مقالان في نيتشه:

الحسُّ التاريخيُّ لدى نيتشه وأثرُ "السائل الكبير" لدى دُعاة "التقدُّم" العرب

 

جمال مفرج[1]

 

الحسُّ التاريخيُّ لدى نيتشه

موقفٌ نقديٌّ من المعرفة العلميَّة الوضعيَّة لقيمتها غير المطلقة

تنطلق دراسةُ نيتشه للعلوم التاريخية من بيان الوضعية الحقيقية للعلم الحديث، أي من نقد المعرفة العلمية، وهي آخر مرحلة في المعارف الإنسانية. ونعني بـ"المعرفة العلمية" العلوم التي تُسمى "وضعية" positives، أي تلك التي ليست علومًا إنسانية في صورة مباشرة: الفيزياء، الكيمياء، البيولوجيا، الرياضيات، والتاريخ في مستواه التجريبي empirique.

فريدرِش نيتشه (1844-1900)

يستهل نيتشه بيانه لوضعية العلم بالدفاع، أولاً، عن المنهجية العلمية، لأن ما يميِّز القرن التاسع عشر، في نظره، ليس انتصار العلم، بل انتصار المنهج العلمي على العلم. فالعلم استمد قيمته لا من مكتسباته الكثيرة فقط، بل استمد تلك القيمة، على نحو خاص، من مناهجه:

[...] إذ لا يمكن لنتائج العلم كلِّها، لو افتقدتْ هذه المناهج، أن تمنع عودة الخرافة والعبث إلى السيادة مرة أخرى.[2]

ولكن، إذا كانت للعلم من قيمة بسبب نتائجه ومناهجه، فإن هذه القيمة ليست مطلقة؛ والثناء على العلم يجب ألا يخفي، في نظر نيتشه، الوضعية الحقيقية للعلم. فاكتشافات بوسكوفيتش وكوپرنيكوس يجب ألا تُنسينا أن موقف العلم هذا لا يتناقض مع الرأي الذي حاربه: ففيما بدأ الإنسان يعرف أنه ليس مركز الكون، فقد فسَّر، في الوقت نفسه، تلك اللامركزية بمعنى محقِّر ومنحط. لقد صدق كانط، في نظر نيتشه، حين قال: "إن العلم يُعدِمُ أهميتي."[3]

وهذا التناقض الحاصل في نتائج العلم ينطبق أيضًا على غاياته: فغاية العلم، التي هي توفير ما أمكن من المتعة والسعادة للإنسان، تؤلِّف عقدة واحدة مع الانزعاج الذي يسعى الإنسان إلى تجنبه:

[...] حتى إن كلَّ مَن يريد أن يحقق ما أمكن من المتعة يجب أن يتحمل على الأقل المقدارَ نفسه من الانزعاج، وعلى مَن يريد أن يتعلم "الابتهاج حتى المساء" أن يتهيأ لكي يكون حزينًا حتى الموت.[4]

من هنا، وبحسب هذه النظرة إلى العلم، جاء وصف نيتشه للعلماء. ونقد نيتشه للعلماء يتناول، في المقام الأول، سلوكهم: فهو ينعتهم بـ"أعداء الحرية" و"أعداء الحياة" و"رجال التأمل"، لأنهم سقطوا، من ناحية، في حبائل الثقافة الإسكندرانية وفي شِراك العلم الذي كان سقراط نموذجه وأصله، أي العلم الذي يرفع العقل فوق الحياة، ولأنهم يقومون، من ناحية أخرى، بأعمال أشق من أعمال العبيد، مقيمين مع العلم علاقةً كعلاقة العمال مع الأعمال التي تفرضها عليهم الحاجةُ والبؤس[5].

ينتهي نيتشه من تشخيصه لحالة العلم الحديث بالشك فيه. والشك في العلم الذي انتهى إليه نيتشه هو على درجة الشك عينها في الميتافيزيقا والدين والأخلاق. فالعلم، هو الآخر، يتقنع: إنه يتخفى خلف قناع "الموضوعية" objectivité التي يخفي وراءها رغباتٍ ميتافيزيقيةً وأخلاقيةً ودينية: "إن اعتقادنا في العلم [بحسب نيتشه] لا يزال وسيبقى مرتكزًا على اعتقاد ميتافيزيقي"[6]، مثلما سيبقى مرتكزًا على اعتقاد أخلاقي واعتقاد ديني. ومن الجلِّي، في نظر نيتشه، أن العلم، وهو يحارب الميتافيزيقا، يظل مع ذلك ميتافيزيقيًّا، يظل ورعًا وتقيًّا في محاربته للدين، ويظل كذلك أخلاقيًّا وهو يحارب الأخلاق، مثل الرواقي الذي يظل، وهو ينكر الحس، يحن إليه من منظار آخر!

هكذا نجد أن العلم الحديث، الذي يدَّعي أنه يرفض وجود عالم ميتافيزيقي، لا يقوم في الحقيقة إلا باستبدال العالم العلمي نفسه الذي وضعه نيوتن بهذا العالم الوهمي: فلا فرق بين العالم المطلق الميتافيزيقي وإوالية mécanicité العلماء التي أضحت العقيدة الأولى والأخيرة التي يُبنى عليها الوجودُ كله[7].

العلاقة الباطنية نفسها بين العلم والميتافيزيقا، نجدها أيضًا، بحسب نيتشه، بين العلم والدين. فالفروض الأولية التي يرتكز عليها العلمُ هي فروض الدين نفسها: يهدف العلم الحديث إلى خفض الأمل أكثر الإمكان، وإطالة العمر أكثر الإمكان، وتحقيق حياة وثيرة في عالم مغلق ودافئ؛ وهو يعني نوعًا من الوعد بالهناء الخالد. وهذا الوعد هو وعد الدين ذاته بالخلود، مع فارق بينهما: إن وعد العلم متواضع جدًّا مقارنة بوعود الدين[8].

والعلم ليس نقيضًا للأخلاق. فأولئك العلماء اللاأخلاقيون، الذين أعلنوا أنهم يناضلون ضد المثال الزهدي وأخلاق الكهنة، إنما قفزوا، في نظر نيتشه، إلى مقدمة الساحة ليستأنفوا الدور الاجتماعي الذي يقوم به اللاهوتيون وليواصلوا الإيديولوجيا نفسها. فـ"موضوعية" العلم ليست، في حقيقتها، إلا زهدًا. العلم، إذن، ليس نقيضًا للميتافيزيقا والدين والأخلاق، كما يدعي؛ وهو لا يمتلك الإرادة لكي يكون كذلك:

إنه لا يزال بعيدًا عن الاستقلالية التي تمكِّنه من الاضطلاع بهذه المهمة، لأنه هو نفسه في حاجة إلى قيمة مثلى، إلى قدرة مبدعة للمُثُل يقوم على خدمتها وتمنحه الإيمان بذاته لأنه لا يخلق بذاته أية قيمة. علاقاته مع المثال الزهدي لا تتصف بالتناحر، بل قد يميل المرء إلى اعتباره قوة التقدم التي تحكم التطور الداخلي لهذا المثال؛ مما يجعل منهما حليفين بالضرورة، بحيث إننا، لو افترضنا مناهضتهما ومكافحتهما، فإن الصراع لا يمكن له أن يتم إلا ضدهما معًا. فلو سعى المرء إلى تقدير قيمة المثال الزهدي فإنه مسوق بالضرورة إلى تقدير قيمة العلم.[9]

في عبارات أخرى، لم ينتصر العلمُ على المثال الزهدي، أي على الميتافيزيقا والأخلاق والدين؛ والمثال الزهدي لم ينهزم على الإطلاق: هذا ما لا ينبغي أن يغرب عن أذهاننا في نظر نيتشه. والسبب هو أن العلم الحديث كان، ومازال إلى الآن، إنما في صورة لاواعية ولاإرادية، خير عون للمثال الزهدي وأشد أعوانه تخفيًا وتستُّرًا[10].

وفي الاعتبارات في غير أوانها، يُبرِز نيتشه هذه العلاقة الباطنية بين العلم وثالوث الميتافيزيقا/الدين/الأخلاق، من خلال مثال العلوم التاريخية التي تُعتبَر أحدث العلوم الفلسفية كلِّها، فيتحدث عن التاريخ اللاهوتي على الطريقة المسيحية وعن التاريخ الميتافيزيقي على الطريقة الهيغلية. وفي أصل الأخلاق... يتحدث نيتشه عن التاريخ الوضعي.

يبدأ نيتشه دراسته بدايةً خطابيةً بالتأكيد على ضرورة العلوم التاريخية، فيقول: "إننا في حاجة إلى التاريخ لكي نعيش ونعمل."[11] ويضيف: "إننا في حاجة إلى التاريخ، لأن الإنسان كائن تاريخي أساسًا، يعيش انطلاقًا من ماضٍ وفي حاضر من أجل مستقبل."[12]

يوجِّه نيتشه الاتهام إلى نوع أول من التاريخ هو التاريخ الذي يقع ضحية الدين، فيقول: "إن دراسة التاريخ هي دائمًا لاهوت مسيحي متنكر."[13] ويتميز هذا التاريخ بأنه يتجاوز التاريخ؛ أي أنه تاريخ يفرض رؤية "خالدة" على الأحداث، ويحكم على كلِّ شيء انطلاقًا من يوم القيامة. وذلك آتٍ من كونه يفترض حقيقةً خالدة، ونفْسًا لا تفنى، ووعيًا لا يكف عن الانطباق على ذاته، وقوى تتحكم في التاريخ وتسعى نحو مرمى بعينه. يرمي هذا التاريخ، إذن، إلى فرض الغائية والتسلسل الطبيعي، إلى إقحام وجهة النظر التي ترى في أحداث التاريخ أشكالاً متعاقبة لمقصد أساسي

[...] وتسبيحًا بحمد العقل الإلهي، وبرهانًا على الغائية الأخلاقية لنظام الكون، وتفسيرًا لمصيرنا الخاص على نحوٍ ظلَّ الأتقياءُ يفسِّرونه به زمنًا طويلاً. ولهذا فقد تصور [المؤرخون] يدَ الله في كلِّ مكان، تحل وتربط، وتتصرف في كلِّ شيء من أجل خلاصنا.[14]

إن عالم التاريخ الديني لا يعترف، إذن، إلا بملكوت واحد لا مجال فيه إلا لـ"العنكبوت الإلهي" الذي ينسج العالم في كلِّيته[15]. وهو يُثقِل الحاضرَ بالماضي، ويثبت سيادة الأخلاق واللاهوت من طريق التاريخ، لأن هذا التاريخ يتخلَّل أحداثَه قاطبة مقصدٌ إلهي واحد.

وفي هذا التاريخ، لا مفرَّ لـ"المؤرخ" من محو شخصيته كي يظهر الآخرون؛ لا مفرَّ من القضاء على إرادته الخاصة وعلى كلِّ إرادة إنسانية كي يبيِّن القانون المحتوم لإرادة عليا. إنه يتحاشى أذواقه ومنظاره الخاص كي يضع مكان ذلك هندسةً شاملةً شمولاً وهميًّا. وعليه أن يقلِّد الموت كي يدخل مملكة الأموات ويكسب شبه وجود لا لون له ولا اسم[16]. إن مؤرخ التاريخ اللاهوتي يقلب، إذن، علاقة الإرادة بالمعرفة، بما أنه يرمي إلى أن يمحو في معرفته آثار الإرادة كلَّها. ومن هنا وصف نيتشه للمؤرخ بأنه من منشأ وضيع وبأنه ينتمي إلى عائلة الزهاد[17].

من هذا التاريخ اللاهوتي تنحدر وتتجذر الثقافةُ التاريخية لهيغل، صاحب التاريخ الميتافيزيقي. لقد حصل مع مجيء هيغل، في بداية القرن التاسع عشر، تحولٌ من التاريخ المسيحي إلى الإله–التاريخ، ولم يحصل في نظر نيتشه تحولٌ حقيقي في العلوم التاريخية. فهيغل يتوهم أن التاريخ هو كلٌّ مقرَّر مسبقًا ويتطور بالضرورة، من دون جهد إنساني حقيقي، على شاكلة الشجرة التي تخرج من البذرة. وموقفه هذا موقف لاهوتي بلا ريب. لذا فإن هيغل، في رأي نيتشه، "غشاش"، مثله مثل إدوارد فون هارتمان، الذي ضرب في كتابه فلسفة اللاوعي مثالاً فريدًا على الإخلاص للتاريخ الهيغلي، وتاليًا، للتاريخ المسيحي. فهو يطلب منا أن نتقدم

[...] في حيوية في طريق التطور الكوني، كعمَّال في حقل كروم الإله، لأنه المسار الوحيد الذي يقود إلى الخلاص.[18]

إن التاريخ يستلزم في هذا المنظار (لدى هيغل خاصة) أن يكون الإلهي حاضرًا في العالم الزمني، وهو تاريخ بفضله: "سار الله على الأرض وخلق ذاته"[19]، وتاريخ يقوِّم الأمور بنظرة مسيحية كما تقوَّم الأمورُ يوم القيامة. أما موضوع هذا التاريخ الذي يُسمى "تاريخًا عالميًّا" فليس إلا آراء مزعومة حول حوادث مزعومة، لأن المؤرخين جميعًا يتحدثون عن أشياء لم تحصل أصلاً، اللهم إلا في مخيلتهم[20].

وعلى الرغم من أن المرحلة التالية هي المرحلة الوضعية، إلا أن لامبالاتها حيال الوقائع ليست، في نظر نيتشه، إلا لاهوتًا. صحيح أن نهاية القرن التاسع عشر تسجِّل، مقارنةً ببدايته، تقدمًا في التحرر من الأوهام وفي التنوير، لكن التاريخ الوضعي أو "الموضوعي" يُجمِّل فقط بشرةً قديمة:

إن طموحه الأعظم هو أن يكون اليوم كنايةً عن مرآة. إنه يستبعد أنواع الغائيات كلَّها. لم يعد يرغب في "برهان" شيء. يشمئز من تنصيب نفسه حَكَمًا، ويعتقد أنه يعرب بذلك عن ذوق رفيع. لا تضارع قلةَ أحكامه الايجابية إلا قلة أحكامه السلبية. يكتفي بتسجيل الملاحظة، ويقنع بـ"الوصف".[21]

ينتقد نيتشه التاريخ الوضعي الحديث بوصفه علامة انحطاط ثقافي، لأن هذا التاريخ لا يلغي المرض الديني، لكنه يجعل منه مرضًا مخزيًا ومخجلاً. و"الاعتبار الثاني في غير أوانه" يبين علَّة داء أو فساد تفتخر به العلوم التاريخية الحديثة، ونعني به الموضوعية. تلك الموضوعية وصحة الوقائع التي يفتخر بها التاريخ الحديث هي، في نظر نيتشه، قناع يخفي وراءه وعيًا محايدًا لا يهوى شيئًا ولا يتعلق إلا بالحقيقة، وعي

[...] يأخذ على عاتقه أن يعرف الأمور كلَّها من غير أن يفاضل بينها لناحية أهميتها، وأن يفهم الأمور كلَّها من دون تمييز بينها لناحية سموِّها، وأن يتقبل الأشياء كلَّها من دون مفاضلة.[22]

كل ذلك عبارة عن زهد، بلا ريب، ولكنه زهد رفيع. إنه يشير إلى الخطر الذي يهدد الذات العارفة. إنه عدمية.

وإذ يرفض نيتشه التسليم بالتاريخ العدمي، فإنه يعيب على المؤرخين أنماطهم الثلاثة المعهودة لاستعمال التاريخ "التذكاري" و"الأثري" و"النقدي"[23]. أما الاستعمال الأول، فهو الذي يأخذ فيه التاريخ التقليدي على عاتقه استعادةَ الشخصيات العظيمة وحفظها في الحاضر الأبدي وتقديمها كهويات بديلة. لذا يعيب عليه نيتشه كونه محاكاةً ساخرةً وحجرَ عثرة أمام تدفق الحياة الحاضرة وإبداعاتها[24].

أما الاستعمال الثاني للتاريخ، فيتعلق بحفظ الخلف لآثار السلف وحنين البشر إلى موطنهم الأصلي وجذور هويتهم. ويعني ذلك أن التاريخ ينتمي، في هذا المقام، إلى مَن يُحفَظ ويُجَلُّ. إنه "تاريخ العرفان بالجميل"[25]. ويعيب عليه نيتشه كونه يعوق كلَّ إبداع باسم "الوفاء" و"الإخلاص".

أما الاستعمال التقليدي الثالث للتاريخ، فهو الذي صار يقول عن نفسه إنه هو "الحقيقة الموضوعية"، والذي صار، لكونه محايدًا، يلغي الذات العارفة ويضحي بها، لادعائه الاهتمام بالحقيقة[26]. ويعيب عليه نيتشه أنه يدعي "الموضوعية" فيما يقمع ميول الذات العارفة.

في مقابل هذا العلم التاريخي الذي وقع ضحية الميتافيزيقا والدين والأخلاق، والذي يضحِّي بدوره بحركة الحياة بدعوى الاهتمام بالحقيقة وينتهي إلى العدمية وقتل الذات العارفة، يضع نيتشه "الحس التاريخي": هو العلم الذي لا يستند إلى مطلق ويفلت من قبضة الدين والميتافيزيقا ليكون الأداة المفضلة للجنيالوجيا. إنه العلم الذي يمحو التقديسات التقليدية كلَّها بغية تحرير الإنسان وعدم الحفاظ على الأصل الذي يتعرف فيه الإنسان إلى نفسه.

موضوع هذا الحس التاريخي هو التاريخ "الفعلي"، أي علاقات القوى، وصراع السلطات، ولغات الهيمنة والخضوع، التي لا تخضع لعلاقات آلية، بل لمصادفات الصراع. إن التاريخ الفعلي، خلافًا للتاريخين المسيحي والميتافيزيقي، لا يعرف إلا مملكة واحدة لا مجال فيها للعناية الإلهية أو للعلة الغائية[27].

لكن ماذا عساه يفيدنا "الحس التاريخي" أو "التاريخ الجنيالوجي"؟ إن التاريخ الجنيالوجي يعلِّمنا الاستخفاف بالحفاوة التي يحظى بها الأصل. وبالفعل كان نيتشه يقول: "فهم الأصل يحد من شأن الأصل."[28] إن الجنيالوجيا تدل على البحث في الأصل. ومعنى "البحث في الأصل" هو العودة إلى الوراء لإلقاء نظرة تاريخية على ماهية الشيء للحصول عليه وهو في نقائه الأول. وفي هذه العودة، يكشف لنا التاريخ الجنيالوجي كلَّ ما حدث من تحوُّل لماهية أو ظاهرة ما، كما يكشف الحيل كلَّها وسائر أشكال التنكر التي شوَّهتْ تلك الماهية الأولى. وهذه العودة إلى الأصل لا تقوم على التصديق بالميتافيزيقا، بل هي تصغي للتاريخ[29]؛ أي أنها لا تكتفي بالبحث في الأصل والإهمال لمراحل التاريخ كلِّها، بل تهتم بكلِّ تفاصيل الظاهرة أو حوادثها على نحو ما يحصل لدى تشخيص أمراض الجسم: كلما تعرفنا إلى حالات ضعفه وقواه وتصدعه، جنَّبَنا ذلك أخطاء في تشخيصه. وبذلك فقط نقف على صدق الخطاب ويمكن الحكم له أو عليه[30].

ويخبرنا التاريخ الجنيالوجي، بعد أن يصعد مباشرة إلى نقطة الانطلاق، أن وراء الظواهر والأشياء والخطابات والقيم "شيئًا آخر" سواها. ونلاحظ ذلك، على وجه الخصوص، في أصل الأخلاق...، حيث يسعى نيتشه إلى تحليل العواطف الأخلاقية، مبينًا ما تخفيه في حقيقتها؛ ونلاحظه أيضًا في كتاب في معزل عن الخير والشر، حيث ينتهي نيتشه إلى

[...] إن التقويمات والقيم والشائعة التي باركها [الأخلاقيون والميتافيزيقيون] ليست إلا تقديرات سطحية، ومنظورات من ركن معين، وربما من أسفل [...].[31]

كما نلاحظه في أعماله الأخيرة، حيث كتب يقول:

دوافعنا الواعية كلها هي مظاهر سطحية: فوراءها يقوم صراع غرائزنا، وهو صراع من أجل السلطة.[32]

إن جميع هذه النصوص والاستنتاجات المتشابهة، بل والمتطابقة، تبين أن التاريخ الجنيالوجي يسعى إلى اكتشاف القوى الفاعلة؛ أي أنه العلم الذي يستطيع تفسير النشاطات الفعلية. وهذا يعني، وفقًا لنيتشه، أننا لو نظرنا إلى شيء ما فإنه يجب البحث عن القوى التي تستولي عليه، والإرادة التي تمتلكه، والتي تعبِّر عن نفسها فيه، وتتخفَّى فيه في الوقت نفسه.

وفي سعيه إلى تحليل الظواهر، مبينًا ما تخفيه، يلتقي نيتشه مع فرويد الذي يرمي في التحليل النفسي إلى الكشف عن المحتوى الكامن للظواهر النفسية؛ كما يلتقي مع ماركس الذي يهاجم الوعي السعيد للبرجوازية كي يكشف عما يكمن في أغواره. وهكذا فإن المناهج الثلاثة تظهر كأنها تخضع للفكرة نفسها، وهي ترجمة الظواهر، حتى وإن تكن هذه الترجمة عسيرة ومعقدة، محتاجة إلى أن تتم على مراحل قد تصل إلى ما لا نهاية له[33].

ولا يكتفي التاريخ الجنيالوجي ببيان القوى التي تقف وراء الظاهرة، بل يخطو خطوة أخرى إلى الأمام، فيقوِّم أصل القوى من زاوية نبلها أو خساستها. إن التاريخ الجنيالوجي يعني الأصل والنشأة، وكذلك الفارق في الأصل، أي مدى نبالة الأصل وانحطاطه؛ أو في معنى آخر، إن التاريخ الجنيالوجي ليس البحث عن أصل الظواهر فقط، لكنه أيضًا تقدير قيمة الأصل، لأنه مهمته نقدية[34].

الدرس الأساسي الذي يمكن لنا أن نستخلصه، في النهاية، بعد هذا العرض الوجيز للعلوم التاريخية لدى نيتشه، هو أن قراءة التاريخ أو الظواهر تصبح مرهونةً بضبط محدِّداتها الظرفية ونوازعها الحيوية، أو في عبارة أخرى، تصبح قراءة التاريخ مرهونةً باكتشاف الأقنعة والكشف عنها.

* * *

 

أثرُ "السائل الكبير" لدى دُعاة "التقدُّم" العرب

أيقظ نيتشه لدى المفكرين العرب اهتمامًا خاصًّا جدًّا. فمنهم من حرَّك لديه عوامل البغض العميق؛ ومنهم من ملأ قلبه بالإعجاب والتمجيد. وقد توجَّه نحوه مؤلِّفون مشاهير عديدون: سلامة موسى، فرح أنطون، عباس محمود العقاد، عبد الرحمن بدوي، فؤاد زكريا، حسن حنفي، هشام شرابي، وسواهم[35]. وقد أثَّر نيتشه في الحياة الفكرية للعرب، حتى يسعنا القول إنه فاق تأثيرًا باقي الفلاسفة الآخرين، كأرسطو وأفلاطون وديكارت ولايبنتس وسپينوزا وكانط وهيغل.

بدأ الاهتمام العربي حيال "السائل الكبير" في بداية القرن العشرين، خاصة في العقد الأول منه، أي بعد موته بقليل. ثم انخفض الاهتمام به، حتى كاد أن ينضب. وفي الخمسينيات، عاود تيار الاهتمام بنيتشه نشاطه مجددًا، إنما لمدة محدودة؛ إذ سرعان ما فقد لديهم جدارته النظرية. ثم فجأة، انفجر الإنتاج الفلسفي العربي المكرَّس لأعمال نيتشه في تسعينيات القرن الفائت، وتفوَّق على المراحل السابقة كلِّها. ولا تزال موجة الإنتاج المكرَّس لأعماله تتصاعد سنة بعد سنة، بحيث تشكِّل الآن خطر الفيضان!

لا يمكن لنا اعتبار تغلغل النيتشوية الجارف في الحياة الفكرية للمجتمع العربي، في الأوقات كلِّها، مجرد نزوة للزي الشائع، كما حصل في الكثير من البلدان؛ كما لا يمكن لنا اعتباره من صنع الأتباع والمنظِّرين، إذ لا "أتباع" لنيتشه في العالم العربي. بل لقد كان هذا التغلغل علامةَ احترام حيال فكرة التمرد الانحطاطي لديه.

غير أن تأثير النيتشوية هذا لم يكن مطلقًا. إذ عارض بعض المفكرين العرب ممن اهتموا بدراسة نيتشه، معارضةً صريحة، بعض مصادراتها، مُعْرِضين عن الإقرار بما يترتب عليها من النتائج الإيديولوجية المتطرفة والدينية الملحدة. وهذا الرفض يدل في وضوح على أن الغرض من الاهتمام بنيتشه لا علاقة فعلية له بتطبيق مصادرات النيتشوية الفلسفية تطبيقًا صارمًا. ولعل في عدم الاهتمام بالمنهج الجنيالوجي الذي وضعه الفيلسوف الألماني أكبر دليل على ذلك: رفض المفكرون العرب اللجوء إلى هذا المنهج الذي يضع موضع النقد المسائل التي يعالجها كلَّها، فيضع الدين موضع السؤال، والذي كان "موت الإله" و"نهاية الميتافيزيقا" و"انهيار القيم" و"القضاء على الأخلاق" من النتائج المترتبة على تطبيقه.

توجَّه المفكرون العرب نحو نيتشه، مسترشدين إما باعتبارات نظرية "خالصة" وإما باعتبارات "ذرائعية" pragmatiques. بعضهم يرى في أفكاره "وسيلة لإصلاح العالم العربي المتخبط في التقاليد البالية"؛ والبعض الآخر يرى فيها "وسيلة تفتح أمام الفرد آفاقًا وسيعة في مجال القوة والثقة بالنفس وتحرير الحياة من المسكنة والذل والتغلب على ما ورثتْه الأجيال من عقائد موهنة للعزم"؛ والبعض الثالث يرى فيها "دعوة إلى البحث عن حقيقة غير محدودة".

وينبغي القول إن الذين اتجهوا إلى نيتشه باعتبارات ذرائعية هم الغالبية، خاصة مفكرو "الانحطاط". فغالبًا ما كان يُرَدُّ نيتشه لديهم إلى موقع المعلِّق أو الناطق الرسمي باسمهم، أو يُتخَذ ذريعةً تمكِّن واحدهم من عرض إيمانه الفلسفي. فعرضهم لفلسفة نيتشه إنما كان يستهدف تمكينهم من إقامة الأسُس لآرائهم "الخاصة".

لاقت النيتشوية ترحيبًا واسعًا في بداية القرن العشرين لدى مفكري "الانحطاط" أو "التقدم والتقهقر" – وهم المفكرون الذين تطرقوا إلى موضوع انحطاط الأمة العربية من منطلق الإيمان بالتطور والتمدن والتجديد. ولقد تطرق نيتشه نفسه إلى هذه المشكلة، أي مشكلة الانحطاط، باعتبارها أمَّ المشاكل. فالوعي الحاد والوضوح الكبير الذي واجه به نيتشه مشكلة الانحطاط يُعَد، من دون شك، أهم حدث ثقافي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

وينبغي القول إن أسماء "المرحبين الكبار" الذين دعوا إلى نيتشه في حماسة منقطعة النظير من مفكري الانحطاط تظل، في الدرجة الأولى، أسماء فرح أنطون وسلامة موسى وعبد الرحمن بدوي. وتلك الأسماء يمكن تقسيمها إلى مجموعتين: تلك العناصر التي تلقَّت العلم في الغرب (في فرنسا خاصة)، من أمثال بدوي؛ وعناصر، أو مجموعة أخرى، قديمة نسبيًّا، من الكتَّاب المسيحيين المصريين أو المهاجرين إلى مصر من بلاد الشام، من أمثال فرح أنطون وسلامة موسى؛ وهؤلاء من كبار المتأثرين بالفكر الغربي والداعين إليه.

أول المهتمين من أولئك المفكرين بنيتشه كان فرح أنطون، صاحب مجلة الجامعة. إذ لقد كتب منذ العام 1914 مقالاً حول فلسفة نيتشه، وكان أحد العناوين الفرعية لواحد من مقالاته عن نيتشه: "فيلسوف لا يعرف اسمه قراءُ اللغة العربية ولكنهم رأوا آثار مبادئه وفلسفته في كلِّ شيء حولهم في كلِّ مكان"[36].

ويقدم فرح أنطوان نيتشه بكثير من الحذر والخوف من الهيئة الاجتماعية، فيلخِّص من فلسفته ما هو ضروري للمجتمع العربي، مُعرِضًا عما يمس الأديان، فيقول:

إن مبادئ هذا الرجل تحتوي على كثير من الحقائق الضرورية للحياة، وعلى أبناء الشرق أن يطَّلعوا عليها ليشدِّدوا نفوسهم بها. ونريد بهذه المبادئ تلك التي صبَّ فيها المؤلِّف كلَّ ما أُعطِيَ من قوة النفس وحماستها لتحبيب الحياة والنشاط والقوة إلى الناس وخلقهم بهذه الصفات خلقًا جديدًا وسحق الانحطاط في النفوس والهمم والأمم.[37]

وشغل نيتشه اهتمام سلامة موسى أيضًا في الفترة نفسها، أي في بداية القرن العشرين. فراح يلح في مختلف مؤلَّفاته إلحاحًا شديدًا، مركِّزًا على ضرورة الخلاص من أسر الفكر الغيبي. وفي خاتمة مقدمة السوپرمان (1909)، ردَّد صيحة نيتشه "إن الله مات"، وأضحت العبارة ترمز إلى نقطة الانطلاق الحقيقية لفلسفته الخاصة بالمجتمع، المتأثرة بالاشتراكية الماركسية. لقد استشعر بؤس العمال والفلاحين من صفحات فلسفة نيتشه التي أفادته أن القيم الرجعية الكامنة في التقاليد والعادات واللاهوت والغيبيات هي التي تخدِّر حواسهم عن واقعهم، فلا يرون أية هاوية تنحدر إليها أقدامُهم المغلولة بقيود الآلهة والأنبياء والقديسين والرسل. ومن هذه الزاوية، تحددت العلاقة الجدلية العميقة بين دراسة سلامة موسى حول موضوع الله ومطالبة الفئات المطحونة في أسفل السلم الاجتماعي بحقِّها في الحياة، شرط أن تتحرر من العبودية الأولى، عبودية الوهم والخرافة، وسوف تتحرر عندئذٍ من العبودية الثانية، عبودية الاستغلال الطبقي[38]. أما حديث سلامة موسى عن "الإنسان الأعلى" وتحسين نسل الإنسان، فنظن أنه استوحاه من داروِن، لا من نيتشه. وكذلك الأمر لدى شبلي شميل.

مفكر عربي آخر اهتم بنيتشه في بداية الحرب العالمية الأولى، هو مرقص فرج بشارة الذي ألَّف كتيبًا عن نيتشه في 28 صفحة من القطع المتوسط صدر لدى "مطبعة السلام" في الإسكندرية، ونادرًا ما أشار إليه المهتمون بنيتشه. في مقدمة الكتاب يقول المؤلِّف:

لست بإخراجي هذا الكتاب إلا ناقلاً لقراء العربية أكبر أثر من آثار النهضة العلمية الحديثة في أوروبا. والمعني بالأثر هو نيتشه، الفيلسوف الجبار الذي هزَّ أوروبا بفلسفته هزةً عنيفةً حوَّلتْ إليه أنظارَ الفلاسفة والعلماء والأدباء في جميع نواحي المعمورة. [...] وقد رُمِيَ الرجلُ في ما رُمِيَ بالعدمية وحبِّ الذات واحتقار الأديان. على أن القارئ المثبت لا يرى شيئًا من ذلك في كتاباته مطلقًا. ولكن تطرُّفه في الكتابة، الناشئ عن أمراضه التي لازمتْه طوال حياته، أعمى كلال النظر عن حبِّه للحرية المطلقة غير المقيدة بقانون، وعن احترامه للأديان وإقراره، وهو ملحد، بأنها تملأ المتديِّن سعادةً وقناعةً وأملاً.[39]

إن صاحب هذه المقدمة يبدو مشغولاً بنقل نيتشه إلى العربية، باعتباره رمز الحرية والتحرر؛ لكنه، في الحقيقة، مشغول، بالدرجة الأولى، بتبرير جحود نيتشه، لكي يحمل القارئ العربي على الاعتقاد بأن "كفر" نيتشه أقرب إلى الإيمان، وبالتالي، جعله صالحًا للاستهلاك! وهذا الانشغال بجعل نيتشه "مهضومًا" لدى القارئ العربي، عبر قلب كفره إلى إيمان، نجده أيضًا لدى فليكس فارس، مترجم كتاب هكذا تكلم زرادشت. فهو، مثل أسلافه، يبدأ مقدمته للكتاب ببيان مكانة نيتشه وتأثيره العظيم في أفكار البشر وضرورته للعالم العربي المنحط، فيقول:

إن ما نرانا في حاجة إلى الوقوف عنده من فلسفة نيتشه في كتاب زرادشت، الذي لم تفتْه قضيةٌ اجتماعيةٌ لم يقل فيها كلمةً كان لها دويُّها في العالم الغربي، إنما هو هذه المبادئ التي تجتث ما غرست قرونُ العبودية في أوطاننا من استكانة حوَّلتْ إيمانها إلى استسلام، في حين أن روح شرعتها يهيب بالنفس إلى جهادين في سبيل الوطن والإنسانية جمعاء.[40]

ثم ينتقل إلى "إلحاد" نيتشه ونقده للدين، فيدعونا إلى أن نفهم رفض نيتشه للإله كاشتياق له، أي على نحو يتحول فيه الإنكار، بما ينطوي عليه من عنف، إلى توكيد، على الرغم من أن نيتشه لم يكن يعترف بعقيدة من العقائد الشائعة، لا تصريحًا ولا تضمينًا، لأن موقفه من الدين لم يكن موقف المجاوز، كما يقول ياسبرز، بل موقف الرافض لها. يقول فارس:

إن نيتشه يعلن إلحاده بكلِّ صراحة ويباهي بكفره. غير أننا لا نكتم القارئ الكريم أن ما قرأناه بين سطوره، وقد مررنا بها كمن عليه أن يتفهم كلَّ معنى ويستجلي كلَّ رمز، يحفزنا إلى القول بأننا لم نرَ كفرًا أقرب إلى الإيمان من كفر هذا المفكر الجبار الثائر الذي ينادي بموت الله، ثم يراه متجليًا أمامه في كلِّ نفس تخفق بين جوانح الناس من نسمته الخالدة.[41]

ويختتم مقدمته قائلاً:

فليس إذًا في عظات زرادشت ما يزعزع عقائدنا أو ينال من إيماننا، بل إن ما فيها يتماشى والمبادئ العليا التي اتخذها السلفُ الصالح لإقامة عظمة الدين على عظمة الحياة.[42]

ولا شك في أن الشعور بهذه الحاجة إلى نيتشه قائم أيضًا في نفس عبد الرحمن بدوي، الذي يُعتبَر مؤلَّفه عن نيتشه تمهيدًا لإيجاد نظرة جديدة في الوجود من شأنها أن تخلق "طابعًا ممتازًا من الإنسانية"، وباسمها سيعلن أبناءُ الوطن العربي "ثورتهم الروحية" المنشودة على القيم القديمة البالية. يقول بدوي في مقدمة كتابه نيتشه:

لئن كانت الحرب الماضية قد هيأت الفرصة لهذا الوطن كي يثور ثورته السياسية، فلعل هذه الحرب الحاضرة فرصة تدفعه إلى القيام بثورته الروحية. فليس من شك في أن هذا الوطن في أشد الحاجة إلى ثورة روحية على ما ألِفَ من قيم وما اصطلح عليه حتى الآن من أوضاع، في أشد الحاجة إلى أن يطرح هذه النظرة القديمة في الوجود وفي الحياة، كي يضع مكانها نظرةً أخرى، كلها خصب، وكلها قوة، وكلها حياة، وفيها إيمان بإمكان خلق جيل من أبنائه عظيم.[43]

إن نيتشه حاضر بقوة في هذا النص، بمشروعه وأفكاره ومصطلحاته: فكلمات "قيم" و"قوة" و"حياة" و"خلق جيل عظيم" لدى بدوي تقابل لدى نيتشه "تحطيم ألواح القيم القديمة وخلق ألواح قيم جديدة" و"إرادة القوة" و"الحياة المتدرجة في السمو" و"السوپرمان" – وهذه المصطلحات تشكِّل، على ما نعلم، جوهر فلسفة نيتشه.

وعلى الرغم من أن بدوي يحاول، مثل سابقيه، أن يبعد عن نفسه في هذا العمل صفةَ الداعية إلى تقليد نيتشه والاحتذاء به، إلا أننا نستطيع أن نلمح، في سهولة، هذه الصفة من خلال دعوته إلى أبناء جيله، المندفع نحو الشك في قيمة الكثير من المقدسات، إلى اتخاذ العقل الأوروبي والحضارة الأوروبية مادةً للاستلهام، إذ يقول:

ليس من شك في أن الشعور بهذه الحاجة [أي الثورة الروحية على القيم القديمة] قائم في نفوس أبنائه [أي أبناء الوطن العربي]. فهم لم يعودوا يمنحون القيم القديمة السائدة من الثقة والإيمان ما كانت تُمنَح من قبل، وأصبحوا ينكرون اليوم ما كان أسلافُهم يحتفلون له أشد الاحتفال، ويتبرمون بأشياء كانت من قبلُ في موضع التقديس. وكانت من نتيجة هذا كلِّه أنْ أصبحت الطبقة الممتازة من أبناء هذا الجيل على حال من الشك قد يبلغ عند البعض درجة اليأس والقنوط. وهي من أجل هذا كلِّه في حاجة إلى اكتشاف نظرة في الوجود جديدة، وإلى التمهيد لإيجاد هذه النظرة الجديدة. [...] قصدنا حين فكرنا في هذا المشروع الضخم تقديم "خلاصة الفكر الأوروبي" إلى أبناء هذا الجيل. فنحن نريد عن طريقه أن نعرض عليهم العقل الأوروبي وهو يناضل ويجاهد في سبيل إيجاد نظرة في الحياة وفي الوجود، من شأنها أن تخلق طابعًا ممتازًا من الإنسانية، وصورةً جليلةً ساميةً من صور الحضارة.[44]

إن مشروع النهضة لدى بدوي، إذن، كما هو واضح من نصوصه، يقوم على مشروع نيتشه في تبديل قيم جديدة بالقيم القديمة. وهو مشروع يقوم مبدؤه التأسيسي على القوة التي تحمل تأويلاً جديدًا للحياة التي تتطور وتقوم بتجربة الاصطفاء لتحضير قدوم "الإنسان الممتاز".

إنها، إذن، آراء بعض المفكرين العرب الذين تفكروا في مشكلة "انحطاط" العالم العربي، متأثرين بفلسفة نيتشه. وفي ختام حديثنا، ينبغي أن نقول إن هؤلاء الذين قدَّموا نيتشه إلى العالم العربي، قدموه إبان احتلال العالم العربي في فترة ما بين الحربين العالميتين، وكانت في الدرجة الأولى فترة "حركة وطنية" تنشد الاستقلال والتحرر السياسيين. لذا نجدهم اتخذوا نيتشه رمزًا للحرية والتحرر. إلا أن معظمهم استطاع أن يثير القضايا الدينية والثقافية التي طرحها نيتشه تحت غطاء القضايا السياسية: فمسألة "موت الإله" و"تحطيم القيم" أُثيرتا، في تمويه كبير، ضمن محاربة الخرافة وانحطاط الأمة؛ ومسألة "السوپرمان" أُثيرت أيضًا، في تمويه كبير، ضمن محاربة وهن النفوس.

في عبارات أخرى، كان الظاهر من الترحيب بنيتشه اتخاذ أفكاره دافعًا ومادةً وأداةً من أجل الخروج من التخلف؛ أما الباطن فكان استعمال أفكاره من أجل الحملة على القواعد الإسلامية والمعطيات الدينية، ليس بغية إصلاحها، بل لنبذها نهائيًّا من أجل إحلال الثقافة الغربية محلَّها، أي "نبذ الشرق والعرب والإسلام واللحاق مباشرة بالمدنية الغربية، بكلِّ حسناتها وسيئاتها"[45].

ولا شك في أن أنماط التفكير التقليدية الجامدة التي مثلت لها بعض الأوساط الدينية والثقافية دفعت هؤلاء "التغريبيين" إلى الخروج من الدائرة العربية الإسلامية. لكن ذلك لم يكن السبب الحقيقي أو الوحيد، لأن المدنية الغربية التي كانوا ينقادون إليها لاقت في عقر دارها، على يد نيتشه بالذات، انتقاداتٍ لا ترحم، وكانوا على اطلاع كامل على تلك الانتقادات. وهذا يعني أن السبب الحقيقي الذي دفع مفكري "الانحطاط" التغريبيين إلى الاهتمام بنيتشه وإقحامه في المعركة التي كانوا يقودونها ضد الأمة العربية والإسلامية باسم "التقدم" هو، على وجه التحديد، تدعيم الحضور الثقافي الأوروبي، أي تدعيم المشروع التغريبي.

*** *** ***


[1] جامعة منتوري قسنطينة، الجزائر.

[2] فريدريك نيتشه، إنسان مفرط في إنسانيته، الجزء الأول، بترجمة محمد ناجي، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 1998، فقرة 635.

[3] فريدريك نيتشه، أصل الأخلاق وفصلها، بتعريب حسن قبيسي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1981، المبحث الثالث، فقرة 25.

[4] فريدريك نيتشه، العلم المرح، بترجمة حسان بورقيبة ومحمد ناجي، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2000، فقرة 12.

[5] F. Nietzsche, Œuvres philosophiques complètes, Tome II, « Considérations inactuelles I : David Strauss, l’apôtre et l’écrivain », traduit par Pierre Rusch, NRF, Gallimard, Paris, 1990, Fragment 8.

[6] F. Nietzsche, Le gai savoir, traduit par P. Klossowski, Gallimard, 1989, Fragment 344.

[7] نيتشه، العلم المرح، فقرة 373.

[8] نيتشه، إنسان مفرط في إنسانيته، الجزء الأول، فقرة 128.

[9] نيتشه، أصل الأخلاق وفصلها، المبحث الثالث، فقرة 25.

[10] المصدر نفسه.

[11] F. Nietzsche, Seconde considération intempestive : De l’utilité et de l’inconvénient des études historiques pour la vie, traduit par Henri Albert, Flammarion, Paris, 1988, Préface.

[12] Ibid.

[13]F. Nietzsche, Considérations inactuelles IV, « Richard Wagner à Bayreuth », Traduit par Pascal David, Gallimard, Paris, 1992, Fragment 3.

[14] نيتشه، أصل الأخلاق...، المبحث الثالث، فقرة 27.

[15] ميشيل فوكو، جنيالوجيا المعرفة، بترجمة أحمد البسطاني وعبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1988، ص 57-59.

[16] المرجع نفسه، ص 62.

[17] نيتشه، أصل الأخلاق...، المبحث الثالث، فقرة 26.

[18] G. Morel, Nietzsche, Tome II, « Analyse de la maladie », Aubier-Montaigne, Paris, 1971, p. 198.

[19] F. Nietzsche, Seconde considération intempestive, Fragment 8.

[20] F. Nietzsche, Aurore, traduit par Henri Albert, Hachette, Paris, 1987, Fragment 307.

[21] نيتشه، أصل الأخلاق...، المبحث الثالث، فقرة 26.

[22] فوكو، جنيالوجيا المعرفة، ص 61.

[23] نيتشه، أصل الأخلاق وفصلها، المبحث الثالث، فقرة 26.

[24] F. Nietzsche, Seconde considération intempestive, Fragment 2.

[25] Ibid, Fragment 3.

[26] فوكو، جينالوجيا المعرفة، ص 50.

[27] المرجع نفسه، ص 50.

[28] Nietzsche, Aurore, Fragment 44.

[29] فوكو، جنيالوجيا المعرفة، ص 50.

[30] المرجع نفسه، ص 52.

[31] F. Nietzsche, Par delà le bien et le mal, traduit par Geneviève Bianquis, Union Générale d’éditions, Paris, 1988, « Des préjugés philosophiques », Fragment 2.

[32] F. Nietzsche, Les Œuvres philosophiques complètes, Tome XII, traduites par Henri Herier, NRF, Gallimard, Paris, 1979, p. 25.

[33] باروني يناقش فوكو، ضمن جنيالوجيا المعرفة، ص 45.

[34] J. Granier, Le problème de la vérité dans la philosophie de Nietzsche, Les Éditions du Seuil, Paris, 1966, p. 164.

[35] يغفل الأستاذ مفرج هنا تأثر جبران خليل جبران الكبير بفكر نيتشه وانعكاس هذا التأثير على كتبه، ولاسيما العواصف. (المحرِّر)

[36] فرح أنطون، الجامعة، 1908، ص 57.

[37] المصدر السابق، ص 42-43.

[38] غالي شكري، سلامة وأزمة الضمير العربي، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، طب 4: 1983، ص 53-54.

[39] إبداع، العدد التاسع، أيلول 2001، ص 72.

[40] نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، بترجمة فليكس فارس، دار القلم، بيروت، مقدمة المترجم، ص 15.

[41] المرجع السابق، مقدمة المترجم، ص 16.

[42] المرجع السابق، مقدمة المترجم، ص 23.

[43] عبد الرحمن بدوي، نيتشه، وكالة المطبوعات، الكويت، طب 5: 1970، تصدير المؤلف، ط.

[44] المرجع السابق، تصدير المؤلف، ط-ل.

[45] فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، طب 2: 1981، ص 323.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود