعين إلى
الحياة والحب والتآلف، ومازالت أصواتهم
تُسمَع لدى مَن يملكون آذانًا تستطيع الإصغاء،
وعقولاً تستقبل المعرفة. لكن آذاننا الآن لا
تسمع إلا أصوات موبايلاتهم المستوردة،
وأصوات موسيقى العهر الفني، والعهر السياسي
والاقتصادي، التي نتلقف أنغامها من هنا وهناك
في أجزاء كثيرة من العالم، حيث الأثير مشحون
باهتزازات تتلاعب بمستوياتها أنفسٌ شيطانية
لا تستطيع العيش إلا على أنقاض هذا العالم. إلا
أن كريشنامورتي، الفيلسوف الهندي، قال، كما
قرأت في إحدى كتبه: "اللذة التي تلاحقها
تُسمَّى خطأ سعادة. ولكن هل تستطيع أن تلاحق
السعادة كما تلاحق اللذة؟ اللذة إشباع، إرضاء،
انغماس، تسلية... معظمنا يظن أن اللذة هي
السعادة... وهل السعادة عكس التعاسة؟ هل تحاول
أن تكون سعيدًا لأنك تعيس ومستاء؟ هل للسعادة
نقيض أصلاً؟ هل للحب نقيض؟" كذلك جوزف كمبل،
الفيلسوف الأمريكي، قال لأحد طلابه: "اتبع
غبطتك!"، أي اتبع قلبك، ولم يقل له: اتبع
لذتك. وكثيرون غيرهما قالوا أشياء تحمل
المعنى ذاته. غربيون، شرقيون، لا فرق. لذا،
فأنا لن أستسلم للعطالة التي تحيط بي وتحاول
أن تُخمِدَ أنفاسي. سأظل أتنفس في عمق، وسيظل
قلبي يخفق بالحب والأمل، وسأظل أحس بهذا
الانتعاش الرائع الذي أحس به الآن فيما رذاذ
المطر يغسل شعري، ووجهي، وصدري. سأظل أحلم
بصباح أستيقظ فيه على زقزقة العصافير فوق
شجرة لوز قرب نافذة بيتي المتواضع، وعلى صوت
فيروز يحملني إلى أيام الطفولة والبراءة،
وينعش فيَّ أحاسيس المحبة، محبة الأرض والوطن
والإنسان. آه... محبة الأرض، والوطن، والإنسان! * * * لا أدري لماذا استجلبتْ هذه
الجملةُ صورة يوسف، صديق الطفولة والشباب،
ورفيق مرحلة الجامعة. كنا جالسَين مساءً في
أحد مقاهي المدينة القديمة، وكان يوسف
منهمكًا في شرح الموضوع الذي سيكتب عنه في
إحدى الصحف المحلِّية. بقيت أصغي حتى أنهى
كلامه. فجأة، حدَّق في وجهي باستغراب، وقال:
"أحمد! منذ أكثر من ساعة وأنا أتكلم، وأنت
تصغي. هل أستطيع أن أعرف لماذا لا تشاركني
الحديث؟ أعطني، يا أخي، رأيك فيما سأكتب عنه.
أم أن الموضوع كلَّه لا يروق لك؟ قل شيئًا،
بربك!" شردت
بذهني قليلاً مع صوت الأذان الذي ارتفع من
المسجد الكبير القريب، حاملاً مع رخامة صوت
المؤذن نوعًا من الخشوع للإله الذي استجاب في
داخلي لمصدره المطلق. أجبته بعد حين، وأنا تحت
تأثير نشوة صوفية: "أي كلام ستكتب، يا صديقي،
في موضوع تَناقَص الإحساسُ به في مجتمعنا هذا
حتى كاد أن ينتفي تمامًا؟! ألا ترى ما يحدث
للإنسان في هذا الوطن؟! عن أية مُواطَنة سوف
تتحدث، يا صديقي، ونحن نعيش حالة التهميش،
والإحباط، وهدر الكيان؟! ألا ترى كيف يتم
تحويلنا، قسرًا، إلى أرتال من المتفرجين
الذين لا عمل لهم سوى التصفيق والهتاف
بشعارات جوفاء لا تحرك فيهم إلا مشاعر الغضب
والازدراء الذي يفجرونه في تشويه الجمال
المحيط بهم، من طبيعة وحجر وبشر؟ انظر حواليك
جيدًا، فيهولك ما ترى! المُواطن في بلدنا يرمي
بأوساخه في شوارع مدينته، وهو يظن أنه يرميها
في سلة القمامة! انظر إليه يتغوط، ويبول،
ويتمخط، فوق الأرصفة، كأنه يفعل هذا في مرحاض
بيته! انظر إليه كيف يحول الجنائن، التي هي
رمز حضارة في أية دولة راقية، إلى مجمَّع
لنفايات طعامه وشرابه، وكيف يقتلع أغصان
الأشجار، ويقطف الورود أينما رآها، فيدوسها
بقدميه كما يدوس حشرة مؤذية! راقبْه كيف يخرب
أكشاك الهواتف الموضوعة لخدمته، ويمزِّق
مقاعد الباصات قبل أن يغادر مكانه عليها! عن
أية مُواطَنة سوف تتحدث، يا صديقي، والناس
ترى بعيونها المفتوحة على اتساعها، دهشةً
واستنكارًا، كيف تُباع أوطانُها بالدولار
وكيف تداس بالهامر التي تقتحم أحياء العراق
الجريح وبيوتاته، محمَّلةً بأوسمتها
المرصوفة على صدور جنرالات تتحرك بأزرار
إلكترونية، وتُداس بطريقة أخرى في بلدان
عربية كثيرة، بالهامر ذاتها، لكنها هذه المرة
محمَّلة بأثرياء يتنزهون في الشوارع العربية
فوق أجساد الفقراء، برفقة محظياتهم اللواتي
يبتاعونهن من تجارات مسمومة أغرقوا الأوطان
بها، وهم جالسون يتفرجون من نوافذ سياراتهم
المصفَّحة على مسرحية قتل إله الخصب التي
أصبحت اليوم مسرحيتهم المفضلة، ويضحكون بهجةً
حتى تنشقَّ أشداقُهم الواسعة، وتسيل الدموع
من عيونهم الزجاجية التي تعجز أن ترى في
الشوارع الضيقة المزدحمة، على الجانب الآخر
من المدينة، دموعَ الذين يبحثون عن كرامتهم
الضائعة من غير ما جدوى؟ عن أية مُواطَنة سوف
تتحدث، يا يوسف، وقد فقدتْ شعوبُنا الحصانة
أمام الأخطار المحدقة، واستسلمت للضياع
والذوبان، تاركةً هويتها وانتماءها في مجاهل
النسيان؟! ولكن،
يا صديقي، هل تعرف لماذا وصل الإنسان في وطننا
إلى هذا الدرك؟ – وأظنك تعرف، يا يوسف: فمن
سُلِبَ كرامته، وأُبعِدَ عن المشاركة في
صناعة مصيره، ومصير وطنه، سوف تمتلئ نفسُه
بالغضب. وهذا الغضب، إما أن يبقى، عند بعضهم،
حبيس الصدور، فيميت أصحابَه كمدًا وحسرة،
وإما أن يظهر من خلال ردود أفعال عكسية نراها
في التسيب، والفجور، والتسطيح، والتفاهة،
والميل إلى الأذى، أو قد يتفجر خارج الكيانات
المضغوطة، فيكون كقنبلة حارقة تأتي في
النهاية على الأخضر واليابس! وهكذا، يا يوسف،
فأنا أرى أن ما تسميه "حسَّ المُواطَنة"
ميت في نفوس أبنائنا. أما ما هو حي فهو الشعور
بالغربة، والضياع، وعدم الانتماء، والغضب. لذا،
يا صديقي، إذا أردت أن تخوض في موضوع ما تفيد
به شباب وطنك الضائع والمحبَط، تحدَّثْ عن
كيفية بناء الذات الداخلية عند إنساننا. فهو
إنْ لم يتعلم كيف يبني ذاته، لن يستطيع أن
يواجه كلَّ ما يتعرض له من ضغوط داخلية
وخارجية، ولن يتحرر منها. يجب أن ترشده إلى
مَواطِن القوة الكامنة فيه كي تظل قدماه
راسختين في الأرض أمام العواصف والأنواء.
عليه أن يعلم أن عالمنا هو عالم الأقوياء –
لكن الأقوياء لا بما يعطيهم إياه الخارج،
وإنما بما في داخلهم من مبادئ وقيم، يستطيعون
بها أن يحموا أنفسهم من الوقوع في الأفخاخ
الكبيرة التي تنصبها لهم الأنظمةُ المحلِّية
والعالمية لإبعادهم عن إنسانيتهم، عن عالم
الأفكار الإيجابية، عالم التساؤل، والتشكيك
في مشروعية ما يُمارس ضد الإنسان ليبقى
غائصًا في مستنقع المتع الحسية، فلا يستطيع
أن يخرج منه أبدًا كي يستنشق هواءً نظيفًا
يجدِّد الحياة في كيانه." حين
أنهيت كلامي، كان وجه يوسف قد احتقن بما يكفي
لإنذاري بوجوب السكوت أو التهدئة، وبدت لي
عيناه طافحتين بالدموع. بقي صامتًا، وهو ينظر
إليَّ في تعب شديد. كنت كمن أيقظه بغتةً على
صوت صفارة إنذار بعد نوم هانئ مليء بأحلام
وردية. * * * المحبة... آه! ورذاذ السماء
المنعش يغسل كياني. مَن يحب لا يقسو. مَن يحب
لا يقتل، ولا يكذب، ولا يسرق. مَن يحب لا يرتكب
الأخطاء. المحبة هي ضمير الكون. هي ما يفتقده
عالمنا الآن. لذا فهو يتخبط إلى غير ما نهاية! اليوم
هو "يوم الحب" – وأنا محب. نعم، أنا أحب
هذه الفتاة التي تنظر إليَّ تلك النظرة
الطافحة بالحياة. أحب هذه الفتاة، التي تقول
لي، بثيابها البسيطة، وشعرها المرتب من غير
تكلُّف، ومشيتها المنطلقة الواثقة، إنها حرة
من الداخل، وإنها متصالحة مع ذاتها، غير
خاضعة لأيِّ إشراط. ولكن هل هذا هو الجنون
بعينه؟ أن أحب فتاةً لا أعرف عنها شيئًا سوى
أنها تسكن في هذا الشارع، وأنها تبتسم لي حين
تراني! ولكن ما الغرابة في ذلك؟ ولماذا أريد
أن أُدخِلَ فكري إلى قلبي ليضرب فيه سهامه
المسمومة؟ الحب يُعرَف بالقلب، دون سواه.
وقلبي "رأى" هذه الفتاة – هذه الفتاة دون
سواها – وهذا يكفي. ألم يقل ابن عربي: "القلب
محلُّ الرؤيا"؟ وإذن، فأنا أتبع قلبي في كلِّ
ما أفعل. إنه واحتي التي تنفحني، وسط هذا
السخام من الآلام التي تربض فوق صدري، بنسمة
الحياة ونسمة الأمل. قلبي العامر بالمحبة
يحميني من الشعور بالإحباط أو الاستسلام. ها
أنا ذا أعمل، وأعدُّ لرسالة الماجستير في علم
النفس، وأستطيع أيضًا، بعد فراغي من
مسؤولياتي، أن أركن إلى غرفتي المتواضعة
لأدير جهاز التسجيل الصغير على موسيقى باخ،
وموتسارت، وشوپان، وكثيرين غيرهم من الذين
رهنوا حياتهم لفنٍّ يعلِّم الناس كيف يرتقون
بأحاسيسهم ومشاعرهم إلى مستويات عليا. أقرأ
الشعر والرواية وكل ما أحس أنه يحرِّك فيَّ
الإنساني والجميل. أنا لا أحب الوقوف على
الأطلال، أكره ندب الحظ العاثر. فلعب دور
الضحية يؤدي أخيرًا إلى الإحساس بالعجز
والضآلة. الحاضر هو ما يهمني، والتفكُّر في
أحواله هو ما يشغل عقلي. وإذن،
فأنا في النهاية إنسان متفائل، أبيع الورود
للعاشقين، لأنها فرصة العمل الوحيدة التي
توفرت لي، وأغتبط حين يعطي الواحدُ منهم
نصفَه الآخر عربون محبته أمام عينيَّ
الراصدتين للبريق المنبعث من المُقَل، لرعشة
اليد وهي تتلقف الهدية البسيطة ككنز ثمين.
والأهم من هذا كلِّه أنني حر، طليق كطائر يحلق
عاليًا، لم تستطع أية يد حتى الآن أن تمسك به
وتضعه في قفص من الأقفاص الكثيرة المزوَّقة
التي تعرضها في مزاد الشعارات الرنانة والخطب
الجوفاء! * * * حاولتُ أن أقنع زيادًا،
صديقي، بوجهة نظري. لكنه كان يقول: "أريد أن
أكون فردًا فاعلاً في وطني، أن يكون لي دورٌ
بنَّاء. لن أسمح لأية سلطة كانت أن تغلق فمي
وتُسكِتَ صوتي!" لكن صوت صديقي سكت بعد أن
أُغلِقَ فمُه، وسيق إلى السجن، وهو في سنته
الجامعية الأخيرة. وحين أُطلِقَ سراحُ زياد
بعد عام أمضيته ورفاقَه في محاولات عقيمة
لزيارته، فوجئت به ينتظرني أمام باب غرفتي في
وقت متأخر. كان هزيلاً، شاحبًا. وأمضينا الليل
في الحديث. حكى
زياد ليلتئذٍ كما لم يحكِ من قبل. قال: "كنت
متهمًا بأفعال خطيرة من ناحية، ومتهمًا
بالخداع والتضليل من ناحية ثانية. إن اعترفتُ
لهم لا يصدقونني، وإن لم أعترف أدانوني. وكان
الخروج من هذه الحالة أمرًا مستحيلاً. كانت
حالة هدر لكياني الإنساني بكامله!" حكى
زياد عن فئات أخرى من المعتقلين السياسيين،
أصبحوا، بعد عمليات غسل الدماغ التي مورست
عليهم، مدرِّسين، لمساجين آخرين، للمعلومات
ذاتها التي أُدخِلَتْ إلى أدمغتهم، وبدوا
متحمسين جدًّا للقناعات الجديدة. "وأخيرًا"،
قلت له، "ما النتيجة التي خرجتَ بها؟"
صمت فجأة. بدا متألمًا أكثر من ألمه في أثناء
حديثة عن معاناته. قال بعد حين: "سأترك هذا
البلد... قد تكون هذه هي المرة الأخيرة التي
نلتقي فيها." ولم أرَ زيادًا بعد تلك الليلة
أبدًا. * * * المطر ما يزال يتساقط فوق
رأسي وجسمي رذاذًا خفيفًا، منعشًا. طاقة
الورد بين يديَّ ما تزال، وقد بلَّلتْ
وريقاتِها الحمراء حباتُ المطر الناعمة.
وقلبي يفيض. يفيض بحب الحياة، وحب الناس، وحب
تلك الفتاة البسيطة، بوجهها النَّضِر
ونظرتها الفريدة. هل تحبني هي يا ترى؟ هل تحس
تجاهي بجزء – وإن بسيطًا – من شعوري نحوها؟ تمتد
يدي إلى وردة في الطاقة، وتنتزع منها ورقة.
"تحبني!" وتنتزع أخرى. "لا تحبني!"
وعيي يدخل، رويدًا رويدًا، إلى كهفي العميق،
وإحساسي بما حولي يتضاءل. الأصوات تبتعد، ثم
تختفي. لم أعد أحس بشيء، أو أسمع شيئًا. الصمت
فقط هو الذي يغمرني، ويغمر المكان من حولي. صوت
اثنين من المارة أخرجني من كهفي عنوة. رفعت
رأسي عن الأرض التي تحولت أمام المقعد الذي
أجلس عليه إلى حديقة صغيرة مرشوشة بأوراق
الورود الحمراء. ثبتُّ نظري الغائم على
الخيالين اللذين بدوا كأنهما قادمين من عالم
آخر. رأيت خيال مظلة، وربما مظلتين، تحميان
الرأسين من الرذاذ المتساقط. وحين وصلني صوتُ
الشاب، بطيئًا وضعيفًا، عرفتُ أنهما أصبحا
على مقربة مني. "انظري ما الذي فعله هذا
المجنون! لقد خسر أجر يومين كاملين، وربما
أكثر! ألا تعتقدين، مثلي، أن المجانين وحدهم
في هذا العالم هم الذين يحلمون؟!" كانون الثاني، 2007 *** *** *** تنضيد:
نسرين أحمد
|
|
|