هذه هي الأسباب الداخلية والخارجية فتعالوا نبحث عن الحلول

خالد غزال

 

هل تستعصي المجتمعات العربية على الحداثة والتقدم؟ وهل الإقامة في البنى التقليدية ما قبل تكوُّن الدولة قانون مستمر يؤطر الشعوب العربية؟ لماذا فشل مشروع النهضة العربية الذي انطلق نهايات القرن التاسع عشر، وتعثر في القرن العشرين؟ لماذا تأخر العرب وتراجعوا فيما تقدم الغرب وسبقهم بسنوات ضوئية إلى هذا الحد أو ذاك؟ ما هي مسؤولية الداخل العربي ببناه الاجتماعية وثقافته التقليدية أو الدينية وتأخره الاقتصادي وانغلاقه السياسي، وما هي مسؤولية الخارج الممتد من زمن السيطرة العثمانية وصولاً إلى مشروع السيطرة الامبريالية على المنطقة مطلع القرن العشرين، وما تسبب به هذا المشروع من إعاقة التطور الذاتي للمجتمعات العربية، سواء عبر تركيب كيانات متناحرة أو زرع مشروع صهيوني استيطاني، أو هيمنة مباشرة على موارد المنطقة العربية وثرواتها؟ أسئلة تنتسب إلى الماضي، وتستغرق الحاضر، وتقض مضجع المستقبل، تبدو الإجابة عنها أو ملامسة معطياتها أحد الشروط الضرورية للخروج من قيودها والتطلع إلى العصر. يسعى سعد محيو إلى الإجابة عن بعضها وتعيين خفايا الكثير منها، في كتاب عن "مركز دراسات الوحدة العربية" في بيروت، عنوانه مأزق الحداثة العربية، من احتلال مصر إلى احتلال العراق.

في قراءته لتطور الأحداث، يعتمد الكاتب منهجية تعرف في علم التاريخ بـ"المنهجية التقدمية – التراجعية"، تقوم على الانطلاق من الحاضر نحو الماضي، ثم تعود، بالعكس، من الماضي إلى الحاضر. ترى هذه المنهجية أن عناصر كل حدث راهن تضرب بجذورها في الماضي، وأنه يستحيل قراءة التطورات الراهنة من دون العودة إلى الأصل في تكون الحدث ورؤية العوامل التي تحكمت فيه والحفر في الطبقات "الجيولوجية المتراكبة" بعضها فوق البعض للوصول إلى جذورها الدفينة. تبدو هذه المنهجية ضرورية في قراءة المجتمعات العربية، التي لا تزال تعيش فعليًا في الماضي أكثر مما تنتسب إلى الحاضر أو المستقبل، وكونها لم تعرف مراجعة ولا نقدًا لتاريخها وصراعاتها وموروثاتها على غرار ما شهدته المجتمعات الأوروبية على سبيل المثال. يدل إلى ذلك، نمط الصراعات المندلعة في ميادين متعددة، والتي يصعب فهمها من دون ردها إلى ماض يعود إلى عقود، بل منها ما يعود إلى قرون غابرة، من نوع الصراع المذهبي المندلع بين الطوائف والمذاهب الإسلامية.

يخترق سؤال الداخل والخارج معظم فصول الكتاب، فكثير من الدراسات السياسية تنحو إلى تحميل البنى الداخلية الموروثة من مرحلة ما قبل نشوء الدول العربية، مسؤولية التخلف والعجز عن مواجهة الهجمات الخارجية. فيما تنحو أخرى إلى تجهيل عوامل الداخل ورمي المسؤولية على الخارج الاستعماري وعلى المؤامرة الامبريالية الهادفة إلى ابقاء المجتمعات العربية وشعوبها في إسار التأخر عبر الهيمنة الاستعمارية المباشرة وغير المباشرة، ونهب الثروات العربية، وتشكيل كيانات سياسية قائمة على بنى عشائرية وقبلية. النظرتان، الداخل المنفرد والخارج المهيمن، لا يعبران عن حقيقة الأسباب الفعلية لمشكلات المجتمعات العربية. الداخل يحتل موقعًا مركزيًا في هذا المجال، والخارج يحتل مسؤولية موازية. كل قراءة لمعضلاتنا محكومة بأن ترى العلاقة الجدلية بين فعل الخارج وحراك الداخل، وادراك أن الخارج يصعب أن يكون مطلق الفعل إذا لم تتوافر القنوات والممرات الداخلية لهذا الفعل، فـ

الشرق العربي مسؤول عن سقطاته، بالقدر نفسه تقريبًا الذي يكون فيه الغرب مسؤولاً عن تسهيل هذا السقوط أو حتى الدفع في اتجاهه.

يطرح سؤال الحداثة والتحديث أكثر من إشكالية في قراءة حال المجتمعات العربية، فهل أمكن الدخول في الحداثة والإفادة من مكتسباتها، وما الدقة في استخدام تعبير الحداثة في ظل انبعاث مكونات العصبيات التي تنتمي إلى ما قبل مرحلة الدولة؟ ما حدود القشرة الحداثية التي تحققت في المجتمعات العربية ولماذا تبددت في العقود الأخيرة؟ ولماذا انهار المشروع النهضوي الذي بدأ مع أنظمة الاستقلال؟ أسئلة كثيرة ترمى في وجه كل محلل لمسار التطور العربي. ليس من قبيل المبالغة أو الحط من موقع الشعوب العربية، القول إن معظم ما شهدته المجتمعات العربية في تطورها لم يكن يدور في منطق الحداثة، بمقدار ما كان تعبيرًا عن حال تحديث. هناك فرق شاسع بين المفهومين. عندما نتكلم على حداثة مجتمع ما، فإنما تجري الإشارة إلى قضايا من نوع تكوُّن الدولة ورسوخ مؤسساتها وانتماء الفرد إلى الوطن وسيادة القانون، واكتساح العقلانية لثقافة الخرافات والأساطير، وانتشار ثقافة الديموقراطية، إضافة طبعًا إلى النمو الاقتصادي والتقدم العلمي الذي لا حداثة من دونهما. فيما يمكن أحد البلدان أن يشهد نموًا اقتصاديًا وحركة عمرانية واسعة واستخدام منتجات الحداثة في التكنولوجيا، من دون أن يترافق ذلك مع تحديث العقلية أو تغيير نمط الثقافة التقليدية السائدة. في هذا المعنى يمكن قراءة ما شهدته مثلاً دول الخليج العربي ومعظم البلدان العربية، في وصفه تحديثًا لا حداثة. وما الأمثلة التي يوردها الكاتب حول ما هو سائد من علاقات اجتماعية في المملكة العربية السعودية، مترافقًا مع تحليل الشخصية السعودية المتناقضة، سوى واحد من الأمثلة القليلة الدالة على غياب منطق الحداثة بمعناها الشامل. يؤكد مشروع محمد علي في مصر خلال القرن التاسع عشر والفشل الذي مني به في نقل مصر من موقع علمي وثقافي واجتماعي إلى موقع آخر، ضخامة الصعوبات في ادخال الحداثة واستيعابها، من دون انكار أنه نجح في تحقيق تحديث مصر إلى حد بعيد، من خلال الاصلاحات التي اعتمدها في بناء جيش حديث، وإدارة مركزية وتطوير الثروات الاقتصادية، مستوحيًا النمط الأوروبي في كثير من الميادين. هذا يعيد بقوة طرح شروط دخول الحداثة إلى المجتمعات العربية والعوامل الموضوعية الداخلية والخارجية الواجب توافرها لتحقيق هذا العنصر الأساسي في المشروع النهضوي العربي.

يولي محيو أهمية لمسار المشروع الاستعماري الذي شهدته المنطقة العربية وخصوصًا في القرن العشرين، وطبيعة الصراع الذي دار بين القوى الثلاث، بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الاميركية. يحلل عوامل اندحار الهيمنة البريطانية والفرنسية، مركِّزًا على الدور الصاعد للولايات المتحدة منذ عشرينات القرن الماضي. وهي عوامل تتصل بتراجع القوة وما عانته القوتان الاستعماريتان من انهاك، سواء بسبب الحروب العالمية من جهة، أو من كفاح حركات الاستقلال للدول الخاضعة لاستعمارهما. كما لعبت الولايات المتحدة دورًا مباشرًا أو غير مباشر في إزاحة الهيمنة البريطانية والفرنسية لصالح سيطرتها. ولكون الاستعمار الأوروبي بات من الذاكرة إلى حد بعيد، فإن التحليل يتركز على الموقع الأميركي في وصفه عنوان الهيمنة الاستعمارية المباشرة في الزمن الحالي. ثمة عنصران حاسمان في السياسة الأميركية يحكمان سلوك كل إدارة تأتي إلى الحكم، سواء أكانت جمهورية أم ديموقراطية، وهما الحفاظ على أمن اسرائيل، وحماية منابع النفط واستخراجه وتصديره. عنصران كانا وراء حروب خاضتها الولايات المتحدة مباشرة بواسطة قواها، أو بطريقة غير مباشرة بواسطة اسرائيل. تدلل على ذلك، حرب الخليج الأولى ضد العراق في العام 1990، والحرب الثانية التي أدت إلى احتلال العراق عام 2003. منذ 2001، وبعد هجمات أيلول، دخل عنصر مكافحة الإرهاب وخوض المعارك في مصدر إقامته، في وصفه عنصرًا مركزيًا يتحكم بالسياسة القومية الأميركية.

عندما يتطرق محيو إلى موضوع الصراع العربي – الإسرائيلي، فإنما يتناوله من جانبيه، السياسي العسكري الاستعماري والخلفية الأيديولوجية والدينية المتصلة بالأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل. انجدل العنصران السياسي واللاهوتي في فكر الحركة الصهيونية، وارتبطا بمصالح المشروع الاستعماري الامبريالي الهادف إلى الهيمنة على المنطقة وثرواتها، لتنتج جميعها دولة إسرائيل التي كانت إقامتها وفق المشروع الاستعماري حتمية منذ وعد بلفور عام 1917. كما تقاطعت المصالح الصهيونية والغربية مع عقدة الذنب الغربية تجاه المحرقة اليهودية أيام الحكم النازي، فعوَّض هذا الغرب اليهود بتحميل عواقب المحرقة إلى العالم العربي وخصوصًا على حساب الشعب الفلسطيني، مما يجعل الصراع المستديم حاليًا محكومًا بحل معضلات دينية تتصل بعلاقة الإسلام باليهودية وما أتى القرآن به من رأي تجاه اليهود في الجانب السلبي منه، ومحكومًا أيضًا بالمشروع الصهيوني الاستيطاني المستمر بقوة بعدما حقق جملة خطوات أساسية، بدأت بالاستيلاء على قسم من فلسطين عام 1948، واستكملت توسعها عام 1967 بعد هزيمة الجيوش العربية واحتلال أراض في مصر وفلسطين وسوريا، وهي الآن تتهيأ للمرحلة الحاسمة في تكوين دولة إسرائيل من خلال طرح يهودية الدولة، مما يعني مشروع "ترانسفير" جديد للفلسطينيين المقيمين داخل دولة إسرائيل، وهو مشروع يستوجب حروبًا جديدة ضد الفلسطينيين والعرب على السواء.

الحديث عن المشروع الصهيوني يستدعي التوقف أمام حلقة مهمة ومصيرية في الواقع العربي ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً. إنها حرب حزيران عام 1967. لم تكن مجرد هزيمة عسكرية منيت بها بعض الجيوش العربية، بل كانت هزيمة للمشروع النهضوي الذي انطلق مع نهوض المشروع القومي العربي خصوصًا بقيادة الناصرية، وهو مشروع راهن على تطلعات تحديثية تتصل بالتحرر القومي واستعادة الأراضي المحتلة في فلسطين والتحرر من الاستعمار وتحقيق نمو اقتصادي وإرساء الحياة الديموقراطية والمساواة أمام القانون. لكن الهزيمة أطاحت هذه التطلعات وأدخلت المنطقة العربية وشعوبها في مسار انحداري، تراجعت آمال التحديث إلى الخلف، وبدأت الدولة العربية تسير نحو الانحلال لصالح انبعاث عصبيات ما قبل الدولة، وما تتسبب به من نزاعات أهلية داخلية. وتراجعت الثقافة العقلانية إلى الخلف لتفسح المجال للحركات السلفية والأصولية ولفكرها الغيبي والخرافي، والتي رأت في هزيمة المشروع النهضوي القومي المجال المناسب لطرح مشروعها الخلاصي الوهمي، الذي يقول إن "الاسلام هو الحل"، وتتغذى منه حركات الإرهاب الأصولية اليوم وما تحمله من عناصر عنف وتطرف. لا تقرأ الأصولية في جانبها السياسي بمعزل عن فشل المشروع القومي ومعه كل المشاريع الاشتراكية التي سادت إلى هذا الحد أو ذاك، عن تحقيق الأهداف التي دعت إليها هذه المشاريع وعبأت الجماهير استنادًا إليها. كما لا يمكن عزل صعود ثقافة الفكر الأصولي عن واقع الانغلاق اللاهوتي للإسلام وغياب القراءة العلمية للتراث العربي والإسلامي، بحيث تجري الإفادة مما هو راهن، واستبعاد ما يكون الزمن قد تقادمه. يضاف إلى ذلك غياب القراءة الحقيقية للإسلام بحيث يجري التمييز بين ما يمثله من قيم أخلاقية وروحية وإنسانية، وهي قيم متواصلة في الزمان والمكان، وبين الفقه أو التشريعات التي جرى وضعها على امتداد التاريخ الإسلامي، والتعاطي معها انطلاقًا من كونها تجيب عن مسائل متصلة بزمنها، ولا يمكن اسقاطها على زمننا الحالي.

يشكل كتاب سعد محيو وثيقة تاريخية تنعش ذاكرة الإنسان العربي من خلال استحضاره المحطات الرئيسية في تاريخ العالم العربي على امتداد قرن من الزمان. وهي محطات قد تكون الذاكرة العربية قد افتقدتها في زحمة الانكسارات والهزائم والانحدار السياسي والفكري الذي تقيم فيه المجتمعات العربية وشعوبها.

*** *** ***

النهار

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود