|
الـوطـن
لقد نحتت عصبة الأمم في جنيف لفظة apatride أي الذي لا وطن له. وإن لم تخني الذاكرة أظن أن هذا الوضع القانوني الغريب أعطي للروس الذين غادروا بلادهم بعد الثورة البلشفية، ولجأ الكثيرون منهم إلى باريس ولم يحصلوا على الجنسيِّة الفرنسيِّة، أو لم يطلبوها، لاعتبار أنفسهم روسيين معنويًا أو أدبيًا، ولم يصيروا فرنسيين بالمعنى القانوني، فأضطرت عصبة الأمم إلى أن تنشئ هذا الوضع الجديد. تاليًا الوطن انتساب قانوني تريده وليس فقط الرقعة التي تولد عليها. لا يكفي أن تحب الأرض التي جئتها إذ يجب أن تختار دولتها. الدولة إذًا تشكَّل إنطلاقًا من أناس يرتضونها ويؤلِّفونها بمئة شكل وشكل. هي بنية يصنعها المواطنون، فإذا أرادوها كانت وهم أمة في حدودها. وإذا أرادوها يعنون أنهم منضوون تحت لوائها، ولها عليهم حق الإخلاص بحيث لا يريدون انتظامهم في غيرها، إذ لا يستطيعون الإنتماء إلى أوطان أخرى إلا إذا خانوا. والدولة ضعيفة إن أرادوا لها الضعف، وقادرة إن أرادوا لها القدرة. من هذه الزاوية كانت الدولة مرآة المجتمع، وتصبح في آن أداة في خدمة هذا المجتمع بالدفاع عنه، بحمايته، بترقيته؛ فعلى قدر ما يخلص لها تخلص هي أيضًا له، وفي شدَّتها تلازمه ويلازمها. ولكن هذا يعني أن في المجتمع قدرًا من تمسكه بدولته لتتمكن هذه من البقاء. وفي عقل الجماعة أن الوطن، الذي يصنعه الناس بالحب والجهد، نهائي في أمانيه على الأقل - وإن تكن النهائيَّة المطلقة لله، إذ تتغيَّر الشعوب والأمم وإذ ذاك تدول الدولة. الدولة في اللغة العربية تنتهي إذا اقترب شعبها من النهاية بالهجرة أو الحروب أو الكوارث المختلفة، وتنفرط الأمة وتصبح قبائل، وقد تبقى الأجهزة الحاكمة إلى حين اكتمال التلاشي في القوم. وقد ماتت دول ونشأت دول وماتت أوطان وظهرت أوطان. في هذا الحقل ليس من أبديَّة. وينشأ وطن جديد صغير بعد انفراط وطن أكبر، أو بعد انقسامه، وتترتب أوضاع جديدة في رقعة جديدة، وفي هذه الدنيا ليس من مأساة على هذا الصعيد وإن تكن هناك جروح وأحزان حتى ينمو فرح في التركيبة الجديدة إذا هذه صمدت. ولا داعي إطلاقًا إلى رؤية الوطن متجذِّرًا في التاريخ القديم، لأن معظم البلدان الحالية مستحدثة بسبب من حروب يتم فيها استيلاء الأقوياء على الضعاف، وتعبر فترات قصيرة نسبيًا حتى تجد الدولة الجديدة حدودًا لها، ويرتضيها من عاش ضمن هذه الحدود. *** والحبُّ ينشأ بعد تصوُّر الأوطان بسبب من التعايش المرتضى، والفوائد المجنية من تشكلها على اقتصاد ما، مزدهرًا كان أم غير مزدهر، وعلى السلام ما أمكن السلام. لماذا الأوطان؟ لأن الإنسان لا يستطيع أن يعيش وحده، لأنه يحيا على رقعة من الدنيا تنفع عياله، ولأنه يجد فيها من يحبُّه، ولأنه لا يحصل على لقمة عيشه إلا بالتعاون. غير أن هذا التعايش يشترط حدًّا من الأخلاق معقولاً لئلا يبتلع الكبير الصغير فيرد الإنسان إلى وحشته، ويرحل أو يموت. الحدُّ الأدنى من التعايش هو ألا أقتلك ولا تقتلني، وأن نتعاون في المهن، والعناية المتبادلة، والنمو الصحي، والدراسة، وكل ما يسند صمودنا معًا. وإذا غاب هذا الهمُّ، أو ضعف كثيرًا بالخصومات والحروب الأهليِّة والعداء الذي يقضي على شرائح مختلفة، يضيع الوطن، وتاليًا تسقط الدولة. هناك مقدار من قبول الغير على مستوى معقول حتى لا ينفجر البلد من الداخل. قد يُضرب البلد من الخارج، والأخلاق وحدها تنقذه بطول الأناة والعمل والشجاعة والروح المعطاء. إن الخطر الخارجي أقل أذى من انهيار روح الوحدة الداخلية. وإذا سُمح لي باستعمال تعبير ديني: ينهض البلد من بعد انهيار إذا كان فيه أبرار ينتعش بهم الناس ويرجون الخلاص، أما إذا قلَّ الأبرار يذوي البلد ويذبل، ويفتش باطلاً عن حلول خارج البرِّ. بلد يكثر فيه السرَّاقون والمحتالون والكسالى والشتامون والمتذاكون باطلاً هو بلد يدعوه الفناء إليه، ويهلك آجلاً أم عاجلاً. ليس من بلد عنده امتياز البقاء من الله. الله لا يحب بلدًا بصورة خاصة، ويزكيه، ويعلي شأنه لأنه اختاره منذ الأزل. ليس لبلد واحد من سرمدية. البلدان تموت كعشب الصحراء وتختنق، وتقرأ عنها في كتب التاريخ، ويكون أهلها قد قتلوها، عمدًا أو غفلة، وخطيئة الغفلة عند علماء الأخلاق كالخطيئة الطوعيَّة. ولا عذر لأحد إن تدهور بلده، فكلنا قاتل أو غافل. ومعصية أولي الأمر أقسى من معاصي العامة، لأن أولي الأمر تسلَّموا من الناس القدرة وهم يستعملونها للاقتصاص من المجرمين، وتلك هي مسؤوليَّتهم الأولى على ما قاله بولس في رسالته الى أهل رومية. أما إذا كانت الدولة مغناجة مع المجرمين فلا عذر لها، لأن حماية هؤلاء تعدٍّ على الأبرياء وانتقاص من حريتهم حتى تزول الحريَّة فيزول الانسان. *** ماذا يقول الكتاب عن المتسلِّمين الشأن العام؟ يقول: "يا أيها الملوك تعقَّلوا واتعظوا يا حكام الأرض" (مزمور 10:2). عندما يقول "تعقَّلوا" يفترض أن لهم عقلاً راجحًا يرجعون إليه، وإذا قال "اتعظوا" يثق أن لهم قدرة على الحكمة. ماذا يقول الكتاب لصلاح الحكم؟ أشعياء يكتب: "حكامك قوم متمرِّدون وشركاء لقطاع الطريق. كلُّهم يحب الرشوة" (22:1). إزاء ذلك يقول النبي نفسه: "أما الرافضون مكاسب الظلم، النافضون أيديهم من الرشوة... فهم يسكنون في الأعالي" (15:33 و16). وأقوال أخرى في الرشوة لا مجال هنا لذكرها جميعًا حتى لا تقع لعنة الأنبياء علينا. إن استمرار هذه الأمة يعني أن البلد الذي يصاب به طولاً وعرضًا يجلب عليه غضب الله، ومعنى ذلك أن لعنه الله نازلة على كلِّ من رشا أو ارتشى، وأن لا ضمانة لبلد يرتكب هذه الفحشاء بمقدار كبير، فيكون هذا الإثم لدمار الوطن والأمة والدولة جميعًا. في دغدغة اللذات فقط تحسبون أن بركات الله نازلة على لبنان منذ الأزل. هذه هي الكذبة الكبرى. البركة تشمل فقط الإنسان الطاهر ولا تميز بلدًا. إلى جانب تعظيم التوراة أرز لبنان يقول الكتاب: "افتح يا لبنان أبوابك فتأكل النيران أرزك. ولوِل أيها السرو على سقوط أرز لبنان" (زكريا 1:11 و2). كفّوا عن التغني بلبنان إن لم تتوبوا. لا يقوم لبنان بلا طهارة تكلله، بلا ناس أنقياء، بلا حكم صالح. ليس من نهائية لبلد لم يضع أساسا لنهائيَّته. الذين لا يستوطنون عند الرب لا وطن لهم هنا. والذين لا يسعون إلى بلد يجعلونه مقرًا لله سيموت بلدهم آجلاً أم عاجلاً. إن أحببتم حقيقة الله تجدون حقيقة الإنسان والناس جميعًا. الوطن هو في هذه الحقيقة أو يبقى بحرًا وجبلاً وأشجارًا وبيوتًا وطرقات، أي لا شيء. هل تريدون لبنان مسجلاً في السماء، أي بعضًا من الوطن السماوي، أم تريدونه مالاً في جيوبكم، وسلطة تمارسونها؟ يريد الله لنا بلدًا جميلاً. لا تقبحوه أنتم طوعًا أو غفلة لئلا يهرب منكم. أوجدوه بالحق تجدوا أنفسكم في الخلاص. *** *** *** نهار |
|
|