|
الوعي النقدي وعلم الاجتماع الروائي٭
الحديث عن "علم اجتماع الرواية: الرواية والحرب الأهلية اللبنانية" محرج لعدة أسباب، أهمها ما يتعلق بتحديد هذا الحقل المعرفي العام "علم اجتماع الأدب"[1] الذي عنه يتفرع "علم اجتماع الرواية". يتعرض جاك لينهارت إلى المستوى الأول في مقاله علم اجتماع الأدب la sociologie de la littérature فيشير إلى أن هذا الحقل لا يزال غامض المعالم، نسبة إلى حقول أخرى كعلم الاجتماع، وذلك لأنه لا يزال موضع تجاذب بين مختلف الاتجاهات الفكرية. وأهمها اتجاهان، أحدهما يعتبر هذا الحقل جزءًا لا يتجزأ من علم الاجتماع فيسميه "علم اجتماع الأدب"، فيتناول "كل ما في الأدب غير النص"، مثل التوزيع والشيوع والمؤسسة الأدبية والمجموعات المهنية من كُتَّاب ومدرسين ونقاد. وثانيهما يفهمه على أنه "علم الاجتماع الأدبي" la sociologie littéraire ويربطه بالعلوم اللسانية والأدبية، فيدرج فيه النقد بمختلف مستويات تناوله للنص، وكل ما يتصل بـ "الظواهر الاجتماعية المتعلقة بالبنى الذهنية وبالأشكال المعرفية" (كما فعل غولدمان وميشيل فوكو وألتوسير وماشيريه، كل على طريقته)، مما حال دون صياغة تحديد واضح للموضع: هل هو "الكتاب" من حيث أنه سلعة من السلع المتداولة؟ أم "العمل الأدبي" بوصفه إبداعًا؟ أم "قراءة العمل الأدبي" باعتبار الشرائح الاجتماعية القارئة ووعيها وتوظيفها لهذه القراءة؟ هذا الالتباس – إضافة إلى عدم ضلوعي في هذا الحقل ضلوعًا كافيًا – دفعني إلى مباشرة الموضوع من منطلق خاص، لا يخرج عن الإطار العام لهذا الحقل، ويتناول الوعي النقدي للرواية العربية بشكل عام وتأثيره على تقويم الرواية العربية وتصنيفها، سعيًا لاستنتاج بعض المبادئ التي قد تفيد في مساءلة الرواية العربية بشكل عام والرواية اللبنانية بشكل خاص. ومن غريب الصدف أن هذا التناول يعيد تقويم كاتبين لبنانيين ألمعيين، كتبا هما أيضًا في فترة حروب وقلاقل داخلية لبنانية، عنيت الشدياق وجبران، وذلك من شأنه أن يعيدنا إلى الرواية اللبنانية. أولاً - قصور الوعي النقدي السائد لا ريب أن كتاب عبد المحسن طه بدر، تطور الرواية العربية الحديثة في مصر (1870-1938)[2] الصادر عام 1963، مثَّل حتى نهاية الثمانينيات وربما إلى ما بعدها نموذجًا أكاديميًا للنقد الروائي اعتبره جمهور القراء، بمن فيهم طلاب الجامعات، نموذجًا يُحتذى، إذ حاول المؤلف فيه أن يتجاوز النقد الانطباعي الذي كرسه طه حسين بعد أن غادر النقد التاريخي فأصبح أسلوبًا انتهجه النقد حتى نهاية الخمسينيات. اعتبرت محاولة طه بدر هذه محاولة متقدمة لأنها سعت إلى الوقوف على معايير نقدية تتجاوز الذوق الشخصي والجمالية الذاتية وتحدد بعض العناصر الموضوعية أساسًا للحكم على العمل الأدبي. يصنف بدر النتاج الروائي منذ عصر النهضة على ثلاثة أنواع ويفرد لكل نوع فصلاً. يعالج في الفصل الأول "الرواية التعليمية"، وفي الثاني "رواية التسلية والترفيه"، وفي الثالث "الرواية الفنية" ما بين 1920 و1938. وواضح أنه اعتبر النوعين الأولين بمثابة تمهيد لا يعتد به لرواية لم تبلغ درجة النضج – أو درجة الفنية، كما يقول – إلا ابتداءً من عشرينيات القرن الماضي، وإن بدأت إرهاصاتها الأولى مع زينب الصادرة عام 1914. وبقي طه بدر مخلصًا لهذا المنطق في كتاباته اللاحقة بما فيها كتاباته عن نجيب محفوظ الذي اعتبر نقطة الاكتمال في الفن الروائي. يتضمن هذا التصنيف قدرًا كبيرًا من الغموض. فما الذي يجمع بشكل حاسم ما بين تخليص الإبريز للطهطاوي والمدن الثلاث لفرح أنطون، وأي رابط يربط هاتين الروايتين (هذا إذا ما اعتبرنا الأولى رواية) بروايات جرجي زيدان، وكافة هذه الروايات عنده من النوع التعليمي؟ وما الذي يمنع من الناحية النظرية أن تكون الرواية الترفيهية وحتى الرواية التعليمية بحد ذاتها رواية فنية، بمعنى أنها تنصاع لقوانين الجنس الأدبي الذي تنضوي تحته؟ أغلب الظن أن التباس مدلول التعبير "فني" هو الذي يؤدي إلى خلط الأمور. إذ إن طه بدر لا يميز فيه ما بين الناحية التقنية، أي مراعاة العمل الأدبي لشروط داخلية تميز نوعًا أدبيًا آخر (ومنها التقنيات الروائية) والناحية المرجعية، تلك التي تربط العمل الأدبي بمرجعه الاجتماعي. ويبدو من تحليله أن هذا المدلول هو الذي يضمن "فنية" العمل الأدبي. وحتى إذا سلمنا بهذه المقولة الملتبسة التي تركز على مرجعية المجتمع في الإبداع، فسرعان ما يتبدى لنا أن العناصر "الموضوعية" التي يعتمدها في تحديد معالمها مبتسرة إلى حد كبير. صحيح أنه يقدم للرواية الفنية بعرض مسهب لظروف نشأتها في الغرب وفي مصر، مستشهدًا بمراجع أساسية شأن كتابات إيان وات Ian Watt، غير أنه، حين ينبري لتحليل الأعمال الروائية، يضمُر عنده الفحص النظري وتتشوش المعايير العملية إلى حد كبير. فيعتبر مثلاً أنه من مكامن الضعف في الرواية غير الفنية "تأثرها بالروايات المترجمة" بل "وبالفن الشعبي" أو تهرب الكاتب من "معالجة شخصيات مصرية إسلامية"[3]. كما يعتبر أنَّ من علامات الرواية الفنية انتماء المؤلف الاجتماعي وموقفه الوطني، فيقول عن منابع "الفنية" في زينب: أما المنبع الأول فيتمثل في إحساس هيكل بالواقع المصري وعلاقته به وهو يكشف بتعلقه بهذا الواقع عن محبة شديدة لكل ما هو مصري وتعلق به، وليس ذلك غريبًا على هيكل فهو من طلائع أبناء الطبقة الوسطى المصرية، الذين نادوا بأن تكون مصر للمصريين، لا للأرستقراطية التركية ولا لغيرها من العناصر الداخلية[4]. أفلا يحق لأي قارئ أن يشكك بفنية مؤلفات آل تيمور وحتى يحيى حقي وتوفيق الحكيم بحجة أنهم لا يوفون بشروط الانتماء والموقف الإيديولوجي هذه؟ يشي هذه الموقف النقدي بقصور وعي الناقد حقيقة مرجعية الأدب الاجتماعية أي بوعي الروائي لمجتمعه الذي يتدرج على مستويات كثيرة. فلوسيان غولدمان مثلاً، الذي حاول أن ينطلق من نظرية لوكاتش ليطورها، يرى أن هذه المستويات تندرج كما يلي: من "الوعي الجمعي الفعلي" conscience collective réelle إلى "الوعي الجمعي الكامن، ذروة الوعي الممكن" conscience collective virtuele, maximum de conscience possible الذي يركب عدة أنماط من الوعي متشابكة ومتناقضة، كما تبدو في الأعمال الأدبية الكبرى – من رابليه إلى دوستويفسكي – التي من دراستها انطلق علم الاجتماع الأدبي الحديث في بداياته الأولى مع لوكاتش السابقة في هذا المضمار فضلاً عن دراسات غولدمان وكانت قد أصبحت معروفة في الفترة التي كتب فيها بحثه. ويبدو لي أنه اكتفى بالاعتماد على بعض المفاهيم التي تبناها محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس في كتابهما الشهير، في الثقافة المصرية[5]، وطعمها ببعض النظريات "الجدانوفية" في الأدب التي عليها ارتكز مفهوم "الواقعية الاشتراكية" الذي احتل عندنا مكان الصدارة في النقد ردحًا من الزمن ثم اختفى مخلفًا وراءه دمارًا ملحوظًا. وإن أخذ بشيء من لوكاتش فهو احتفاؤه بالرواية الواقعية الفرنسية كما تجلت على يدي زولا وبلزاك. إلا أن هذا الاحتفاء ابتسر عند نقادنا ليصبح النموذج المثالي للرواية، وهو موقف اعتمده النقد الجامعي الفرنسي في أوائل القرن العشرين، بينما عارضه، في حينه، معظم الروائيين الفرنسيين وأهمله كليًا النقد الأوروربي إجمالاً. إذ إن النقد الألماني أو الإنجليزي مثلاً لا يميز أي كتاب بوصفه "واقعيًا" على طريقة بلزاك، بل يعتبر أن مؤلفات غوته ذروة الرواية في حينه مع أنه يمزج الواقعية بالرومانسية المطلقة وكذلك يفعل ريتشاردسن وفيلدينغ الإنكليزيان اللذان يحتلان مركز الصدارة في التأسيس للرواية الإنكليزية. فالواقعية الحقيقية، بالنسبة إلى هذا النقد الأوروبي، ليست أسلوبًا محددًا بل مقاربة للواقع تتوسل أساليب كثيرة. وربما أن من العوامل التي ساهمت في دفع النقد العربي الناشئ في هذا التحديد الضيق للواقعية فيما يخص الرواية العربية هو تبني الاستشراق له، إذ إن مقولة يحيى حقي عن أولوية زينب مبنية أساسًا على رأي المستشرق جيب[6]. واستقر هذا النقد على موقفه هذا ابتداء من خمسينات القرن الماضي بتأثير "الواقعية الاشتراكية". ونستطيع الآن أن ندرك مدى قصور هذا النقد من عجزه عن فهم حقيقة الرواية العربية التي سبقت زينب والرواية التي أتت بعدها (من محمد تيمور إلى توفيق الحكيم وطه حسين) كما عجز عن فهم حقيقة زينب نفسها. فالأولى اعتبرت مقدمات غير ذات بال للطرفة الروائية الحقيقية، مما أدى إلى تجاهل أعمال تأسيسية كبرى شأن الساق على الساق أو الأجنحة المتكسرة وحديث عيسى بن هشام. والثانية قيست بمقدار الواقعية المباشرة التي تنم عنها. وأما زينب فقد نسبت إلى الواقعية وهي أبعد ما تكون عنها في رسمها للإطار العام، كما للشخصيات وتطورها. ثانيًا - الرواية من منظور وعي نقدي آخر وللتدليل على هذا العجز، الناجم عن قصور وعي النقد لا عن ضمور وعي الإبداع الروائي، نستنطق بعجالة بعض نتاج الإبداع الروائي المتراكم منذ بداية النهضة الذي ينم عن درجة عالية من الوعي بمرجعه الاجتماعي. هذا الوعي يقترب إلى حد كبير من مفهوم غولدمان الذي أشرنا إليه سابقًا، أي "الوعي الكامن، ذروة الوعي الممكن"، إذ إنه يترسخ في مواقع مختلفة، متعددة وأحيانًا متناقضة ترتبط بشرائح اجتماعية غير متجانسة وأحيانًا متناحرة. ويتجلى هذا الوعي في بنية النص نفسه، أي من خلال الأواليات الفنية التي يعتمدها وبشكل شبه عفوي، أي قبل أن يُنظِّر لها أي مفكر نقدي، وأهمها تعدد الأصوات. تعدد الأصوات إن مفهوم تعدد الأصوات، وما يتممه من "كرنفالية" كما حددهما باختين[7]، ينم عن الصراع داخل الفرد الكاتب وداخل الفئات الاجتماعية (التي في أكثر الأحيان لا تترادف مع مفهوم الطبقات) وهو يقوم على مواجهة الثقافة السائدة. ففي أول عمل إبداعي صارم صدر في بداية النهضة، الساق على الساق[8]، يتجلى هذا التعدد على مستويات كثيرة. منها التناقض بين رؤية الفارياق ورؤية الفارياقية. فالجدال محتدم بينهما حول نظرة كل منهما إلى الرجل والمرأة وما يربطهما من علاقة، كما يبرز ذلك الحوار الشيق والمثير الوارد في الفصل الثاني من الباب الرابع وفي عدد من الفصول التي تليه. فالفارياقية تتجلى في مواقف هي أبعد ما تكون عن الصورة النمطية التي بقيت الرواية العربية ترسمها لها حتى زينب وبعدها بكثير، بل وتبدو أكثر نضجًا من نماذج نسوية كثيرة تقدمها بعض الكاتبات اللواتي يناضلن في سبيل تحرير المرأة في أيامنا هذه. ولا تُرسم مواقف الفارياقية من منطلق مثالي تبشيري بما يجب أن يكون، بل من موقع يتبطن حال نساء واقعيات، كما كن يحيين ويفكرن في ذلك العصر، ليبرزه كما هو. أما موقف الفارياق من المرأة فيشير كذلك إلى وعي يتعدى بكثير الموقف الذكوري الذي يقال إنه كان الوحيد في ذلك الوقت. ويشير إلى التناقضات التي تعتمل نفسية الرجل ويركب ما بين الحذر من المرأة التي هي " شر كلها وشر ما فيها أنها شر لا بد منه"، والإعجاب بقدرتها على إدراك الأهم في الحياة. ولذلك ينم موقعه عن نفسية رجل رجولته مقرونة بأنوثة طافحة، وهي غير الرجولة التي تدفعه إلى التمتع بالمرأة. ولعلي أذهب إلى القول بأن الساق على الساق من أول وأهم الكتب التي دعت إلى تحرير المرأة. والجدال محتدم كذلك داخل الفارياق بين الانتماء العائلي والطائفي وبين التحرر الديني والاجتماعي، بين المعجب بالطريقة الترائية التراثية في الكتابة وبين الساخط عليها، بين المعجب ببعض مواقف المجتمع الغربي وبين المعتز بعاداته الشرقية. وإذ ما قارنا الشدياق في هذا المجال الأخير بكثير من كُتَّاب النهضة الذين أتوا بعده رأينا عنده نضجًا في الحكم على العلاقات بين الحضارات لا نراه عند لاحقيه ممن بهروا بالحضارة الغربية أو رأوا فيها الشرَّ كله. وهو في ذلك أقرب إلى الطهطاوي الذي لم يعمه تعلقه بمجتمعه عن إدراك جوهر ما يميز المجتمع الغربي، ولم يثنه إعجابه بالغرب عن التعلق بقيم كثيرة اقتبسها من مجتمعه. فهذه المواقف المتصارعة، بل المتناقضة أحيانًا، التي تصدر عنها مختلف الشخصيات، والتي تتجاذب الشخصية الواحدة، تشير إلى "نظرات متعددة إلى العالم"، هي "أصوات" تكسر صوت الراوي الفرد وتعبث بالتصور المبسط للعالم الذي تنم عنه غالبية الأعمال الأدبية في تلك الفترة، وهي أعمال تبشر بحداثة مجردة أو تنتصر لقيم الخير على قيم الشر من منظور أُحادي. والتعددية الصوتية نفسها نجدها في الأجنحة المتكسرة التي لم يشأ النقد العربي أن يرى فيها إلا بداية وعي فردي بحتمية الصراع مع السلطتين الدينية (وهي هنا الكنيسة) والإقطاعية، مع الحكم على أن هذا الوعي لا يزال قاصرًا عن المطلوب لكونه يمثل وعي "الطبقة البرجوازية"، وفق ما تراه الدكتورة يمنى العيد[9]، وهي طبقة متذبذبة بحكم موقعها. إن بعض التعمق في قراءة النص يشير إلى حوار قوي يقوم على مختلف المستويات خاصة ما بين الرجل، ويمثله الراوي، والمرأة التي تمثلها سلمى، وما بين الراوي ونفسه. أما الحوار الأول فيبرز موقفين: من الحياة، ومن الذكورة والأنوثة لا عهد للأدب العربي بهما. فالمرأة تجمع المتناقضات لتؤلف ما بينهما، تمثل السلبية والانصياع والتضحية بالذات، ولكنها في آن هي التي، بحبها وجمالها المعنوي، تفتق في الرجل طاقاته الكامنة وتدله على معنى الحياة ومآلها الأخير. يدهسها المجتمع الذي يحتكر الرجل فيه السلطة وتبقى "الوسيطة بين الرجل واكتماله، تعرِّفه على نفسه وتفتحه على أسرار الكون. وهي نظرة تتجاوز بكثير المعشوقة والفاتنة والأم لتلتقي مع نظرة قالت بها رومانسية يينا (jena) الألمانية[10] وتمت بصلة ما إلى بعض مواقف الصوفية، وتجعل من المرأة "الشفيعة"، بالمعنى شبه الديني للكلمة، ما بين الرجل وبلوغه ملء قامته. وأما الحوار الداخلي لدى الراوي فيتجلى في تساؤل عن الفرد وعلاقته بالمجتمع: هل يراعيه كما فعل الراوي حيال قرار المطران ووالد سلمى بتزويجها من شخص آخر، أم يتحداه كما فعل في خلوته معها بعد زواجها ثم ثار عليه بهجرته إلى غير رجعة؟ وتساؤل عن الحب: هل من طبيعته أن يكتمل في هذا العالم العابر، أم قدره ألا يكتمل إلا عبر الموت في العالم الآخر؟ وهل المرأة المثالية هي التي تجمع ما بين الأنوثة والجهل، ونموذجها والدة المؤلف، أم بين الأنوثة والعلم ونموذجها سلمى؟ "كانت المرأة بالأمس-يقول الراوي- خادمة سعيدة فصارت اليوم سيدة تعسة، كانت بالأمس عمياء تسير في نور النهار فصارت مبصرة تسير في ظلمة الليل، كانت جميلة بجهلها فاضلة ببساطتها قوية بضعفها فصارت قبيحة بتفننها، سطحية بمداركها بعيدة عن القلب بمعارفها، فهل يجيء يوم يجتمع الجمال بالمعرفة والتفنن بالفضيلة وضعف الجسد بقوة النفس؟"[11] هذا الجدل المحتدم حول كافة القضايا الأساسية يشير إلى رؤية مركبة للعالم وللحياة، تتجاوز بأشواط موقف المجابهة الاجتماعية للإقطاع وللكنيسة، ويمثل أصواتًا مميزة. وعي جديد للأدب هذا الوعي الحاد للتناقضات، المتجلي في تعدد الأصوات، يقابله وعي جديد للأدب يناقض النموذج الإحيائي السائد. يظهر ذلك بجلاء عند الشدياق خاصة بمداعبته الساخرة للمقاومة في كل فصل ثالث عشر من أبواب كتابه الأربعة. نكتة لاذعة تنصب على المقاومة كما مارسها عشرات الأدباء حتى مطلع القرن العشرين، ثم استبطان الشكل التراثي لمواقف ومعانٍ هي أبعد ما تكون عن التراث، وسخرية تفجر المقاومة من الداخل. ولكنه يتجلى كذلك في بنية المؤلَّف: يقرن الأسلوب السردي القديم بالأسلوب الحديث ويتجاوزهما معًا في عمل تخييلي يصهر السيرة الذاتية بآداب الرحلة، بالمناظرة، بالسرد الروائي، بالإحياء اللغوي، وبنقد البنى الاجتماعية والنفسية، ويمزج النثر بالشعر والعامية بالكلاسيكية المصفَّاة ليأتي بعمل يتعدد رواته المتخيلون، من راوٍ أساسي إلى شخصية الفارياق فإلى الناطق باسم المؤلف. هذا الوعي يبرز بشكل أعنف عند جبران الذي يقف موقفًا صداميًا من الإحياء: تفاخرون باليقظة وإن هي غير ترجمات بليدة عن كتب الإفرنج وبعض دواوين من الشعر العقيم العتيق الذي لا يتعدى بمعانيه ومبانيه حدود التهنئة والمديح والرثاء.[12] ينجم عن ذلك أسلوب في الكتابة، يبلغ ذروته في الأجنحة، يجمع ما بين الأساليب الشعرية والنثرية في النص الروائي نفسه: حشد الصور المجازية، موسيقية التعابير، توارد الجمل والمقاطع المتماثلة، الإكثار من استعمال الأساليب التي تفيد الإنشائية وتنم عن غنائية مهيمنة... ويقرن ما بين قواعد الفصحى والاقتباسات من المفردات الشعبية الشائعة وإن كانت محلية، ويستقي من التراث الكلاسيكي ومن المخزون الشعبي المنقول عبر الحكايات والتراتيل الدينية والأمثال. ويؤدي به هذا الأسلوب إلى موقف واضح من التجنيس الأدبي يرفض التقسيم الثلاثي المعمول به في الغرب والمفروض أنه موروث عن أرسطو[13]، والقائل بأن الأدب يكون إما ملحميًا أو مسرحيًا أو غنائيًا، كما يرفض التقسيم العربي القديم الذي يميز في الأدب بين النثر والشعر. ويقول بأن الأدب جنس واحد هو الشعر، فالشعر هو الإبداع مهما تعددت تجلياته النصية[14]. وهو بذلك يلتقي مع تعريف أصحاب مدرسة يينا الألمانية القائلين بأن الشعر هو محرك الإبداع وشكله الواحد وهو القيم على أنسنة البشر منذ بدء التاريخ، ينفحهم بطاقته فيتحررون ويسعدون، وينسحب منهم فيضمرون ويستعبدون[15]. وجاراه في ذلك المنفلوطي على طريقته فنسب أدبه إلى الشعر – هو الذي لم يعرف إلا كاتبًا قصصيًا – ويبرر موقفه باعتبار أن الشعر هو "حديث القلب" وما عداه "حديث اللسان" أو "حديث العقل"[16]. الشعر هو الجوهر والمنبثق. وإذا كان جبران يرتكز في قوله هذا على موقف فلسفي معروف، فإن المنفلوطي يوحي بأنه يستقي ذلك من الجذور الأولى للشعر العربي الضاربة في حضارة العرب ما قبل الإسلام، المسماة عنوة بالجاهلية. هذه القطيعة في النظرة إلى الأدب تقترن بتحديد لموقعه من النظم الرمزية الاجتماعية. فيصبح الأدب عالمًا قائمًا بذاته ينصاع لقوانينه الذاتية مستقلاً عن النظم الاجتماعية الأخرى وإن كان غير منقطع عنها بل متواشجًا. ينقطع الأدب في مفهوم جبران عن وظيفته الاجتماعية الريعية من استدرار لمال أمير أو ناشر ومن طلب للجاه، فيصبح الرحم الذي يولد فيه الإنسان على إنسانيته. فالأدب – وبتعبيره "الشعر" – هو الذي بثَّ الحياة الروحية في الإنسانية حين اكتملت الخليقة فبلغ بها إلى ذلك "الوعي" الروحي المتجسد بالتحف الفنية الخالدة بعد أن هجع هذا الوعي فترة طويلة حيث سيطرت عليها "الشريعة" بمعناها العام، ها هو الآن يعود ليبث الحرية في كل مخلوق وفقًا "للنواميس الطبيعية الأزلية"[17]. ولا ريب أن جبران يحدد دوره الأدبي بوصفه شرارة تشعل ثورة الوعي المرتقبة في الفكر العربي. وليس بعيدًا عن ذلك ما يقوله المنفلوطي إذ يعتبر القلب هو المؤسس للإنسان وأن "حديث القلب" هو المعبر عن هذا التأسيس. ويحدد هو الآخر دوره بأنه رسول ينشر هذا الحديث بعد أن سادت ظلمة "حديث العقل" و"حديث اللسان" فترة طويلة، هي فترة الانحطاط. كما يرى أن في رسالته هذه انبعاثًا لـ "حديث" قديم تجلى في شعر "الجاهلية" والقول القرآني وبعض شعراء العصر الذهبي. ويضيف أمرًا آخر: الشعر حلقة متواصلة تتوالد من نفسها، فالأدب يولد من الأدب، ويمثِّل على ذلك بتجربته الشخصية فاستبطانه للشعر القديم "خلق فيه ذاتًا أخرى" جعلته، هو بدوره، يبدع الشعر. وباستقلاليته يعود الأدب شعرًا فتعود إليه وظيفته الأساسية: النبوءة. فالشعر نبوءة، دوره أنطولوجي أصلاً، كما ذهب إلى ذلك رومانسيو يينا. وهذا يلتقي إلى حد ما مع نظرة التيار الرومانسي في الغرب، في القرن التاسع عشر، الذي اعتبر الشعراء بمثابة أئمة تقود إلى الحقيقة، وذلك ما يسميه بول بينيشو Paul Bénichou "الكهنوت الجديد"[18] Le nouveau sacerdoce. ففي هذا الأدب السابق لما سمي بـ"الرواية الواقعية" يتجلى وعي عميق بالمرجع الاجتماعي يتجاوز بمراحل "الوعي الجمعي الفعلي" الذي يعتمده النقد التقليدي، ويتأسس ليس فقط على إدراك شديد للحراك الاجتماعي، كما يبدو ذلك من تعدد الأصوات في النص، بل كذلك على ممارسة جديدة للقول وللخطاب تلحظ في الأسلوب اللغوي، وعلى تصور آخر للأدب يصل إلى حد تبويئه مرتبة النبوءة. ولذلك ينطبق عليه مفهوم "ذروة الوعي الممكن" بصفة عامة. وبسبب موقفه الصدامي مع المجتمع، يحيل من ناحية أخرى، إلى مفهوم أدورنو عن "الجمالية السلبية"، إذ يقول: إن الفن يصبح اجتماعيًا بمجرد موقفه المناقض للمجتمع، ولا يشغل هذا الموقع إلا بوصفه نتاجًا مستقلاً عن المجتمع (...) فمجرد وجوده نقد للمجتمع. فالاستقلالية التي ثبَّت هذا الأدب دعائمها هي عنوان "أدبيته" (أي طبيعته الأدبية) وميزان وعيه للمجتمع. وكذلك الرسالة النبوية التي اضطلع بها، فالشرعية التي استمدها من ذاته، أي من النخبة القليلة التي تمارسه (وهي غير النخبة التربوية التي هيأت له أمثال الطهطاوي أو بطرس البستاني) وتوجه بها إلى العامة، الجمهور القارئ، دليل وعي لما يعتمل في أعماق المجتمع الطامح إلى التغيير. وهذا ما لاحظه كل من رولان بارت وجان بول سارتر في أقوى تيار اجتاح القرن التاسع عشر الفرنسي، التيار الرومانسي[19]. ثالثًا - الوعي النقدي وتصنيف الرواية نستنتج مما سبق أن قصور الوعي لم يصب الرواية بقدر ما أصاب النقد. ولو نجا النقد من بعض هذا القصور لتوصلنا إلى فهم أدق لتاريخ الرواية عندنا. وبناء عليه، أود أن أرسم على عجل صورة ممكنة لهذا التاريخ كما تتبدى لي من خلال تحليلي لنصوصها، قبل أن أجازف ببعض الآراء حول شكل الرواية اللبنانية الحديثة. من المسلم به أن الرواية الحديثة نشأت من إحساس الكاتب بضرورة التعبير بشكل جديد عن مجتمع بدأ يأخذ بالعقلانية وبالتجربة الشخصية ليفسر الواقع على أسس علمية بعد أن راح يبتعد عن التأويل الديني التقليدي، وآية ذلك اعتماده مركزية الشمس في النظام الكوني بدل مركزية الأرض التي استقتها النظرية الدينية التقليدية من ميثولوجيا الخلق (الله أكمل خلقه ثم توَّجَهُ بالإنسان مركز الأرض مركز الكون). فوثيقة ميلادها هي مقاربة الواقع، ولذا قامت على الاهتمام أولاً بالحيثيات، أي الزمان والمكان، وبتجربة الإنسان الفرد القائم أصلاً في الزمان والمكان تجاه مجموعة كان قبلاً يذوب فيها إلى حد كبير، فأصبح الآن يتلمس موقعه الفردي منها، مع ما يقتضي ذلك من مواصلة ومجابهة في الآن. من هنا أن مقاربة الواقع مرتبطة بالفردية بهذا المعنى الدقيق. فكل رواية بهذا المفهوم مقاربة للواقع، وذلك ما نراه في نماذجها الأولى على المستوى العالمي، عند ريتشاردسن وفيلدينغ في Pamela clarissa harlowe وTom Jones على سبيل المثال، ولا مانع أن نرى بذورها الأولى في دون كيشوت. وهذا النمط من الرواية اكتسح الأدب الأوروبي وتبلور على شكل سمي فيما بعد بـ"رواية التنشئة" (وأهم تسمياته الغربية[20] bildungsroman) التي بلغت ذروتها مع رواية غوته Wilhelm meister، ثم تشعبت في كافة الاتجاهات. ومنها تحدر تيار "الواقعية" الذي ارتبط بشكله الفرنسي المنسوب إلى بلزاك (فيما النقد العربي ينسبه إلى زولا)، وإن هو إلا شكل محدد من أشكال الرواية، التي هي في أساسها واقعية، غير أنه التزم بقواعد فنية خاصة. وذلك ما أوضحه Ian Watt في مقاله "الواقعية والشكل الروائي"[21]، فسمى هذا التيار الفرنسي بـ "الواقعية الشكلية"، مميزًا إياه عن "الواقعية" بشكل عام[22]. فإذا كانت الأعمال التي ذكرناها لا يمكن إدراجها في باب "الواقعية الشكلية"، فإنها بكل تأكيد واقعية بالمعنى الأصلي، وتدخل في باب "رواية التنشئة"، دون أي انتقاص من واقعيتها. وآخذ مثالاً على ذلك الأجنحة المتكسرة. ترسم هذه الرواية "مسيرة فرد إشكالي" حسب تعبير لوكاتش يحاول أن يحدد موقعه كفرد في المجتمع ليحسن التصرف ويحيا ملء حياته. فيبدأ غرًا ضائعًا في غمرة "الجهل والإحساس"، كما "سديم"، غارقًا في "كآبة خرساء" (وكل هذه الكلمات من النص) ثم يسري فيه الحب فينتقل إلى عالم "المعرفة والعاطفة"، وإن بقي يغالب "الكآبة" إلا إنها أصبحت "كآبة ناطقة" (وهي عنده علامة الأنبياء والشعراء). ويجري ذلك بتدرج، فيتعرف أولاً إلى كونه فردًا من عائلة، من خلال شعوره لأول مرة بمعنى الأبوة (والد سلمى) والأمومة، أي يعترف بكونه "حلقة في سلالة" (كما يقول راوي يحيى حقي في قنيل أم هاشم) وليس طفرة تائهة. ثم تقوى فرديته بلقاء نصفه الآخر، المرأة، فيبدأ الكون يتجلى له. الكون نظام ينصاع لـ "ناموس الحب"، من العشب إلى الكواكب والمجرات إلى الإنسان فإلى الله. والمجتمع معترك يتصارع فيه "الناموس الأزلي"، الحب و"الشريعة" التي بواستطها تُحكم المؤسسة الدينية المتحجرة والمؤسسة السياسية التابعة سيطرتها على العقول. وتأتي "التقاليد البالية" لتدعم معسكر الشريعة. ومن ذلك نستنتج أن الحب لا يكتمل إلا في "عالم الأثير" القائم على "الناموس الأزلي". غير أن هذا الناموس لا يزال يعتمل المجتمع من خلال "الشعر"، فالشعر عنده يمثل ملء الحرية، ويتجلى في كل إبداع، كما ذكرنا سابقًا. ولذلك تغنى بكافة صوره: الروح الدينية البكر قبل أن تتجمد في مؤسسات صارمة – كما تبدو في أناشيد سليمان والترتيل القرآني والمثيولوجيا القديمة (عشتار) – والروح الشعرية المتدفقة في كل هذه الحضارات التي مرت على هذه البقعة، من الفراعنة إلى البابليين والآشوريين ومن العبرانيين إلى اليونان والفرس فالعرب التي تمثلهم أجمل تمثيل "الموشحات الأندلسية" (وكافة هذه العبارات مأخوذة من نص الرواية). ولا ريب عنده أن من يصل بالروح الدينية إلى شعريتها المطلقة هو المسيح، سيد المحبين و"سيد الشعراء"، كما سيسميه في كتاباته الإنكليزية. والطريف هو أن تقاطع كافة هذه الدفقات المحيية على أرض يتعبدها، "جبل لبنان" وحوله "أرض سوريا" كما يرى في مصطلحه آنذاك، أوجد عنده نوعًا من الترابط بين الجغرافية والتاريخ، يمكن أن نرى فيه شكلاً من أشكال القومية. فلا عجب أن يكون لجبران مواقفه الواضحة السباقة في ميدان التحرر من الدولة العثمانية دون التحالف مع الغرب[23]. وعلى كل حال، تتوج مسيرته في التنشئة بأن يصبح شاعرًا بكل معنى الكلمة ومن خلال كتاباته لهذه الرواية بالذات اكتملت التنشئة، وبقي كئيبًا، لكن بتلك "الكآبة الناطقة"[24]، "علامة الشعراء والأنبياء" – كما كان يقول – الذين يبشرون بعالم جديد وينبؤون بأن الكمال المطلق لا يتم إلا في العودة إلى "الروح الكلية". هذه الصيغة العربية الأصلية من رواية التنشئة هي التي تمثل، حسب رأيي، التيار الأساسي في الرواية العربية الناشئة – والتيار الفرعي تمثله الرواية التاريخية، ولها حكم خاص – وفي رحمه اكتملت الرواية قبل أن تتفرع. فإليه تنتمي الأعمال الروائية الأساسية منذ الساق على الساق للشدياق وحتى قنديل أم هشام ليحيى حقي، مرورًا بـ الأيام لطه حسين وعودة الروح وعصفور من الشرق لتوفيق الحكيم، وفيه تندرج زينب في أسفل السلم لأنها لا تتجاوز التنشئة المشوشة. وللتدليل على ذلك، أكتفي، لضيق المقام، بتحليل سريع لعمل الشدياق، الذي يبدو لأول وهلة أبعد ما يكون عن التنشئة. يرسم لنا هذا العمل مسيرة فتى فرد منذ بداية شبابه وحتى بلوغه. والمسيرة تقوده إلى تحديد موقعه من المجتمع ومن الكون والأدب. يعي الفتى ذاته من مجابهته مع مجتمع يضيق الخناق على منزع فردي، فيصوغ موقفًا يجمع بين انتمائه الجمعي واستقلاليته الذاتية عن الأطر الطائفية والطبقية والمذهبية والثقافية. ينخرط في المجتمع ولكن انطلاقًا من قناعاته الخاصة وفي سبيلها يتحمل التشرد فيضرب في الأرض من مصر إلى مالطة فإلى أوروبا. ويحلل على طريقته العلاقات الاجتماعية بين الطوائف وداخلها وما بين القوى الاجتماعية فتبرز لنا صورة عن المجتمع اللبناني كثيرًا ما تختلف عما يصفه التاريخ الرسمي. يكفي أن نقرأ ما يقوله عن رؤيته للمجتمع الدرزي أو المصري وعن تقويمه للمجتمع الماروني المتعدد، وعن موقفه من المذاهب المسيحية. يحدد موقفه من الكون: الطبيعة الانسانية، الآخر الغربي والمرأة. وفي كل ذلك يبدي نضجًا كبيرًا. يحتفظ بتفاؤل لا حد له دون أن يعميه ذلك عن وهن الطبيعة الإنسانية، ولذلك ينظر إلى الدين كإطار ضروري يعصم الإنسان عن التهور. يرى في الغرب مزاياه الحميدة دون أن يعمى عن زلاته ولذا لا يتخذه مثالاً يقتدى بحد ذاته بل صنوًا يتحاور معه. وتسحره علاقة الرجل بالمرأة، فيفرد لها فصولاً كثيرة، واللافت، في هذا الشأن، أن قوله لا يندرج في باب السخرية السهلة، بل في المزاح الذي يخفي ولهه بالمرأة – واكتشافها عنصرًا أساسيًا في كل تنشئة – وتحت ستره يحلل أعماق كل الجنسين بشكل ذكي لم يسبق له نظير في الأدب العربي، ولذا تقف المرأة فيه، كما ذكرنا سابقًا، صنوًا للرجل. وأخيرًا يتبلور وعيه للأدب: ينبهر بعبقرية العربية، ولها يفرد مقاطع طويلة، لأحسّه يتمتع بل يتلذذ فيها حسيًا ما شاء. وفي نفس الآن يسخر من شكلانية أفقدتها – أقله في عصره هو – كل بعد إنساني. ويكفي لذلك مراجعة مقاماته الأربع في كل فصل ثالث عشر من أبواب كتابه. يتقيد فيها بشكلها التراثي بعد أن يسخر منه ويملؤها بمواضيع أقل ما يقال فيها إنها ثورية بالنسبة إلى زمانه. وبتعبير آخر، يظهر لنا هذا العمل كيف يصبح هذا الفتى شخصًا يؤكد فرديته تجاه مجتمعه، وكيف يحدد موقعه من المرأة ومن حضارة الآخر ومن الدين، وكيف يصبح كاتبًا – أو شاعرًا حسب التعبير الجبراني والمنفلوطي – بكل معنى الكلمة. ولعل ذلك كله متضمن في تتمة العنوان (الساق على الساق) فيما هو الفارياق، أو بصيغة محرفة "فيمن هو الفارياق؟" ذلك الشخص الواقعي والمتخيل في آن. مسيرة تنشئة لا غبار عليها، ترفع من شأنها خصوصيتها بالذات. بل أذهب أبعد من ذاك، فأرى أن أعمالاً أساسية مهمة، مثل المدن الثلاث لفرح أنطون، تندرج هي بدورها في باب التنشئة، إذا ما وسَّعنا حدود هذه التسمية لتشمل ليس فقط الإنسان الفرد بل أيضًا المجتمع ككيان موحد فتأتي على صيغة تنشئة جمعية. فهذه الرواية لا تدخل في باب "الرواية الطوباوية" أو "اليوتوبية"[25]، بقدر ما ترسم تطور مجتمع تصوغه تجربة فرد لينتقل من تبسيطة الصيغ الثلاث، الدين والعلم والمال، إلى تآلف يُبنى في النهاية على الحب بين فردين، كما تنتهي إليه أحداث الرواية. وباعتقادي أن رواية التنشئة هذه هي التي دشنت مسيرة المقاربة الجديدة للواقع في الأدب العربي وقد استمرت حتى الخمسينيات وربما بعدها (ثم وازتها الرواية التاريخية في نهاية القرن التاسع عشر) وعندما تفرعت "الواقعية" لا سيما انطلاقًا من القصة القصيرة في مصر (محمد تيمور) وفي المهجر (نعيمة وجبران). ثم بلغت هذه الواقعية ذروتها مع نجيب محفوظ، في حين راح التيار الجديد يتسم بمزج أجناس أدبية مختلفة، يتبلور منذ ما قبل الخمسينيات على يد المسعدي ويتسع مع إدوار الخراط وبعض مجايليه، ثم ينفجر ابتداء من نهاية الستينات دروبًا متفرعة لا تزال تتراكم حتى يومنا[26]. إننا هنا أمام وعي نقدي آخر ينتج معرفة أدق بالرواية العربية بعامة وبالرواية اللبنانية الوليدة بخاصة، ولا بد من الإشارة في هذا المقام بنوعية ذلك الوعي الذي تجلى عند مارون عبود، على ما يعتوره من انطباعية ومن سردية محببة. ولو قدر لهذا التيار النقدي أن يستمر لمهد السبل إلى سبر غور هذا الأدب. ولعله كان يسعفنا في فهم الأدب الذي نحن بصدده الآن. ولذا نطرح السؤال من جديد: ما عسى علم الاجتماع الروائي (وليس علم اجتماع الأدب بعامة كما حددناه أعلاه) أن يقول عن الرواية اللبنانية بعد 1975؟ لا يحيلنا هذا السؤال إلى التطورات التي طرأت على المجتمع اللبناني في هذه الفترة بقدر ما يطرح تطور الشكل الروائي بالعلاقة مع وعيه لهذه التطورات. وأكتفي هنا بتقديم ملاحظات أولية: إن الرابط الموضوعي الملحوظ والذي لا يرقى إليه الشك بين كافة الأعمال الروائية المهمة التي أنتجت هذه الفترة هو "مسرح الحرب": جغرافيته، تاريخه، أحداثه وأحيانًا شخوصه. ويتضمن هذا الرابط معيارًا آخر، وهو صاحب العمل، لبنانيًا مقيمًا كان أم مغتربًا، مما يستثني كُتَّابًا لبنانيين عالجوه من خلال الكتابة بلغات أخرى. فالانتماء إلى اللغة العربية ضروري كما الانتماء إلى المواطنية اللبنانية. يشير ذلك إلى مقدمة منطقية أولية هي تصور أن الرواية تتبلور من خلال وعي لوطن له حدود جغرافية تميزه، دون أن تفصله، عن الجوار العربي. هذه الظاهرة الحديثة العهد نسبيًا تشير إلى اتجاه يعم شيئًا فشيئًا كافة البلدان العربية ويقضي بأن ينسب الأدب ليس فقط إلى اللغة بل أيضًا إلى انتماء المؤلف الوطني. فبعد أن كان وحده النتاج الأدبي العربي في مصر ينعت بالمصري، لحقه الأدب الفلسطيني ثم أدب كل قطر من الأقطار المتبقية، كلما اشتد ساعده ونضج. اتجاه تاريخي ساهمت في نموه عوامل اجتماعية كثيرة منها عجز العرب عن التوصل إلى حد أدنى من التوافق والتضامن، ناهيك عن الوحدة. فليكن! وإذا انطلقنا من الرواية اللبنانية بهذا التعريف، يمكننا أن نتساءل: هل هذا التعريف المرتبط بوعي وطني جديد كاف للتدليل على أن الرواية اللبنانية أثناء الحرب تنبثق من وعي جديد لمرجعيتها الاجتماعية؟ من منطلق نظري: طبعًا، لا! ومن منطلق عملي: لم تثبت ذلك بشكل حاسم أي من الدراسات التي تناولت الموضوع حتى الآن. ولا بد دون ذلك من إزالة عثرتين. الأولى تقوم على تدليل عن وجود قطيعة بين هذه الرواية اللبنانية والرواية اللبنانية التي سبقتها، على مستوى الوعي كما على مستوى الصياغة، خاصة إذا كانت تنسب إلى الروائي نفسه؟ فلست متأكدًا شخصيًا من أن روايات إلياس خوري منذ انطلاق الحرب لا تترسخ، وعيًا وأسلوبًا ولغة، في ما كتبه قبل الحرب (عن علاقات الدائرة). لا يعني هذا التساؤل شكًا في تطور أدب إلياس خوري من مرحلة إلى أخرى، بل مساءلة عما إذا لم تكن كافة قواعد هذه الكتابة موجودة في فترة سابقة ثم تطورت بتغير الظروف ونضج المؤلف. وباعتقادي أن وعيه الروائي والخطوط الرئيسة من أسلوبه كانت كامنة بالفعل في عمله الأول ثم نمت بنموها الطبيعي، وأتشوق إلى قراءة ما يثبت عكس ذلك. وقد أذهب أبعد من هذا: هل هناك قطيعة فعلية على مستوى الوعي بين هذه الرواية وكتابات يوسف حبشي الأشقر الأخيرة، بل وبعض النصوص الجبرانية، بل وحتى المنطلق الذي يؤسس لكتاب الساق على الساق؟ ليس في هذا التساؤل استفزاز أو رغبة سجالية بقدر ما فيه تأكيد على أن الموضوع، وهو هنا "مسرح الحرب"، لا يمنح العمل الإبداعي خصوصية أكيدة. وأخيرًا، إذا ما قارنا هذه الرواية بما أنتج في الفترة نفسها من روايات في أقطار عربية عديدة، رأينا بينها خصائص مشتركة كثيرة. منها الوعي الجديد لعالم الفرد و"لشرطه الإنساني". إنه يعبر عن عالم تخلخلت قيمه واختلطت معاييره بعد سقوط المشروع الجماعي، سياسيًا كان أم اجتماعيًا أم خلقيًا، فبدا الإنسان وكأنه معلَّق في الفراغ، فأصبح لزامًا عليه أن يبني من جديد عالمه الخاص، بعد أن تعذر عليه الحلم بإطار جمعي متناسق، أو الارتداد إلى وعي ديني وجمعي مغلق. هذا الضياع يعبر عنه أكثر الروائيين، لبنانيين وغير لبنانيين. فبما يتميز الأولون عن الآخرين؟ ومنها أيضًا الأسلوب الذي يتصفى من كل خطابة ويقتصد في الدلالة ويقترب من موضوعية مباشرة لا توحي بأكثر مما تقول، يقلل من استعمال الصفات ويقصي كافة صيغ المبالغة، فيقترب حسب التعبير الذي شاع فترة، من "البياض". وربما نجد المثال النموذجي لذلك في كتابة رشيد الضعيف التي تتحاشى كل نبرة وانفعال وتتناول الدلالة مباشرة. فهل فيها ما يميزها جوهريًا عن كتابة صنع الله إبراهيم في مصر مثلاً، وكتابة إبراهيم صموئيل في سوريا؟ اللهم إلا بعض الصور الشعيبة والاستعمالات اللغوية، ولا سيما تلك الصبغة، التي حسب شيخنا مارون عبود، تحلت بها الكتابة في لبنان منذ بداية عصر النهضة بسبب اطلاع اللبنانيين السباق على اللغات الأجنبية (ويضيف مارون عبود إلى ذلك تأثرهم بالتراكيب السريانية) وهذا مما حدا بهم إلى تصفية الكلام من نوافله وإدراجه في إيقاع موسيقى جديد كما يبدو ذلك عند الشدياق وميخائيل نعيمة وسعيد تقي الدين ومارون عبود نفسه[27]؟ وكل ذلك عائد إلى فترة ما قبل الحرب بكثير. يبقى أن الزخم الذي تحلت به الرواية اللبنانية في هذه الحقبة حقيقي، يستحق الإعجاب، ويستدعي قراءة متعمقة مستمرة ربما تثبت في ما يأتي من الأيام ما لم تثبته حتى الآن من أن يمثل فعلاً نقلة نوعية فذة في مستوى الوعي. *** *** *** ٭ نشر هذا البحث في مجلة الأبحاث التابعة للجامعة الأمريكية في بيروت، 2005. [1] راجع: 13 Jacques Leenhardt, “La sociologie de la littérature,” in Encyclopedia univeralis, (2002), 732-736 [2] القاهرة، دار المعارف، ط 2، 1968. [3] المرجع نفسه، ص 154 وما يليها. [4] المرجع نفسه، ص 318. [5] بيروت، دار الفكر الجديد، 1955.
[6]
راجع كتابه فجر القصة المصرية،
القاهرة، وزارة الثقافة، 1960، وعلاقته بمؤلف جيب الذي نشر مقالاته بين
عامي 1928 و1930: [7] راجع خاصة كتابه المعنون في ترجمته الفرنسية: esthetique et theorie du roman. Paris: gallimard, 1978 [8] كتب أحمد فارس الشدياق هذا النص ما بين 1850 و1825 ونشره في باريس عام 1855، أي قبل زينب بحوالي ستة عقود. [9] راجع كتابها: الدلالة الإجتماعية لحركة الأدب الرومنطيقي في لبنان ما بين الحربين العالميتين، بيروت، دار الفارابي، 1971.
[10]
وهي
المدرسة التي أطلق عليها النقد الألماني لقب
fruhromantik.
شغلت الفكر النقدي الألماني في السنوات القليلة الواقعة عند منعطف القرنين
الثامن عشر والتاسع عشر. قامت على بضع شخصيات، أهمها الأخوان شليغل (friedrich
schlegel\august schleglegel)
ونوفاليس وتيك (tiek)
وشيلينغ (schelling)
لم يسلم غوته من أذاها ولا من تأثيرها. عبرت عن آرائها في مجلة
athenaeum.
وهي التي أسست مفهوم الأدب بمعناه المعاصر، بوصفه مؤسسة مستقلة عن الفلسفة
والدين وتكون لهما بديلاً في التعبير عن الكائن. وبالرغم من
المنحى
الأنطولوجي الذي نحته، فإن مفهومها للأدب
فرض نفسه شيئًا فشيئًا على الفكر الأدبي الأوروبي حتى النصف الثاني من
القرن العشرين. يمكن مراجعة الكتب الفرنسية التالية: [11] راجع الأجنحة المتكسرة في المجموعة الكاملة (بيروت: مكتبة صادر ودار جبران، 1981)، 41-58، "أمام عرش الموت". [12] راجع "حفار القبور والمبخرون" في: جان داية، عقيدة جبران، دار سوراقيا، لندن، 1988. [13] وقد برهن Gérard Genette عن عدم صحة هذه النسبة: Introduction à l’architexte. Paris: Seuil, 1979 [14] جبران، شأنه شأن المنفلوطي، يرفض كلمة "أدب" و"أديب" ويتبنى كلمة "شعر" للتعبير عن الإبداع الأدبي الحقيقي في مواجهة أدب الإحياء. ولذلك يعتبر نفسه شاعرًا حتى حين يكتب الرواية أو القصة. دمعة وابتسامة في المجموعة الكاملة (بيروت: مكتبة صادر ودار جبران، 1981) ص 10-11، 72-73، 99-103، فصول "موت الشاعر حياته"، "الشاعر" و"صوت الشاعر"، والعواصف في المجموعة الكاملة، ص 121-123، فصل "الشاعر"، ومقالات كثيرة منثورة في كتاباته المنشورة، مثل "لكم لغتكم ولي لغتي"، وغير المنشورة والتي يمكن الإطلاع على بعضها في كتاب وهيب كيروز، عالم جبران الفكري، بيروت، شركة بشاريا للطباعة والنشر، 1983. وقد يذهب جبران أبعد من ذلك فيعتبر كل إبداع فكري وحتى يدوي من باب الشعر (راجع مقاله الشهير مستقبل اللغة العربية في البدائع والطرائف في المجموعة الكاملة، ص 43-52).
[15]
إضافة
إلى الكتب الفرنسية الثلاثة المذكورة سابقاً، يمكن الرجوع إلى الدراسة
الموسعة التي قدم بها Marcel Camus
لرواية نوفاليس:
[16]
راجع
مقدمته للجزء الأول من النظرات، وانظر: [17] في كتابنا الذي يصدر قريبًا بالفرنسية Gibran et la refondation littéraire فصل كامل حول هذا الموضوع.
[18]
راجع: [19] واضح أن بورديو توسع من هذه الملاحظة عند تحديده للحقل الأدبي.
[20]
يتناول
هذا النوع الروائي سنوات الشبيبة في حياة الإنسان، فيتابع مراحل تطوره
النفسي في مواجهته الحب والمجتمع والمصير الإنساني. تختلف مسارات هذا
التطور من ثقافة إلى أخرى ومن حقبة إلى أخرى وكذلك من كاتب إلى آخر. فمنها
ما ينتهي بالتماهي مع المجتمع وقيمه كما عند غوته، ومنها ما يجد الخلاص في
الحب والفن كما عند نوفاليس وشليغل، ومنها ما يؤدي إلى الثورة العارمة التي
تنتهي بالفاجعة كما عند ستندال. يرى فيها لوكاتش رواية "الإنسان الإشكالي"،
بينما يرى غيره رواية الاندماج الاجتماعي، إشكالية كان أم لا. وقد تناولت
كثير من الدراسات هذا النوع من الرواية، ربما كان أهمها:
[21]
والمقال
الأساسي بعنوان: Ian Watt, the rise of the novel.
London: Chatto and Windus, 1957 [22] وقد حاول Philippe Hamond أن يحدد هذه القوانين في مقاله "Le realisme une forme contrainte" المنشور في المرجع السابق. [23] في كتاب جان داية، عقيدة جبران (الهامش 12 فيما تقدم) مقاطع كثيرة تشير إلى هذا الموقف الذي اعتبره القوميون وقتها مثاليًا. [24] مفهوم الكآبة أساسي عند جبران، وهو يشكِّل الحدين الأقصيين للحياة: "الكآبة الخرساء" (وهي عنوان فصل من روايته) سمة الشاب قبل التنشئة، أما "الكآبة الناطقة" فتشكل مآله الأخير، فالكآبة سمة كل نفس نبيلة ابتداء بالشاعر إذ يجعل على لسان الشاعر هذا القول: "أنتم أصحاب المسرات ونحن أصحاب الكآبة". [25] ما يقابل بالفرنسية: Romans d'utopie sociale [26] نعالج كافة القضايا الواردة هنا في كتابنا المذكور سابقًا والذي يصدر قريبًا في باريس. [27] راجع: مارون عبود، أحمد فارس الشدياق، صقر لبنان (بيروت: دار مارون عبود، ط 2، 1975) ص 70، وفيه قوله: "الأدب أدب عربي، وليس هناك أدب لبناني قائم برأسه. ولكن للأديب اللبناني لونًا خاصًا ينماز به كما تنماز تفاحة مطعمة عن تفاحة لم تطعم أو كما ينماز مهاجر عاد إلى الضيعة بعد ما غاب عنها سنين عديدة". |
|
|