إنفلونزا الدعوة٭

 

محمد علي عبد الجليل

 

يختلفُ إدراكُ العالَمِ الخارجي من إنسان إلى آخر ومن مجموعة لغوية إلى أخرى. ففي المحاكاة الصوتية onomatopée مثلاً، تدركُ كلُّ مجموعة لغوية الصوتَ الخارجي وتفسره بطريقة مختلفة. فالعربُ سمِعوا صوتَ الدجاجةِ والضفدعِ كِلَـيْـهِما "نقيقًا"، بينما سمِعَه الفرنسيون "غْلوسُّمون" gloussement للدجاجةِ و"كْواسّْـمُـن" coassement للضفدع. وصوتُ الكلب عبَّرَتْ عنه اللغةُ الفرنسية بكلمة (aboi) و(aboiement) والإنكليزية بكلمة (bark)، بينما عبَّرَتْ عنه العربيةُ بكلمة (عواء)، وذلك حسبما تلقَّى الفرنسيون والإنكليزُ والعربُ الصوتَ وأدخلوه في نظامهم اللغوي. وقد أقرَّ القرآنُ بالاختلاف اللغوي بين البشر كآية من آيات الله: "ومن آياته خلْقُ السماوات والأرض واختلافُ ألسنتكم وألوانكم. إنَّ في ذلك لآياتٍ للعالِمين"[1]، كما أقرَّ أيضًا بالاختلاف الديني: "ولو شاء اللهُ لجعلَكم أُمَّةً واحدةً."[2] "ولو شاء اللهُ لجعلَكم أُمَّةً واحدةً، ولكنْ يُضِلُّ مَنْ يشاءُ ويهدي مَنْ يشاءُ[3]، ولَتُسْألُنَّ عما كنتم تعملون."[4] البشرُ يختلفون إذًا في إدراكهم اللغوي والنفسي والروحي للعالَم الخارجي. أصلاً بما أنَّ لغاتِهم مختلفةٌ فلا بدَّ أنْ تكونَ أفكارُهم ومعتقداتُهم مختلفةً أيضًا. فمن الحماقة أنْ يأتيَ عربيٌّ تدفعه قناعاتٌ بقدسية لغته وبلاغتها الفريدة ليفرض على الفرنسيين والإنكليز استخدامَ كلمة (عواء) بدلاً من (aboi) و(aboiement) و(bark) بحجة أنَّ كلمته العربية تُعَبِّر عن صوت الكلب (والذئب وابن آوى) أكثر من الكلمة الفرنسية والكلمة الإنكليزية؛ لأنَّ الكلب، بحسب إدراك العربي، (يَعْوي) ولا "يَبْوي"[5] (aboie) ولا "يَبْرَك" (bark). الأكثر حماقةً أنْ تَفرِض جماعةٌ ما إدراكَها الروحيَّ على جماعة أخرى. فتعميمُ رؤيةِ جماعةٍ ما على جماعةٍ أخرى لها رؤيتها الخاصة هو نوعٌ من الاحتلال. لكلِّ امرئٍ رؤيتُه. وردَ عن هرمس مثلث العظَمة[6] Hermès Trismégiste في وصية للممتحَنين في هذا الدور الآدمي الأخير:

لا ترى العيونُ كلُّها الرؤيةَ ذاتَها، لأنَّ الشيءَ يبدو لإحداها في هيئة ولون مختلفَينِ عما تراه الأخرى.[7]

وبهذا المعنى، تكون الدعوةُ بلا أي معنى.

إنَّ وعيَ المقتنعين بالدعوة والتبشير وعيٌ بدائي كَوَعيِ جدَّتي الأمِّية. ذاتَ مرةٍ، سألَـتْني المرحومةُ جدَّتي ماذا أتعَـلَّم؟ أجبتُها: "فرنسي". استفسَرَتْ ماذا يعني "فرنسي". فقلتُ لها: "أتعلَّـمُ لغةَ الأجانب؛ مثلاً: يسمِّي الفرنسيون التفاحةَ "ﭙـومّ" (Pomme)." فقالت بما معناه: "اللهَ اللهَ ما أقلَّ عقلَ أهل فرنسا. التفاحة هي تفاحة، فلماذا يسمّونها "بومْبْ"؟!"

الدِّين هو خبرة وحياة. وبالتالي فهو لا يُنقَـل، إنما يُختبَر ويُعاش. يروي أنطوني دو مِلُّو (1931 – 1987) Anthony De Mello أنه طُلِبَ إلى صوفي عاد من الصحراء: "أخبِرْنا، ماذا يشبه الله؟" ولكنْ أنّى له أنْ يخبرَهم ما اختبره في قلبه؟ وهل يُحشَر اللهُ في كلمات؟ فرأى أنْ يلقِّنَهم وِرْدًا، ما أبعده عن الصحة وما أقصره عن التعبير، لعل بعضهم يغريه أنْ يختبرَ الأمرَ بنفسه. لكنهم تلقَّفوا الوِرْدَ وجعلوه نصًا مقدسًا وفرضوه على غيرهم كمعتقد مقدَّس واحتملوا مشقَّات نشره في البلاد الغريبة، حتى إنَّ بعضَهم بذل حياته من أجله. فحَزِنَ الصوفيُّ. لعله كان من الخير لو لم يقل شيئًا. كما يروي دو مِلُّو أنَّ مستكشفًا عاد إلى قومه الذين كانوا توَّاقين إلى معرفة شيء عن الأمازون. ولكنْ أنّى له أن يعرب بكلمات عن المشاعر التي فاضت في قلبه حين رأى الأزهار الغريبة وسمع أصوات الليل في الغابة وأحسَّ بخطر الحيوانات المفترسة أو جدَّف بقاربه عبر منحدرات النهر الغادرة؟ فقال لهم: "اذهبوا واكتشفوا بأنفسكم." ثم رسم لهم خارطةً للنهر ترشدهم. أما هم فقد انقضُّوا على الخارطة، وأطَّروها في دار البلدية ثم استنسخوها. فكل من امتلك واحدةً لنفسه ظن نفسه خبيرًا بالنهر بحجة أنه يعرف (نظريًا طبعًا) كلَّ منعطف وانحناءة فيه.[8]

يقول الصوفيةُ: "من ذاقَ عرف. ومن عرفَ اغترف." فكيف إذًا يمكن التبشير بطعم حلاوة العسل عند من لم يذقْه مهما كان كلامُ المبشِّر معسولاً؟! وبهذا المعنى، تكون الدعوةُ أو التبشير بلا أي معنى.

ومازالتِ المجتمعاتُ البشريةُ على مرِّ العصور
يجتاحُها
يروسٌ خطير،
إنفلونزا مميتةٌ أشدُّ خطرًا بكثير
من إنفلونزا الطيورِ والخنازير.
إنه ﭭيروسُ الدعوةِ الدينيةِ أو التبشير.
وخطورةُ هذا الـﭭيروسِ أنَّ المُصابَ بهِ لا يعرِفُ أنه سقيم،
بل يشعر بأنه سليم
وبأن غيرَه الصحيحَ سقيم،
وبأنَّ من واجبِه أنْ يهديَ غيرَه إلى الطريق القويم!

إنَّ كلمة إنفلونزا أساسًا مشتقَّةٌ من الكلمة الإيطالية influenza وتعني التأثير influence. وبما أنَّ الدعوة (التبشير) prosélytisme (prédication) تَقُومُ على ممارسةِ تأثيرٍ influence نفسيٍّ على الآخر، فهي إذًا نوع من أنواع الإنفلونزا النفسية.

ولَئنْ سألتَهم، أيْ: الدُّعاةَ الإسلاميين: "ما هذه الأصنامُ العقائديةُ التي أنتم إليها تدْعون؟! ("ما هذه التماثيلُ التي أنتم لها عاكفون؟!"[9]) وما دليلُكم على أنَّ ما تدْعون إليه هو الحقُّ المُبِيْن؟" ليقولُنَّ بنبرةِ اليقين: "ذلكَ ما وَرَدَنا "بالسَّنَد الصحيح المتواتر" "كابرًا عن كابر" عن النبي صلَّى الله عليه وسلم خيرِ الأنام..."، وإلى ما هنالك من مِثْلِ هذا الكلام... إنَّ تبريرَهم هذا لا يختلف قِيْدَ أَنْمُـلةٍ عن تبرير قوم النبي إبراهيمَ لعبادتهم الأصنامَ: "قالوا: وجدْنا آباءنا لها عابدين."[10] كذلك الأمرُ لو سألْتَ المبشِّرين المسيحيين. وأتساءلُ: هل هناك واحدٌ فقط من بين الدُّعاةِ المسْـلمين أو المبشِّرين المسيحيين أو غيرهم من المُدَّعين قد اختبرَ الحقيقةَ فعلاً بنفسه ولم يتلقَّفْها عن آبائه تلقُّفًا أعمى؟! بالتأكيد لا. فالداعيةُ مبرمَجٌ على الدعوة إلى تقاليد آبائه وقومه لا إلى الحقيقة. مأساة الدعاة والمبشرين أنهم يدَّعون فَـهْـمَ نواميسِ الوجود والظواهر أكثر من الذي يعيشها؛ فلا يكتفون بتفسير فهمِهم لغيرهم، بل تدفعهم أنانيتُهم المتضخِّمةُ إلى محاولة فرضه على الغير حتى وإن اضطُرُّوا إلى إلغاء من لا يَـقْـبَـلُ شريعتَهم "السَّمْحة".

يريد الدُّعاةُ أنْ يُغيِّـروا وجهَ الأرض من خلال فرشِه أو تغطيتِه بجلود معتقداتِهم القديمة الدارسة حتى لا تؤذيَ أرجلَهم الحساسةَ أشواكُ الأفكار الجديدة، ناسينَ أنه يكفيهم تغطيةُ أرجلهم فقط. الدعوةُ الدينيةُ ليست إلاَّ تكريسًا للتقليد. والتقليد، بحسب جِدُّو كريشنامورتي، يقتل الإبداعَ ويفكك المجتمعَ. [جِدُّو كريشنامورتي، التقليد: صرنا مقلِّدين، بترجمة ديمتري أﭭييرينوس، موقع سماوات.]

جاء أيضًا في كتاب أغنية الطائر للراهب اليسوعي أنطوني دو مِلُّو أنَّ مسيحيًا زار مرةً معلِّمَ زِنْ وقال: "هلاَّ سمحْتَ لي أنْ أقرأَ لكَ بعضَ العبارات من العظة على الجبل؟" فقال المعلِّم: "سأسمعها بسرور." فقرأ المسيحيُّ بضعَ عباراتٍ ورفع رأسَه. ابتسم المعلِّمُ وقال: "أيًا كان قائلُ هذه الكلمات فقد كان مستنيرًا بحق." سُــرَّ المسيحيُّ بذلك وتابعَ القراءة. قاطعه المعلِّمُ وقال: "تلك كلماتٌ فاهَ بها مخلِّصٌ للجنس البشري." طربَ المسيحيُّ واستمرَّ في القراءة حتى النهاية. عندئذ، قال المعلِّم: "تلك العظةُ نطقَ بها إنسانٌ يشعُّ ألوهيةً." لم تَعُدِ الدنيا تتسع لفرحة المسيحي. ثم انصرف عازمًا على أنْ يعودَ ليُـقنِـعَ المعلِّمَ بأنْ يتنصَّـر. وفي طريق عودته إلى البيت وجدَ يسوعَ واقفًا على جانب الطريق. فقال بحماس: "رابي! لقد حملْتُ ذلك الرجلَ على الإقرار بألوهيتك!" ابتسمَ يسوعُ وقال: "وأيَّ خيرٍ جنيتَ من ذلك غير نفخِ أناكَ المسيحية؟"

بهذا المعنى، يكون التبشيرُ تضخيمًا للأنا الفردية وكذلك للأنا الجمعية.

يستشهد المصابون بـيروس الدعوة الإسلامية بالآية التالية: "ومن أحسنُ قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحًا وقال إنني من المسلمين."[11] ولكنَّ عبارةَ "دعا إلى الله" فضفاضة غامضة. كيف يمكن للمرء أن يدعوَ إلى الله؟! كلمةُ "الله" تحمل معانيَ وصورًا لانهائية. فاللهُ هو في آنٍ معًا:

1-    كلُّ شيء: "ما رأيتُ شيئًا إلاَّ رأيتُ اللهَ قبله وفيه وبعده." (قول يُنسَب لعلي بن أبي طالب. ويُنسَب لعثمان بن عفان: "ما رأيتُ شيئًا إلاَّ رأيتُ اللهَ بعده." ويُنسَب لِعُمَرَ بنِ الخطَّاب: "ما رأيتُ شيئًا إلاَّ رأيتُ اللهَ معه." ويُنسَب لأبي بكر: "ما رأيتُ شيئًا إلاَّ رأيتُ اللهَ قبله.")؛

2-    لا شيء: "لامُـتَـجَـلٍّ"، "متعالٍ" transcendant، "سكون مطلق"؛

3-    "نورُ السمواتِ والأرض."[12]؛

4-    "ليس كمِثْله شيء"[13]. وكلُّ ما خطرَ ببالِ بشرٍ فاللهُ بخلاف ذلك. "هل تعْـلَـمُ له سَمِيَّـًا."[14]

اللهُ لا يُدْعَى إليه ولا يُشارُ إليه "ومن أشار إليه فقد حَـدَّه ومن حَـدَّه فقد عَـدَّه"[15]. كذلك فإنَّ من دعا إليه فقد حَـدَّه ومَن حَـدَّه ما وحَّـدَه. "وللهِ المَشْرِقُ والمغْرِبُ فأينما تُوَلُّوا فثَمَّ وجهُ الله. إنَّ اللهَ واسعٌ عليم."[16] فاللهُ واسعٌ يتَّسع إذًا لكل المذاهب والطُّرُق والأديان. ولهذا يقول الصوفيةُ: "تعدَّدَت الطُّرُقُ إلى الله بتعدُّد نفوس بني آدم." ويقول جِدُّو كريشنامورتي Jiddu Krishnamurti (1895 – 1986): "الحقيقةُ بلادٌ بلا دروب." توصي سيمون ﭭـايل Simone Weil (1909 – 1943) بعدم الحديث عن الله حتى في لغة السر، تقول: "لا يتلفظَنَّ المرءُ بهذه الكلمة إلاَّ عندما لا يمكن له أنْ يفعلَ غيرَ ذلك."[17] وبهذا، فليس على الإنسان أنْ يدعوَ إلى الله، لأنَّ اللهَ هو الذي يدعو الإنسانَ إليه وليس العكس. يقول حديثٌ قدسي: "‏إذا تقرَّبَ العبد إليَّ شِبْرًا تقرَّبْتُ إليه ذراعًا وإذا تقرَّبَ مني ذراعًا تقرَّبْتُ منه ‏باعًا ‏وإذا أتاني مشيًا أتيتُه هرولةً."[18] وبهذا المعنى، تكون الدعوةُ بلا أي معنى.

ويستندون إلى حديث: "بلِّغوا عني ولو آية. وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج. ومن كذب عليَّ متعمِّدًا فلْيتبوَّأْ مقعدَه من النار."[19] وهنا لا بدَّ من التمييز في المنقول الديني بين السياسي المتغيِّر باستمرار وبين الأخلاقي الأقلّ تغيُّـرًا. إنَّ الشرائعَ والأفكارَ والمعتقَداتِ هي قشورٌ تغلِّفُ الحقيقةَ. إنها حُجُبٌ تخفي وراءها الحقيقةَ. فكيفَ يُدْعَى إليها؟!

كما يستندون أيضًا إلى آية: "ادْعُ إلى سبيل ربِّـكَ بالحكمة والموعظة الحسنة وجادِلْهم بالتي هي أحسنُ. إنَّ ربَّـكَ أعلمُ بمن ضلَّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين."[20] إنَّ هذه الآيةَ وآياتٍ أخرى ("ومن أحسنُ قولاً ممن دعا إلى الله وعملَ صالحًا"، "لا إكراهَ في الدين"[21]، "لئن بسطْتَ إليَّ يدَكَ لتقتلَني ما أنا بباسطٍ يديَ إليكَ لأقتلَكَ."[22] ، إلخ.) تنسف أساسَ الجهاد. كلُّ من يدعو إلى فكرته الدينية يدَّعي بأنه يدعو إلى الله. يجب على الداعية الإسلامي، كي يطبِّـقَ هذه الآياتِ، ألاَّ يدعوَ إلى الإسلام وحدَه، لأنه، بدعوته إلى الإسلام وحدَه، يدعو إلى الأنا الجمعية الإسلامية وإلى الصورة الإسلامية لله فيقيِّـد اللهَ عندئذٍ ويَـحُـدُّه، ومَن حَـدَّه فقد عَـدَّه ومن عَـدَّه لم يوحِّـدْه، بل عليه أنْ يدعوَ بالحكمة (وهذا المهم) إلى كلِّ الأديان (وهذا الأهم) (يصيرُ قلبُه قابلاً كلَّ صورةٍ، بحسب تعبير ابن عربي[23]) وأنْ يعملَ صالحًا (وهذا مهم أيضًا)، فيربط بذلك كلَّ إنسانٍ-شجرةٍ بتربته الخاصة به والتي نما فيها. إنَّ من يدعو إلى الله لا يدعو في الحقيقة سوى إلى صورته وفهمه عن الله. الدعوة أو التبشير تقتلع الإنسانَ من جذوره. الدعوة لأيِّ دِينٍ هي طريقةٌ للسيطرة على الآخر، لقَنْص الآخر، فهي عمليةُ اقتناصٍ أو قَنْصٍ واصطيادٍ باستخدامِ أشراكٍ وفِخاخٍ وطُعُومٍ وروامجَ (جمْع: رامج) leurres ماديةٍ وفكريةٍ ونفسية. والقرآنُ يقول صراحةً: "فذكِّرْ إنما أنتَ مذكِّر. لستَ عليهم بمُصَيطِر [بمُسَيطِر]."[24] فالدَّورُ الوحيد للدِّين هو التذكير. الدِّينُ منبِّهٌ فقط. ليس المطلوب من الإنسان أنْ يهديَ الآخر، بل أن يهديَ نفسَه. "ليس عليكَ هُداهم ولكنَّ الله يهدي من يشاء."[25] "إنك لا تهدي من أحببتَ ولكنَّ الله يهدي من يشاء. وهو أعلم بالمهتدين."[26] "أفأنتَ تهدي العُمْيَ ولو كانوا لا يبصرون."[27] "أفأنتَ تُسمِع الصُّـمَّ أو تهدي العُمْيَ ومن كان في ضلال مبين."[28] فالله حاضرٌ كلِّيُّ الحضور Omniprésent (Ubiquiste) يتكلَّم في صمت الطبيعة؛ فكيف يُدْعى إليه الصُّمُّ والعُمْيُ؟! لذلك، "فلا تُذْهِبْ نفسَـكَ عليهم حسراتٍ."[29] "فلعلك باخعٌ [مهلِكٌ] نفسَكَ على آثارهم إنْ لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفًا."[30] "لعلكَ باخعٌ نفسَكَ ألاَّ يكونوا مؤمنين."[31] إنَّ الإياتِ السابقةَ تنسف الدعوةَ من أساسها. وبهذا المعنى، تكون الدعوةُ بلا أي معنى.

ويستشهد المصابون بـﭭيروس التبشير المسيحي بقول المسيح: "اذهبوا وبشِّروا جميعَ الأمم". تقول سيمون ﭭـايل في هذا الصدد:

عندما قال المسيح: "اذهبوا وبشِّروا جميعَ الأمم"، كان يأمر بنقل بشارة وليس تعليمًا لاهوتيًا. كان، هو نفسه، يقول عندما جاء: "فقط لخِراف إسرائيل" فأضاف ثانيةً هذه البشارةَ إلى دِين إسرائيل. كان المسيح، على الأرجح، يريد من كل رسول من رُسُله أنْ يضيفَ أيضًا بشارةَ حياة المسيح وموته إلى دين البلد الذي يكون فيه. ولكنْ أُسيءَ فهمُ الأمر، بسبب قومية اليهود الراسخة. فكان لا بد لهم أنْ يفرضوا كتابَهم المقدَّس في كل مكان. [...] من جهة أخرى، مكتوبٌ أنه يُحْكَم على الشجرة من ثمارها. وقد حملَت الكنيسةُ ثمارًا رديئة لا تحمِلُ على الاعتقاد بأنه لم يكنْ هناك من خطأ في بدايتها. لقد اجتُثَّت أوروبا من جذورها روحيًا وقُطِعَت عن هذه الموروثات القديمة حيث هناك جذور لجميع مقوِّمات حضارتنا؛ وذهبَتْ تقتلع القاراتِ الأخرى من جذورها ابتداءً من القرن السادس عشر. [...] لقد بقيَتْ أمريكا ستةَ عشر قرنًا دون أنْ تسمعَ بالمسيح (مع أنَّ بولُسَ الرسولَ قال: البشارة التي أُعلِنَت في جميع الخليقة) وأُبيدَت أممُها بأفظع الأعمال الوحشية قبل أنْ يتسنَّ لها التعرُّف عليه. إنَّ حماسَ المبشرين لم يُنَصِّـرْ أفريقيا وآسيا وأوقيانوسيا، بل وضعَ هذه المناطقَ تحت السيطرة الباردة والوحشية والهدامة للعِرْق الأبيض الذي سحقَ كلَّ شيء. من الغريب أنْ يؤديَ كلامُ المسيح إلى مثل هذه النتائج فيما لو فُهِمَ فهمًا صحيحًا. قال المسيح: "علِّموا وعمِّدوا الذين يؤمنون."، أي الذين يؤمنون به. لم يقلْ أبدًا: "أجبِروهم على إنكار جميع مقدَّسات آبائهم وعلى اتِّخاذ تاريخِ شعبٍ صغيرٍ مجهولٍ كتابًا مقدَّسًا لهم." [...] لقد رافق المبشرين، وحتى الشهداءَ منهم، جنبًا إلى جنب المَدافعُ والسُّفُنُ الحربيةُ لتكون شاهدًا حقيقيًا على الحمَـل. لا أعلم أن الكنيسة استنكرَت رسميًا على الإطلاق الأعمالَ التأديبية التي جرت للثأر لهؤلاء المبشرين. أنا شخصيًا لا أعطي حتى عشرين فلسًا لأي عمل تبشيري. أعتقد أن تغيير الإنسان لدِينه أمرٌ خطيرٌ كتغيير الكاتب للغته. قد ينجح ذلك، ولكنْ قد يكون له عواقبُ وخيمة.[32]

وبهذا المعنى، تكون الدعوةُ أو التبشير بلا أي معنى.

يصِفُ الفقهاءُ المسْـلِمون الإسلامَ بأنه دِين الفطرة. فقد روى أبو هريرة حديثًا يقول: "ما من مولود إلاَّ يولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدانِه ويُنَصِّرانِه ويُمَجِّسانه."[33] وجاء في القرآن: "فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله."[34] والفطرة لغةً هي الخِلْقة التي خُلِقَ عليها المولودُ في أول خَلْقه. وهي أيضًا الطبيعة السليمة التي لم تُشَبْ بعيب. والكلمة مشتقة من الفعل: فَطَر الشيءَ، أيْ أوجدَه ابتداءً. والفطريُّ عكْسُ المكتسَب.[35] وعليه، فإذا كان الإسلامُ دينَ الفطرة فعلاً كما يقولون، أيْ دين الطبيعة الأصلية التي وُلِدَ عليها المولود، فإنه ينبغي ألاَّ يُعَـلَّمَ وألاَّ يُدْعى إليه وألاَّ يبشَّر به، لأنه فطري لا يُكتسَب اكتسابًا، كالرضاعة عند حديث الولادة. وأي شيء يكتسبه المرءُ قد يشوِّه فطرتَه. غالبًا ما يشوِّه الإسلامُ الذي يكتسبه الطفلُ من أبويه الإسلامَ الفطريَّ الذي لديه. وبهذا المعنى، تكون الدعوةُ بلا أي معنى.

يمكن أنْ نلخِّص إسلامَ الفطرة بأنه إحساس الإنسان الداخلي بوجود قانون كوني صارم، هو قانونُ "الجزاء"، قانونُ "الكارما"، قانونُ "الفعل وردِّ الفعل"، قانونُ "بالكيل الذي تكيلون يكال لكم."[36]، قانونُ "من يعملْ مثقالَ ذرَّةٍ خيرًا يره ومن يعملْ مثقالَ ذَرَّةٍ شرًا يره."[37] إنَّ إدراكَ هذا القانونِ وحدَهُ كافٍ لخلاص المرء ونجاته، مهما كان دِينُ المرء وشريعتُه؛ فليس هناك من حاجة إلى تعقيدات الشريعة ومتاهاتها. لأنَّ قسوةَ الشريعة انعكاسٌ لقسوة القلوب. وبالتالي، ليس هناك من حاجة إلى الدعوة إلى أية شريعة. وردَ في المنقول الإسلامي أنَّ النبيَّ رَفَعَ رَجُـلاً إلى رَجُـلٍ يُعَـلِّمُه فعلَّمَه حتى إذا بلغَ "فمن يعملْ مثقالَ ذرَّةٍ خيرًا يَرَهُ ومن يعملْ مثقالَ ذَرَّةٍ شرًا يَرَه." قال الرَّجُـلُ: "حسبي." قال الرَّجُـلُ: "يا رسولَ الله! الرَّجُـلُ الذي أمرْتَني أنْ أُعَلِّمَه لمَّا بلغَ فمن يعملْ مثقالَ ذرَّةٍ خيرًا يره ومن يعملْ مثقالَ ذَرَّةٍ شرًا يره قال: حسبي." قال النبيُّ: "دعْه فقد فقِهَ."[38] وبهذا المعنى، تكون الدعوةُ بلا أي معنى.

المبشِّرون والدُّعاةُ صادقون كالمنجِّمين؛ فهمْ يَصْدقون لأنَّ صِدْقَهم يجلب لهم تأكيدَ الذات أو المالَ أو النفوذَ أو السلْطةَ أو نعيمَ الجنةِ أو يضخِّمُ أنانيتَهم. يقول المفكِّرُ الكبير الشيخ عبد الله القَصيمي[39] (1907 – 1996) في كتابه أيها العقل! مَن رآك؟:

إن الصدق بلا مصلحة لا يساوي، عند أعظم قديس، أكثر مما يساوي الكذب، الكذب الذي ليس فيه مصلحة. [...] الفرق بين الصدق والكذب هو فرق في الوسيلة، لا في النية. [...] الذي يجتنب الكذب والنفاق يكذب وينافق باجتنابهما. [...] الصدقُ ضربٌ من الأنانية وليس فضيلةً نفسيةً؛ إنه حاجة من حاجات الصادق، لا تضحية منه في سبيل المجتمع. الصدق والكذب صورتان لوجه واحد اختلفت تعبيراته. والذي يَصْدُق، إذا اعتقد أن الصدق خيرٌ له، كالذي يكذب إذا اعتبر أن الكذب خيرٌ له. [...] إن أكذب الناس هم الصادقون، لأنهم، حينما يَصْدُقون، لا يريدون أن يقولوا الصدق، بل أن يقولوا شيئًا آخر. إنه الصدق الذي يراد به غير الصدق. وهذا أشنع أساليب الكذب! [...] إن نية الكذب لا تكون صدقًا، مهما كان الخبر صادقًا.

يدَّعي المبشِّرون والدعاةُ بأنَّهم يعرفون "الـ"حقيقةَ! (ولو أنهم قالوا أنهم يعرفون حقيقةً "ما" لكان ادِّعاؤهم أقربَ إلى الحقيقة والتصديق) ويريدون أنْ ينقلوها إلى غيرهم تنفيذًا لأمرِ الإله الذي أودعَهم هذه الحقيقةَ. أليس الإلهُ الذي أودعَهم الحقيقةَ أو استأمنَهم عليها بقادرٍ على إعطاء هذه الحقيقة عينِها إلى غيرهم بالإلهام أو بالوحي؟! وإذا كانوا هم أقْدَرُ على فهمِ الحقيقة الإلهية وحَمْلِها من غيرِهم فمن العبث والحماقةِ إذًا أنْ ينقلوها إلى غيرِهم، لأنَّ غيرَهم لو كان قادرًا على استيعابها لكان الإلهُ الحكيمُ قد أعطاهم إياها. وما يزال الدعاةُ والمبشِّرون يقولون بأنهم يمتلكون "الـ"حقيقةَ ويريدون أنْ يقولوها. ولكنْ يقول الصوفيون الذين اختبروا حقيقةً ما: "من عرفَ صمتَ." اللهُ يتكلَّمُ بالصمت. البذرةُ تموتُ في باطن الأرض صامتةً لتنتشَ نبتةً بصمت. والوردةُ تتفتَّح بصمتٍ أيضًا. العارف يحيا بصمتٍ "هُنا-الآنَ" في لذةٍ لو عرفها الملوكُ لقاتلوه عليها بالسيوف؛ فلا يغزو العارفُ جيرانَه فارضًا عليهم "عرفانَه" بحد السيف! فإذا رفضوا عرفانَه المزعوم فرضَ عليهم جِزْيةً مقابلَ حمايته لهم منه!!! العارفُ لا يقوم بأية دعوة إلى رأيه أو دينه أو مذهبه. وإذا ما دعا العارفُ فإنه يدعو بسلوكه فقط كلَّ إنسانٍ إلى اكتشاف الحقيقة التي في داخله. وعليه، فإنَّ كلَّ داعية prédicateur أو مبشِّر évangélisateur (missionnaire) ليس عارفًا، بل جاهلٌ بحقيقة نفسه، منشغلٌ عن اكتشافها، متوهِّمٌ بأنه يريد إنقاذَ الآخرين، لأنه غارقٌ ولا يستطيع إنقاذَ نفسِه. إنَّ حاجة النفس إلى الإنقاذ تدفع صاحبَها غالبًا إلى أنْ يسعى لإنقاذ غيرِه من المحتاجين؛ أيْ أنَّ حاجة النفس إلى الإنقاذ تظهر على شكلِ محاولةٍ لإنقاذ الآخرين، وهذه المحاولةُ ليست سوى محاولةٍ لإسكات صرخة النفس.

كلُّ داعيةٍ (أو مبشِّر) يشبِهُ التاجرَ أو مندوبَ المبيعات، هدفُه الوحيد الترويجُ لبضاعتِه، فيلجأ إلى الدعاية التي هي شكْلٌ دبلوماسيٌّ ومشرعَنٌ من أشكال الكذب. فعبارةُ "لا قشرةَ بعد اليوم" للترويج لنوعٍ من الشامبو ضد القشرة لا تختلف كثيرًا عن عباراتِ الترويج لدِينٍ بأنْ لا شِفاءَ من "قشرة الشقاء" خارجَ عُـلْـبَـتِهِ وبأنْ لا طهارةَ لإنسانٍ إلاَّ باستخدام صابونِهِ وبأنَّ من يتَّبعْ دِينًا غيرَه فلن يُقْـبَـلَ منه! إنَّ لكلِّ داعيةٍ أو مبشِّرٍ غايةً يغطِّيها بالكذب. كلُّ مبشِّرٍ يكذِب عندما يقول بأنه يبشِّر بالحقيقة أو بالإله أو بالمخلِّص. لو كان صادقًا لصمتَ، لأنَّ الحقيقةَ كالشمس لا يُدْعَـى إليها ولا يبَشَّـرُ بها؛ ولا يدعو إليها إلاَّ سمسارٌ مستغِـلٌّ لعمى الآخرين ولا يهمُّه أنْ يبصروا.

وبهذا المعنى، تكون الدعوةُ أو التبشير بلا أي معنى.

سيكولوجيًا، هناك غرائز في الإنسان تحرِّكه من أجل البقاء، منها غريزة الخوف التي تؤدي إلى الدفاع عن النفس في حال التهديد بالخطر. ولكن غريزة البقاء عند الجماعة قد تتضخَّم إلى درجة الخوف من وجود أية جماعة أخرى مختلفة عنها. فتحاول الجماعةُ، تحت تأثير خوفها المتزايد، أنْ تلغيَ الجماعةَ الأخرى ماديًا من خلال الحرب و/أو معنويًا من خلال فرض ثقافتها أو عقيدتها بالدعوة أو التبشير. تسعى الجماعةُ الخائفةُ إلى أنْ تتوسَّعَ فتسيطرَ على جماعاتٍ أخرى وتحتلَّها وتنشرَ فيها عقيدتَها لتأمنَ شرَّها. فالدعوة (و/أو التبشير) شكلٌ من أشكال الاستعمار. وبهذا المعنى، لا يكون معنى الدعوة سوى الاحتلال والسيطرة على العقول والقلوب. لو تأمَّـلَ الداعيةُ المسْـلم في السؤال: "لماذا وإلامَ يدعو ويبشِّر؟؟!!" لعكفَ عن الدعوة وكسرَ الدفَّ وأقلعَ عن غنائه النَّشاز. فقرآنُه يطلب منه أنْ يُشفِقَ على نفسه ولا يُتعِبَها ولا يُهلكَها في جعل غيره يؤْمن بما يؤمن هو به: "لعلكَ باخعٌ نفسَكَ ألاَّ يكونوا مؤمنين."[40] "فلا تُذْهِبْ نفسَـكَ عليهم حسراتٍ."[41]  ولْـيَـعْـلَمِ الداعيةُ أنْ ليس من واجبه الديني أنْ يهديَ الناسَ: "ليس عليكَ هُداهم ولكنَّ الله يهدي من يشاء."[42] أمَّـا المبشِّر المسيحي، فلماذا يبشِّر إذا كان يسوعُ قد اختارَ مسبقًا خرافَه قبل أنْ يختاروه؟ وهو يعرفهم منذ الأزل وهم يعرفونه. "أما أنا فإني الراعي الصالح وأعرف خاصتي وخاصتي تعرفني. خرافي تسمع صوتي. وأنا أعرفها فتتبعني."[43] كما أنَّ بولسَ قد اختاره يسوعُ بنفسه. "عندما اختار يسوعُ الإثني عشر كان ذلك ليكونوا معه، وليرسلهم ليَكْرُزوا."[44] هذا المعنى يؤكِّده كريشنامورتي: "لستَ أنتَ من يختار الحقيقةَ؛ الحقيقةُ هي التي تختارُكَ."[45]

لماذا إذًا الدعوةُ والتبشير؟!

يقول ﭙول ﭭـاليري[46] Paul VALÉRY:

أرى أنه من المعيب أنْ نريدَ من الآخرين أنْ يكونوا مِن رأْيِنا. فالدعوةُ تصعقُني.[47]

الدعوة هي طلبُ الاتِّـباع، أيْ: طلبُ التبعية. كيف يمكن للإنسان أنْ يتَّـبِـعَ حقيقةً ذاقها غيرُه؟! لا يعرِفُ الإنسانُ إلاَّ الطعمَ الذي ذاقَه هو بنفسه لا الذي ذاقَه غيرُه. ولا يملك الإنسانُ في الحقيقةِ إلاَّ الحقيقةَ التي اختبرَها هو بنفسِه. فعلى الإنسانِ أنْ يكتشفَ النبيَّ الذي في داخله لا أنْ يتَّـبعَ نبيًا. فـ"مَن آمنَ بمحمَّـدٍ فإنَّ محمَّـدًا قد ماتَ. ومن آمنَ بالله الذي في داخله فاللهُ حيٌّ لا يموت."[48]

لا يحتاج إلى دعوةٍ إلاَّ الكذبةُ. فالشمسُ لا تحتاج إلى دعوة. فها هي سيمون ﭭـايل، التي قال عنها ألبير كامو Albert Camus (1913 1960) في رسالةٍ إلى والدتها سِلْما Selma عام 1951: "هي أكبرُ عقل في عصرنا" والتي قال عنها الشاعرُ توماس ستيرنز إليوت Thomas Stearns Eliot (1888 1965): "امرأة عبقرية، عبقريتُها أقرب إلى عبقرية القدِّيسين" والتي قال عنها الكاتبُ والصحفيُّ البريطانيُّ توماس مالكوم مادجيريدج Thomas Malcom Muggeridge (1903 1990): "في رأيي، إنها العقل الأكثر إشراقًا في القرن العشرين"، ترى أنَّ الأديانَ التي تُصوِّر الإلهَ آمرًا ناهيًا هي أديان كاذبة حتى وإن ادَّعتِ التوحيدَ فإنها تبقى وثنيةً. واليهوديةُ، دِينُ آبائها، كانت من منظورها أحدَ هذه الأديان الكاذبة.[49] فالشعوبُ تتقمَّصُ صفاتِ آلهتها؛ أو بتعبيرٍ آخر، يصنع الشعبُ إلهَه من رغباته الجمعية المكبوتة. وبالتالي، يدفع الإلهُ الآمِرُ الناهي المتسلِّطُ الأُمَّـةَ المؤْمنةَ به إلى التسلُّط على الأمم الأخرى. فمن الخطورة إذًا الدعوةُ إلى الأديان لأنَّ هذه الدعوة ليست إلاَّ تعميمًا للكذبة. كما أنَّ الدعوة إلى الأديان أو التجمُّعات الإيديولوجية تقتل حرِّيةَ الرأي. تقول سيمون ﭭـايل:

تتطلَّبُ حمايةُ حرِّية الفكر أنْ يكون ممنوعًا بموجب القانون على الجماعة أنْ تعبِّر عن رأي. لأنه عندما تبدأ الجماعةُ بامتلاك آراء، تميلُ لا محالةَ إلى فرضها على أعضائها. فيجد الأفرادُ أنفسَهم عاجلاً أم آجلاً في وضعٍ يُمنَعون فيه، بدرجةِ تشدُّدٍ كبيرةٍ إلى حد ما، وفيما يتعلَّق بمشاكلَ ضخمةٍ نوعًا ما، من التعبير عن آراءٍ تُعارِضُ آراءَ الجماعة ومن الخروج منها على الأقل.[50]

إنَّ الأديان، وخاصةً التوحيدية منها، تلتهم نفوسَ أتباعها بدلاً من أنْ تقدِّمَ لها غذاءً روحيًا. والدعوةُ التي تقوم بها تلك الأديانُ ليست إلاَّ عمليةَ التهامٍ وافتراس لحرِّية الفرد الفكرية والعقائدية.

تقول سيمون ﭭـايل:

إنَّ درجة الاحترام الواجبِ للجماعات الإنسانية عاليةٌ جدًا لعدة اعتبارات. [...] قد يحصلُ أنْ يصِلَ الواجبُ تجاه الجماعة التي تتعرَّض للخطر إلى حد التضحية الكاملة. ولكنْ لا ينتج عن ذلك أنَّ الجماعة فوق الكائن الإنساني.[51] يمكن أيضًا أنْ يتحتَّـمَ على واجبِ إغاثةِ إنسانٍ يتعرَّض لمكروهٍ أنْ يصلَ إلى حد التضحية الكاملة، بدون أنْ يستلزمَ ذلك وجود أية أفضلية للشخص المغاث. [...] ليس من حق أية جماعة على الإطلاق، حتى عند التضحية الكاملة، أيُّ شيء غيرُ الاحترام المماثل للاحترام الواجب للغذاء. ما يحصل في الأعم الأغلب هو انقلاب الأدوار. على العكس تمامًا، تأكل بعضُ الجماعات النفوسَ بدلاً من أنْ تقدِّمَ طعامًا لها. وفي هذه الحالة، يكون هناك مرض اجتماعي، والواجبُ الأول هو محاولة العلاج؛ وفي بعض الحالات قد يكون من الضروري الاسترشاد بالطرق الجراحية. وفي هذه النقطة، يكون واجبُ من هم داخل الجماعة مماثلاً لواجب من هم خارجها. قد تقدِّم الجماعةُ لنفوس أعضائها غذاءً غيرَ كافٍ. عندئذٍ، لا بد من تحسينه. أخيرًا، هناك جماعاتٌ ميِّـتة لا تلتهمُ النفوسَ ولكنها بالمقابل لا تغذِّيها. فإذا ثَـبُـتَ يقينًا أنها ماتت فعلاً وأنَّ الأمر ليس سُباتًا [مرَضيَّـًا] عابرًا فلا بد في هذه الحالة فقط من إلغائها.[52]

تشير الوقائع إلى أنَّ أدياننا الحالية ميِّتة، وإذا كان فيها جزءٌ لا يزال حيًا فإنَّ هذا الجزءَ لا يقوم سوى بأكل الفرد من دون أنْ يقدِّمَ له أيَّ غذاء ومن دون أنْ يسمحَ له بالخروج. وبالتالي لا بدَّ لإنقاذ الفرد من إعادة النظر في الأديان والتجمُّعات الإيديولوجية.[53] وقد أدرك أدونيسُ خطورةَ الأديان التوحيدية التي "لم تُنتِجْ سوى الحروب والدمار، تضع العالَم أمام باب مغلق، تختزله في رؤية محددة، فهي إيذان بانحطاط البشرية". فيرى أدونيس بأن الأديان الوحدانية شاخت، ولا يمكن حل مشكلات عالَم اليوم إلا بإعادة النظر جذريًا في الرؤية الوحدانية للإنسان والعالَم.[54]

الدِّينُ، كما يراه لودﭭيغ أندرياس فويرباخ Ludwig Andreas Feuerbach (1804 – 1872)، وفريديريك فيلهلم نيتشه Friedrich Wilhelm Nietzsche (1844 – 1900) وكارل ماركس Karl Heinrich Marx (1818 – 1883) وغيرُهم، مَظْهَرٌ من مظاهر الجهل والسذاجة وضرْبٌ من ضروب الوهم. فيراه ماركسُ كبتًا اجتماعيًا ومُخدِّرًا ("أفيون الشعوب")، فهو إذًا حلٌّ وهميٌّ لشقاء العالَم. ويراه سيغموند فرويد Sigmund Freud (1856 – 1939) عُصابًا névrose استحواذيًا [وسواسيًا] obsessionnelle للبشرية، حيث أنَّ الله ليس سوى صورةٍ عن "الأب" الذي يحمي "ابنَه" الإنسان. ويرى باروخ سـﭙـينوزا Baruch Spinoza (1632 – 1677) بأنَّ الله هو الطبيعة. ويرى إيمانويل [عمانوئيل] كانط Emmanuel [Immanuel] Kant (1724 – 1804) في كتابه نقد العقل المحض عبثيةَ البحث عن دليل أُنطولوجي لوجود اللهِ، فاللهُ، في رأيه، وكأية مسألة ميتافيزيقية، غيرُ خاضع للمعرفة، بل للإيمان. إذْ يرى [فرانسوا ماري أرويه] ﭭولتير [François Marie Arouet] Voltaire (1694 – 1778) أيضًا بأنَّه لو لم يكن الله موجودًا لكان لا بد من اختراعه. الدِّينُ إذًا ظاهرة اجتماعية معقَّدة جدًا تُعبِّـر عن التطلُّعات غيرِ المحقَّقة للجماعة. وبما أنَّ لكلِّ جماعة تطلُّعاتِها الخاصةَ بها وكبتَها الاجتماعيَّ الخاصَّ بها وكارماها الجمعيةَ الخاصةَ بها وتعقيداتَها الخاصةَ بها، فمن الحماقة إذًا أنْ تُفرَضَ على جماعةٍ ما تطلُّعاتٌ لا تمتُّ بِصِلةٍ إلى تطلُّعاتها لا من قريب ولا من بعيد. كيف يمكن إذًا التبشير بفكرة المسيح المخلِّص، على سبيل المثال، عند شعب الصين (أو اليابان أو أفريقيا)، إذْ يُـعَـدُّ المسيحُ غريبًا تمامًا عن ثقافتهم؟!!

هل الدعوة حق؟ وإلى أي مدى يمكن ممارسته؟

يتكوَّنُ الإنسانُ من كلٍّ متكامل يتألَّفُ من عدة أجسام أو هياكل أو بُنَى أو مَرْكبات أو مستويات [تدرُّجات] طاقة، قَسَّمَها الثيوصوفيون إلى سبع مَرْكبات لسهولة الدراسة؛ هذه المَرْكباتُ السبع تتدرَّجُ من الأثقل الأكثف (الجِسْم المادي أو الجَسَد أو البَدَن أو الجِسْم الجُرْمي) إلى الألطف الأخفِّ الأشفِّ (الروح أو الجوهر).[55]

لكلِّ جسم من هذه الأجسام السبعة قوانينُ محدَّدة ولباسٌ خاص به على مقاسه. فلباسُ البدن الثيابُ التي ينبغي أنْ تكونَ على مقاسه وأنْ تلبِّيَ حاجاتِه من دفءٍ وحماية. كذلك لكل جسم من الأجسام الأخرى لباسُه الذي لا بد لكي يفيدَه من أنْ يكونَ على مقاسه. وبذلك ينبغي أنْ يلبسَ الجسمُ العقلي أفكارًا بحسب مقدراته، أو بالأحرى لا يمكنه أنْ يلبسَ أفكارًا أعلى من قدراته. ولهذا قال نبيُّ الإسلام: "أُمِرْنا أنْ نكلِّمَ الناسَ على قدر عقولِهم."[56] أيْ: لكلِّ عقلٍ لباسٌ على مقاسه. كذلك على قدر استعداد المرء يتنزَّلُ الفيضُ الإلهيُّ (بحسب الصوفية) و"على قدْر أهل العزْم تأتي العزائمُ" (بحسب المتنبِّي). يجب وصلُ الأداة الكهربائية، لكي تعملَ كما ينبغي، بتيار كهربائي على قدر استطاعتها. وعليه فليس من حقِّ الداعية أو المبشِّر أنْ يُلبِـسَ الآخرَ لباسًا فكريًا أو عقائديًا لا يناسبُه.

من حقِّ صُنَّـاع الثياب وتُجَّارِها أنْ يَعْرِضوا بدون إكراهٍ ولا غِشٍّ بضاعتَهم ويبثُّوا لها دعاياتٍ نزيهةً حياديةً صادقةً غيرَ مضلِّلة. ترى سيمون ﭭـايل أنه "ينبغي أنْ يقيِّـدَ القانونُ الإعلانَ تقييدًا صارمًا وينبغي أنْ يقتصرَ الناسُ على أقلِّ قدر ممكن منه ويجب أنْ يُمنَع الإعلانُ منعًا باتًا من التطرُّق أبدًا إلى مواضيعَ تتعلَّق بمجال الفكر".[57]

وكذلك من حق المستهلك أنْ يرفضَ الثوبَ الذي لا يناسبُ بدنَه. قياسًا على ذلك، فإنَّ ما ينطبقُ على الجسم المادي الكثيف ينطبق على الأجسام الأخرى الأخفّ، لأنه "كما في السماء كذلك على الأرض"[58] (بحسب المسيحية) ولأنه "كما في الأعلى كذلك في الأدنى" (بحسب الثيوصوفيا والخيمياء). وبهذا المعنى، يحقُّ لصُنَّـاع الأفكار والأديان أنْ يَعرِضوا أفكارَهم وعقائدَهم في كُتُب بدون أنْ يفرِضوها على أحد سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ويحق لهم أنْ يصنعوا لها دعايةً شريفةً نزيهةً غيرَ مضلِّلة ولا مخدِّرة. بالمقابل، يحقُّ لأيِّ إنسان، بصفته كائنًا حرًا، أنْ يختارَ، بدون ضغط أو إكراه أو إرهاب، الفكرةَ التي تناسبُ مقاسَ جسمِه العقلي وجسمِه الرغائبي، أو لنقلْ تناسب نفسَه. وبالتالي فإنَّ فكرةَ "مَن بدَّلَ دِينَه فاقتلوه"[59] فكرةٌ باطلةٌ وُضِعَتْ لأسبابٍ سياسية تسلُّطية بحتة، باطلةٌ لأنها تتعارَضُ تعارُضًا صارخًا مع أهمِّ حاجة من حاجات النفس البشرية وأقْدَسِها ألا وهي الحرِّية[60]. وإنَّ فكرةَ "لا إكراهَ في الدِّين قد تبيَّنَ الرُّشْدُ من الغيّ"[61] لهي فكرةٌ صحيحةٌ لأنها تنسجم مع الحرِّية، الحاجة الخالدة للنفس. فأنتَ يحق لكَ الدعوةُ لفكرتكَ والدعايةُ لبضاعتكَ وأنا يحقُّ لي رفضُها أو قَبولُها. أصلاً إذا أعجبَـتْني بضاعتُكَ فسأدفع لكَ السعرَ الذي تريد؛ وإذا لم تعجبْـني فسأرفضُها حتى ولو قدَّمْـتَـها لي مجانًا. فكيف إذا فرضْتَ عليَّ فكرتَكَ الدينيةَ أو الإيديولوجية فرضًا؟!!! إنني سأتظاهر بقبولها، أي سأنافق، وهذا حقي لأحميَ نفسيَ من إرهابكَ، إذا لم أستطعْ رفضَها ومواجهتَكَ.

كان نبيُّ الإسلام يحضُّ على عدم الغش في البيع[62] وعلى إظهار عيوب السلعة ومزاياها. الأخطرُ من ذلك حاليًا أنهم لا يقومون بإخفاء عيوب السلعة فحسب ولكنهم يعرِضون لها مزايا مزيَّـفة ومضلِّلة من خلال الدعاية.

يجب على الإنسان أنْ يكون يقظًا حاضرًا منتبهًا لخطورة السموم الموجودة في الدعاية وفي الدعوة والتبشير. فالتُّـجَّـارُ والصُّـنَّـاعُ وصُنَّـاعُ الدعاية والدُّعاةُ والمبشِّرون يضعون مخدِّرًا في الدعاية لكي يُخدِّروا المستهلكَ أو الزبونَ فيصبحَ أداةً طائعةً بين أيديهم. فالإنسانُ غيرُ المنتبه لا يرى الأفكارَ السامَّةَ الخطيرةَ في الدِّين الذي يُدْعَى إليه فيقبلَه كما هو عن ضعفٍ وخُمولٍ فكريٍّ منه فيصبحَ أشبهَ بعقرب الماء أو سرطان البحر [السلطعون أو الكَرَكَنْد أو جراد البحر] le homard (lobster) الذي يُسْـلَق وهو حيّ؛ حيث أنَّ الطاهيَ يضع السلطعونَ في ماء بارد ثم يبدأ بتسخينه تدريجيًا حتى الغليان. في البداية، قد يرتاح سرطانُ البحر لدفء الماء المعتدل، ثم لا يلبث أنْ يتخدَّرَ ثم يُسْـلقَ وهو لا يدرك ذلك.[63]

يلجأ الداعيةُ والمبشِّر إلى حِيَـلٍ خطيرةٍ فيستغلُّ خوفَ الشخص المدعوِّ وسُباتَه الفكري، وربما يغريه ببعض المغريات. فالإنسانُ يؤْمنُ إيمانًا أعمىً[64] نتيجةَ كسل فكري وجهل منه، إذْ يقولُ له ذهنُه: "إذا كان هذا الدِّينُ يؤْمن به مليارُ إنسان فلا بد أنْ يكونَ دِينَ حق بالتأكيد لأنه ليس معقولاً أنْ يكون كلُّ هذا العدد الهائل من المؤْمنين على خطأ وأكون أنا على صواب"، فيأخذ ذلك الشخصُ الكسولُ الدِّينَ على عِلاَّتِه بسمومه وترياقه ويَـقْـبَـلُه قبولاً أعمى؛ ولو كان حاضرًا منتبهًا لتفحَّصَ ونظرَ ولوجدَ في الدِّين الذي كان قد قَبِلَه بدون تفكير وتحت تأثير فخِّ حضورِه الديموغرافي فكرةً تُفنِّد العنصرَ الديموغرافي كدليل على صحة الدين: "ولكنَّ أكثرَهم لا يَـعْـلَمون."[65]

بالفعل، إنَّ أكثرَ الناس لا يَـعْـلَمون.

إنَّ ما يميِّـزُ الجماعاتِ البشريةَ عن التجمُّعاتِ الحيوانيةِ هو أنَّ كلَّ جماعةٍ إنسانية تختلف عن الأخرى وأنَّ كلَّ فرد يختلف عن الآخر حتى في قلب الجماعة الواحدة. فلماذا يريد الدُّعاةُ والمبشِّرون أنْ يجعلوا الجماعاتِ الإنسانيةَ تهبط إلى حالةٍ قطيعيةٍ يكونُ كلُّ "رأس" فيها نسخةً عن الآخر؟!! ليس من الصعب أنْ يجِدَ المرءُ في اللغة الدينية عباراتٍ تؤكِّد ذلك، مثل: "الراعي الصالح"، "الخروف الضال"، "حمَـل الله"، "حظيرة الإسلام"، "خِراف المسيح"، إلخ...

قد يلجأ أتباعُ الفكرة الضعيفة إلى عدة أساليبَ لتقويتها إحداها اللجوء إلى العنصر الديموغرافي من خلال نشرِها وتعميمها. فيركِّزُ الدعاةُ والمبشِّرون لنشر معتقداتِهم على القول أكثرَ من العمل. ("يا أيها الذين آمَنوا لِـمَ تقولون ما لا تفعلون؟! كَـبُـرَ مقتًا عند الله أنْ تقولوا ما لا تفعلون."[66]) وإذا قاموا بعمل خيري ما فإنما يقومون به لغايةٍ تخدم نشْرَ أيديولوجيتهم. فأمَّـا فيما يخصُّ الدعوةَ بالقول والعمل معًا فقد وردَ في المنقول الإسلامي أنَّ النبيَّ أمرَ أصحابَه فقال: "انحروا الهَدْيَ [قربان الإبل أو الغنم][67] واحِلقوا." فوالله ما قام رَجُـلٌ منهم [...] فقام رسولُ الله فدخلَ على أُمِّ سَلَمة فقال: "ما لقيتُ من الناس." قالت أُمُّ سلمة: "أوَتُحِبُّ ذاك؟ اخرُجْ ولا تُكلِّمَنَّ أحدًا منهم كلمةً حتى تنحرَ بُدْنَكَ [الإبل أو الغنم المسمَّنة] وتدعوَ حالقَكَ. فقامَ النبيُّ فخرجَ ولم يكلِّمْ أحدًا منهم حتى نحرَ بُـدْنَه ثم دعا حالقَه فحلقَه. فلما رأى الناسُ ذلك جعلَ بعضُهم يحلِقُ بعضًا حتى كاد بعضُهم يقتلُ بعضًا.[68] وأمَّـا فيما يخصُّ الغايةَ من الدعوة فقد ورَدَ أيضًا في المنقول الإسلامي حديث عن أبي هريرةَ عن النبي أنَّ أولَ مَن تُسعر بهم النارُ يومَ القيامة ثلاثة: شهيد وعالِم وجواد. يأتي يومُ القيامة ويسأل اللهُ الأولَ: "يا فلان! ألمْ أُعطِكَ نعمةَ القوة وكذا وكذا؟" فيجيب: "بلى يا رب!" فيسألُه اللهُ: "ماذا فعلْتَ بها؟" يقول: "قاتلْتُ في سبيلكَ حتى قُتِـلْتُ." فيقولُ اللهُ له: "كذبْتَ، بل قاتلْتَ لكي يقالَ عنك شجاع؛ وقد قيل." ويؤخَذُ إلى النار. والثاني العالِم يقول اللهُ له: "يا فلان! لقد أعطيتُـكَ نعمةَ العِلْم وكذا وكذا." فيقول: "بلى يا رب!" فيسأله: "ماذا فعلْتَ؟" قال: "علَّمْـتُ عبادَكَ ابتغاءَ وجهِكَ." فيقول الله له: "كذبْتَ، بل فعلْتَ ما فعلْتَ ليقالَ لك عالم؛ وقد قيل." فيؤخَذ إلى النار. والثالث رجل جواد يقول اللهُ له: "يا فلان! لقد أعطيتُـكَ نعمةَ المال ونعمةَ كذا وكذا." فيقول العبد: "بلى يا رب!" فيسأله الله: "وماذا فعلْتَ بها؟" يقول: "أنفقْتُ في سبيلِكَ." يقول اللهُ: "كذبْتَ، بل أنفقْتَ ليقال عنكَ رجلٌ جواد؛ وقد قيل." فيؤخذ إلى النار.

كما رُوِيَ عن أبي هريرة، في الثلاثة الذين يدخلون النار، ومنهم قارئ القرآن حيث يقول الله له: "قرأتَ ليقالَ عنكَ قارئ وقد قيل." ثم يُسحب على وجهه فيُطرح في نار جهنم.[69]

إنَّ أفضل دعوة وتبشير هو ما كان بالعمل والسلوك بدون أي كلام وبدون أية غاية، من خلال إطعام جائع أو إغاثة ملهوف، مثلاً، من خلال مساعدةِ الإنسانِ أخاه الإنسانَ بدون قيد أو شرط أو غاية. جاء في الحديث: "هلكَ الناسُ إلاَّ العالِمون، وهلكَ العالمون إلاَّ العاملون، وهلكَ العاملون إلاَّ الموحِّدون، وهلكَ الموحِّدون إلاَّ المخْـلِصون، والمخْـلِصون على خطر عظيم."

يعيش المؤْمنُ بإحدى الأديان "التوحيدية" السَّـامِـيَّـةِ بصورةٍ خاصة، وغالبًا مِن دونِ أنْ يدريَ، حالةَ تمزُّقٍ داخلي لا مثيلَ لها، إذْ إنه يعيشُ طقوسَ العصر الحديث لابسًا قَناعاتِ القرون الوسطى. فتدفعه نفْسُه، في محاولةٍ للخروج من هذا "الفُصام" والتمزق أو لتخفيفِه، إمَّـا إلى مواءمة قَناعاته القديمة مع الزمان والمكان الذَينِ يعيش فيهما وإلى الدعوة السِّلْمية إليها كي يعوِّضَ النقصَ في النوعية بزيادة في الكمية، أيْ بتقوية فكرته من خلال حضورها الكمي الديموغرافي لا من خلال منطقيتها أو مناسبتها للعصر، وإمَّـا يلجأ إلى العنف لفرض قناعاته. فيما يتعلَّقُ بالإسلام، يَخْـلُصُ اثنان من الباحثين أخذا اسمًا مستعارًا هو محمود حسين Mahmoud Hussein إلى أنَّ "المسْـلِمَ الذي يعيش هذا الكلامَ [أي: القرآن] في أمكنةٍ أخرى وعصور أخرى [غيرِ مكان ظهور القرآن وزمانه] ينبغي عليه أنْ يقومَ بجهد تأويلي لكي يوافقَه مع ظروف الحياة المتغيرة."[70]

لقد طغى سُعارُ الاستهلاك في عصرنا على جميع مناحي الحياة. فصارت الروحانياتُ والأديانُ سِلَعًا تُعْرَض ويُرَوَّجُ لها وتباع وتُشرَى. وصارَ رجالُ الدين تُجَّارًا يبيعون معتقداتٍ وأفكارًا فهم إمَّا مُـفْـتُون أو دعاةٌ أو مبشِّرون أو منظِّرون أو خُطَباء... يورِدُ المنقولُ الإسلاميُّ نبوءةً تُـلْـفِتُ الانتباهَ: عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله: "يوشك أنْ يأتيَ على الناس زمانٌ لا يبقى من الإسلام إلاَّ اسمُه ولا يبقى من القرآن إلاَّ رسمُه. مساجدُهم عامرة وهي خراب من الهُدَى. علماؤهم شَرُّ مَن تحت أديم السماء. مِن عندِهم تخرج الفتنةُ وفيهم تعود."[71] وورَدَ أيضًا: "سيأتي زمانٌ قليلٌ فقهاؤه كثيرٌ خُطَباؤه، كثيرٌ سُؤَّالُه قليلٌ معطوه. العِلْـمُ فيه خيرٌ من العمل."[72]

يؤكد الأب ﭙـاولو دالوليو Paolo Dall'Oglio:

تتدفَقُ اليوم الموجةُ الاستهلاكيةُ وتسليعُ الكائنِ الإنسانيِّ تدفُّقَ يأجوجَ ومأجوجَ تمامًا ضاربةً كل ما هو روحي إلى درجة أنَّ الحاجة الروحية نفسها أصبحَتْ غرضًا لنشاط تجاري.[73]

ألسنا نعيشُ اليومَ في زمانٍ تتحقَّقُ فيه نبوءةُ نبي الإسلام، زمانٍ يكثرُ فيه الدُّعاةُ ويقِلُّ الإيمان؟! "ولكنَّ أكثرَ الناس لا يعلمون."[74]

*** *** ***


 

horizontal rule

٭ La grippe du prosélytisme, Influenza of proselytism.

[1] سورة الروم، الآية 22.

[2] المائدة، 48.

[3]  فاعلُ الفعل يشاء يعود على الضمير مَنْ وليس على الله. والمعنى أنَّ اللهَ يُضِلُّ الإنسانَ الذي يشاء لنفسه الضلالَ ويهدي الإنسانَ الذي يشاء لنفسه الهدايةَ.

[4] النحل، 93.

[5] في بعض اللهجات السورية، وخاصةً في منطقة جبال القلمون L'Anti-Liban وحتى في منطقة سوريا الوسطى أو المجوَّفة Cœlé-Syrie، يُعبِّرون عن بكاء الطفل المنخفض والمتواتر بالفعل "يبَوِّي" أو "يبَوبي"،

وهو محاكاة صوتية لصوت الطفل، وربما يقابِلُ الفعلَ "نقَّ" "ينقُّ"، يقال للطفل وللبالغ أيضًا وخاصةً المرأة. ولا صلةَ له طبعًا بالفعل الفرنسي aboyer المستخدَم للتعبير عن صوت الكلب.

[6] هرمس المثلث (لأنه كان يصف الله بثلاث صفات ذاتية هي الوجود والحكمة والحياة) أو هرمس طريسميجيسطيس Hermès Trismégiste (Mercurius ter Maximus) أو هرمس الهرامسة: هو هرمس الحكيم

الذي قيل أنه هو النبي إدريس وهو أخنوخ وهو بوذاسيف. فقد تنازعتْ الأممُ هرمسَ فاعتُبِرَ مصريًا وبابليًا وفارسيًا وهنديًا ويونانيًا ورومانيًا. ونُسِبَ إليه علم الطب والفلك والفلسفة والحكمة. يقال إنَّ هناك أكثرَ من هرمس. لم يُذْكَرْ اسمُ "هرمس" في القرآن ولا في الحديث. ولكنْ ذُكِرَ إدريس في القرآن: "واذكُرْ في الكِتَاب إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيَّـًا." (مريم، 56) ورُويَ في الحديث أنّه هو النبيّ الذي كان يخط بالرمل. وهرمس الهرامسة هذا هو غير الإله "هرمس" (أو "هيرميز")، مراسل الآلهة اليونان في أساطير الميثولوجيا الإغريقية القديمة، وهو ابن زيوس ومايا بنت الجبار أطلس (من جبابرة Titans الإغريق). يخدم "هيرميز" لدى زيوس مراسلاً وخادمًا خاصًا له وينقل أرواحَ الموتى إلى العالم السفلي. وكان يُعتَقد أنه يملك قوى سحرية على النوم والأحلام. كما عُرِفَ "هيرميز" بأنه إله التجارة أيضًا وحامي القوافل والقطعان ومعبود الرياضيين وحامي الساحات الرياضية بنوعيها: الجيمنازيوم والإستاديوم. وكان يُعتقَد أن يمنح الحظ الحسن. (عن موسوعة ويكيبيديا)

[8] أنطوني دو مِلُّو Anthony De Mello، كتاب أغنيَّة الطائر Comme un chant d'oiseau -The Song of the Bird، بترجمة أديب الخوري، سلسلة "الحكمة" 3، دار مكتبة إيزيس، دمشق، 2000.

[9] سورة الأنبياء، الآية 52.

[10] سورة الأنبياء، الآية 53. وهذه الآية هي رد قوم إبراهيم على سؤال إبراهيمَ لهم: "إذْ قال لأبيه وقومه: ما هذه التماثيلُ التي أنتم لها عاكفون؟!" (الأنبياء، 52) وما أكثرَ التماثيلَ الفكريةَ والدينيةَ والقوميةَ في

عصرنا. "قالوا: وجدْنا آباءنا لها عابدين." فردَّ إبراهيمُ عليهم: "قال: لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبيْن." (الأنبياء، 54) نلاحظ أنَّ القرآن ينتـقد في أكثر من موضع اتِّباعَ الإنسان الأعمى لدِين آبائه: "قالوا: يا صالحُ قد كنتَ فينا مرجوَّاً قبلَ هذا. أتـنهانا أنْ نعبدَ ما يعبدُ آباؤنا؟! وإننا لفي شكٍّ مما تدْعونا إليه مريب." (هود، 62) "وإذا قيل لهم: اتَّبِعوا ما أنزلَ اللهُ قالوا: بل نتَّبع ما ألفَينا عليه آباءنا. أَوَلَو كان أباؤهم لا يَعْـقِلون شيئًا ولا يهتدون." (البقرة، 170) ومعنى: "أَوَلَو كان أباؤهم لا يَعْـقلون..." هو: أيتَّبعون آباءهم [التقاليد] حتى ولو كانوا لا يعقلون شيئًا!!! "وإذا قيل لهم: تعالَوا إلى ما أنزلَ اللهُ وإلى الرسول قالوا: حسبُـنا ما وجدنا عليه آباءنا. أَوَلَو كان أباؤهم لا يَعْـلمون شيئًا ولا يهتدون." (المائدة، 104) "وإذا فعلوا فاحشةً قالوا: وجدْنا عليها آباءنا واللهُ أمرَنا بها. قل: إنَّ الله لا يأمر بالفحشاء. أتقولون على الله ما لا تَعْـلمون؟!" (الأعراف، 28) "قالوا: أَجِئْتَـنا لِتَـلْـفِـتَـنا عما وجدنا عليه آباءنا؟!" (يونس، 78) "قالوا: بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون." (الشعراء، 74) "قالوا: بل نتَّبع ما وجدنا عليه آباءنا." (لقمان، 21) "بل قالوا: إنَّا وجدْنا آباءنا على أُمَّـةٍ [ملَّة أو دِين] وإنَّا على آثارهم مهتدون." (الزُّخرُف، 22) "وكذلك ما أرسلْنا من قبلكَ في قريةٍ من نذيرٍ إلاَّ قال متْرَفوها: إنَّا وجدنا آباءنا على أُمَّةٍ وإنَّا على آثارهم مقتدون." (الزُّخرُف، 23)

[11] سورة فُصِّلَتْ، 33.

[12] سورة النور، 35.

[13] سورة الشورى، 11.

[14] مريم، 65.

[15] عن الموقع العالمي للدراسات الشيعية، حول موضوع وحدانية الله: أولُ الدين معرفتُه، وكمالُ معرفتِه التصديقُ به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاصُ له، وكمال الإخلاص له نفيُ

الصفات عنه، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمَن وصفَ اللهَ سبحانه فقد قرَنَه، ومَن قرَنَه فقد ثَـنَّـاه، ومن ثَـنَّـاه فقد جزَّأه، ومن جزَّأه فقدْ جَهِلَه، ومَن جَهِلَه فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حدَّه، ومَن حَـدَّه فقدْ عَـدَّه، ومن قال: "فيم؟" فقدْ ضَـمَّـنه، ومن قال: "عَـلام؟" فقد أخلى منه.

[16] سورة البقرة، الآية 115.

[17] من مقال بعنوان: خاتَم الإله، مفهوم "الشهادة" بين سيمون فايل وسورِن كيركِغور، ديمتري أﭭـييرينوس، موقع معابر. وشاهد سيمون فايل مستقَى من: Cahiers, P. 143.

[18] رواه البخاري: حدثني محمد بن عبد الرحيم ‏حدثنا ‏أبو زيد سعيد بن الربيع الهروي حدثنا ‏شعبة عن ‏قتادة عن أنس ‏رضي الله عنه عن النبي ‏صلى الله عليه وسلَّم ‏يرويه عن ربِّه قال: "‏إذا تقرَّبَ العبد إليَّ شِبْرًا

تقرَّبْتُ إليه ذراعًا... إلى آخر الحديث.

[19] حديث رواه البخاري عن عبد الله بن عمر، الحديث رقم 496 والحديث رقم 243.

[20] النحل، 125.

[21] البقرة، 256.

[22] المائدة، 28.

[23] يقول ابن عربي: "- لقد صارَ قلبي قابلاً كلَّ صورةٍ، / فمرعىً لغزلانٍ وديرٌ لرهبانِ. / - وبيـتٌ لأوثانٍ وكعبةُ طائفٍ / وألواحُ توارةٍ ومصحفُ قرآن. / - أدينُ بدِينِ الحُبِّ أنَّى توجَّهَتْ / ركائبُه فالحُبُّ ديني

وإيماني. (ديوان ابن عربي: ذخائر الأعلاق، شرح ترجمان الأشواق، الدكتور محمد علم الدين الشقيري ط1/ 1995، ص. 245 – 246).

[24] سورة الغاشية، 21، 22.

[25] سورة البقرة، 272.

[26] القَصص، الآية 56.

[27] يونس، 43.

[28] الزُّخْرف، 40.

[29] فاطر، 8.

[30] الكهف، 6.

[31] الشعراء، 3.

[32] سيمون ﭭـايل، مختارات، رسالة إلى رجل دِين، ص. 132، 133، 134، بترجمة محمد علي عبد الجليل، منشورات دار معابر للنشر، دمشق، 2009.

[33] رواه البخاري ومسلم واللفظ له.

[34] سورة الروم : آية 30.

[35] الفطري مقابلٌ للمكتسَب. مادة: (فطر). المعجم المدرسي، وزارة التربية السورية، 1985.

[36] متَّى، 7، 2.

[37] الزلزلة، 7، 8.

[38] كتاب تفسير القرآن، عبد الرزاق الصنعاني، حديث رقم 3573، عن عبد الرزاق بن معمّر عن زيد بن أسلم.

[39] عبد الله القصيمي (1907 – 1996): مفكِّر سعودي يُـعتبَـر من أكثر المفكرين العرب إثارةً للجدل وذلك بسبب انقلابه من موقع النصير المدافع عن السلفية والإيمان الأعمى إلى الإلحاد والعقل،

وكذلك بسبب مؤلَّفاته التي تـنتـقد العربَ والدين، وأشهرُها: العرب ظاهرة صوتية، أيها العقل! مَن رآك؟.

[40] الشعراء، 3.

[41] فاطر، 8.

[42] سورة البقرة، 272.

[43] يوحنا 10: 14، 27.

[44] مرقس 3: 14.

[45] الشاهد مأخوذ عن مقال: خاتَم الإله، مفهوم "الشهادة" بين سيمون فايل وسورِن كيركِغور، ديمتري أﭭـييرينوس، موقع معابر.

[46]  ﭙول ﭭـاليري Paul VALÉRY: كاتب وشاعر وفيلسوف فرنسي ولد في سيت Sète (هيرولت [ليرو] l'Hérault) بتاريخ 30 تشرين الأول 1871 من أب فرنسي وأم إيطالية (يقول: "لقد وُلِدتُ في مكان

من تلك الأمكنة التي أُحِبُّ أن أُوْلَد فيها."). وتُوفيَ في باريس بتاريخ 20 تموز 1945. يُـعَـدُّ أحدَ زعماءِ المدرسة الرمزية في الشعر الفرنسي الذي تألق قبل الحرب العالمية الأولى. من دواوينه الشعرية: La Soirée avec monsieur Teste [السهرة مع السيد تيست]، Album de vers anciens [ألبوم أبيات قديمة]، La Jeune Parque [ﭙـارك الشابة]، Charmes [مفاتن]، Eupalinos ou l'Architecte [أوﭙـالينوس]، L'Âme et la danse [النفس والرقص]، Le Cimetière marin [المقبرة البحرية]، فاوست. ومن أهم أعماله: "دفاتر" في جزأين.

[47] ﭙول ﭭـاليري Paul VALÉRY، رومب [وجهات الريح] Rhumbs، ص 258. والنص الفرنسي هو:

«Je trouve indigne de vouloir que les autres soient de notre avis. Le prosélytisme m'étonne.»

[48]  إشارةً إلى قول خليفة المسلمين الأول "أبي بكر" عندما مات نبيُّ الإسلام: "ألا مَن كان يعبد محمدًا فإنَّ محمدًا قد ماتَ ومَن كان يعبد اللهَ فإنَّ اللهَ حيٌّ لا يموت." رَوى البخاريُّ في صحيحه

(كتاب المناقب، باب قول النبي: "لو كنْتُ متَّخذًا خليلاً"): عن عائشةَ أنَّ رسول الله ماتَ وأبو بكْرٍ بالسُّـنْحِ، قال: إسماعيلُ يَعْـني بالعالية فقامَ عُمَرُ يقول: واللهِ ما ماتَ رسولُ الله، قالتْ: وقال عُمَرُ: واللهِ ما كان يقع في نفسي إلاَّ ذاك، ولَـيَـبْـعَـثَـنَّـه اللهُ، فَـلَيَـقْـطَـعَنَّ أيديَ رجالٍ وأرجُـلَهم، فجاء أبو بكْرٍ فكشفَ عن رسول الله فقـبَّـلَه، قالَ: بأبي أنتَ وأمِّي، طِبْـتَ حَـيَّـًا وميِّـتًا، والذي نفسي بيَدِه لا يُـذيقُـكَ اللهُ الموتـتينِ أبدًا، ثم خرجَ فقالَ: أيُّـها الحالفُ على رِسْـلِكَ، فلما تكلَّم أبو بَكْرٍ جلسَ عُمَرُ، فَحَمِدَ اللهَ أبو بَكْرٍ وأثْـنى عليه، وقال: ألا مَنْ كانَ يَـعْـبُـدُ مُـحَـمَّـدًا صلّى الله عليه وسلّم فإنَّ مُـحَـمَّـدًا قد ماتَ، ومَنْ كانَ يَـعْـبُـدُ اللهَ فإنَّ اللهَ حَيٌّ لا يَمُوتُ، وقال: "إنكَ مَـيِّـتٌ وإنّهم ميِّـتون." [الزمر، 30]، وقالَ: "وما مُـحَـمَّـدٌ إلاَّ رسولٌ قد خلَتْ مِنْ قبْـلِه الرُّسُـلُ أفإِنْ ماتَ أو قُـتِـلَ انْـقَـلَـبْـتُم على أعقابِكم، ومَنْ يَـنْـقَـلِِبْ على عَـقِـبَـيه فلن يَضُـرَّ اللهَ شيئًا وسيجزي اللهُ الشاكرين." [آل عمران، 144]، قال: فَنَشَجَ الناسُ يبكون.

[49] من مقدِّمة أكرم أنطاكي لكتاب: سيمون ﭭـايل، مختارات، الصادر عن دار معابر للنشر، 2009، ص 23.

[50] من كتاب: L'enracinement [التجذُر]، الجزء الأول Les besoins de l'âme [حاجات النفس]، باب Liberté d'opinion [حرِّية الرأي]، سيمون ﭭـايل.

[51] يبدو أنَّ خليفة المسلمين الثاني عمر بن الخطاب كان يعي أنَّ الكائن الإنساني أعلى من الجماعة حينما قال في إقامة الحد على مجموعة رجال قتلوا رجُـلاً غِيلةً [بالخديعة] (مع التحفظ على مسألة الإعدام):

"واللهِ لو تمالأَ [تساعدَ وتشاوَرَ] عليه أهلُ صنعاء لقتلْـتُهم جميعًا." رواه مالكُ في "مُـوَطَّـئه" والشافعيُّ في "مُسنَده" وذكرَه البخاريُّ في "صحيحه" في "كتاب الديات". وقد جاء في القرآن: "مِن أجْـل ذلكَ كَتَـبْـنا على بني إِسرائيلَ أنه مَن قَتلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أو فَسادٍ في الأرضِ فكأنما قَتَلَ الناسَ جميعًا ومَن أحياها فكأنما أحيا الناسَ جميعًا." (سورة المائدة، الآية 32).

[52] من كتاب: L'enracinement [التجذُر]، الجزء الأول Les besoins de l'âme [حاجات النفس]. المرجع المذكور.

[53] ترى سيمون ﭭـايل، في المرجع المذكور آنفًا، بشأن حرِّية الرأي بأنَّ "الحل العملي المباشر هو إلغاء الأحزاب السياسية. فصراع الأحزاب، على غرار ما كان موجودًا في الجمهورية الفرنسية الثالثة

la Troisième République، أمرٌ لا يطاق؛ إذْ إنَّ الحزبَ الواحد الذي هو النتيجة الحتمية لهذا الصراع هو درجة قصوى من الشر."

[54] عن مقالة بعنوان: رؤية أدونيس النقدية للديانات التوحيدية. هيمنة العنف والتكفير باسم التوحيد، رشيد بوطيب، موقع قنطرة، 2008.

[55] هذه الأجسام هي من الأدنى الأكثف إلى الأعلى الألطف: (1)-الجسم الفيزيقي physical أو المادي؛ (2)-الجسم الأثيري etheric أو البرانا prana، طاقة الحياة؛ (3)-الجسم النوراني، النجمي astral؛ (4)-الجسم

العقلي الأدنى lower Manas أو الجسم الرغائبي؛ (5)-الجسم العقلي الأعلى higher Manas أو الجسم العقلي؛ (6)-الجسم البودهي Buddhi أو الجسم الإشراقي؛ (7)-الجسم الآتمي Atma، الآتما أو الروح. وقد قسَّم بولسُ الرسولُ والمسْـلمون أيضًا الإنسانَ إلى ثلاثة أقسام هي: جِسْمٌ (الجسم المادي والجسم الأثيري والجسم النجمي) ونَفْسٌ (الجسم الرغائبي والجسم العقلي والإشراقي) وروحٌ (أتما). (عن موقع معابر: مقال دراسات ثيوصوفية، هياكل الإنسان السبعة، جهاد الياس الشيخ: http://www.maaber.org/eleventh_issue/spiritual_traditions2.htm.)

[56] حديث رواه الديلمي عن ابن عباس.

[57] سيمون ﭭـايل، المرجع المذكور.

[58] الصلاة الربية: "أبانا الذي في السموات، ليتقدَّسْ اسمُكَ، ليأتِ ملكوتُكَ، لتكنْ مشيئتُـك، كما في السماء كذلك على الأرض، أعطِنا خبزَنا كفافَ يومنا، واغفرْ لنا خطايانا، كما نحن أيضًا نغفر لمن أخطأ إلينا،

ولا تدخلنا في التجربة، ولكن نجِّـنا من الشرير، لأنَّ لك المُلك والقدرة والمجد إلى أبد الدهور." (إنجيل لوقا، إصحاح 11 الآيات: 2، 3، 4، وإنجيل متَّى، إصحاح 6، الآيات من 9 إلى 14)

[59] رواه البخاري، حديث رقم 6922.

[60] سيمون ﭭـايل، المرجع المذكور.

[61] سورة البقرة، الآية 256.

[62] روى مسلم أنَّ النبيَّ مرَّ على صُبْرةٍ [ما جُمِعَ من القمح وغيره بلا كيل ولا وزن] من طعام فأدخلَ يدَه فيها فنالت أصابعُه بللاً فقال: "ما هذا يا صاحبَ الطعام؟" قال: "أصابَتْه السماءُ يا رسولَ الله." قال: "أفلا

جعلْتَـه فوق الطعام كي يراه الناسُ. من غشَّ فليس منِّي."

[63] المثال مأخوذ من موقع http://atheisme.free.fr/.

[64] الإيمان مطلوب للنفس البشرية، ولكنْ ليس المقصود الإيمانَ العشوائي الأعمى، بل الإيمان الواعي. الإيمان هو المفيد وليس الاعتقاد. والإيمانُ شيء مختلف جدًا عن الاعتقاد، بحسب الكاتب والروائي الإنكليزي

ألدوس هُـكْسلي Aldous Huxley (1894 – 1963)، إذْ يقول في روايته جزيرة Island (1962): "الإيمانُ شيءٌ مختلفٌ جدًا عن الاعتقاد. الاعتقاد أخذٌ منهجيٌّ مبالَغٌ فيه لكلمات غير محلَّلة على محمل الجد. [...] الإيمان، على العكس، لا يمكن أنْ يبالَغ أبدًا في أخذه على محمل الجد. فالإيمان هو الثقة المبرَّرة تجريبيًّا بقدرتنا على معرفة مَن في الواقع نحن. [...] إيمانَنا كفافَ يومِنا أعطِنا اليوم، لكنْ نجِّـنا، اللهمَّ العزيز، من الاعتقاد." (الشاهد مأخوذ من مقال بعنوان: العمل الداخلي والعمل الخارجي، ديمتري أﭭييرينوس، موقع معابر)

[65] سورة القَصص: 13، 57. والآيات التي تصفُ الأكثريةَ بالكفر والجهل كثيرةٌ جدًا في القرآن، منها: "فأبى أكثرُ الناسِ إلا كفورًا" [الإسراء: 89] "ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يؤمنون" [الرعد: 1] "وما أكثرُ الناسِ،

لو حرصْتَ، بمؤمنين" [يوسف: 103] "ولكنَّ أكثرَهم يجهلون" [الأنعام: 111] "يعرفون نعمةَ اللهِ ثم ينكرونها. وأكثرُهم الكافرون" [النحل: 83] "ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يشكرون" [غافر: 61] "وقليلٌ من عباديَ الشكور" [سبأ: 13] "ولكنَّ أكثرَ الناس لا يعلمون" [يوسف: 21، 40، 68 – النحل: 38 – الروم: 6، 30] "بل أكثرُهم لا يعلمون" [لقمان: 25 – النحل: 75، 101] "ولكنَّ أكثرَهم لا يعلمون" [القَصص: 13، 57] "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليلٌ ما هم" [ص: 24] "وإنَّ كثيرًا من الناسِ عن آياتنا لغافلون" [يونس: 82] "بل أكثرُهم لا يعقلون" [العنكبوت: 63].

[66] سورة الصف، الآيتان: 2 و3.

[67] الهَدْيُ: جمعُ هَـدْية، وهي ما يُهْدَى إلى الحرَم من الإبل والبقر والغنم ليُـنحَر ويُذبَحَ هناك ويُـتصدَّقَ بلحومه. أمَّـا البُـدْنُ فهي جمعُ بَـدَنة، وهي ناقة أو بقرة تُـنحَر بمكَّةَ قُربانًا ويسمِّـنونها لأجل ذلك (من

الفعل: بَدَنَ أيْ: سَمِنَ فهو بادن وجمْعُه: بُدْن). إنَّ الشاةَ (الواحد أو الواحدة من الضأن أو المَعْـز أو الظِّباء أو البقر أو النعام أو حُمُر الوحش، وجمعُه: شاءٌ وشِياهٌ، ومُصَغَّره: شُويَهة) التي تُسَـمَّـنُ لتقدَّمَ قُرْبانًا إذا ما نُظِرَ إليها على أنها هَـدِيَّـةٌ وقُرْبان، أيْ عندما يُنظَر إلى الغاية من تسمينها، فإنها تسمَّى هَـدْيـة [جمعُها: هَـدْي]؛ وإذا ما نُظِرَ إليها على أنها مسمَّـنة، أيْ عندما يُنظَر إلى الشيء بحد ذاته مِن حيثُ صفتُه، فإنها تُسمَّى بَـدَنة [جمعُها: بُـدْن]. فالشيءُ يختلف إدراكُه وتسميتُـه تِـبْـعًا للجهة أو الزاوية التي يُـرى منها.

[68] وردَ الحديثُ في صحيح ابن حِبَّان والبيهقي وأحمد.

[69] رواه مسلم، كتاب: الإمارة، باب: من قاتلَ للرياء والسمعة استحقَّ النار، رقم: 1905.

[70] كتاب Penser le Coran [التفكير في القرآن]، محمود حسين Mahmoud Hussein (اسم مستعار مشترك لبهجت النادي Bahgat Elnadi  وعادل رفعت Adel Rifaat، وهما أستاذان في العلوم

السياسية politologues، فرنسيان من أصل مصري)، باريس، غراسِّـيه Grasset، 2009، ص 22.

[71] رواه البيهقي في: شُعَب الإيمان.

[72] المعجم الكبير للطبراني، جزء 3، باب 1، ص 326.

[73] الأب ﭙـاولو دالوليو Paolo Dall'Oglio (راهب يسوعي، مؤسِّس ورئيس دير مار موسى الحبشي في النبك، سوريا)، كتاب Amoureux de l'islam, croyant en Jésus [محب للإسلام، مؤْمن بيسوع

منشورات Ivry-sur-Seine (Val-de-Marne)، 2009، ص 46.

[74] سورة يوسف، الآيات: 21، 40، 68. وسورة النحل، الآية: 38. وسورة الروم، الآيتان: 6، 30.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود