أنطولوجيا الوجود الإنساني تستعصي على الرقمي

 

أحمد مغربي

 

قبل أربعين سنة، وُلِد الفضاء الرقمي الافتراضي المشبع بالذكاء، بالتزامن مع خروج الذكاء الإنساني إلى الإنتشار كونيًا عبر خطوة صغيرة على القمر، محاكيًا ما فعله قبل ملايين السنين على الأرض، فكأنه وجد في الكون محلاً "شبيهًا". استطاع فريق علمي قاده ليونارد كلاينروك أن يربط بين كومبيوترين في جامعتين أميركيتين. أدى ذلك إلى ولادة عالم جديد، في أكثر من معنى. استعاد كلاينروك المناسبة أخيرًا بكلام محمَّل دلالات. قال:

عند ولادة الفضاء الافتراضي، لم نقل "إنها خطوة كبيرة للإنسانية" كما فعل رائد الفضاء نيل ارمسترونغ حين خطا على القمر.

تشابك الافتراضي مربكاً فلسفة الكائن

ليست مقارنة كلاينروك سوى نموذج من البنية الخيالية المصاحبة للإنترنت: إنها فضاء. في اللغة الفرنسية مثلاً، يوصف متصفحو المواقع الالكترونية بأنهم "انترنوت" Internautes، أي أنهم رواد فضاء الإنترنت. الكلمات تكاد تنطق لتفصح عن ظلالها. من اتصال عقلين اصطناعيين يقومان على فكرة محاكاة الذكاء الانساني والتشبيه عليه (بمعنى أنهما يحملان شيئًا ما عن حقيقة ذلك الذكاء، من دون أن يكوناه فعليًا)، وُلد فضاء افتراضي مملوء بتلك العقول "المحاكية". سرعان ما ظهر قلق أصيل، لمحه المفكر الفرنسي جان بودريار في كتابه الذائع النسخ الشبيهة والمحاكاة بحكمة توراتية منسوبة إلى الملك سليمان:

إن النسخة الشبيهة لا تخفي الحقيقي البتة، بل إن الحقيقي هو الذي يخفي واقع عدم وجود شيء حقيقي. إن النسخة الشبيهة هي حقيقية.

جعل بودريار من تلك العبارة، مدخلاً لشرح مفهومه عن "الواقع الفائق" Hyper Reality، الذي يصف العيش الحاضر المتمازج بين الإفتراضي والحقيقي. امتلأ الفضاء الافتراضي سريعًا بالذكاء البشري فعليًا، وصار مساحة للتلاعب والتفاعل بين الذكاء التشبيهي للفضاء الافتراضي وعقول البشر. ثمة مثال شديد السخونة عن عيش الواقع الفائق حاضرًا، المملوء بالتفاعل وتبادل الأدوار بين الحياة في فضاء الإنترنت والإنسان نفسه، هو مواقع المحاكاة الافتراضية (أو التشبيه الافتراضي) مثل موقع "حياة ثانية" Second Life. يشبه الأمر افتتاح تاريخ جديد لعلاقة غير مسبوقة بين الإنسان و"فضاء ذكائه" في زمن ما بعد الحداثة. أيّ علاقة لذلك الإفتتاح المذهل مع مفهوم الفضاء نفسه عند البشر؟

لنعد مرَّة أخرى إلى التقنية. في عام 1969، أدَّت "وكالة مشاريع البحوث المتقدمة في الدفاع العسكري" (تعرف باسم "داربا" DARPA، اختصارًا لعبارة Defense Advanced Research Projects Agency)، دور القابلة في ولادة ذلك الفضاء الإفتراضي، لأنها قادت فريق كلاينروك وموَّلته، ثم استعملته في ولادة أول فضاء افتراضي في التاريخ، عبر شبكة "أربانت" التي ربطت بين الصواريخ الاستراتيجية الحاملة للرؤوس النووية ذات الدمار الشامل. ثمة قوة وعنف هائلان كانا مضمرين في ولادة الفضاء الافتراضي الرقمي، مثل خفاء صراع القوى الهائل في ألق الاحتفال بالسير الأسطوري على القمر. استطرادًا، يقفز إلى الذهن فورًا وصف العنف بأنه قابلة التاريخ، وقد وصل إلى ماركس من هيغل، لكن الماركسيين لم يفهموا العنف إلا بأشكاله الأكثر رداءة. وأيضًا، ساهمت "داربا" في إعطاء البشر مكانًا "شبيهًا" في الفضاء. إذ أنشأت تلك الوكالة نفسها في عام 1957 للردِّ على التحدي الذي رمى قفازه الإتحاد السوفياتي في وجه أميركا، عندما أطلق القمر الاصطناعي الأول "سبوتنيك"، فكانت نقطة انطلاق لمشاريع في الفضاء.

التقنية الإفتراضية وعودة المكبوت اللاعقلاني

هل تبدو العلاقة التقنية بين الفضاءين الافتراضي والكوني قوية إلى حدِّ كاف؟ رأى الفيلسوف مارتن هايدغر في كتابه الكائن والزمان، أن ماهية التقنية ليست شيئًا تقنيًا على الإطلاق، ولا تُدرك علاقتنا بماهية التقنية، طالما اقتصرنا على تمثُّلها والإنبهار بها وممارستها، وعلى محاولة التلاؤم معها أو الهروب منها. شدَّد هايدغر على أن تصوُّر التقنية كشيء حيادي، يمثل استسلامًا بائسًا للعقل أمامها، لأن هذا التصوُّر الذي يحظى بمكانة محبَّبة في المجتمعات ما بعد الصناعية، يجعلنا غير مبصرين تمامًا تجاه ماهية التقنية.

إذًا، فبالتحرُّر من "الفضاءين"، يمكن العثور على خيط البداية في الإجابة عن ماهية الحدثين وعلاقاتهما المتشابكة، وتاليًا، العثور على البنية الخيالية التي تربطهما بعالم ما بعد الحداثة الذي يبدو كأنه وُلد منهما.

من المستطاع الزعم أن مفهوم الافتراضي رقميًا، وفق المعنى الذي أبرزته الإنترنت إلى الوجود، وكما يظهر في المحاكاة الإفتراضية Virtual Simulation، وبما يقدِّمه من توسيع انفجاري لمفهوم "الممكن"، يشكِّل الخيط الذي يصل بين الروبوت والجينوم والنانوتكنولوجيا Nanotechnology والمفهوم المعاصر عن الفضاء. كذلك يقف الإفتراضي في قلب ما يظهر في "الواقع الفائق" من تظاهرات مثل الرواج الانفجاري للشبكات الاجتماعية على الإنترنت، وتجذُّر ظاهرة العيش الإفتراضي ومواقعه إلى درجة تناوله في دراسات إجتماعية باعتباره "عيشًا إنسانيًا"، والعودة "الملتبسة" لأشكال كانت مكبوتة من اللاعقلانية، ابتداء بالتباس تدريب إرهابيي تنظيم "القاعدة" على برنامج الطيران الإفتراضي "فلايت سميولايتر"، وصعود التنجيم، وعلم الأنساب "جينولوجيا"، وارتفاع نبرة الإنتماء إلى العرق واللون والعشيرة وتفكك الفردية العقلانية لمصلحة فردية ملتبسة تمتصها قوى لاعقلانية منفلتة وغيرها.

لنأخذ التنجيم مثلاً. الرجال من المريخ والنساء من الزهرة. عنوان لأحد أكثر الكتب رواجًا حاضرًا (نفتح قوسًا: ليس بعيدًا منه الرواج المذهل لروايات هاري بوتر المليئة بالعلوم القديمة والتنجيم والسحر الأسود وغيرها، وأفلام سيد الخواتم وغيرها). ماذا لو قارنّا فضاء اليونان وأساطيره وتنجيمه وفلاسفته، وفضاء الإنترنت الإفتراضي؟ رأت أساطير اليونان السماء مكتظة بالآلهة التي تتحكم بالكون والإنسان، والنجوم نيرانًا لمعسكراتها الهائلة البعيدة. وظنَّ الفلاسفة الأجرام السموية عقولاً سامية (وجواهر للوجود)، تتصل بالعقل المطلق. لم يبعد أرسطو عن القول بذلك. بنى بطليموس نموذجه عن الكون بناء لذلك التصوُّر الذي تضمَّن حضور الإلهي في حياة الإنسان بكثافة، وإخضاع الإنسان لحتمية قدرية ترسمها النجوم الثابتة والمتحركة المرتسمة على الأبراج ودوائرها، وقصر الشر في الأرض على الإنسان. تبنَّت الكنيسة، وخصوصًا الكاثوليكية، أرسطو وبطليموس، إذ اتفقا مع مفهوم "الخطيئة الأصيلة" من جهة، ومع تدخُّل الكنيسة في تحديد الشر والخير في أفعال الإنسان، باعتبارها تحمل مفاتيح فهم الإرادة الإلهية. عندما أدار غاليله التلسكوب إلى القمر والنجوم، لم ير عقولاً ولا أجسامًا روحانية، بل رأى كواكب وبُقعًا شمسية، كما نظَّر كوبرنيكوس. وضع غاليله مؤلَّفه حوار بين النظامين الرئيسيين في العالم، ثم سخر من البابا. ليس مجرد أن الأرض لم تعد مركز الكون، بل لم يعد الاتصال قائمًا بين الإنسان والعقل المطلق (كناية عن الله). صار الانسان أقرب إلى أن يكون حرًا ومسؤولاً عن أعماله، وخرجت الإرادة الإلهية من الأفعال الأرضية والوضعية. كانت تلك فاتحة مشروع العقلانية الكبير الذي أصابه الوهن لاحقًا. جاء ديكارت ليكمل القطيعة مع التصوُّر اليوناني ومتفرعاته، إلى حدٍّ كبير، وعاد إلى تعريف أرسطو للفلسفة، مشدِّدًا على أنها بحث، فجعلها تستند إلى المنهج، وخصوصًا الرياضيات. أثار الكوجيتو نقاشات كبرى، وضمنها السؤال عن العقل. بقي شيء من الإلتباس في تصوُّر ديكارت عنه. الأهم أن ذلك لم يكن سيرًا ظافرًا صاعدًا، ولم تنفخ العقلانية عاصفة اقتلعت ما قبلها وأسست لما تلاها. ليس ذلك إلا وهمًا. بقيت لاعقلانية القرون الوسطى قائمة. من المهم استعادة ذلك، لأن العقلانية نقلت علاقة الإنسان مع الفضاء والطبيعة إلى الاكتشاف، وخصوصًا مع نظريات نيوتن التي كرست الأجرام السموية كموضع للكشف، ولأن القوانين التي تنطبق عليها، تسري على الأجسام كافة، والعكس بالعكس. تراكم ذلك كله ليصنع انقلابًا على الفضاء الذي يعجُّ بالأجسام السموية السامية (المثل الجوهرية الأفلاطون) وبالعقول المتتالية لأفلوطين وأرسطو. بات الاكتشاف، بصيغ متنوِّعة، هو علاقة تراسل بين عقل الإنسان والعالم. وعلى رغم الإبتسار، ترافق صعود الكومبيوتر وتبلور العالم الافتراضي، مع تغيير قوي (يضج بالتناقضات أيضًا) ومع الكثير من أسس عقلانية الحداثة وظهور ما بعد الحداثة، من دون المغامرة بالقول بالقطيعة معها. هل ذلك مكسب لمغامرة العقل الإنساني في الكون، أم أن شيئًا ما خرج عن النصوص من دون أن يتوصل إلى تفكير مناسب مع العالم الجديد الذي صنعته التقنية، في الفضاء والبيولوجيا والعالم الإفتراضي والنانوتكنولوجيا معًا؟ لاحظ هايدغر أن المجتمعات الحديثة ترتاح إلى تصور يجعل التقنية من فعل الإنسان حصرًا (البعد الانتروبولوجي) وأنها تحقِّق غايات إنسانية. ولم يرتح هايدغر إلى هذا التصور، الحداثي بامتياز، لأنه يقصر الحوار مع التقنية على مدى صلاحيتها واستعمالها الجيد، وذلك قول يتردد كثيرًا من القنبلة الذرية إلى الترفيه المتطوِّر ووسائل الاتصالات السريعة والإستنساخ وغيره. ونظر إلى التقنية باعتبارها انكشافًا، بمعنى السير بالشيء من الاختفاء والغياب إلى الظهور. ولاحظ هايدغر أن للإنكشاف أمام التقنية حدًّا آخر هو الحقيقة. ورأى أن ما ينقذ الإنسان يكمن في الخروج من التفكير في التقنية باعتبارها أداة، وفي التحاور مع ماهيتها، للوصول إلى تأمل مختلف عنها أيضًا. وخلص إلى أن لا يقين في الطريقة التي يستطيع فيها الكائن الإنساني الوصول إلى وضع اليد على ماهية التقنية (وتاليًا الحقيقة)، داعيًا إلى الاستمرار في طرح الاسئلة لأن "التساؤل هو تقوى الفكر". في "الكائن والزمان"، اقتبس هايدغر فكرة "عدم التيقُّن" من الفيزياء الكمومية، وخصوصًا إرفين شرودنغر (صاحب مثال القطة الشهير)، وهي أبعد من النسبية التي تجذَّرت مع ألبرت أينشتاين. اهتز العقل الرياضياتي المتكامل المرجعية، الصارم المنهج لديكارت، تحت وقع تعدد المرجعيات ونسبية حقيقتها، وكذلك ارتجَّ تحت وطأة أن لا يقين للوعي الإنساني، التي دعمتها الرياضيات غير التقليدية ونظرية الفوضى، فصارت مرجعيتها متعددة إلى حدِّ التشظي، وقصيرة المدى، ومتحوِّلة أيضًا. تظهر هذه الأشياء في الإفتراضي، وهو صنيعتها تقنيًا (بالمعنى الهايدغري لـ"التقني")، خصوصًا في "نموذج الكومبيوتر" Computer Model. يُظهر النموذج سطوة وحدانية المرجعية الرياضية، وامتدادًا سطوة المرجعية والحتمية المحمولة في المنهج الدقيق للنموذج. عندما صنع إدوارد لورنز نموذج الكومبيوتر الأول عن المناخ، وقع في الخطأ لأنه أخطأ في إدخال إحدى المعلومات. صحَّح الذكاء البشري المعلومة، فتصحح نموذج الكومبيوتر. بقدر ما يسير نموذج الكومبيوتر بصرامة لا تقبل أي خروج على دقتها المرهفة، يفيد بأن كل ذكاء يستطيع أن يصنع نموذجه، وأنه يصعب القول مسبقًا بتفوق نموذج على آخر. المرجعيات صارمة إلى حدٍّ أقصى، ولكنها منهكة ومتعددة ومتفككة إلى حدِّ التذرر. وكذلك تراوغها الحقيقة بقدر إدِّعائها. يبدو وضع الافتراضي ونموذجه، كأنه مزيج من هايدغر وبودريار، بطريقة لم تستنفد أفقها بعد، بل حتى لم تشرع في التفتُّح والظهور.

ثمة ما هو أهم. إن النموذج الافتراضي هو غير التراسل بين عقل الإنسان والطبيعية والكون. حلَّ النموذج الافتراضي مكان التجربة. بالأحرى، صار النموذج الرقمي محلاً آخر إفتراضيًا (و"حقيقيًا" بمقدار) للتراسل بين العقل والطبيعة، الممثلة في رقميات الكومبيوتر. مرة أخرى، ثمة إنهاك واضح، لأن النموذج معتمد على الرياضيات التي تعبِّر عن علاقات الأشياء، ولكنها لا تستطيع ان تكون أشياءه فعليًا، إضافة إلى التحدي المضاعف الذي يرفع حدَّ الارتياب واللايقين، ويأتي من الرياضيات غير التقليدية ونظرية الفوضى والفيزياء الكمومية. استولى الإفتراضي الرقمي ونماذجه المتعددة المتذررة على كثير من العقل، وأنهك العقلانية، وأفلت كثيرًا من اللاعقلانية، لكنه أوحى أيضًا أن أنطولوجيا الوجود الإنساني في الكون والزمان وأسئلتها العميقة، لم تنته روايتها. ليس بعد!

*** *** ***

النهار

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود