آه يا شام
يوميات دمشقية 1

 

زياد جيوسي

 

وأنا العاشق الذي ودع حبيبته، فأرخت رام الله جدائلها على كتفي صبيحة الأربعاء قبل أسبوعين من اليوم، ودّعتني بكل الحب الذي اعتادت أن تغمرني به، قبلت وجنتاي، أمسكت بيدي وجالت معي الدروب، احتضنتني تحت شجرة بركة في شارع النزهة، قطفت لي زهرات ياسمين من ياسمينات متعربشة على الحيطان، حملتني إياها لأزرعها في مفارق شعر الحبيبات الأخريات، وما أن أنهيت كتابة مقالي صباحكم أجمل: سماح يا بلد حتى رافقتني لتودعني من دوار المنارة، لتسلمني في مساء نفس اليوم إلى المحبوبة الأخرى، مدينة الهوى عمّان، فأقدم لها زهرات ياسمين راميّة، فتلفني بعباءة ليلها القمري، تحتضنني وتوصلني إلى بيتي وأسرتي.

ما هي إلا يومين في حضن عمّان الدافئ حتى كانت تمسك بيدي وترافقني وزوجتي إلى الحدود السورية، إلى مدينة الحُلم كما يسميها صديقي القاص الجميل ناصر ريماوي، إلى الشام حيث عانقت المعشوقة التي غبت عنها زمنًا زاد عن اثنان وثلاثون عامًا بثمانية شهور. الشام ولقاء بعد فراق، لقاء عاشق كان يقف أعلى قاسيون رام الله، ليخاطب بآهات الهوى قاسيون دمشق، فكان لقاء الروح بالروح، الحبيب بالحبيبة، العاشق بالمعشوقة، فنثرت زهرات الياسمين الراميّة على مفارق شعرها الجميل.

أجمل ما في معشوقاتي الأربعة: رام الله وعمّان ودمشق وبغداد، أن لا إحداها تغار من الأخرى، كلما كنت في أحضان إحداها، عملت أن تذكرني بالأخريات وتذكي نار الشوق، وما أن اجتازت السيارة الحدود السورية باتجاه دمشق، ونحن نجلس في المقعد الخلفي للسيارة وزوجتي وحدنا، حتى بدأت قطرات المطر تتساقط، بعد أن رافقتنا شمس مشرقة من عمّان حتى الحدود، فابتسمت وأنا الذي يتطهر برذاذ المطر، وهمست لزوجتي: هي الشام تستقبلنا بالخير كعادتها، وكأنها تسعى لغسل مرارة الفراق الطويل الطويل.

آه يا شام.. تعالي لنستعيد معًا الذاكرة، تعالي لنتعانق ونجدد قصة حب نسجناها معًا منذ أوائل السبعينات من القرن الماضي حتى بعيد منتصفها، سنوات قضيتها أتجول بين أحضان محبوبات ثلاث، عمّان والشام وبغداد، وعيناي ترنوا إلى رام الله التي اجتثني الاحتلال منها في حرب حزيران، لكن جذوري بقيت هناك، فمن يستطيع أن يقتلع جذور السنديان؟

وصلنا تحت رذاذ المطر إلى فندق برج الفردوس قرب ميدان الصالحية، اتصلنا بأصدقاء لنا نعلمهم بوصولنا، وما هي إلا أقل من نصف ساعة حتى كان صديقنا الرائع المضياف أبو محمد والمعروف بلقب أبو دركل قد وصلنا غاضبًا معاتبًا بعد اللقاء الحار، كيف ننزل بفندق وهو موجود في دمشق، فأنا لم التقيه منذ أواخر العام ألف وتسعماية وخمس وثمانون إلا عبر الهاتف، وأصر مقسمًا أغلظ الإيمان أن لا نبقى سوى ليلتنا الأولى كوننا كنا قد دفعنا للفندق، وتركنا لنرتاح وقد واعدنا أن يعود في المساء. وفي هذه اللحظات كانت صديقة الحرف الرائعة الكاتبة والباحثة إيمان ونوس تتصل بنا، لتواعدنا على الحضور في الخامسة مساء. ولم يكن تبقى من الوقت إلا أقل من ساعتين، فخرجنا بدون أن نفكر بالراحة. كنت على شوق للقاء الصالحية التي كانت نقطة تواجدي اليومي في أوائل سبعينات القرن الماضي، فقد عرفتني مسارحها ودور السينما فيها، وعرفني مقهى الفاروق الذي أودى به الزمن في تلك الفترة، حين كنت أحتل زاوية منه مشرفة على الشارع، وأبدأ بالقراءة بكتاب اشتريته من بسطات الكتب التي كانت تنتشر على الأرصفة وفي الزوايا، أو أن أتجول في الدروب لتلتقط عدستي ما تراه، وإن كان يؤلمني أنني أضعت المئات من تلك الصور، التي كانت بالأسود والأبيض قبل عهد الألوان، في رحلة الشتات والمنافي، فأشعر أني فقدت مرحلة من عمري وذاكرة مدن حرصت أن أوثقها بالصورة ومخطوطات أولية.

وكما أنا كانت زوجتي بشوق أيضًا، فهذه هي المرة الأولى التي يجمعنا السفر فيها منفردين بعد ما يقارب الثلاثون عامًا. هي لم تعرف الشام إلا مرورًا منها، مرة إلى بيروت ومرة إلى تركيا، وكل ما في ذاكرتها أحاديث حدثتها بها، أو مقالات كتبتها. تجولنا من ميدان النافورة في أعلى الصالحية حتى محطة الحجاز، تبحث عيناي خلالها عن كل زاوية ومشهد ترك أثره على روحي في الماضي، واقترحت على زوجتي أن نتناول الغداء في مطعم أبو كمال الذي عرفته شابًا صغيرًا، وكان قِبلة الزوار بطيب طعامه وموقعه، وعُرف كثيرًا في الأقطار المحيطة من خلال دعايته المتلفزة، في عهد كان التلفاز هو وسيلة التواصل الحديثة التي تلتف حولها الأسر والعائلات كل مساء. تناولنا الغداء هناك وطلبت طبقًا من الخضار المشكلة التي تشتهر بها الشام، وعدنا إلى الفندق لنلتقي إيمان ونوس صديقة الروح وتوأمها، فكان لقاءً جميلاً بعد تواصل سنوات عبر الكتابة والحرف. وقد فوجئنا أنها حضرت من بلدة بعيدة نسبيًا اسمها "قطنه" تطل من بعيد على جبل الشيخ، مرافقة ابنها الشاب الجميل مختار، فأثر في روحي وروح زوجتي حضورها وتجشمها مشاق الطريق لتلتقينا بأول يوم من وصولنا. سهرنا معًا حتى الثامنة تقريبًا في أحاديث شتى، ما بين الكتابة وذاكرة الشام وتذكر أصدقاء قلم مشتركين، بعضهم عرفناهم مواجهة وبعضهم لم نعرفهم إلا عبر الحرف والتواصل الأثيري، وغادرتنا وقد سكنت منا الأرواح بعد أن أكدت على ترتيب زيارة للبلدة التي تقطنها.

حضر صديقنا أبو دركل وأخذنا إلى بيته في مخيم اليرموك لنلتقي مع أسرته الرائعة المضيافة. وشعرنا هناك، من طيب الملتقى وبشاشة الوجوه وجمال الأرواح، أننا نعرفهم منذ زمن طويل. وتوافد الأصدقاء الذين عرفوا بقدومنا إلى بيته للسلام علينا، فالتقيت بأصدقاء لم التقيهم منذ زمن طويل، ورفاق قدامى جمعتني وإياهم مسيرة النضال في مرحلة قديمة قبل أن تختلف القناعات، وأعلن ابتعادي عن العمل الفصائلي والانتماء للوطن كل الوطن. ولكن الحميمية والشعور بالقرب بقي يلازم علاقاتنا ولو عن بعد. وكان أجمل لقاء هناك لقائي مع صديقي سمير كيالي بعد هذا العمر الطويل، فقد أخذته رحلة المنافي إلى بولندا، ولم نلتق منذ ثلاثة وعشرون عامًا إلا في هذه الليلة. وبعد إصرار على العشاء غادرنا بعد منتصف الليل برفقة صديقنا المضياف الذي أصر أيضًا على أن يوصلنا إلى الفندق، وأصرًا أن يحضر في الصباح ليأخذنا من الفندق إلى شقة صغيرة وجميلة جهزها لنا لتكون مقر إقامتنا طوال وجودنا في دمشق، رافضًا منا أية أعذار. أصبحنا عاجزين عن الشكر أمام هذا الكرم وطيبة الخلق، حسن الاستقبال والوفاء، لصداقة قديمة لم يزعزعها الزمن.

صباح عماني مشمس يفتقد الغيوم والمطر. عدت صبيحة الأمس وزوجتي حاملين كل محبة لكل من التقيناهم ولكل درب وياسمينة متعربشة على جدران الشام، حروف خمسة وطيف جميل ترافقني مع فنجان القهوة كما رافقت روحي في رحلة الأيام الدمشقية التي سيكون لها رحلة طويلة مع الكتابة، فيروز تشدو:

"قرأت مجدك في قلبي وفي الكتب، شآم من أنت؟ أنت المجد لم يغب، إذا على بردى حور تأهل بي، أحسست أعلامك اختالت على شهب، شآم ما المجد؟ أنت المجد لم يغب.."

صباحكم أجمل

عمّان الهوى 3-12-2008

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود