قراءة في كتاب من البيئة إلى الفلسفة

كامل عباس

 

ينقد الكاتب في كتابه* الفلسفة الليبرالية والاشتراكية قبل أن يعرض لنا فلسفته البيئية الجديدة. يقول الكتاب عن الليبرالية في بداية فقرة الأيديولوجيا والليبرالية ص 145 ما يلي:

يمكننا وضع العلاقة بين الليبرالية بما هي أيديولوجيا والإيكولوجيا في السؤال التالي: هل الليبرالية وسياستها صديقة للبيئة؟

وتنتهي الفقرة على الشكل التالي:

لكن الليبرالية كما نشهد حاليًا لم ترجع نحو دولة الرفاه، هذا عدا عن كون دولة الرفاه قد ألقت أكبر الضغوط على البيئة من خلال تركيزها على الاستهلاك، بل أصبحت ليبرالية متوحشة يصعب في إطارها توقع اهتمام بالوعي الإيكولوجي وحماية البيئة.

أما الفلسفة الاشتراكية، فقد وجه الكاتب سهام نقده فيها للنظرية الماركسية وعمودها الفقري فضل القيمة. يقول الكاتب ص 99:

ذهب ماركس إلى اعتبار أن ما يحدد القيمة هو مقدار ما تجسد في البضاعة من عمل بشري مجرد يقاس بزمن العمل الضروري اجتماعيًا لإنتاج البضاعة، ولا يدخل في احتساب هذه القيمة ذرة واحدة من الطبيعة.

كما يقول في فقرة الأيديولوجيا والاشتراكية ص 149:

ومع أن الوعي الإيديولوجي لم ينشأ في البلدان الشيوعية بسبب النظام الشمولي الذي كان سائدًا فيها، إلا أن التخريب البيئي كان على أشده في هذه البلدان.

وبعد مناقشة مستفيضة للأزمات البيئية التي يمر بها عصرنا يطرح لنا الكاتب نظريته الفلسفية البيئية، المبنية اقتصاديًا على مفهوم زمن العمل الضروري إيكولوجيًا ص 99: "عند إنتاج البضاعة يتم انفاق قوة عمل بشرية ويتكدس فيها عمل بشري، وكذلك يتم انفاق قوة عمل إيكولوجية ويتكدس فيها عمل إيكولوجي"؛ وفلسفيًا على الرؤيا التالية ص 129: "ليس الكائن الحي وبيئته شيئين منفصلين، فعندما نترك فأرًا في الفراغ المطلق فهو لن يظل فأرًا وكذلك لن يظل الإنسان إنسانًا إذا عزلناه عن بيئته أو لنقل إذا تفككت وتخربت علاقته بالبيئة، فعندها سوف تتمزق خيوطه، بما هو عقدة وتنحل وتتلاشى، فيكون الإنسان جزءًا من الطبيعة بالقدر الذي يكون فيه عقدة علائقية ضمن الحقل الشامل"؛ أما سياسيًا فنظرية الكاتب تقوم على أن يكون أسلوب النضال الإيكولوجي ثوري في توجهاته إصلاحي في خطواته - ص 160.

سأترك التعليق على وجهة نظر الكاتب في النظرية الاشتراكية لللاشتراكيين، أما أنا فسأعلق حول ما ورد في الكتاب عن النظرية الليبرالية.

إن أكبر ظلم للفلسفة الليبرالية هو ربطها بالرأسمالية، لا بل إن الكاتب جعلها تذوب فيها أخيرًا، فبدلاً من أن يقول رأسمالية متوحشة قال ليبرالية متوحشة.

ليست الفلسفة الليبرالية فلسفة البورجوازية فقط، بل هي فلسفة إنسانية بامتياز كان همها أول انطلاقتها الحرية والمساواة بين المواطنين في كل بقعة من بقاع الأرض. وإن كانت الطبقات المسيطرة قد هضمتها وجيرتها لخدمتها في النهاية، فقد جرى لثلاثة دعوات أممية وإنسانية ومدافعة عن المستضعفين في الأرض قبل وبعد الليبرالية شيء من هذا:

-       الدعوة الأولى بدأها السيد المسيح عليه السلام وأكملها حواريوه من بعده وكان نبراسها قول المسيح "إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله"، وانتهت المسيحية كما هو معروف في فترة من الفترات إلى بيع صكوك الغفران وتحول كهنتها إلى عبادة المال بدلاً من عبادة الله.

-       الدعوة الثانية جاءت على يد الرسول العربي. كان همها مثل الأولى تمكين المستضعفين في الأرض وجعل الحكم شورى بين الناس ومحاربة حكم السلالات المرزول، ولكن حكم السلالات عاد بعد انتهاء حكم الخلفاء الراشدين، وقد مر علينا حكم الأمويين والعباسيين قبل أن نصل إلى حكم السعودية الملكي المطلق القائم حتى الآن باسم الإسلام.

-       الدعوة الثالثة تمَّت على يد الفيلسوف ماركس. ومع أن ماركس وأتباعه كانوا ومازالوا يقولون عن دعوتهم بأنها دعوة أرضية لا علاقة للسماء فيها، وأن فهمها للصراع الطبقي قائم على العقل والعلم، إلا أنها ائتمرت بأمر العاطفة أكثر مما ائتمرت بأمر العقل وتحولت إلى دين أرضي، وانتهت إلى تعميق الرأسمالية في البلدان المسماة اشتراكية تحت يافطة شيوعية.

في اعتقادي لو أن ماركس وأتباعه عملوا مع الليبراليين من داخل النظام الرأسمالي بدلاً من شن الهجوم عليهم بوصفهم حجر عثرة على طريق إسقاط الرأسمالية لكان وضع الطبقة العاملة أفضل حالاً في اللحظة الراهنة.

تتميز الليبرالية عن كل الفلسفات التي ظهرت حتى الآن بأنها فلسفة ذات نهايات مفتوحة عكس الفلسفة الماركسية. وهنا سر قوتها. وأكبر دليل على ذلك عودتها من جديد تحت اسم حقوق الإنسان بشقيها السياسية والاقتصادية: حق الإنسان في التعبير عن رأيه، وحقه في الحصول على فرصة عمل شريفة.

نقطة ضعف الكتاب الأساسية هي في مجال البيئة، وتحديدًا في فهمه لتكاثر الجنس البشري وأثره على النظام البيئي. جاء في الكتاب ص 156 ما يلي: "إن عدد السكان المتزايد يمثل خطرًا على البيئة". لقد عالج الكاتب مشكلة تكاثر الجنس البشري بروح أيديولوجية أكثر ما هي روح بيئية أو علمية لدرجة أنه استشهد بنظرية مالتوس حول خطر تزايد السكان والتي دحضتها الحياة. أنا أعتقد جازمًا أن تكاثر الجنس البشري حتى ولو كان على طريقة البكتريا في الانقسام والتضاعف (أقربائنا البيولوجيين حسب وصف الكاتب) لا يخل بالتوازن البيئي، إن لم أقل إنه ينشطه من خلال جثثه التي تتحلل وتصبح سمادًا من جديد. ولو كان كلام الكاتب صحيح لكانت الصين أسوا بلد في العالم من حيث المناخ البيئي حولها.

لا أريد أن يفهم من كلامي هذا أنني لست مع تحديد النسل أو مع تكاثر الإنسان بواسطة غريزته على الطريقة الحيوانية، أنا مع تحديد النسل عبر إقناع الناس بذلك وليس عبر فرضه بالقوة الأيديولوجية أو القمعية – سيان. ومع أنني أدرك حجم المشكلات البيئية التي تنغص حياة البشر، إلا أنني أعتقد أن كل الكتاب البيئيين مثل الكاتب معين يكتبون بلغة أيديولوجية أكثر مما هي علمية. سأسوق هنا مثالين:

-       الأول حول التغيرات المناخية: يحكى الكثير عن انزياح الفصول، ومع أنني أعرف أن الاحتباس الحراري يساهم في هذا الانزياح، إلا أنني أظن أن سببه الرئيسي هو علاقة الأرض بالمجموعة الشمسية وباقي النجوم وتأثير حركتها عليها. لنأخذ مثلاً اليمن التي كانت سعيدة في الماضي بسبب مناخها المعتدل والآن أصبحت تعيسة بسبب مناخها الحار. هل السبب في ذلك هو نشاط البشر أم نشاط الطبيعة؟ ولماذا نفترض أن الحقب الجيولوجي الذي نعيشه هو نهاية الأحقاب، ولا يمكن أن يتغير المناخ فيه كما تغير في الأحقاب الجيولوجية السابقة عليه؟

-       الثاني حول الزلازل الحالية التي تشهدها القشرة الأرضية، هل سببها طبيعي أم اجتماعي؟

هذا لا يعني أنني أتجاهل ما فعله سلوك الإنسان الأحمق بالبيئة فعلى سبيل المثال لا الحصر إن ما تطلقه طائرة نفاثة في الجو من غاز الكربون في دقيقة واحدة يفوق ما يطلقه عدد سكان مدينة تتجاوز ثلاثة ملايين من هذا الغاز بيوم واحد. وسيظل الإنسان يعاني من هذه المشاكل ما دام الصراع بين الإنسان وأخيه الإنسان يحتل المرتبة الأولى، وستزداد معاناتنا في المستقبل ما دام العلم يعمل في أسواقنا من أجل الربح وليس من أجل الناس. والحل هو اشتراكي كما أظن، فيه يعود الصراع بين الإنسان والطبيعة إلى الواجهة ويتراجع الصراع بين الإنسان والإنسان إلى المرتبة الثانية. لكن الحل الاشتراكي قد يدمرنا إذا أخذنا بنظرية ماركس التي تقول إن العنف الثوري هو قابلة التاريخ، عصرنا يناسبه أن يكون الوعي هو قابلة التاريخ، وقد يحتاج ذلك إلى مدة تفوق المدة التي قطعها الجنس البشري على الأرض حتى الآن.

ورافعة الوعي في عصرنا هي المجتمع المدني ومنظماته التي تعنى بالإنسان كعضو في الطبيعة وليس كسيد عليها، ومنها منظمات حقوق الإنسان ومنظمات البيئة، وكل المنظمات المهنية. أما أن نجعل من البيئة ومعاناتنا معها هي الكل إلى درجة ربط المستقبل بنظرية بيئية جديدة فذلك ترف يحمله كثيرون من مثقفي الغرب، لا أريد له أن ينتقل إلى بلادنا على حساب معاناتنا الأساسية مع الاستبداد.

في الختام، لقد استمتعت بقراءة الكتاب، ويحزنني أن يقبع على رفوف المكتبات ويعلوه الغبار ولا تباع منه إلا نسخات محدودة، في حين ترقص في السوق كتب تهتم بالسحر والأبراج والمكياج والطب النبوي وإعجاز القرآن، وآمل أن يعيد الربيع العربي لمثل هذه الكتب حركتها في السوق من جديد.

*** *** ***


 

horizontal rule

*  من البيئة إلى الفلسفة، معين رومية، معابر للنشر، دمشق، 2011.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود