|
حديقتنا الخضراء٭
نحن في فيتنام، نجازف إلى حدٍّ كبير حين ننشر قصائد مناهضة للحرب. فقد تمَّ اعتقال ونفي البوذيين الذين احتجوا على الحرب، وهم يُقتَلون الآن في "دانانغ". وبسبب هذه المخاطرة الكبيرة، أحجم البوذيون الذين تظاهروا في فصل الربيع، عن التأييد الصريح لإنهاء الحرب عبر المفاوضات؛ وعوضًا عن ذلك، دعوا إلى انتخابات وإلى نظام ديمقراطي. إننا في مأزق يَصعُب التعامل معه: إن دعونا صراحة إلى السلام، فسوف نصنَّف مع الشيوعيين، وستجري محاولة قمعنا من قبل الحكومة؛ وإذا انتقدنا الشيوعيين، فسنجد أنفسنا في صفِّ أولئك الفيتناميين الذين كانوا يقومون منذ سنوات بالدعاية لصالح الأمريكيين، والذين شوِّه خطابهم واتسخ لأنهم كانوا مستأجَرين لنشره. فلكي تكون مناهضًا للشيوعية بصورة مشرِّفة، عليك أن تبقى صامتًا، وبسبب صمتنا وصفنا بالسذاجة لأننا لا ندرك ما تمثله الشيوعية من خطر. لكننا لسنا كذلك. فنحن واعون تمامًا للقيود المفروضة على البوذية في الشمال. كما درسنا ما حدث في الصين. ونعلم أن لا مكان للروحانية في قلب الماركسية. ونحن على استعداد لخوض غمار صراع سياسي سلمي مع الشيوعيين، لكن فقط إذا كان ممكنًا إيقاف ذلك الدمار الذي تخلِّفه الحرب. ونحن على ثقة بأن الفيتناميين الجنوبيين قادرين على حماية أنفسهم من الهيمنة الشيوعية إن سُمِح لهم بممارسة حياتهم السياسية بسلام. مأساة السياسة الأمريكية أنها جعلت هكذا صراع سياسي سلمي أمرًا عسيرًا. فقد كان بوسع الأمريكيين المساعدة في إعادة إعمار البلد على نحو سلمي لو أنهم تعاونوا مع البوذيين ومع غيرهم من الذين كانوا يحظون باحترام الشعب ودعموهم. لكن بدلاً من ذلك، حاولوا شرذمة البوذيين للحيلولة دون تحوُّلهم إلى قوةٍ منظَّمة، وكان هذا كارثيًا. لقد جاءت الكثلكة مع الفرنسيين، وكان القادة الكاثوليك، المدعومين من قبل الولايات المتحدة، موضع ارتياب بالنسبة لغالبية الشعب. أمَّا التقليد البوذي وثيق الاتباط بالوطنية الفيتنامية، وبالتالي فإنه من غير الوارد، بالنسبة لجماهير واسعة من الناس، أن يخونهم البوذيون لصالح قوة أجنبية. وأيضًا، فإن البوذية الفيتنامية تتصف بالتوافقية – هناك كهنة كاثوليك أقرب إلينا، فيما يخص قضية السلام، من بعض الكهنة البوذيين الشيوخ والمحافظين. (منذ بضعة أشهر، أصدر أحد عشر كاهنًا كاثوليكيًا بيانًا شديد اللهجة يدعو إلى السلام، فكانوا موضع هجوم من قبل القيادات الكاثوليكية). لقد أضحت الولايات المتحدة خائفة من الشيوعيين إلى حدِّ أنه لم يعد بوسعها السماح بحدوث مواجهة سلمية معهم، وعندما تكون خائفًا، ليس بوسعك أن تنتصر. كما أن إرسال 300.000 جندي إلى فيتنام وقصف الأرياف لم يؤدي إلا إلى تقوية الشيوعيين. العمليات العسكرية الأمريكية قتلت وجرحت من القرويين الأبرياء أكثر مما فعله الفيتكونغ، والأمريكيون مُلامون ومكروهون لهذا السبب. كما أن القرويين لا يكنُّون الكثير من العداء للفيتكونغ. فالأشدُّ عداءً للشيوعيين هم غالبًا أبناء المدن الذين يخشون فقدان ملكياتهم وسياراتهم وأعمالهم ومنازلهم، ويتكلون على جيش أجنبي لحمايتهم. وأيضًا، يجهل الجنود الأمريكيون طبيعة الشعب الفيتنامي. فيوميًا، يرتكب هؤلاء الجنود آلاف الأخطاء الصغيرة التي تجرح مشاعر الشعب الفيتنامي. كذلك فإن الهدير المتواصل للطائرات الأمريكية المحلِّقة فوق رؤوسنا، وهي في طريقها لإلقاء قنابلها، يجعل الشعب مشمئزًا وحانقًا. وبالتالي، من المفهوم أن يرتاب القرويون من أولئك المرتبطين بالحكومة الفيتنامية الجنوبية وبالأمريكان. وقد ساعدتُ، برفقة آخرين، على إنشاء مدرسة بوذية للشباب من أجل الخدمة الاجتماعية، ودرَّبنا آلاف الشباب من أجل العمل على مشاريع تنموية مشتركة في القرى. ورفضنا قبول أموال من الحكومة أو من "مجموعة المساعدة العسكرية الأمريكية". ودخلنا القرى خالين الوفاض إلا من الرداء الذي نرتديه، واستُقبِلنا بحفاوة. وقد أخبرنا القرويون الذين عملنا معهم أن المسؤولين الحكوميين المعيَّنين في مناصبهم لـ"مساعدتـ"هم يحتفظون بآلاف البيزويات (جمع "بيزو") لأنفسهم شهريًا ولا يفعلون شيئًا من أجل الفلاحين. والنتيجة كانت أنهم أصبحوا يكرهون الفيتكونغ ويخافون من الأمريكيين الذين تتواصل قنابلهم في التساقط عليهم. إن كانت الولايات المتحدة تريد تصعيد الحرب، فنحن الفيتناميين ليس بوسعنا إيقافها. وتغيير الحكومات لن يُحدِث فارقًا. فالحرب ستستمر. يعتقد الموقر تيك تري كوانغ أننا ربما قد نتوصل إلى السلام بشكل غير مباشر عن طريق المناورة السياسية ومن خلال الإنتخابات. إنه رجل فعل وشجاعة وفكر، وتعدُّ حياته نموذجًا يُقتَدى به. لكن هناك بوذيون آخرون يحاولون خلق مسار جديد يشدِّد على طرق مساعدة الناس الذين يعيشون على الأرض. وأنا نفسي أشكُّ بما يمكن تحقيقه عن طريق المناورة السياسية غير المباشرة ضد الحكومة والكاثوليك طالما بقيت الولايات المتحدة مصمِّمة على مواصلة الحرب. ومع التأكيد على صراعنا مع الحكومة في "دانانغ" وفي مدن أخرى تبقى استمرارية الحرب مسألة غير محسومة، لأن وحدها الولايات المتحدة هي من يقرر هذا الأمر. لذلك أعتقدُ بأن الأمر الأكثر فاعلية الذي نستطيع عمله، ومهما كانت الأخطار المحتملة، هو الدفاع عن السلام وإبلاغ العالم بأننا لا نريد هذه الحرب، وأن الشيوعيين تتعاظم قوتهم كل يوم بسبب استمراريتها، وأن وقفًا لإطلاق النار يجب أن يتم ترتيبه مع الفيتكونغ بأسرع ما يمكن. حين ذاك، سنرحب بمساعدة الأمريكيين في إعادة الإعمار السلمي لبلدنا. فقط أمريكا لديها القدرة على إيقاف هذه الحرب التي لم تدمر حياتنا فحسب، بل وثقافتنا وكل ما يمتُّ للقيم الإنسانية بصلة. القصائد التي سوف تلي ليست قصائد نموذجية من شعري الخاص أو من الشعر الفيتنامي عمومًا. فالتقاليد الشعرية في فيتنام قديمة جدًا ومعقَّدة. إنها أقرب إلى الشعر الصيني القديم، وإلى الشعراء الرومانسيين والرمزيين الفرنسيين في القرنين التاسع عشر والعشرين، كما أنها بالنسبة لي أقرب إلى كتَّاب الزن البوذيين. ويمكن أن يُقال إن الكثير من شعري "فلسفيٌ"، وقد وجده بعض الأصدقاء مشابهًا إلى حدٍّ ما لأعمال طاغور؛ لكنه على الأقل، شعر بالغ الصعوبة من ناحية ترجمته إلى اللغة الإنكليزية. لكن هذه القصائد مختلفة. إنها قصائد شعبية في قالب أبيات شعرية حرة. وعندما كتبتها، كنت أحاول التحدُّث ببساطة شديدة من أجل غالبية الفيتناميين، الذين هم قرويون ولا يستطيعون التعبير عن أنفسهم. إنهم لا يعرفون أو لا يهتمون كثيرًا لكلمات مثل "الشيوعية" أو "الديمقراطية"، لكنهم يريدون فقط أن تنتهي الحرب وأن ينجوا منها. لقد كتبتُ هذه القصائد لنفسي في البداية؛ لهذا فإني حين أقرؤها، أستطيع استعادة حالة الشعور الانفعالي الذي كان يتملكني حين نظمتها. إنها الآن تُقرأ وتُسمع من قبل الكثير من الفيتناميين؛ وإن كانت قد شُجِبت من قبل كلا الطرفين المتحاربين. فبعد بضعة أيام من نشرها السنة الماضية، داهمت الشرطة الحكومية المكتبات لمصادرتها، لكنها آنذاك كانت قد بيعت كلها. كما تمت مهاجمتها من إقبل ذاعة هانوي وإذاعة جبهة التحرير الوطنية. لقد جرت قراءتها مرات كثيرة علنًا سويَّة مع قصائد عن السلام لبوذيين آخرين، وتم غناؤها مُصاحِبة بالغيتار في لقاءات طلابية، مثلما تُغنَّى أغاني الاحتجاج في الولايات المتحدة. * * * شجب
استمع:
هنا، في حضرة النجوم المتراصَّة،
أيُّ مستمعٍ، هو شاهدي:
البشر ليسوا أعداءنا: حتى من يُدعون بالفيتكونغ. * حديقتنا الخضراء
تشتعل النيران في الأركان العشرة للمعمورة.
في كل مكان، يتَّقِد الأفق بلون الموت.
إلى أين أنت ذاهبٌ هذا المساء، يا أخي العزيز،
يا أعزَّ أخ، أنا أعلم أنك ستقتلني هذه الليلة،
أنا أقول وداعًا للمكان الملتهب المتفحِّم
هل بوسعك سماعي وأنا أتضرَّعُ إلى الظلمة،
عُدْ، يا أخي العزيز، واجثُ عند ركبة والدتنا.
إليك صدري. سدِّد بندقيتك نحوه، يا أخي، وأطلق
النار!
من سيبقى ليحتفل بنصر * سلام
أيقظوني هذا الصباح، ترجمة: غياث جازي نقلاً عن: New York Review of Books. 9 حزيران 1966 ٭ الفصل الثالث من كتاب المحبة في العمل، تيك نات هانه، ترجمة غياث جازي، معابر للنشر، دمشق، 2008.
|
|
|