ملخص كتاب فن الحب لإريك فروم

 

اعداد: نبيل سلامة

 

الكتاب يريد أن يقنِع القارئ بأن جميع محاولاته للحب يُقضى عليها بالفَشَل ما لم يحاوِل محاولةً أكثر فعالية لتطوير شخصيته الكلية، وذلك لكي يحقق هدفًا منتِجًا، وذلك الإشباع للحب الفردي لا يمكن الحصول عليه بدون مقدرة على محبة الجار وبدون التواضع الحق والشجاعة والإيمان والنظام.

هل الحب فن

إذا حدث لاثنين يكونان غريبين – شأننا جميعًا – أن سمحا فجأة للحائط بينهما أن يسقط وشعرا بالقربى، شعرا بأنهما أصبحا شخصًا واحدًا، فإن هذه اللحظة الخاصة بالشعور بالواحدية هي من أشد التجارب انبعاثًا للبهجة والإثارة. وهذه التجربة تكون باعثة أكثر للدهشة والإعجاز بالنسبة للأشخاص المنعزلين المتوحدين الذين بلا حب. وهذه الأعجوبة الخاصة بالحميمية الفجائية غالبًا ما تكون أمرًا سهلاً إذا ما اقترنت أو صدَرَت بجاذبية وتحقق جنسيين. وعلى أية حال، فإن هذا النمط من الحب لا يدوم بطبيعته نفسها. فالشخصان يزدادان تعرفًا على بعضهما، وتشرع حميميتهما في فقدان طابعها الإعجازي إلى أن يقتل تطاحنهما وخيبات أملهما وهمهما المشترَك ما يتبقى من الإثارة الأولى. ومع هذا فإنهما في البداية لا يعرفان كل هذا: إنهما يعتبِران شدة الافتتان، هذه "الجنة" ببعضهما دليلاً على شدة حبهما، بينما لا يبرهِن هذا إلا على درجة وحدتهما السابقة.

إلى جانب تعلِّم النظرية والتطبيق يوجد عامِل ثالِث ضروري لكي يصبِح الإنسان أستاذًا في أي فن – يجب أن تكون مسألة السيطرة على أي فن مسألة اهتمام قصوى. لا يجب أن يكون هناك أي شيء في العالَم أكثر أهمية من الفن. إن الوحدة المتحققة في العمَل الإنتاجي ليست وحدة بين أشخاص، والوحدة المتحققة في الاندماج العربيدي وحدة مؤقتة، والوحدة المتحققة عن طريق الامتثال ليست سوى وحدة زائفة. ومن ثم فهي ليسَت سوى حلول جزئية لمشكلة الوجود. ويكمن الحل الكامن في تحقيق الوحدة بين الأشخاص، تحقيق الاندماج مع شخص آخَر في الحب.

هذه الرغبة للاندماج مع شخص آخَر هي أكبر توق لدى الإنسان. إنها أشد عواطفه جوهرية، إنها القوة التي تبقي الجنس البشري متماسِكًا وكذلك القبيلَة والأسرَة والمجتمَع. والفشَل في تحقيق هذا الاندماج يعني الجنون أو الدمار – الدمار للذات أو الدمار للآخَرين. فبدون حب ما كان يمكن للإنسانية أن توجد يومًا واحدًا.

وفي مقابل الوحدة التكافلية، نجد أن الحب الناضِج هو الوحدة بشرط الحفاظ على تكامل الإنسان، الحفاظ على تفردية الإنسان. الحب هو قوة فعَّالَة في الإنسان، قوة تقتحِم الجدران التي تفصِل الإنسان عن رفاقه، والتي توحِّده مع الآخرين. إن الحب يجعله يتغلَّب على الشعور بالانفصال والعزلة. ومع هذا يسمح له أن يكون نفسه، أن يحتفِظ بتكامله. في الحب يحدث الانفراق: اثنان يصبحان واحدًا ومع هذا يظلان اثنين.

في الواقع، هذا الموقف الخاص بالتأمل المركَّز هو أقصى نشاط قائم، نشاط للنفس لا يكون ممكنًا إلا في ظل الحرية الباطنية والاستقلال. فهناك مفهوم آخَر للنشاط يشير إلى استخدام القوى المغروسة للإنسان بصرف النظر عما إذا كان قد حدث أي تغير فجائي... إن الإنسان وهو يمارس شعوره إيجابيًا يكون حرًا، يكون سيد شعوره. وهو عندما يمارس شعورًا سلبيًا يكون مساقًا، يكون موضوع الدوافع التي لا يعيها هو نفسه. ومن ثم يصل اسبينوزا إلى عبارته القائلة بأن الفضيلة والقوة شيء واحد وهما الشيء نفسه، إن الحسد والغيرة والطموح وأي نوع من الشرَه هي أهواء، والحب فعل ممارسة للقوة الإنسانية التي لا يمكن ممارستها إلا في الحرية وليس إطلاقًا كنتيجة إرغام.

الحب نشاط، وليس شعورًا سلبيًا، إنه "الوقوف" وليس "الوقوع" وبأشد الطرق عمومية يمكن وصف الطابع الإيجابي للحب بقولنا أن الحب هو العطاء أساسًا وليس التلقِّي.

ما هو العطاء؟ أكبر سوء فهم على نطاق متَّسِع، هو ذلك الذي يفترِض أن العطاء هو "التخلي عن" شيء، هو الحرمان، هو التضحية.

العطاء أكثر ابتعاثًا للفرح من التلقي، لا لأنه حرمان، ولكن لأن في فعل العطاء يكمن التعبير عن اتقادي بالحياة.

ومن يكن قادرًا على أن يعطي من ذاته فهو غني، وهو يعيش نفسه كإنسان يستطيع أن يعطي نفسه للآخَرين. إن أهم مجال للإعطاء ليس هو مجال الأشياء المادية، بل هو المجال الذي يكمن في العالَم الإنساني بصفة خاصة. فماذا يعطي الإنسان للآخَر؟ إنه يعطي من نفسه، من أثمن ما يملِك، إنه يعطي من حياته. وليس هذا يعني بالضرورة أن يضحي بحياته للآخَر – بل إنه يعني أنه يعطيه من ذلك الشيء الحي فيه، إنه يعطيه من فرحه، من شغفه، من فهمه، من علمه، من مرحه، من حزنه – من كل التعابير والتجليات لذلك الشيء الحي الذي فيه. وهكذا بإعطائه من حياته إنما يثري الشخص الآخَر، إنه يعزِّز شعور الآخَر بالحياة وذلك بتعزيزه لشعوره هو بالحياة. إنه لا يعطي لكي يتلقى، العطاء هو في ذاته فرح رفيع... العطاء يتضمن جعل الشخص الآخَر معطاء أيضًا، والاثنان يشتركان في فرح ما قد حملاه إلى الحياة. في فعل العطاء يولد شيء، وكلا الشخصين يكونان شاكرين للحياة التي تولد لهما كليهما. ويعني هذا بالنسبة للحب أن الحب قوة تنتج الحب.

وليس من الضروري أن نؤكِّد أن القدرة على الحب كفعل للعطاء إنما تتوقف على طبيعة تطور الشخص. إنها تفترِض اجتياز نزوع منتِج على نحو سائد، وفي هذا النزوع يكون الشخص قد قهر التبعية والشمولية النرجسية والرغبة في استغلال الآخَرين أو كنز المال، ويكون قد حصل على الإيمان بقواه الإنسانية والشجاعة في الاعتماد على قواه في الحصول على أهدافه. وهو بقدر ما تكون هذه الصفات ناقِصَة يكون خائفًا من إعطاء نفسه – ومن ثم يكون خائفًا من الحب.

وبجانب عنصر العطاء، فإن الطابع الإيجابي للحب يصبح جليًا من أنه يتضمَّن دائمًا عناصر رئيسية معينة شائعَة في جميع أشكال الحب. هذه العناصِر هي: الرعاية والمسؤولية والاحترام والمعرفة.

الحب هو الاهتمام الفعَّال بحياة ونمو ذلك الذي نحبه

المسؤولية اليوم تعني في الغالِب الإشارة إلى الواجِب، الإشارة إلى شيء مفروض على الإنسان من الخارج. ولكن المسؤولية في معناها الحقيقي هي فعل إرادي تمامًا. إنها استجابتي لاحتياجات إنسان آخَر سواء عبَّر عنها أم لم يعبِّر. أن تكون "مسؤولاً" يعني أن تكون قادرًا ومستعدًا لأن "تستجيب".

إن المسؤولية يمكن بسهولة أن تتدهور إلى الهيمنة والتملُّك إذا لم تتألَّف من العنصر الثالِث للحب ألا وهو الاحترام. ليس الاحترام خوفًا وخشية، إنه يشير – تمشيًا مع جذر الكلمة (Respicere تعني التطلُّع إلى) – إلى القدرة على رؤية شخص كما هو وإدراك فردانيته المتفردَة. الاحترام يعني الاهتمام بأن الشخص الآخَر إنما ينمو ويتكشَّف على نحو ما هو عليه...

فإذا أحببتُ شخصًا آخَر فإنني أشعر أنني صرت معه أو معها شخصًا واحدًا، ولكني صرتُ معه شخصًا واحدًا على نحو ما هو عليه لا على نحو ما أنا محتاج إليه ليكون موضوعًا لفائدتي. الاحترام لا يكون ممكنًا إلا إذا حققت الاستقلال. والاحترام لا يوجد إلا على أساس الحرية: "الحب هو وليد الحرية".

ولا يكون احترام الشخص ممكنًا بدون معرفته... وهي لا تكون ممكنة إلا عندما أتجاوز الاهتمام بنفسي وأرى الشخص الآخَر في إطاره.

الحب هو الطريق الوحيد للمعرفة والذي يرِد على تساؤلي في فعل الوحدة. في فعل الحب، في فعل إعطاء النفس، في فعل النفاذ إلى الشخص الآخَر، أجد نفسي أكتشِف نفسي، أكتشف كلينا، أكتشف الإنسان.

الطريق الوحيد للمعرفة الكامِلَة يكمن في فعل الحب: إن هذا الفعل يتجاوز الفكر، يتجاوز الكلمات. إنه الانغمار الجريء في تجربة الوحدة.

إن تجربة الوحدة أو الاتحاد بالإنسان، أو بالله إذا تحدثنا على نحو ديني ليست تجربة لاعقلانية. بل على العكس، إنها على نحو ما نوَّه ألبرت شفايتزر نتيجة العقلانية. إنها نتيجتها الجريئة والمتطرفة للغاية. إنها قائمة على معرفة محدوديات معرفتنا الرئيسية لا العَرَضية. إنها المعرفة بأننا لن "نستحوِذ" مطلقًا على سر الإنسان والكون، ولكننا مع هذا نستطيع أن نعرف في فعل الحب. إن علم النفس كعلم له حدوده، وكما أن النتيجة المنطقية للاهوت هي التصوف فإن النتيجة القصوى لعلم النفس هي الحب.

الرعاية والمسؤولية والاحترام والمعرفة كلها متشابكة ومعتمِد كل منها على الآخَر. إنها عرض لأنظار نجدها في الشخص الناضِج، أي في الشخص الذي ينمِّي قواه على نحوٍ مثمِر، الشخص الذي لا يريد أن يملك سوى ذلك الذي عمل من أجله: الشخص الذي أقلع عن الأحلام النرجسية الخاصة بالمعرفة بكل شيء والقدرة على كل شيء، الشخص الذي احتاز على التواضع القائم على القوة الباطنية التي لا يستطيع إعطاءها سوى النشاط المستمر الأصيل.

أطيل الكلام عن الحب بأنه قهر الانفصال الإنساني، بأنه تحقق الاشتياق إلى الوحدة أو الاتحاد. ولكن فوق الحاجة الوجودية الشامِلَة للوحدة تنشأ حاجة بيولوجية أكثر خصوصية: الرغبة في الوحدة بين قطبي الذكر والأنثى. فكما أن لدى الرجل والمرأة من الناحية الفسيولوجية هرمونات الجنس الآخَر، فإنهما مزدوِجا الجنسية أيضًا بالمعنى السيكولوجي. إنهما يحملان في نفسيهما مبدأ التلقي والنفاذ. مبدأ المادة والروح. إن الرجل – والمرأة – لا يجدان وحدتيهما داخل نفس كل منهما إلا في وحدتهما الذكرية والأنثوية. وهذه القطبية هي أساس كل إبداعية.

إن قطبية الذكر–الأنثى هي أيضًا الأساس للإبداعية بين الأشخاص. ويتضِح هذا بيولوجيًا في أن اتحاد الحيوان المنوي للذكر ببويضة الأنثى هي أساس ميلاد الطفل. ولكن في العالم النفسي المحض الأمر ليس مختلفًا، ففي الحب بين رجل وامرأة تعاد ولادتهما من جديد.

إن مشكلة القطبية الذكرية–الأنثوية تفضي إلى نقاش آخَر عن موضوع الحب والجنس. لقد تكلمت من قبل عن خطأ فرويد في أنه رأى في الحب على نحو مطلق التعبير إعلاء أو تساميًا – للغريزة الجنسية – بدلاً من أن يتبيَّن أن الرغبة الجنسية هي تجل من تجليات الحاجة إلى الحب والاتحاد.

الحب بين الوالدين والطفل

تكون المشكلة عند معظَم الأطفال بين سن الثامنة إلى العاشِرَة على نحو يكاد يكون مطلقًا أن يُحَبَّ – أن يُحَبَّ لما هو عليه.

عند هذه النقطة في تطور الطفل يدخل عامل جديد في الصورة. شعور جديد بإنتاج الحب بسبب نشاط الفرد... لأول مرة في حياة الطفل تتحول فكرة الحب من كونه محبوبًا إلى كونه محبًا: تتحول إلى خلق الحب.

ويحدث للطفل – الذي يمكن الآن أن يكون يافعًا – أن يتغلب على تمركزه حول ذاته، لا يعود الشخص الآخَر وسيلة أساسًا لإشباع حاجته. إن احتياجات الشخص الآخَر تكون مهمة بقدر أهمية احتياجاته هو – وفي الواقِع إنها تصبح أكثر أهمية. الإعطاء قد أصبح أكثر ابتعاثًا للإشباع والفرَح من التلقي. إنه وهو يحب يكون قد ترك خلية سجن الوحدة، ذلك السجن الذي أنشأته حالة النرجسية والتمركز الذاتي.

إن الحب الطفولي يسير على مبدأ "إنني أحب لأنني محبوب" أما الحب النرجسي فإنه يسير على مبدأ "إنني أحبك لأنني أحتاج إليك" أم الحب الناضِج فيقول: "إنني أحتاج إليك لأنني أحبك".

تكون الأم والطفل شيئًا واحدًا، بالرغم من أنهما اثنان. إن الميلاد يغير الموقف في بعض النواحي، فالطفل وهو الآن يعيش خارج الرحم، لا يزال يعتمد اعتمادًا كليًا على الأم. ولكنه يصبِح بمرور الأيام أكثر استقلالاً: إنه يتعلَّم المشي والكلام واكتشاف العالَم بنفسِه، وتفقد العلاقة بالأم بعضًا من دلالتها الحيوية وبدلاً من هذا نجد أن العلاقة بالأب تزداد أهمية.

على حين أن الأب لا يمثّل العالَم الطبيعي فإنه يمثّل القطب الآخَر للوجود الإنساني، عالَم الفكر، عالَم الأشياء التي من صنع الإنسان، عالَم القانون والنظام، عالَم الانتظام، عالم السفَر والمغامَرَة...

إن العلاقة بالأب مختلِفَة تمامًا، الأم هي البيت الذي أتينا منه، إنها الطبيعة. إن الطفل يحتاج إلى حب الأم المطلق ورعايتها الفسيولوجية والسيكولوجية على حد سواء. ويبدأ الطفل بعد السادسة يحتاج إلى حب الأب وسلطته وإرشاده. إن للأم وظيفة جعله آمنًا في الحياة، وللأب وظيفة تعليمه وإرشاده لكي يواجِه تلك المشكلات التي يواجه بها المجتمَع الخاص الطفل. وفي هذا التطور من التعلق الممركز حول الأم إلى التعلق الممركَز حول الأب والمركَّب الذي يتكوَّن منهما يكمن أساس الصحة العقلية، وتحقيق النضج. وفي فشل هذا التطور يكمن السبب الرئيسي للعصاب. يمكن لأحد أسباب التطور العصابي أن يكمن في أن للطفل أمًا محبَّة، ولكن مغرَمَة في الحب، أو مهيمنة عليه، وأبًا محبًا ولكنه ضعيف وغير مهتم. وفي هذه الحالَة يمكن أن يظل الطفل مثبَّتًا في مرحلة مبكرة من التعلُّق بالأم، ويتطوَّر إلى شخص يعتمِد على الأم ويشعر بالعجز وله حالات التوق المميزة للشخص المتلقي أي التلقي لكي يحصل على الحماية والرعاية والذي تنقصه الصفات الأبوية: النظام، الاستقلال، وقدرته على السيطرة على الحياة. وقد يحاوِل أن يجد "أمهات" في كل شخص.

والشيء المميز لكل هذه التطورات العصابية هو أن أحد المبدأين الأبوي أو الأمومي يفشل في التطور أو – وهذه هي الحالة في التطور العصابي الشديد – أن يختلِط دورا الأم والأب معًا بالنسبة للأشخاص في الخارج وبالنسبة لدوريهما في داخِل الشخص. وقد يكشف الفحص الأدق أن بعض أنماط العصاب كالعصاب الحصري تتطور أكثر على أساس تعلُّق أبوي أحادي الجانب على حين أن الأنماط الأخرى مثل الهستيريا والإدمان والعجز عن تأكيد الذات ومجاراة الحياة وأشكال الاكتئاب تنتج من التمركز حول الأم.

موضوعات الحب

ليس الحب أساسًا علاقة بشخص معيَّن، إن الحب موقف، اتجاه للشخصية يحدد علاقة شخص بالعالَم ككل، لا "نحو موضوع" واحد للحب.

إذا كنت أحب شخصًا واحدًا حبًا حقيقيًا، فإنني أحب الأشخاص جميعًا، أحب العالَم، أحب الحياة. إذا استطعت أن أقول لشخص آخَر "إنني أحبك" فيجب أن أكون قادِرًا على أن أقول: "إنني أحب فيك كل شخص، أحب من خلالك العالَم، أحب فيك نفسي أيضًا".

إن القول بأن الحب نزوع يشير إلى الكل وليس إلى واحد لا يتضمّن على أية حال الفكرة التي تذهَب إلى أنه لا توجد فروق بين الأنواع المختلِفَة للحب التي تعتمد على نوع الموضوع الذي يُحَبُّ.

أ – الحب الأخوي:

أشد أنواع الحب أساسية الذي يتضمن جميع أنواع الحب هو الحب الأخوي وأقصد بهذا الشعور بالمسؤولية والرعايَة والاحترام والمعرفة إزاء أي كائن إنساني آخَر، والرغبة في تطوير حياته... الحب الأخَوي هو حب لكل البشَر الآخَرين، وهذا الحب يتصِف بأنه حب من الاستثناء. فإذا طوَّرت مقدرتي على الحب فهذا يعني أنني لا أملك سوى حب إخوتي. في الحب الأخوي توجد تجربة الاتحاد بكل الناس، توجد تجربة التضامُن الإنساني. يقوم الحب الأخوي على تجربة أننا جميعًا واحد.

ب – الحب الأمومي

أرض الميعاد (الأرض دائمًا هي رمز للأم) توصَف بأنها "تتدفَّق لَبَنًا وعَسَلاً". اللبَن هو رمز الجانب الأول للحب: ذلك الجانِب الخاص بالرعاية والتأكيد. والعَسَل يرمز إلى حلاوَة الحياة ومحبتها والسعادة في أن الإنسان حي. معظم الأمهات قادرات على إعطاء "اللبن" لكن قلة منهن قادرات على إعطاء "العسل" أيضًا.

إن حب الأم للحياة مُعدٍ بقدر ما أن قلقها مُعْدٍ. كلا الموقفين لهما تأثير عميق على الشخصية الكلية للطفل: ويمكن للإنسان في الحقيقة أن يُفَرَّق داخل الأطفال – واليَافِعين – بين أولئك الذين ليس لديهم سوى "اللبَن"، وأولئك الذين قد حصلوا على "اللبن والعسَل".

ولكن مهما يكن ثِقَل هذا العامِل الغريزي فإن هناك أيضًا عوامل سيكولوجية إنسانية خاصة مسؤولة عن هذا النوع من الحب الأمومي. يمكننا أن نجد عامِلاً منها في العنصر النرجسي في الحب الأمومي. فبقدر ما أن الطفل لا يزال يشعر أنه جزء منها، فإن حبها وافتتانها قد يُعَدَّان إشباعًا لنرجسيتها. ويمكن أن نجِدَ دافِعًا آخَر في رغبَة الأم في القوة أو التملُّك.

في الحب الشبَقي نجد أن اثنين منفصِلَين يصبحان واحدًا. وفي الحب الأمومي نجد أن اثنين هما شخص واحِد يصبحان منفصلين.

ج – الحب الشبقي أو الجنسي

إذا أحببتُ أخي، فإنني أحب جميع إخوتي، وإذا أحببت طفلي فإنني أحب جميع أطفالي بل إنني أحب جميع الأطفال. وعلى عكس نمطَيْ الحب هذين يكون الحب الجنسي، إنه سعي للاندماج الكامِل، للاتحاد مع شخص آخَر. وهو بطبيعَته قاصِر على شخص وليس مطْلَقًا، وربّما كان هذا الحب أشد أنواع الحب خداعًا.

عند معظَم الناس الحميمية تقوم أساسًا من خلال العلاقة الجنسية. ولما كانوا يعيشون انفصال الشخص الآخَر أساسًا كانفصال جسماني، فإن الاتحاد الجسماني يعني قهر الانفصال. ولكن كل هذه الأنواع من القربى تميل إلى النقصان أكثر بمرور الزمن. والنتيجة هي أن يبحث الواحد عن الحب مع شخص جديد، مع غريب جديد. ومرة أخرى يتحول الغريب إلى شخص "حميم"، مرة أخرى تشتد وتتضاعَف تجربة الوقوع في الحب، ومرة أخرى تقل الشدة على نحو بطيء، وتنتهي بالرغبة في انتصار جديد، حب جديد – ودائمًا مع وجود الوهم أن الحب الجديد سيكون مختلِفًا عن حالات الحب السابِقَة. ويساعِد على هذه الأوهام طابع الرغبة الجنسية الخادِع.

ولما كانت الرغبة الجنسية – وهي التي تهدف إلى الاندماج – في عقول معظَم الناس مقترَنَة بفكرة الحب، فهم يخطئون عندما يتوصلون إلى أنهم يحبون بعضًا عندما يشتهون بعضهم جسمانيًا. يمكن للحب أن يلهِم الرغبة في الوحدة الجنسية... فإذا لم يكن الحب هو الذي يبعَث الرغبة في الاتحاد الجسماني، وإذا لم يكن الحب الجنسي أيضًا حبًا أخويًا فإن هذه الرغبة لا تفضي إطلاقًا إلا إلى وحدة لا تزيد عن الشعور العربيدي المؤقت العابِر. ليسَت الرقة بأية حال – كما يعتقِد فرويد – تساميًا بالغريزة الجنسية، وإنما هي المحصِّلَة المباشرة للحب الأخوي.

الحب الجنسي استثناء، لكنه يحب في الشخص الثاني البشرية جمعاء وكل ما هو حي. إنه ليس استثناء إلا بمعنى أنني أستطيع أن أدمج نفسي على نحوٍ كامِلٍ وشديد بشخص واحِدٍ فقط. الحب الجنسي لا يستبعِد الحب للآخَرين إلا بمعنى الاندماج الجنسي، الالتزام الكامِل لجميع جوانب الحياة – ولكن ليس بمعنى الحب الأخوي العميق.

الحب الجنسي، لو كان حبًا، له مقدمة واحدة، إنني أحب من جوهر وجودي وأعيش الشخص الآخَر في جوهر وجوده أو وجودها. ومن الناحية الجوهرية نجد أن كل البشَر متماثِلون. إننا جميعًا جزء من الواحِد، إننا الواحِد، وهكذا يجب أن يكون الحب جوهريًا فعلاً للإرادَة، للقَرَار الخاص بإلزام حياتي تمامًا لحياة هذا الشخص.

فإذا تم الزواج، فيجب على فعل الإرادة أن يضمن استمرار الحب.

د – حب الذات

حب الذات عند فرويد هو نفسه النرجسية، تحول الليبيدو إلى النفس. والنرجسية هي أقدم مرحلة في التطور الإنساني، والشخص الذي تتحول في حياته المتأخرة إلى هذه المرحلة من النرجسية عاجز عن الحب.

الشخص الأناني ليس مهتمًا إلا بنفسه ويريد كل شيء لنفسه، ولا يشعر بأية لذة في العطاء، بل يشعر بها في الأخذ. إنه يفتقِد الاهتمام بحاجات الآخَرين. إنه لا يستطيع أن يرى سوى نفسه، إنه يحكم على كل فرد وكل شيء من زاوية النفع بالنسبة له، إنه – أساسًا – عاجز عن الحب... الشخص الأناني لا يحب نفسه كثيرًا بل يحبها قليلاً جدًا، إنه في الواقِع يكره نفسه. وهذا الافتقاد للإعجاب والرعاية لنفسه يتركه خاويًا ومحبَطًا... لقد ذهب فرويد إلى أن الشخص الأناني نرجسي كما لو كان قد سحب حبه من الآخرين وحوَّلَه إلى شخصه.

وأسهل علينا أن نفهم الأنانية بمقارنتها بالاهتمام الشرِه بالآخَرين كما نجدها مثلاً في الأم المفرطة في تعلقها. فعلى حين أنها تعتقِد – بوعي – أنها مغرمَة بصفة خاصة بطفلها، فإنها في الواقِع تملك عداوة مكبوتة عميقة نحو موضوع اهتمامها. إنها مفرِطَة في الاهتمام لا لأنها تحب الطفل كثيرًا جدًا، بل لأن عليها أن تعوِّض افتقادها للقدرة على حبه أصلاً.

يقول إيكهارت: "إذا أحببت نفسك فقد أحببت كل شخص آخَر كما تفعل إزاء نفسك. وطالما أنك تحب شخصًا آخَر أقل مما تحب نفسَك، فلن تنجح حقًا في حبك نفسك، ولكن إذا أنت أحببت الجميع على السواء بما في ذلك نفسك فسوف تحبهم كشخص واحد وهذا الشخص هو كلا الله والإنسان ومن ثم سيكون شخصًا عظيمًا وعلى حق ذلك الذي هو يحب نفسه يحب جميع الآخَرين على حد سواء".

هـ - حب الله

في المرحلة الأمومية تكون الأم هي الكائن الأسمى. إنها الإلهة. وهي أيضًا السلطة في الأسرة والمجتمَع. إن حب الأم مطلق، إنه شامِل الحماية، إنه مستحوذ محيط. ولما كانت الأم تحب أطفالَها لأنهم أطفالها، وليس لأنهم مطيعون أو "طيبون" أو يحققون رغباتها وأوامرها، فإن حب الأم قائم على المساواة. كل الناس متساوون لأنهم جميعًا أطفال أم، لأنهم جميعًا أطفال الأرض الأم.

المرحلة التالية هي المرحلة الأبوية. وفي هذه المرحلة تُخلَع الأم عن عرش مكانتها السامية، ويصبِح الأب هو الكائن الأعلى في الدين والمجتمَع على السواء.

وطبيعة الحب الأبوي هي أنه يضع مطالِب ويؤسِّس مبادئ وقوانين وأن حبَّه لابنه متوقف على طاعة الأخير لهذه المطالِب. ويسير تطور المجتمع الأبوي مع تطور الملكية الخاصة. ونتيجة لهذا، المجتمع الأبوي مجتمَع هرَمي، فالمساواة بين الأخوة تتراجَع أمام المنافَسَة والنزاع المتبادَل. إن الجانب الأبوي يجعلني أحب الله كابنٍ، إنني أفترِض أنه عادِل وصارِم، وأنه يعاقِب ويكافئ، وأنه سيحدث أن يختارني كابنه المحبوب.

وفي الجانب الأمومي للدين أحب الله كأم تحتضِن الجميع. إن لدي إيمانًا بحبها إنها سوف تحبني، إنها لن تفضِّل أحدًا آخَر من أولادها عليَّ، ومهما يحدث لي سوف تنقذني وسوف تسامحني.

يصبح الله بالنسبة للشخص المتدين حقًا رمزًا فيه يعبر الإنسان في مرحلة مبكرة من تطوِّره عن الشمولية التي يسعى إليها الإنسان، مملكة العالَم الروحي، مملكة الحب والعدل والحق.

من وجهات النظَر الهندية والصينية والصوفية لا تكون المهمة الدينية للإنسان هي التفكير الحق، بل السلوك الحق، أو أن يتحد المرء مع الواحِد في فعل التأمل المركز.

يبدأ الطفل بالتعلُّق بأمه باعتبارها "أساس الوجود كله". إنه يشعر بالعجز وهو يحتاج إلى حب الأم المحيط الشامِل. ثم حينئذ يستدير إلى الأب باعتباره المركز الجديد: باعتباره المبدأ المرشِد للعَدْوِ والعمَل. وفي هذه المرحلَة يمتلئ بدافع الحاجة إلى اكتساب ثناء الأب وتجنب ضرره. وفي مرحلة النضج الكامل يحرر نفسه من شخص الأم وشخص الأب باعتبارهما قوتي الحماية والأمر. إنه يكون قد أنشأ مبدأي الأمومَة والأبوة في نفسه. لقد أصبح هو أباه وأمه. إنه الأب والأم. وفي تاريخ الجنس البشري نرى – ويمكننا أن نتنبأ بـ – التطور نفسه: في البداية يكون حب الله مثل التعلق العاجز بالربة الأم. ومن خلال التعلق المطيع للإله الأب، ينتقِل إلى مرحلة ناضجة يكف فيها الله عن أن يكون قوة خارجية، حيث يكون الإنسان قد جسَّد مبدأي الحب والعدل في نفسه، حيث أصبح متحدًا مع الله إلى درجة لا يتحدث فيها عن الله إلا بشكل شعري رمزي.

ومن هذه الاعتبارات يترتب أن حب الله لا يمكن أن ينفصِل عن حب الإنسان لوالديه. فإذا لم يخرج الإنسان من التعلُّق الشديد بالأم والقبيلة والأمة، إذا تمسَّك بالاعتماد الطفولي على الأب المعاقِب والمثيب أو أية سلطة أخرى فإنه لا يستطيع أن ينمِّي حبًا أكثر نضجًا لله، وعندئذ يكون دينه هو تلك المرحلة المبكرة من الدين التي يعاش فيها الله كأم شامِلَة الحماية أو كأب يعاقِب ويثيب.

يحتفظ كل إنسان في داخِلِه، في لاشعوره، كما أوضح فرويد، بجميع المراحل ابتداء من الطفل العاجِز إلى ما بعد ذلك. والمسألة هي إلى أي حد قد شب. هناك شيء واحد مؤكد: إن طبيعة حبه لله تتفق مع طبيعة حبه للإنسان، وزيادة على ذلك، إن الصفة الحقيقية لحبه لله والإنسان غالبًا ما تكون لاشعورية مغطاة ومعقلنة بفكرة أكثر نضجًا عما هو حبه. زيادة على ذلك، إن حبه للإنسان وهو يتجسَّد مباشرة في علاقاته بأسرته هو – في التحليل الأخير – إنما يتجدد ببناء المجتمع الذي يعيش فيه.

الحب وتفككه في المجتمع الغربي المعاصِر

يمكن صياغَة المشكلة الإنسانية للرأسمالية الحديثة بهذه الطريقة: تحتاج الرأسمالية الحديثة إلى الناس الذين يتعاونون بشكل هادئ وبأعداد كبيرة، الناس الذين يريدون أن ينفقوا أكثر وأكثر، والذين تصبح أذواقهم متساوية وفق معيار محدد، والذين يمكن التأثير عليهم وتوجيههم بسهولة. إنها تحتاج إلى أناس يشعرون بأنهم أحرار ومستقلون، وليسوا خاضعين إلى أية سلطة أو أي مبدأ أو أي ضمير – ومع هذا يكونون راغبين في أن يأتمروا ويفعلوا ما هو متوقع منهم وأن يتلاءموا في الآلة الاجتماعية دون اختلاف، والذين يمكن توجيههم بدون قوة، ويمكن أن يقادوا بدون قادة وأن ينتشِروا بدون هدف – فيما عدا هدف واحِد هو عمل الخير، وأن يكونوا في التيار وأن يعملوا ويستمروا.

إن الإنسان الحديث يتغذَّى جيدًا، يكتسي جيدًا، يُشبِع رغباته الجنسية، وفكاهته تكمن في إشعاع استهلاك السلَع و"أخذها"، وكذلك الطعام والمشروبات والسجائر والناس والمحاضرات والكتب والسينما – كلها تُستهلَك وتُبتلَع. العالَم هو موضوع كبير لشهيتنا. إن شخصيتنا قد جُهِّزَت للمقايَضَة والتلقي، للمسامرة والاستهلاك، وكل شيء. الأشياء الروحية وكذلك الأشياء المادية تصبح موضوع مقايضة واستهلاك.

ليس الحب نتيجة الإشباع الجنسي، بل إن السعادة الجنسية، حتى معرفة ما يسمى بالتقنية الجنسية، هي نتيجة الحب.

تجعل أشكال الكف أو الكبت الحبَ مستحيلاً. إن الخوف أو الكراهية للجنس الآخَر قائم في جذر تلك الصعوبات التي تحول بين الشخص وأن يعطي نفسه كاملاً، تحول بينه والتصرف تلقائيًا، تحول بينه والثقة في الشريك الجنسي، في مباشرة وملاصقَة القربى الجسمانية. فإذا انتقل الشخص المكبوت جنسيًا من الخوف أو الكراهية، ومن ثمَّ أصبح قادرًا على الحب، فإن مشكلاته تكون قد حُلَّت.

لا يصلح الإشباع الكامِل لجميع الاحتياجات الغريزية فقط كأساس للسعادة، بل لا يتضمن حتى الصحة العقلية. فالذين يكرسون حياتهم لإشباع جنسي غير محدود لا يحصلون على سعادة، بل يعانون في الأغلَب من الصراعات أو الأعراض المرَضية العصابية الشديدة. غير أن فكرة فرويد ما كان لها أن تصبح على هذه الدرجة من الشعبية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية إلا بسبب التغيرات التي حدثت في روح الرأسمالية من التأكيد على التوفير إلى التأكيد على الإنفاق، من إحباط الذات كوسيلة للنجاح الاقتصادي إلى الاستهلاك كأساس لسوق آخِذ في الاتساع وكإشباع رئيسي لفرد قلِق تمكنن.

الشرط الرئيسي للحب العصابي يكمن في أن أحد المحبين أو أن كليهما يظلان متعلِّقين بشخص الأب، ويحول، أو يحولان، المشاعر والتوقعات والمخاوِف التي سبق أن تملكته تجاه الأب أو الأم إلى الشخص المحبوب في حياة اليفاعة. إن هؤلاء الأشخاص لم يخرجوا إطلاقًا من أنموذج التعلق الطفولي، وهم يبحثون عن هذا الأنموذج في المطالِب العاطفية في حياة اليفاعَة. وفي هذه الحالات، يظل الشخص – من الناحية العاطفية – طفل اثنين أو خمسة أو اثني عشر عامًا على حين أنه من الناحية العقلية والاجتماعية على مستوى عصره الذي يتتابع تاريخيًا. وفي الحالات الأشد، عدم النضج العاطفي هذا يؤدي إلى اضطرابات في تأثراته الاجتماعية. وفي الحالات الأقل حدة يكون الصراع محدودًا على مجال العلاقات الحميمية.

نجد علاقة الحب العصابي كثيرًا اليوم، وهي تتناوَل الناس الذين ظلوا في تطورهم العاطفي مثبَّتين في تعلُّقهم الطفلي بالأم. هؤلاء رجال لم يُفطَمُوا بعد من أمهم. هؤلاء الناس لا يزالون يشعرون كالأطفال إنهم بحاجة إلى حماية الأم وحبها ودفئها ورعايتها وإعجابها، إنهم يريدون حب الأم المطلَق، وهو حب يُعطَى لا لسبب سوى أنهم يحتاجون إليه، وأنهم أطفال الأم وأنهم عاجزون... إذا ما حاولوا أن يغروا امرأة لكي تحبهم، وحتى بعد أن ينجحوا في هذا، تبقى علاقتهم بالمرأة (مثل علاقتهم بكل الآخَرين في الواقِع) طفيلية وغير مسؤولة. إن هدفهم هو أن يُحَبّوا لا أن يُحبّوا. وعادة ما يكون هناك قدر كبير من العَبَث لدى هذا النوع من الرجال، وأفكار بالعظَمَة خفية بشكل أو بآخَر، فإذا وجدوا المرأة المناسبة فإنهم يشعرون بالأمان، وبإنهم على قمة العالَم. وهم يستطيعون إظهار قدر كبير من الحب والسحر، وهذا هو السبب الذي يجعلهم مخادِعين في الأغلَب. ولكن، عندما لا تستمر المرأة – بعد مدة – في أن تعيش وفق توقعاتهم الخيالية الناشطة، تبدأ الصراعات والاستياء. خصوصًا إذا لم تكن المرأة تُعجَب بهم دومًا، وإذا أبدَت مطالب للحياة خاصةً بها، وإذا أرادَت أن تُحبَّ وأن تحمي نفسها.

لا يزال هناك شكل أكثر حدة من المرَض هو التثبيت والتعلُّق بالأم، وهو مرض أكثر عمقًا وأكثر لاعقلانية. وعلى هذ المستوى ليسَت الرغبة – إذا ما تحدثنا رمزيًا – هي العودة إلى ذراعيْ الأم الدافئين، ولا العودة إلى صدرها المغذي، بل إلى رحمها المتلقي الشامِل – والمدمِّر الشامِل. فإذا كانت طبيعة الصحة العقلية هي النمو من الرحم إلى العالَم، فإن طبيعة المرض العقلي الشديد هو الانجذاب إلى الرحم، الدخول فيه من جديد – وهذا يعني الانسحاب من الحياة. هذا النوع من التثبيت يحدث عادة في العلاقة بالأمهات اللواتي يربطن أنفسَهن بأطفالِهن. في هذه الطريقة الملتهِمَة المدمرَة، وأحيانًا باسم الحب، وأحيانًا باسم الواجِب، يردنَ أن يبقينَ الطفل واليافِع والرجل داخلهن، فهو لا يجب أن يكون قادرًا على التنفس إلا من خلالهن، غير قادر على الحب إلا على مستوى جنسي زائف مع الحط من شأن جميع النساء الأخريات، يجب ألا يكون قادِرًا على أن يكون حرًا ومستقلاً وألا يصبِح سوى مشلول أبدي أو مجرم أبدي.

هذا الجانِب للأم، الجانِب التدميري المبتلِع، هو الجانِب السلبي لشخص الأم. تستطيع الأم أن تعطي الحياة، وتستطيع أن تأخذ الحياة. إنها الشخص الذي يُحِبّ، وهي الشخص الذي يدمِّر. تستطيع أن تأتي بأعاجيب الحب، وما من مخلوق يستطيع أن يؤذي أكثر منها. وفي الصور الدينية (مثل كالي الربة الهندوسية)، وفي رمزية الحلم يمكن للجانبين المتقابِلَيْن للأم أن يوجدا في أغلب الأحيان، وهناك خطأ متكرر وهو الوهم القائل بأن الحب يعني بالضرورة غيبة الصراع، غير أن السبب لهذا يكمن في أن "صراعات" معظَم الناس هي بالفعل محاولات لتجنُّب الصراعات الحقيقية. إن هذه الصراعات هي عدم اتفاقات حول المسائل الثانوية أو التافِهَة وهي بطبيعتها لا تؤدي إلى وضوح أو إلى حل، أما الصراعات الحقيقية بين شخصين: الصراعات التي تفيد، والتي تعاش على المستوى العميق للواقع الباطني الذي تنتمي إليه، هي صراعات غير مدمِّرَة، إنها تفضي إلى جلاء المسألة، تُنتِج تطهيرًا منه ينبثِق الشخصان ولديهِم مزيد من المعرفة ومزيد من القوة.

لا يكون الحب ممكنًا إلا إذا تواصَلَ شخصان معًا من مركز وجودهما، ومن ثم إذا عاش كل منهما بنفسه من مركز وجوده. في هذه "الإعاشَة المركزية" تكمن الحقيقة الإنسانية، هنا فقط تكمن الحياة، هنا فقط يوجد أساس الحب. والحب معاشًا على هذا النحو، هو تحدٍّ دائم. إنه ليس مستقرًا للراحَة، بل هو تحرُّك ونمو وعمل مشترك. حتى إذا كان هناك تناغم أو كان هناك صراع، إذا كان هناك فرح أو كان هناك حزن،... إن شخصين يعيشان نفسيهما من ماهية وجودهما، كل منهما واحِد بالنسبة للآخَر، عن طريق أن يصبحا واحدًا مع نفسيهما بدلاً من الهرب من نفسيهما.

هناك دليل واحِد على حضور الحب هو عمق العلاقة والحيوية، والقوة في كل شخص منهما، هذه هي الثمرة التي يُدرَك بها الحب.

تنفصِل الحياة اليومية على نحو صارِم عن أية قيم دينية. إنها مكرَّسَة للسعي من أجل الراحة المادية والنجاح في سوق الشخصية.

لقد حوَّلَ الإنسان الحديث نفسه إلى سلعة، إنه يعيش طاقة حياته كاستثمار عليه أن يجني مقابِلَه أكبرَ ربحٍ، وهو يقدِّر وضعَه وموقفَه في سوق الشخصية. إنه مغترِب عن نفسِه، وعن رفاقِه، وعن الطبيعة.

ممارسَةُ الحب

الحب تجربة شخصية لا يمكن أن تكون لدى كل إنسان إلا بنفسه ولنفسه أولاً وقبل كل شيء. تتطلَّب ممارسة الفن النظام. لن أُفلِح في أي شيء إذا لم أفعله بطريقة منظمة. إن أي شيء لا أفعله إلا "بمزاج" قد يكون هواية جميلة أو مسلية، لكنني لن أصبِحَ إطلاقًا سيدًا في ذلك الفن، وعلى أية حال فإن الحياة بدون مثل هذا النظام تصبِح مبعثرَة في حالة فوضى، وتفتقِد التركيز.

هذا التركيز هو شرط ضروري للسيطرَة على الفن ولا يحتاج هذا إلى دليل. فالتدخين علامَة من علامات هذا النقص في التركيز، إنه يُشغِل اليد والفم والعين والأنف.

وهناك عامِل ثالِث هو الصبر. فأي شخص يحاوِل أن يسيطِر على فن من الفنون يعرِف أن الصبر ضروري إذا كان يريد تحقيق شيء. وهناك شرط لتعلُّم أي فن هو الاهتمام الأقصى لإحراز السيَادَة في هذا الفن.

بالنسبة لفن الحب يعني هذا أن أي شخص يأمَل أن يصبِح أستاذًا في هذا الفن يجب أن يبدأ بممارسَة النظام والتركيز والصبر طوال كل حقبة من حُقَب حياته.

كيف يمكن للإنسان أن يمارِس النظام؟

من الجوهري ألا يُمَارَس النظام كقاعدة مفروضَة على الإنسان من الخارج بل يمارس كتعبير عن إرادة الإنسان، وكممارسة جميلة يشعر بها. الإنسان الذي يعوِّد نفسَه ببطء على نوع من السلوك سيفتقِده إذا ما توقف عن ممارسته. من الجوانِب السيئة في المفهوم الغربي عن النظام (كما هو بالنسبة لكل فضيلة) أن ممارسته تفترض الألم، وعندما تكون الممارسة مؤلِمَة فإنها وحدها "خير" للإنسان. لقد أدرك الشرق منذ أمَدٍ طويل أن ما هو خير للإنسان – لجسمِه ولنفسِه – يجب أن يكون أيضًا مستحسنًا، حتى لو كانت هناك بعض المقاومَة في البداية فيجب التغلُّبَ عليها.

كانت وصية الأجداد هي الاستيقاظ مبكرًا في الصبَاح وعدم الانغماس في وسائل الترف غير الضرورية، والعمل الشاق... وكمقابِل وتوازن للطريقة الروتينية للحياة المفروضَة علينا خلال ثماني ساعات عمل هناك: الاستيقاظ في ساعة محدَّدَة، وتخصيص قدر معين من الوقت خلال النهار لأنشِطَة مثل التأمل والقراءة والاستماع إلى الموسيقى وعدم الانغمار في أوجه النشاط الهروبية مثل القصص والأفلام البوليسية وعدم الإفراط في الأكل والشرب؛ هذه قواعِد أولية.

أهم خطوة في تعلُّم التركيز هي تعلُّم كيف يكون الإنسان وحيدًا مع نفسِه بدون اطلاع، بدون استماع للراديو، بدون تدخين، بدون شرب. والحقيقة أن القدرة على التركيز تعني القدرة على الوحدة مع النفس. وهذه القدرة هي شرط دقيق للقدرة على الحب. إذا تعلَّقتُ بشخص آخَر لأنني لا أستطيع أن أقِف على قدمي وحدي فقد يكون هذا الشخص منقذًا لحياتي، لكن العلاقَة حينئذ لا تكون علاقَة حب، وعلى نحوٍ متناقِض فإن القدرة على الوحدة هي شرط القدرة على الحب.

من المفيد ممارسَة تمرينات بسيطَة قليلَة جدًا، على سبيل المثال، الجلوس في وضع استرخائي (لا الكسَل المطبِق ولا التصلُّب المشدد) وإغماض العينين، ومحاوَلَة رؤية شاشة بيضاء أمام البصر، ومحاولة محو كل الصوَر والأفكار المتداخِلَة، ثم محاوَلَة متابعَة التنفُّس، لا التفكير فيه ولا إرغامَه بل متابعَته، وبهذا يمكن الشعور به، وزيادة على ذلك محاولة تملك الشعور بـ"الأنا"، الأنا: نفسي، كمركز لقِوَايَ، كخالِق لعالَمي. على الأقل، يمكن للإنسان أن يفعَل – على الأقل – مثل هذا التمرين للتركيز كل صباح لعشرين دقيقة (وإذا أمكن مدَّة أطوَل) وكل مساء قبل النوم.

بجانب مثل هذه التمرينات، على الإنسان أن يتعلَّم كيف يركز في كل شيء يفعله، في الإنصات إلى الموسيقى، في قراءة الكتاب، في التحدث إلى شخص، في رؤية منظَر. النشاط في هذه اللحظة الخالِصَة يجب أن يكون الشيء الوحيد الذي يهم، والذي يكرِّس له الإنسان نفسه تمامًا.

وتعلُّم التركيز يقتضي تجنُّب الحديث التافِه بقدر الإمكان، أي الحديث الذي لا أصالة له، أي عندما لا يكون القلب فيما يقول.

يعني التركيز، بالنسبة للآخَرين، أساسًا القدرة على الإنصات

أي نشاط، إذا جرى بشكل مركَّز، يجعل الإنسان أكثر تيقُّظًا. التركيز يعني العيش تمامًا في الحاضِر، في الهنا والآن، وعدم التفكير في الشيء التالي الذي يجب أن يُفعَل بينما أنا أفعل شيئًا حقًا الآن. يجب أن يُمارس التركيز من قِبَل أناس يحبُّون بعضهم. عليهم تعلُّم أن يكونوا لصيقين ببعضهم دون التشتت في عدة طرق...

لا يستطيع الإنسان أن يركِّز بدون أن يصبِح حساسًا لنفسِه. وهذا يعني أن يكون العقل في حالَة تيقُّظ استرخائي، مستعد لكل التغيُّرات الفجائية في الموقِف الذي يركِّز فيه.

وإذا نظرنا إلى موقِف الحساسية من شخص آخَر، نجد أن أوضحَ مثال على الحساسية والاستجابة هو موقف الأم من رضيعِها. إنها تلاحِظ بعض التغيُّرات المعنية في جسمه، تلاحِظ مطالِبَه، أشكال قلقه، قبل أن يجري التعبير عنها بوضوح. إنها تستيقِظ بسبب صراخ طفلها، حيث أن صوتًا آخَر أعلى لا يمكن أن يوقِظَها. كل هذا يعني أنها حساسَة لمظاهر حياة الطفل. هي ليسَت قلِقَة أو مضطرِبَة، بل هي في حالَة هدوء يقِظ، مستجيبَةً لأي تواصُل ذي دلالَة يصدر إليها من الطفل. بالطريقة عينها يمكن للإنسان أن يكون حساسًا بالنسبة لنفسِه... والشيء نفسه يحدث عندما نلاحِظ متى يكون الشخص مثارًا أو غاضِبًا، أو ميًّالاً إلى أحلام اليقظة، أو أوجه النشاط الهروبية الأخرى. في كل من هذه الأمثِلَة، الشيء المهم هو أن يعيَها الإنسان، لا أن يتعقَّلَها بألف طريقة وطريقَة يمكن أن تحدث بها. زيادةً على ذلك، يجب أن نتفتح لصوتنا الباطني الذي سيخبِرُنا بشكل أكثر مباشَرَةً لماذا نحن قلِقون ويائسون ومثارون.

الشرط الرئيسي لتحقيق الحب هو قهر ما لدى الإنسان من نرجسية. إن النزوع النرجسي هو نزوع لا يعيش فيه الإنسان كشيء حقيقي سوى ما يوجد في نفسه، على حين أن الظواهِر في العالَم الخارجي ليس لها واقِع في حد ذاتها، بل لا تُعاش إلا من وجهة نظر أنها مفيدَة أو خطِرَة على الإنسان.

القطب المضاد للنرجسية هو الموضوعية. إنها الملَكَة التي نرى بها الناس والأشياء كما هم موضوعيًا، والتي نتمكَّن بها من فصل هذه الصورة الموضوعية عن صورة رسمَتها رغبات الإنسان ومخاوفه. إن جميع أشكال الذهان تبيُّن العجز عن الموضوعية إلى درجة كبيرة. عند الشخص المجنون، الواقِع الوحيد الموجود هو الواقِع الذي في داخِلِه، واقِع مخاوفِه ورغباته. إنه يرى العالَم الخارجي على أنه رموز لِعَالمِه الباطني، لما يختلقه هو.

الشخص المجنون أو الشخص الحالِم يفشَل تمامًا في أن تكون له نظرة موضوعية للعالَم الخارجي. غير أننا جميعًا مجانين بشكل أو بآخَر، كلنا نائمون بشكل أو بآخَر، كل منا لديه نظرَة غير موضوعية للعالَم. وملَكَة التفكير الموضوعي هي العقل، والنظرة العاطفية وراء العقل هي نظرة التواضُع. لا يكون استخدام العقل والموضوعية ممكنًا إلا إذا أحرز الإنسان نظرةَ التواضُع.

عليَّ أن أحاوِل أن أتبيَّن الفرق بين تصوري أنا عن الشخص وسلوكه، وبين صورته المشوَّهَة نرجسيًا أو واقع الشخص كما يوجَد بصرف النظَر عن اهتماماتي واحتياجاتي ومخاوِفي. حيازة القدرة على الموضوعية والعقل هما نصف الطريق إلى تحقيق فن الحب، لكن يجب تحقيق ذلك بالنسبة لكل شخص يتصِل به الإنسان.

تتوقَّف القابِلية للحب على قدرة الإنسان على الخروج من النرجسية ومن التثبيت التحريمي والتعلُّق بالأم والقبيلَة، إنها تتوقَّف على القدرة على النمو وتطوير نزوع إبداعي مخصِب في علاقتِنا بالعالَم وبأنفسِنا. وهذه العملية الخاصة بالخروج، بالميلاد، بالاستيقاظ، تتطلَّب صفةً كشرط أساسي هي الإيمان. تقتضي ممارسة فن الحب ممارسَة الإيمان.

في مجال العلاقات الإنسانية، الإيمان صفةٌ لا تنفصِل عن أي صداقَة هامة أو حب. "أن يكون لديك الإيمان" بشخص آخَر يعني أنك متأكد من وثوقية وثباتية صفاته الرئيسية، متأكد من جوهر شخصيته، من حبِّه.

وبهذا المعنى نفسه يكون لدينا إيمان بأنفسِنا. إننا ندرِك وجود نفسٍ، وجود جوهر في شخصيتنا لا يتغير، وهو الذي يقاوِم طوالَ حياتنا برغم تغيُّر الظروف وبصرف النظَر عن تغيُّرات معينة في الآراء والمشاعِر. هذا الجوهر هو الحقيقة وراء كلمة "أنا"، والذي عليه تقوم قناعتنا بذاتيتنا. وما لم يكن لدينا إيمان بإصرار بنفسنا، فإن شعورنا بالذاتية يتعرض للخطَر، ونُصبِح معتمدين على الآخَرين الذين يصبِح استحسانهم حينئذ هو أساس شعورنا بالذاتية. الشخص الذي لديه إيمان بنفسِه هو وحده القادِر على أن تكون لديه ثقة بالآخَرين... ما يهم في علاقَة الحب هو الإيمان بحب الإنسان، بقدرته على إثمار الحب في الآخَرين، والوثوقية به.

هناك معنى آخَر للإيمان بشخص يشير إلى الإيمان الذي لدينا بإمكانيات الآخَرين. الشكل الشائع الذي يوجد فيه هذا الإيمان هو الإيمان الذي لدى الأم نحو رضيعِها الوليد. إنه سوف يحيا وينمو ويمشي ويتكلم. إن الإيمان بالآخَرين يصِل الذروة في الإيمان بالبشرية. شأن هذا الإيمان بالبشرية شأن الإيمان بالطفل قائم على فكرة أن إمكانيات الإنسان التي تُهَيأ لها الظروف الملائمَة ستكون قادِرةً على بناء نظام اجتماعي تحكُمُه مبادئ المساواة والعدَالَة، وإلى أن الإنسان لم يحقِّق بعد بناء مثل هذا النظام. ومن ثم فإن القناعَة التي تجعله قادِرًا على أن يفعَل هذا تقتضي الإيمان. غير أن هذا الإيمان شأن كل إيمان عقلي أيضًا، فهو قائم على أدلة الإنجازات الماضية للجنس البشري والتجربة الباطنية لكل فرد، على معايشته للعقل والحب. على حين أن الإيمان اللاعقلاني مغروس في الخضوع لقوة يُشعَر بها على أنها شيء محيط بكل شيء قادِر على كل شيء على نحو قوي شامِل وفي الحط من قدرة الإنسان وقوَّته، فإن الإيمان العقلاني قائم على التجربة المضادة. إن لدينا إيمانًا بالعقل لأنه نتيجَة ملاحظتِنا وتفكيرِنا. إن لدينا إيمانًا بإمكانيات الآخَرين وأنفسِنا والبشرية لأننا نعيش نمو إمكانياتنا وحقيقة النمو في أنفسنا وقدرة قوة عقلنا وحبنا. إن الإيمان تنبؤ بالمستقبَل قائم فحسب على الحاضِر الجلي.

الإيمان يقتضي الشجاعَة، القدرة على المخاطَرَة، الاستعداد حتى لتقبُّل الألَم وخيبة الأمَل... ومن يتعلَّق داخل نظام دفاعي فيه المسافَة والملكية وسيلتان للأمن يجعل من نفسه سجينًا... إن شجاعَة اليأس هي لكسب شجاعة الحب تمامًا كما أن الإيمان بالقوة عكس الإيمان بالحياة. إن أخذ المصاعِب والمخاطِر والمآسِي كتحدٍّ يقتضي قهرها يجعلنا أقوى. إن الإنسان يخاف واعيًا من ألا يُحَبَّ، أما الخوف الحقيقي، وإن كان لاشعوريًا، فهو الخوف من أن يُحِبَّ. أن يُحِبَّ الإنسان يعني إلزام نفسه بدون ضمان. أن يعطيَ نفسَه كلية بأمَل. أن يُنتِجَ حبُّنا حبًا في الشخص المحبوب. الحب هو فعل من أفعال الإيمان.

يمكن لأي شخص مهتمٌّ حقًا أن يتعلَّمَ أن يكون لديه إيمان كما يتعلَّم الطفل المشي.

وهناك وجهة نظر لا تنفصِل عن ممارسة فن الحب، وهي النشاط. والمقصود بالنشاط "فعل شيء"، لكن المقصود هنا هو النشاط الباطني، الاستخدام المثمِر لقوى الإنسان. الحب نشاط. إذا أحببت، فإنني في حالَة دائمة من الاهتمام – النشاط، بالشخص المحبوب،... ذلك أنني سأصبِح عاجِزًا عن ربط نفسي بشكل فعَّال بالشخص المحبوب إذا كنتُ كسولاً، إذا لم أكن في حالَةٍ دائمَة من الوعي والتيقظ والنشاط. النوم هو الموقِف الملائِم الوحيد للكف عن النشاط، وحالَة اليقظة هي الحالَة التي لا يجب أن يكون للكسَل منها مكان.

القدرة على الحب تتطلَّب حالةً من التوتر واليقظة والحيوية الدائمَة، وهي مسائل لا يمكن أن تكون إلا نتيجة نزوع مثمِر وفعَّال في المجالات الأخرى العديدَة للحياة. إذا لم يكن الإنسان مثمرًا في المجالات الأخرى فإنه لا يكون مثمرًا أيضًا في الحب.

أن تُحب يعني أن يكون لك موقف محب نحو كل شخص. إن علاقاتنا في الواقِع محدَّدَة في أفضل أحوالِها بمبدأ النزاهَة. تعني النزاهَة عدم اللجوء إلى الغش والخداع في تبادُل السلَع والخدَمات، وفي تبادل المشاعِر: "أعطيكَ بقدر ما تعطيني" في السلَع المادية وفي الحب على السواء. هذه هي القاعِدَة الأخلاقية السائدَة في المجتمَع الرأسمالي. إن أخلاق النزاهة تختلِط بأخلاق القاعِدَة الذهبية. إن شعَار "افعَل للآخَرين ما تودُّ أن يفعلوه لك" يمكن تفسيره "كن نزيهًا في معاملتِك مع الآخَرين".

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود