شبكة الفكر: الحديث الأول

 

جدّو كريشنامورتي

 

أرى بعضًا من أصدقائي القدامى بين الحضور، وأنا سعيد لرؤيتكم هنا. بما أننا سنلتقي سبع مرات، يجب علينا المضي بكثير من الدقة فيما أريد الحديث عنه وهو: الحياة، بكل مجالاتها ومحتوياتها. لذا ألتمس الصبر ممن سمعوا كلماتي هذه من قبل، لأن لما سوف أكرره بعض الأهمية.

هناك شيء مشترك يجمع الآراء المسبقة مع المفاهيم والمعتقدات والأفكار. إذ يفترض بنا أن نكون قادرين على التفكير معًا، إلا أن آراءنا المسبقة وتصوراتنا الذهنية تحدُّ من القدرة والطاقة الضروريتان للتفكير والملاحظة والاختبار المشترك، لنكشف لأنفسنا ما يستتر وراء كل الفوضى، والبؤس، الرعب والدمار والعنف المهول الموجود في هذا العالم. ولنفهم، ليس فقط الحقائق المجردة الظاهرة التي تحصل كل يوم، بل لنفهم أيضًا ما يجري على المستوى العميق، لنفهم معنى ما يجري، يجب أن نكون قادرين على تفحص الأمور معًا، وفهمها معًا، لا أن تفهمها أنت على هواك وأنا على هواي، ولكن أن نفهم معًا المعنى ذاته. سيعيقنا التشبث باعتقاداتنا المسبقة وخبراتنا وفهمنا الخاص عن الملاحظة والفهم الصحيح للأمور. التفكير المشترك هام جدًا الآن، لأننا نواجه عالمًا ينحل بسرعة، ينحدر ويتحول إلى مكان لا أخلاق فيه، لا مُقدَّس فيه، حيث لا يحترم فيه الإنسان أخاه الإنسان. لكي نفهم جذور كل هذا، وليس بشكل سطحي، علينا الغوص فيه لإيجاد ما يقبع خلفه. يجب أن نسأل أنفسنا: لماذا تحوَّل الإنسان، أنت والعالم كلَّه، بعد ملايين السنين من التطور، إلى هذا العالم العنيف والقاسي والمدمر، المليء بالحروب وبالقنابل النووية المروعة؟ ربما كان التطور التكنولوجي للعالم أحد الأسباب التي تحوِّل الإنسان إلى هذا الكائن العنيف. لذا، دعونا نفكر معًا، ليس وفقًا لطريقتي، ليس وفقًا لطريقتكم، بل، بكل بساطة، عبر استعمال القدرة على التفكير.

الفكر هو القاسم مشترك بين البشر كلهم. لا يوجد شيء اسمه الفكر الشرقي، أو الفكر الغربي. هناك فقط القدرة المشتركة على التفكير. وسواء كان الإنسان فقير الحال أم غنياً سليلاً لعائلة ميسورة، سواء كان جراحًا أم نجارًا أم عاملاً في حقل أم شاعرًا عظيمًا، فإن الفكر thought هو العامل المشترك بيننا جميعًا. ويبدو أننا لا ندرك ذلك، إذ يفكر كل إنسان تبعًا لقدرته، لطاقته، لخبرته ومعارفه، بينما يفكر الآخر بشكل مختلف تبعًا لخبرته وحاله الخاص. نحن جميعًا أسرى في شبكة الفكر. وهذه حقيقة واقعية لا جدال فيها.

لقد تمت برمجتنا بيولوجيًا، جسديًا، ذهنيًا، وفكريًا أيضًا. يجب أن ندرك أننا مبرمجون، تمامًا كالحواسيب. وقد برمج الخبراء الحواسيب للحصول على النتائج التي يريدونها. وهذه الحواسيب ستتفوق على الإنسان في التفكير يومًا ما، لأنها تستطيع جمع الخبرات، ومن تلك التجارب ستتعلم وتكدس المعرفة حسب برنامجها تمامًا، ستتجاوز تفكيرنا بدقتها وسرعتها الفائقة. لن تكون قادرة على تأليف الموسيقى كبيتهوفن، أو كتابة الشعر مثل كيتس. لكنها ستتفوق علينا في قدرتها على التفكير.

لهذا، ما هو الإنسان؟ لقد تمت برمجته ليكون كاثوليكيًا، بروتستانتيًا، وليكون إيطاليًا أو بريطانيًا وهكذا. لقد تمت برمجته، لقرون، ليعتقد ويؤمن ويتبع عقائدَ معينةً، مبادئَ محددةً، ليكون وطنيًا بما فيه الكفاية ليقاتل في الحروب. لهذا تحول عقله إلى ما يشبه الحاسوب دون أنْ تكونَ له قدرةُ الحاسوب على التفكير–الإبداع، لأن فكره محدود، بينما الحاسوب – رغم محدوديته أيضاً – قادر على التفكير بشكل أسرع بكثير من الإنسان، ويستطيع التفوق عليه بكل سهولة.

هذه حقائق، هذا ما يجري حقًا. والآن، بعد هذا كله، ماذا يبقى للإنسان؟ ماذا سيكون الإنسان؟ وإذا كانت الآلات والحواسيب قادرة على القيام بغالبية ما يفعله البشر فما هو شكل المجتمع المستقبلي للإنسان؟ إلى ماذا سيتحول الإنسان – ككائن اجتماعي – عندما ستصنع الآلات والحواسيب السيارات بشكل أفضل من البشر؟ هذه هي التساؤلات التي تواجهنا الآن بالإضافة إلى إشكالات أخرى. لم يعد بوسعك بعد الآن أن تفكر كمسيحي أو كبوذي أو كهندوسي أو كمسلم. فنحن نواجه أزمة هائلة لا يستطيع السياسيون حلَّها أبدًا، لأنهم مبرمجون على التفكير بطريقة معينة. كما لا يستطيع العلماء فهمها أو حلَّها، ولا رجال الأعمال الذين يعيشون في عالم المال. إن نقطة التحول أو القرار الصحيح، التحدي، ليس في السياسة أو في الدين أو في ميادين العلم، بل في وعينا. على المرء أن يفهم وعي البشرية الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه! وعليه أن يكون جديًا تمامًا في تعامله مع هذا الموضوع، لأننا نواجه حقًا وضعًا خطيرًا حول العالم، نواجه تكاثر القنابل النووية التي سيقوم مجنونٌ ما بتفجيرها. يجب أن ندرك هذا جميعًا وأن نفهمه.

على الإنسان أن يكون جديًا للغاية، وليس ثرثارًا فارغًا ولامباليًا، بل مهتمًا بحق، كي يفهم هذا السلوك ويفهم كيف أوصلنا الفكر الإنساني إلى هذه النقطة. علينا التقدم خطوة خطوة وبحذر شديد، وبملاحظة دقيقة، لنكشف معًا ما يجري خارجًا هناك، وداخلنا أيضًا. دائمًا تتغلب الفعالية السيكولوجية المنعكسة نحو الأعماق على الفعالية الخارجية، فمهما كانت القرارات والقوانين والأنظمة التي تتبناها خارجيًا، فهي في النهاية أمور تدمرها رغباتنا النفسية، تحطمها مخاوفنا وقلقنا ولهفتنا وتوقنا إلى الشعور بالأمان. وما لم نفهم هذا، ستتغلب الفوضى الداخلية باستمرار على أي نظام خارجي نسير وفقه في حياتنا، مهما بدا مطابقًا ومنضبطًا وملائمًا ظاهريًا لجميع القوانين. قد توجد مؤسسات مبنية بكل حذر وعناية (سياسية أو دينية أو اقتصادية)، ولكن مهما كان بناؤها متينًا ستكون عرضة للانهيار ما لم يكن وعينا الداخلي في حالة انتظام تام. لقد رأينا هذا في التاريخ، وها هو يحصل اليوم أمام أعيننا. هذه حقيقة.

تكمن نقطة التحول في وعينا. ووعينا مسألة معقدة للغاية، لهذا كتبت حوله المجلدات في الشرق وفي الغرب. نحن لسنا مدركين لوعينا. ولكي يختبر الفرد هذا الوعي المعقَّد عليه أن يكون حرًا في أن ينظر أنى يشاء وأن يدرك تحركات الوعي. لا أريدكم أن تفهموا أني أقصد الإنصات إلى جميع تحركات الوعي الداخلية بشكل خاص. فالوعي موجود لدى الناس جميعًا. في كلِّ أنحاء العالم يشعر الإنسان بالمعاناة داخليًا وخارجيًا. هناك قلق، شك، خيبة وإحباط من الوحدة. هناك شعور بانعدام الأمان، بالغيرة، بالجشع والحسد والعذاب. الوعي البشري كلٌّ واحد لا يتجزأ. لا يخصك وحدك أو يخصني وحدي. إنها حقيقة منطقية وعقلانية: أنَّى ذهبت، ومهما كان الطقس الذي تعيش فيه، وسواء كنت ميسورًا أم فقيرًا، سواء كنت مؤمنًا بالله أو بأي كيان آخر، فإن الإيمان والاعتقاد بوجود شيءٍ ما مشترك لدى جميع البشر – قد تختلف التصورات والرموز كليًا من مكان إلى آخر إلا أنها تنبع من المكنون المشترك لدى البشر جميعاً. هذا ليس مجرد حكم نظري. فإن اعتبرته كذلك، إن تعاملت معه كمجرد فكرة، أو كمفهوم، فإنك لن تتلمس المعنى العميق المتضمن فيه. وهذا يعني أن وعيك هو وعي البشرية كلها لأنك تعاني وتقلق وتشعر بالوحدة وبالخوف وبالارتباك تمامًا كالباقين، حتى لو كانوا يعيشون على بعد عشرات آلاف الأميال. إن إدراك هذه الحقيقة، والإحساس بها، الشعور بها في أعمق الأعماق، يختلف كليًا عن القبول بحرفيتها. وعندما تدرك أنك البشرية كلها ولستَ جزءًا واحدًا منها فقط ستشعر بطاقة عارمة تملؤك لأنك انعتقت من الحيز الفردي الضيق الذي تعيش فيه، من دائرة "الأنا" و"الأنت"، من مفاهيم "نحن" و"هم" المحدودة. نحن نشهدُ معًا تفتح الوعي الإنساني المعقد، لا الوعي الأوروبي، أو الآسيوي أو الشرق أوسطي، وهي عملية استثنائية كانت تجري في الوعي عبر الزمن لملايين السنين.

أرجوكم لا تقبلوا ما أقوله، لأن القبول وحده يفرغ كلامي من معناه. إذا لم تشك وتتساءل وتبحث لتجد بنفسك، إذا تمسكت بمعتقداتك الأصلية وإيمانك وتجربتك أو معارفك المتراكمة عبر السنوات، ستعتبر الموضوع تافهًا غير ذي أهمية أو معنى. وإذا فعلت ذلك، لن تواجه المسألة الهائلة التي تواجه الجنس البشري.

علينا أن نفهم حقًا ماهية الوعي، وأن الفكر وجميع تشكيلاته جزء من وعينا (الثقافة التي نشأنا ضمن شروطها والقيم الأخلاقية والضغوطات الاقتصادية والموروثات القومية). إذا كنت جراحًا أو نجارًا أو متخصصًا بمهنة ما فإن وعي تلك الجماعة جزء من وعيك. إذا كنت تعيش في بلد ما، له عاداته وموروثاته الدينية، فإن ذاك الوعي الجمعي هو جزء من وعيك. هذه حقائق. عليك التمتع ببعض المهارات إذا كنت نجارًا. عليك فهم طبيعة الخشب والتمرس في استعمال أدوات تلك المهنة حتى تنتمي بالتدريج إلى الجماعة التي حافظت على تلك المهنة ومهاراتها، ولهذا الوضع وعيه الخاص. وكذلك العالِم والاختصاصي في الآثار. لكل جماعة وعيها الخاص، كما للحيوانات وعي جمعي خاص بكل نوع منها. إذا كنتِ ربة منزل فلديكِ وعيكِ الجمعي الخاص الذي يضمك وكل ربات البيوت. لقد انتشر التحرر عبر العالم منطلقًا من أقاصي الغرب إلى كل أصقاع الدنيا. وهذه حركة وعي جماعية. هل تلمح معناها؟ اختبرها بنفسك، لأجلك، لترى ماذا تعني.

كذلك يتضمن الوعي مخاوفنا في أعمق أعماقه، لأن الإنسان عاش برفقة الخوف جيلاً بعد جيل. عاش برفقة المتعة والحسد وكل عذابات الوحدة والإحباط والتخبط، مع الحزن العظيم، مع ما يسميه حبًا، ومع خوفه الأزلي من الموت. يتكون وعي الإنسان من كل هذه الأشياء المألوفة لدى جميع البشر. هل تفهم ماذا يعني كل هذا؟ إنه يعني أنك لست فردًا منعزلاً وحيدًا كما كنت تعتقد. وهذا مفهوم لا نستوعبه بسهولة مطلقًا لأنه تمت برمجتنا كالحواسيب تمامًا لنعتقد أننا أفراد منفصلون عن بعضنا البعض. لقد بُرمجنا دينيًا لنعتقد أن لكلٍّ منا روح منفصلة عن بقية الأرواح الأخرى. وهكذا عمل الدماغ البشري قرنًا بعد آخر مُكررًا النمطَ نفسَه الذي بُرمج ليعمل به.

عندما يفهم الإنسان طبيعة الوعي تتحول معاناتي الخاصة (أناي المنفردة) إلى شيء جماعي، وعندها سيحصل شيء مختلف تمامًا. تلك هي الأزمة العالمية التي نمر بها اليوم. لقد تمت برمجتنا، ونحن لا نستطيع التعلم إلا لأننا مبرمجون (مارين بين الحين والآخر بومضة إلهام) مكررين أنفسنا المرة تلو الأخرى. فكر فقط بهذه الحقيقة: يكون الإنسان مسيحيًا أو بوذيًا أو هندوسيًا، وقد يكون معاديًا للشيوعية أو شيوعيًا أو ديمقراطيًا، وكلها أنماط مكررة. وفي خضم حالة التكرار هذه تحصل الصحوة.

لهذا نتساءل: كيف بوسع كائن بشري وحيد (والذي هو في الواقع البشرية بأكملها) أن يواجه الأزمة ونقطة التحول؟ كيف ستواجه أنت، يا إنسان، يا من تطورت ألفية تلو الأخرى، يا من تفكر كفرد وحيد – وهذا مفهوم وهمي ومضلل –، كيف ستواجه نقطة تحول مفصلية في وجودك؟ كيف ستعرف الحق وكيف ستتخذ مسارًا جديدًا مختلفًا بعيد اكتشافك للحقيقة؟

لنحاول أولاً أن نفهم معًا ماذا تعني الرؤية الحقة، بعين البصيرة، كي نرى ونفهم حقيقة الفكر. جميعكم تفكرون. ولهذا أنتم هنا. جميعكم تفكرون، والفكر يعبرعن نفسه بالكلمات أو بالإيماءات، من خلال نظرة، أو عبر لغة الجسد. وعلى اعتبار أن الكلام لغة مشتركة بيننا، نحن نفهم من خلال الكلمات معاني ما يقال. إلا أن الفكر عامل مشترك بين البشر جميعًا – هو شيء استثنائي يفوق تصوراتك إذا اكتشفته، وعندما تفعل ستعرف أنه ليس فكرك وحدك، وأنه لا يخصك وحدك. لأنه الفكر. علينا أن نتعلم كيف نرى الأشياء كما هي حقًا، وليس كما بُرمجت لتعتقد. هل ترى الفرق؟ هل نستطيع التحرر من برمجتنا والنظر؟ لو فكرت كمسيحي، أو كديمقراطي، أو كشيوعي، أو ككاثوليكي، أو كبروتستانتي – وهي جميعها تحيزات مسبقة – فلن تفهم مقدار الخطر الضخم، والأزمة التي نواجهها. إذا انتميت إلى فئة معينة، أو كنت تتبع معلمًا ما، أو كنت ملتزمًا بنوع معين من السلوك، فإنك لن تستطيع اكتناه الأمور كما هي حقًا لأنك تكون قد بُرمجت مسبقًا. بوسعك أن تلحظ الحقيقة فقط إذا كنت حرًا وغير منتمٍ إلى أي منظمة أو جماعة أو ديانة أو جنسية. وإن كنت قد اكتسبت الكثير من المعرفة من الكتب والتجارب الحياتية، فإن دماغك الآن مترع، مزدحم بالتجارب والمواقف الخاصة، وكل هذا يمنعك من الفهم. هل بوسعنا التحرر من كل ما سبق لننظر إلى حقيقة ما يحصل حقًا في العالم ونفهمه، وإلى الإرهاب والجماعات الدينية الطائفية المتعصبة الرهيبة حيث نجد معلمًا أحمق يقف ضد معلم أحمق آخر، وإلى التفاهات التي تبطنها السلطة والمكانة والثروة؟ سنجد أنها مروعة. هل تستطيع النظر بنفسك لترى ذاتك كإنسان هو حقًا كل البشرية وليس مجرد كائن بشري منفصل؟ إن امتلاك هذا الشعور يعني أنك تمتلك محبة هائلة للبشر كلهم.

عندما تستطيع النظر بوضوح، ومن دون تشوهات في الرؤية، ستبدأ بالتساؤل وبتقصي طبيعة الوعي، بما في ذلك طبقاته العميقة جدًا. عليك أن تبحث في حركة الفكر بكاملها، لأن الفكر هو المسؤول عن كل محتويات الوعي، السطحي منه والعميق. لأنه إذا لم يكن لديك فكر فهذا يعني أنك بلا مخاوف، وبلا قدرة على الاستمتاع، وبلا زمان. لأن الفكر هو المسؤول. الفكر هو المسؤول عن جمال كاتدرائية عظيمة، لكنه مسؤول أيضًا عن كل الجنون الذي يجري تحت سقفها. كل إنجازات الرسامين العظام والشعراء والموسيقيين هي من إبداعات الفكر. يسمع المؤلف الصوت الرائع في داخله ويكتبه على الورق. هذه حركة من حركات الفكر. والفكر مسؤول عن كل الآلهة المعبودة على الأرض، عن كل المخلِّصين والمعلمين، وكل الطاعة وعن كل التكريس الموجود. لأن كل ما تراه حولك هو نتيجة الفكر الذي يتوق إلى الرضى والهرب من الوحدة. فالفكر هو العامل المشترك بين أبناء الجنس البشري. حيث يفكر أفقر قروي هندي كما يفكر أكبر المدراء التنفيذيين هنا، كما يفكر القائد الديني. هذه حقيقة يومية وعادية. إنها الأرضية التي يستند إليها كل البشر. لذلك لا تستطيع الهرب منها.

قام الفكر بكثير من الأمور الرائعة التي ساعدت الإنسان، لكنه جلب أيضًا الدمار الهائل والرعب للعالم. لذلك علينا أن نفهم طبيعة وحركات الفكر؛ لماذا تفكر بطريقة ما بعينها؛ لماذا تتشبث بأنواع محددة من التفكير؛ لماذا تتمسك بتجارب معينة؛ لماذا لم يفهم الفكر أبدًا طبيعة الموت؟ علينا أن نستقصي بنية الفكر ذاتها – ليس فكرك أنت وحدك، لأنه واضح المكونات، باعتبار أنك مبرمج. ولكن إذا تساءلت بجدية عن ماهية التفكير بحد ذاته فإنك ستلج بعدًا مختلفًا كليًا، وهو ليس بُعد مشكلتك الصغيرة المحددة. عليك أن تفهم تحركات الفكر المهولة، طبيعة التفكير – لا كفيلسوف، ولا كشخص متدين، ولا كفرد منتمٍ إلى مهنة معينة أو كربة منزل؛ بل نشاط التفكير العظيم الاتساع.

والفكر هو المسؤول عن كل الوحشية والحروب وأدواتها القاسية، عن كل القتل والرعب ورمي القنابل واحتجاز الرهائن باسم قضية أو بلا قضية. كما هو مسؤول أيضًا عن الكاتدرائيات وعن روعة بنائها وعن القصائد الشعرية البديعة، وعن التطور التقني والحاسوب وقدرته الفائقة على التعلم والتفوق على التفكير البشري. فما هو التفكير؟ إنه استجابة، ردة فعل الذاكرة. لأنك لو لم تمتلك ذاكرة لما كنت قادرًا على التفكير. يخزِّن الدماغ الذكريات كمعرفة، كنتيجة للتجربة. وهذه هي طريقة عمل أدمغتنا. في البدء كانت التجربة، والتجربة قد تعود لبداية وجود الإنسان على الأرض، وهي ما ورثناه. وهذه التجربة تنتج المعرفةَ التي يخزنها الدماغ؛ ومن المعرفة تلد الذاكرة ومنها يولد الفكر. والفكر يدفعك إلى التفاعل وإلى الفعل، ومن ذاك الفعل تتعلم المزيد. لهذا فأنت تدور باستمرار في الدائرة نفسها: الخبرة، المعرفة، الذاكرة، الفكر، الفعل، التعلم من الفعل وهلم جرا. هكذا تمت برمجتنا. وهذا ما نفعله: نحن نتذكر الألم، ولهذا نتفادى في المستقبل الشيء الذي سبَّب لنا هذا الألم، ما يعني أن هذا السبب قد تحول إلى معرفة ومن ثم أصبح يكرر. والمتعة الجنسية مثال آخر، يملي عليك الفكر أن تكررها. إنها حركة الفكر. هل ترى جمال الطريقة الميكانيكية التي يعمل الفكر وفقها؟ يقول الفكر لنفسه: أنا حر، وأعمل كما أشاء. إلا أنه ليس حرًا أبدًا لأنه مبني على المعرفة، والمعرفة محدودة دومًا، ويجب أن تكون محدودة دومًا لأنها بعض من الزمن. أريد أن أتعلم أكثر، وكي أتعلم أكثر يجب أن أحظى بالوقت. أنا لا أعرف الروسية لكني سأتعلمها، أحتاج إلى ستة أشهر أو إلى عام أو إلى عمري كله. المعرفة هي حركة الزمان. والزمان والمعرفة والفكر والفعل هي الدائرة التي نعيش فيها. الفكر محدود، لهذا فإن كل فعل ناجم عنه محدود أيضًا، وهكذا محدودية تولد، بشكل حاسم، صراعًا.

لو قلت إني هندوسي، هندي، فأنا محدود بقولي هذا، وهذه المحدودية لا تجلب الدمار فقط بل الصراع أيضًا لأن آخرًا سيقول: أنا مسيحي، أو أنا بوذي. ولهذا ترانا نتناحر. وحياتنا من الولادة حتى الموت سلسلة من الصراعات والتمزقات التي نحاول التهرب منها دومًا وبلا انقطاع، مما يسبب مجددًا المزيد من الصراع. نولد ونعيش ونموت في قلب هذا الصراع المستمر والأبدي. لا نبحث أبدًا عن جذوره، التي هي الفكر، لأن الفكر هو المحدود. لكن أرجوكم لا تسألوا: كيف أوقف الفكر؟ فهذه ليست الغاية. إنما الغاية هي فهم طبيعة الفكر، فهمه كما هو حقًا.

12 تموز 1981

ترجمة: يارا البرازي

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود