|
غاندي المتمرِّد: الهجمات الأولى
في عام 1600 تأسسَّت شركةُ الهندِ الشرقيةِ الإنكليزيةُ Compagnie anglaise des Indes orientales. كان هدفُها الوحيد هو تنظيم التجارة بين الهند وأوربا ولم تكن تنوي القيامَ بغزوات للأرض. ثم أسَّسَ الهولنديون والفرنسيون كذلك شركاتٍ تجاريةً دخلَتْ في تنافُسٍ حتمي فيما بينها. ونشأَتْ نزاعاتٌ عديدة تداخلَت فيها المصالحُ التجاريةُ للشركات الأوروبية والمصالحُ السياسية للحكام المسلمين والهندوس الذين يتقاسمون الهند. وفي القرن الثامن عشر تصارعَ الإنكليزُ والفرنسيون للسيطرة على الأراضي الهندية. وانتصرَ الإنكليزُ في النهاية ونجحوا في إرساء سيطرتهم على الهند مستفيدين من انحطاط إمبراطورية المغول. في الغابة السياسية التي كانت تُشكِّـلُها الهندُ في تلك الحقبة، كان الأشخاصُ الأكثرُ جرأةً والأكثرُ مكرًا والأقلُّ تورُّعًا والأكثر مواظبةً هم وحدهم الذين يستطيعون أنْ يأملوا في البقاء، وانطلاقًا من هذه الخلفية من الجشع والخيانة والفساد والقسوة يجب تقييم الأفعال والناس الذين عاشوا في ذلك العصر. (...) فارتكابُ القتل أو التعرُّض للقتل كان القانونَ الوحيدَ، وإذا خرجَ الإنكليزُ من الصراع منتصرين فذلك لأنهم، بالإضافة إلى كونهم قُساةَ القلوب كخصومهم، كانوا يمتلكون خصالاً لا يمتلكها خصومُهم: ألا وهي الصبر على الشدائد والقدرة على تمالُكِ الأعصاب في مواقفَ شبه ميئوس منها[1]." في عام 1857، اندلعَ "تمرُّدُ السيـﭙـاي [الجنود] cipayes" والذي اعتبرَه القوميون الهنودُ فيما بعدُ حربَ استقلالٍ حقيقيةً. ففي العاشر من أيار/مايو 1857 في مدينة ميروت Meerut، وهي مدينة تقع شمال الهند، تمرَّدَ ثلاثُ كتائب من جنود السيـﭙـاي وقتلوا ضباطَهم الإنكليزَ واستولَوا على دلهي. وعلى الرغم من أن الانتفاضة انحصرَت في شمال الهند فقد احتاج الإنكليزُ إلى شهور طويلة لاستعادة سلطتهم بعد أن ارتكبَ الطرفان أعمالَ عنف وفظاعاتٍ عديدة. وفي عام 1858، انتقلَت حقوقُ شركة الهند الإنكليزية وسلطاتُها إلى التاج البريطاني وأُعلِنَت الملكةُ ﭭيكتوريا إمبراطورةً على الهند في الأول من كانون الثاني/يناير 1877. وبمقتضى أحكام قانون حكومة الهند Government of India Act المؤرَّخ في 2 آب/أغسطس 1858 قام بحكم الهند، باسم مَلِك إنكلترا، نائبُ المَلِك ومجلسُه الذين وُضِعوا تحت سلطة سكرتير الدولة في الهند. وعلى الرغم من ذلك فقد أُديرَت الأراضي الهنديةُ بطريقة مختلفة تبعًا لكون الأمر يتعلق بالهند البريطانية أم بالدول الهندية. تضم الهندُ البريطانيةُ إحدى عشرة محافظة[2] يديرها حاكمٌ تحت مسؤولية الحاكم العام الذي يشغل نائبُ الملك وظيفتَه. أما الدول الهندية التي ليس رعاياها من البريطانيين فيحكمها أمراءُ مُوالون لمَلِك بريطانيا الذي يمثله في الهند نائبُ المَلِك. ذلك الأخير يحتفظ بحق التدخل للمحافظة على النظام أو لاستعادته. ويستمر المهراجاتُ [الأمراء الهنود] maharaja (الهندوسُ) والنواب [الأمراء المسلمون] nawabs (المسْـلمون) في ممارسة سلطتهم، ولكنْ لخدمة سلطة أجنبية. إنَّ مثلَ هذا التقسيم للهند ينبثق بلا أدنى شك عن إرادة استعمارية توسعية للدولة البريطانية في التفرقة من أجل السيادة. وحسب إحصاءاتِ عام 1931، كانت الهند البريطانيةُ تضم 256 مليون نسمة وتضم الدولُ الهندية 80 مليونًا من الرعايا. في عام 1909، كانت إصلاحاتُ مورلي-مينتو Morley-Minto تهدف، من خلال الإصرار بقوة على السلطة البريطانية، إلى ربط الهنود بحكومة البلاد. خلال الحرب العالمية الأولى، شاركَ أكثرُ من 500 ألف هندي في المعارك في صفوف الجيش البريطاني. إنَّ الإخلاصَ الذي أظهرَه آنذاك غالبيةُ الهنود تجاه إنكلترا دفعَ السلطةَ البريطانيةَ إلى تأكيد نيتَها في القيام بإصلاحات ديمقراطية على حد زعمهم في الهند. فأعلن سكرتيرُ الدولة في الهند إيدوين مونتاغو Edwin Montagu أمام مجلس العموم وذلك بتاريخ 20 آب/أغسطس 1917 أنَّ هدف السياسة البريطانية سيصبح "تطوير مؤسسات مستقلة بهدف الانتقال التدريجي إلى حكومة مسؤولة في إطار الإمبراطورية البريطانية[3]". هذا التصريح أعطى الهنودَ الأملَ في الحصول على نظام الدومينيون dominion [دولة مستقلة من الكومنوِلْث]. لكنْ بعد انتصار الحلفاء في عام 1918، يبدو أنَّ الحكومة الإنكليزية نسيَتْ كلَّ مواعيدها. في عام 1915، تم التصويت على قانون من أجل "الدفاع عن الهند". وكان هذا القانونُ قمعيًا بصورة رئيسية ويعتدي اعتداءً صارخًا على الحريات المواطنية بحجة مواجهة جميع النشاطات الإرهابية والتآمرات الثورية. كان من المفروض أنْ ينتهيَ مفعولُ هذا القانون بعد ستة أشهر من نهاية الحرب. إلاَّ أنَّ الحكومة البريطانية ارتأت ضرورةَ إصدار قانون جديد يحلُّ محلَّه. فأحدثَتْ في شهر كانون الأول/ديسمبر 1917 لجنةً مكلَّفةً بتقديم اقتراحات في هذا الشأن. ونشرَتْ هذه اللجنةُ برئاسة السير سيدني رولات Sir Sidney Rowlatt تقريرَها بتاريخ 19 حزيران/يونيو 1919. وأوصَتْ بالتصويت على قانونَينِ يهدفان إلى تعزيز الإجراءات القمعية، سواء الاستباقية [الوقائية] منها أم التأديبية، والتي ينص عليها قانونُ الإجراءات الجنائية. مشروعا القانونِ هذانِ واللذان سُـمِّـيا "مشروعَيْ رولات" كانا مرفوضَين كليًا من جميع القادة السياسيين الذين أكدوا على تصميمهم على معارضة التصويت عليهما. وفي هذه المناسبة ظهرَ غاندي للمرة الأولى في مقدمة المسرح السياسي الهندي ليترأَّسَ حركةَ المقاومة ضد السلطة البريطانية، هذه الحركةَ التي ستقود الهندَ إلى الاستقلال. وُلِـدَ موهانداس كارامشاند غاندي Mohandas Karamchand Gandhi بتاريخ 2 تشرين الأول/أُكتوبر 1869 في بوربندر Porbandar، وهي مدينة تقع على الشاطئ الغربي للهند، على شط بحر عُمان. وفي الرابعة عشرة من عُمْرِه تزوَّجَ من كَسْـتورباي مَـكَـنْجي Kasturbai Makanji التي تساويه في العمر. في أيلول/سبتمبر 1888، وبعد أنْ نجحَ في امتحان دراسته الثانوية وأصبحَ أبًا لطفل سمَّاه هَرِيرال Hariral، أبحرَ إلى مومباي [بومباي] Bombay باتِّجاه إنكلترا لدراسة الحقوق فيها. وفي العاشر من حزيران/يونيو 1891 تمَّ قبولُه في سلك المحاماة. فعاد أدراجَه بعد يومين إلى الهند عن طريق البحر. وبعد أنْ تَسجَّلَ غاندي بدون نجاح باهر في سلك المحاماة في بومباي أبحرَ في الرابع من نيسان/أبريل 1893 قاصدًا جنوبَ أفريقيا حيثُ أرسلَتْه شركةٌ تجاريةٌ كمستشار قانوني. ستكون فترةُ إقامته في جنوب أفريقيا حاسمةً من أجل اكتساب قناعاته في اللاعنف ومن أجل العمل بها في حياته الشخصية وتطبيقها في العمل السياسي. وبسرعةٍ كبيرةٍ لم يكنْ هناك من مفرٍّ في أنْ يتعرَّضَ لمعاملة مهينة كان البِيضُ يعاملونها لغير البِيض. فبعد ستة أيام من وصوله، يترك دُرْبانَ [ديربان] Durban مسافرًا إلى بريتوريا Pretoria بواسطة القطار. فيصعد مقصورةَ الدرجة الأولى، ولكنْ حينما يصل القطارُ إلى محطة ماريتسبورغ Maritzburg عاصمةِ ناتال Natal يُنذِرُ عناصرُ السكة الحديدية غاندي بترك مكانه وبالركوب في عربة أخرى. فيرفض الامتثالَ للأوامر فيَطرده أحدُ عناصر الشرطة بقسوة من القطار. ويتابع القطارُ طريقَه بدون غاندي ويجد غاندي نفسَه وحيدًا على الرصيف مع أمتعته. كانت الساعة التاسعة مساءً ولم يكن لديه حل غير قضاء الليل في قاعة الانتظار في البرد والظلمة. فكان لديه إذًا كلُّ الوقت لكي يتساءل عن الظلم الذي وقع عليه: ماذا كان يقتضي الواجب بالنسبة لي؟ هل كان يجب الكفاح للدفاع عن حقوقي؟ هل أرجع إلى بلادي؟ (...) إنْ هرَعْتُ إلى الهند دون أنْ أُتِـمَّ واجباتي فسيكون هذا التصرفُ جبنًا. كانت المعاملة الظالمة التي عاملوني بها سطحيةً وحسبُ؛ كانت مجرَّدَ عَرَضٍ من أعراض الاضطراب العميق الذي يغذِّيه التحيُّـزُ العرقي. يجب ما أمكنَ محاولةُ استئصال الشر حتى ولو اقتضى الأمرُ تحمُّـلَ الظلم أثناء الطريق. ويجب ألاَّ يُنَـصِّـبُ المرءُ نفسَه مصحِّحًا للأخطاء إلاَّ بمقدار ما يكون ذلك ضروريًا لإزالة التحيز العرقي. فقررْتُ إذًا أنْ أركبَ أولَ قطار يصل قاصدًا بريتوريا[4]. هذه التجربةُ صنعَت تصميمَ غاندي على مقاومة الظلم. يقول: "لاعنفي الناشط بدأ من ذلك التاريخ[5]." وعند وصوله إلى بريتوريا، دعا إلى اجتماع لجميع هنود المدينة وتكلَّم لأول مرة أمام الجمهور. فدعا مستمعيه إلى "الاحتجاج رسميًا أمام السلطات المسؤولة على الظلم الذي يعاني منه المهاجرون الهنود[6]". ولإنجاح الكفاح ضد ذلك الظلم ظلَّ غاندي في جنوب أفريقيا عشرين عامًا. ووقَّعَ في 30 حزيران/يونيو 1914 مع الجنرال سموتس Smuts، وزير الداخلية في حكومة اتحاد جنوب أفريقيا، اتفاقًا يحقق المطالبَ الرئيسية للهنود. وبعد أنْ رأى غاندي أنَّ مهمته قد انتهت، أبحرَ إلى إنكلترا بتاريخ 18 تموز/يوليو 1914. بعد ذلك بسنوات طويلة، ذكرَ الجنرالُ سموتس بهذه الكلمات لقاءه مع غاندي: مِن القدَرِ المحتوم أنني كنتُ خصمًا لرجل كنتُ أساسًا أُكِـنُّ له في ذلك الوقت أسمى الاحترام. بالنسبة لغاندي، جرى كلُّ شيء بحسب ما خطَّطَ له. حتى أنه استطاع أنْ يتمتَّعَ براحة كافية في السجن، وهذا ما كان يرغبه بلا أدنى شك. أما أنا المُدافع عن النظام فقد كنتُ على العكس في وضع لا يُحتمَـل. فقد كان علَيَّ أنْ أطبِّقَ قانونًا لا شعبيةَ له نسبيًا، بالإضافة إلى أنه كان لا بد من أنْ أتعرَّضَ لإهانة وجوب إلغائه. كان كل ذلك بالنسبة له في الواقع نجاحًا تامًا[7]. بعدما وصل غاندي إلى لندن في الرابع من آب/أُغسطس 1914، أبحرَ بتاريخ 19 كانون الأول/ديسمبر باتِّجاه مومباي حيث وصل إليها في التاسع من كانون الثاني/يناير 1915. وقد استقبلوه كبطل بعد أنْ تتكلَّلَ بالنجاح في كفاحه في جنوب أفريقيا. غير أنه رغب بعد سنوات طويلة جدًا من الغياب في أنْ يُمضيَ وقتًا لزيارة الهند لكي يتعرَّفَ من جديد على وقائع بلده. حيث سيؤسس أيضًا جماعةً – أشرم ashram – يلتزم أعضاؤها بالعيش في بساطةٍ ما بعدها بساطة وبما تمليه قواعدُ اللاعنف. وبَعد أنِ استقرَّ قرب قرية كُشْرَب [كوشْراب] Kochrab اختار موضعًا جديدًا على ضفاف نهر سَبَرْماتي Sabarmati على بُعد بضع كيلومترات من مدينة أحمد آباد Ahmedabad. في عام 1918، قام عمالُ الغزْل في تلك المدينة بإضراب للمطالبة بزيادة رواتبهم. وفي الثاني عشر من آذار/مارس شرعَ غاندي بصيام لدعم عملهم. فحصل العمالُ بعد ثلاثة أيام على مطالبهم وعادوا إلى العمل. عندما اطَّلعَ غاندي على تقرير رولات Rowlatt ارتأى أنَّ الوقت قد حان لكي يواجهَ الهنودُ السلطةَ البريطانيةَ مباشرةً. وبدت له نتائجُ اللجنة مهينةً بحيث لا يمكن لأي شعب يحترم نفسَه أنْ يُذعِنَ لها[8]." فدعا إلى اجتماع في أشرمِ سَبَرْماتي Sabarmati بتاريخ 28 شباط/فبراير 1919 ووقَّع المشاركون الذين يقارب عددهم الأربعين عهدًا حرَّروه على هذا النحو: نظرًا لكوننا، بصراحةٍ، متَّفقين على أنَّ مشروعَ القانون المعروف بالمشروع رقم 1 للعام 1919 كقانون جنائي هندي (تعديل) والمشروعَ رقم 2 للعام 1919 كقانون جنائي (سلطات استثنائية) هما قانونان جائران ويتناقضان مع مبدأ الحرِّية والعدالة ويقضيان على الحقوق الأساسية للأفراد والتي عليها يقوم أمنُ المجتمع بكامله والدولةُ نفسُها، - نؤكِّد رسميًا، في حال أصبحَ هذان المشروعان قانونَين ومادام أنهما لم يُطوَيا، أننا سنرفض مدنيًا طاعةَ هذه القوانين وجميعِ القوانين الأخرى التي يمكنُ أنْ تقرِّر اللجنةُ التي ستسمَّى لاحقًا بشأن رفضها؛ - كما نؤكد أننا في كفاحنا سنتِّبع الحقيقةَ بإخلاص وسنمتنع عن العنف بحق كل حياة وبحق الأشخاص والممتلكات[9]. وفي الثامن عشر من آذار/مارس 1919، اعتُمِدَ القانون 11 حول الجرائم اللاسلطوية [الأناركية] والثورية، المسمَّى "قانون رولات". في الواقع، لم يأخذ هذا القانونُ إلاَّ جزءًا من "مشاريع رولات"، ولكنَّ غاندي والقادة الهنود الآخرين لم يروا فيه سوى إهانة للهند. عندئذٍ خطرَتْ على غاندي فكرةُ دعوةِ البلاد كلها إلى الالتزام بـ هَرْتال hartâl، أيْ إضراب عام ليوم واحد كإشارة احتجاج: "إذًا، فليوقِفْ شعبُ الهند كلَّ نشاط، فقد جاء اليومُ، وليصمْ ويُـصَـلِّ لمدة أربع وعشرين ساعةً[10]." فحدَّدَ أولاً التاريخَ في الثلاثين من آذار/مارس، ثم أجَّـله إلى السادس من نيسان/أبريل. غير أنَّ الهَرْتالَ قد حصلَ في دلهي بتاريخ 30 آذار/مارس. فتدخَّلَت الشرطةُ لتفريق المظاهرة وفتحَت النارَ. فوقع عدةُ ضحايا. في السادس من نيسان/أبريل، شاركَ غاندي بنفسه في المظاهرات التي نُظِّمَتْ في بومباي [مومباي] حيث حقَّقَ الهرتلُ [الإضرابُ] نجاحًا تامًا[11]." وفي اليوم السابع ركبَ القطارَ ذاهبًا إلى دلهي قاصدًا الذهابَ إلى البنجاب Pandjab. لكنَّ الشرطةَ استجوبَتْه خلال هذه الرحلة وأبلغَتْه منْعَ السفرِ إلى البنجاب وأعيد إلى مومباي. فسافر عندئذٍ إلى [مدينة] أحمد آباد حيث بلغَه أنَّ المتظاهرين قد قلعوا قضبانَ السكة الحديدية وعلِمَ بصورة خاصة أنَّ أحد موظَّفي الحكومة قد أُرديَ قتيلاً. فقرَّرَ في الثالث عشر من نيسان/أبريل الالتزامَ بصيام تكفيري لمدة ثلاثة أيام طالبًا من الذين ارتكبوا هذه الأعمالَ العنيفة الاعترافَ بذنبهم. في الوقت نفسه، علِمَ بحصول حوادثَ خطيرةٍ جرت في البنجاب وفي أمريتسار Amritsar بصورة خاصة. وفي السادس من نيسان/أبريل، حقَّقَ الهرتلُ نجاحًا كبيرًا في تلك المدينة البالغة 150 ألف نسمة وجرى [هذا الإضرابُ] بدون أي حادث. ولكن في العاشر من نيسان/أبريل، وعلى إثر اعتقال اثنين من القادة المحليين، اندلعَتْ فتنةٌ حقيقيةٌ في تلك المدينة. لقد عرضَ ج.ت. ساندِرلاند J.T. Sunderland في كتابه L'Inde enchaînée [الهند المكبَّـلة بالسلاسل] هذا الحدثَ بهذه الكلمات: إنَّ الذين بادروا بالعنف هم العسكرُ وليس الشعبَ. (...) فقد نُظِّـمَ موكبٌ سِلْميٌّ تمامًا وكان هدفُه الوحيد أنْ يرفعَ إلى رئاسة المندوب البريطاني عريضةً من أجل تحرير القائدَين السجينَين. وكان الموكبُ يسير منذ فترة لا بأسَ بها عندما وجدَ نفسَه أمام العسكر. فحاولَ متابعةَ طريقه. فأطلقَ عندئذٍ الجنودُ النارَ فقتلوا قرابةَ عشرين متظاهرًا وجرحوا عددًا كبيرًا جدًا. لقد بلغَ السيلُ الزُّبَى: فمَنْظرُ الدم والجرحى والقتلى حوَّلَ هذه الحشودَ الهادئةَ إلى رعاع متعطِّشين للانتقام أخذوا يقتلعون السكةَ الحديديةَ المجاورةَ ويجتاحون المبانيَ الحكوميةَ ينهبونها ويُضْرِمون فيها النيرانَ وقتلوا عددًا من الإنكليز[12]. وجاءَ الجنرالُ ريجينالد داير Reginald Dyer لإرساء النظام. غيْرَ أنَّ الجنرالَ ديير، في الثالث عشر من نيسان/أبريل، وبينما كان زُهاء عشرة آلاف شخص يجتمعون في المكان المسمَّى جاليانوالا باغ Jallianwala Bagh للاحتفال بأحد أعياد السيخ، أمرَ جنودَه بإطلاق النار في حين أنه لم يكنْ قد حدثَ أيةُ حادثة. وبإطلاق 1650 رصاصة وقعَ 379 قتيلاً و1137 جريحًا. وأُعلِنَ عندئذٍ القانونُ العرفي في البنجاب فتعرَّضَ السكانُ لقمعٍ عنيفٍ جدًا. لقد شكَّلَتْ حادثة إطلاق الرصاص في أمريتسار Amritsar شرخًا في تاريخ الوجود الإنكليزي في الهند. عندما أدركَ غاندي كلَّ حالات الفوضى التي سبَّبَتْها دعوتُه إلى العصيان المدني، رأى أنه قد ارتكبَ خطأً جسيمًا فأعلنَ في الثامن عشر من نيسان/أبريل 1919 إيقافَ الحملة. وكتب في سيرته الذاتية يقول: قبل أنْ نكون قادرين على ممارسة العصيان المدني، ينبغي أنْ نكون قد أطعنا قوانينَ الدولة عن رضا واحترام. (...) لأنه فقط عندما نكون قد خضعْنا على هذا النحو خضوعًا صارمًا لقوانين المجتمع نكون قادرين على التمييز تمييزًا دقيقًا بين القوانين الصالحة والقوانين الظالمة والجائرة. وعلى هذا الأساس فإننا نملكُ حقَّ العصيان المدني لبعض القوانين فقط في ظروف محددة تمامًا. كان خطأي يكمن في أنني لم أعرِفْ أنْ أراعيَ هذا الحدَّ الضروري. لقد أعلنْتُ للشعب دعوةَ العصيان المدني قبل أنْ يكون مؤهَّـلاً لتلبيتها، وكان هذا الخطأُ يبدو لي في حجمِه عظيمًا كالهيمالايا. (...) وأدركْتُ أنه ينبغي على الشعب، قبل أنْ يكون قادرًا على ممارسة العصيان المدني، أنْ يفهمَ معناه الأعمقَ فهمًا تامًا[13]. بعد عدة أشهر، ألغى نائبُ الملك المنعَ المفروضَ على غاندي بالإقامة في البنجاب. فزار البنجابَ في السابع عشر من تشرين الأول/أُكتوبر 1919 وأدركَ أنَّ "الفظاعاتِ المرتكَبةَ باسم القانون العرفي كانت أشدَّ مما أشارت إليه معلوماتُ الصحافة[14]." فقرَّرَ مع القادة المحليين إنشاءَ لجنة تحقيق مستقلة تحمَّـلَ فيها أكبرَ نصيب من العمل. وأظهرَ التقريرُ الذي أعدَّتْه هذه اللجنةُ "إلى أية حدود تستطيع الحكومةُ البريطانيةُ أنْ تذْهبَ وأيةَ أعمال لاإنسانية ووحشية يمكن أنْ ترتكبَها من أجل الحفاظ على سيطرتها[15]". وفي هذه المرحلة يقوم غاندي بوظيفة رئيس تحرير لصحِيفتَين اثنتين تُتيحانِ له كلَّ أسبوع أنْ يُـعَـبِّـرَ وأنْ يحدِّدَ لجمهورٍ واسعٍ المعنى الذي يقصد أنْ يعطيَه لنضال الهنود اللاعنفي من أجل الحصول على العدالة من السلطة البريطانية. وفي أيلول/سبتمبر 1919، أصبحَ مسؤولاً عن ناﭭـاريجان Navarijan (الحياة الجديدة)، وهي مجلة شهرية منشورة باللغة الغواجاراتية guajarati حوَّلَها إلى أسبوعية. وفي تشرين الأول/أُكتوبر، يتولَّى إدارةَ مجلة أسبوعية منشورة بالإنكليزية، وهي Young India (الهند الفَـتيَّة). هاتان المجلَّتان نُشِرتا في أحمد آباد. لكنَّ قضيةً أخرى تدفع بالهنود إلى الاستنفار في وجه الحكومة البريطانية: إنها قضية الخلافة. كان سلطانُ القسطنطينيةِ التركيُّ رئيسَ مسلمي الهندِ الروحيَّ وخليفتَهم. فعلى الرغم من أنَّ تركيا قد اتَّخذَت موقفًا لصالح ألمانيا فإنَّ هؤلاء كانوا يوْلُون أهميةً حيويةً للمصير المُـخَـبَّـأ للسلطان في المعاهدات التي أقرَّت هزيمةَ ألمانيا في عام 1918. إلاَّ أنه تبيَّنَ أنَّ المنتصرين في الحرب، وخلافًا للوعود التي قطعَها في السابق رئيسُ الوزراء البريطاني، كانوا ينْوون تقسيمَ الإمبراطورية العثمانية وحرمانَ السلطان التركي من السلطة التي كان يمارسها على أراضي آسيا الصغرى وتراقيا Thrace. عندئذٍ اعتبرَ مسلمو الهند أنهم خُدِعوا وأنَّ الحكومةَ البريطانيةَ قد طعنَتْهم طعنةً قويةً في كرامتهم. ورأى غاندي في قضية الخلافة التي لم تكنْ في حد ذاتها حيويةً للهند رأى فرصةً وحيدةً لترسيخ وحدة الأمة الهندية فطلب من جميع الهنود تأكيدَ تضامنهم مع المسلمين. في الرابع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 1919 شارك غاندي في مؤتمرٍ لكل الهند حول الخلافة والذي عُقِدَ في دلهي. وفي أثناء خطاب ألقاه غاندي أعلن بصورة خاصة قائلاً: ينبغي ألاَّ يبدوَ من الغرابة أنْ نرى الهندوسَ والمسلمين مجتمعين على منبر واحد لمناقشة مسألة تخصُّ المسلمين. فالتعبيرُ عن المَحَبَّة مِنْحةٌ حقيقيةٌ عند المِحْنة؛ وسواء أكُنَّـا هندوسًا أم مجوسًا أم مسيحيين أم يهودًا، إذا كنا نريد تكوينَ أمةٍ واحدةٍ فإنَّ مصالح أحدِنا ينبغي أنْ تكون مصالحَنا جميعًا. الشيء الوحيد الذي يجب النظرُ إليه هو عدالة القضية. (...) أريد أنْ آمَلَ أيضًا في أنْ تُنصَفَ قضيةُ المسلمين. مع ذلك، إذا كان لا بد أنْ يحصلَ الأسوأُ فإنَّ اللجنة من أجل الخلافة قد قرَّرَت مساءَ البارحة أنْ توصيَ المسلمين بالرجوع عن تعاونهم مع الحكومة. (...) أعْـلَم أنَّ إيقافَ التعاون مع الحكومة أمرٌ خطير جدًا. ويتطلَّبُ أنْ نكون قادرين على تحمُّـل المعاناة. كما أعْـلَم أنَّ من حق أي مواطن أنْ يوقفَ تعاونَه مع الدولة عندما يتعرَّض للإهانة من جَرَّاء هذا التعاون. فتلك هي طريقة ملموسة في التعبير عن سخطه[16]. غير أنَّ الملك والإمبراطور جورج الخامس يعطي في 24 كانون الأول/ديسمبر 1919 موافقتَه على قانون الإصلاح الهندي Indian Reform Act الذي يمنح قوةَ القانون للإصلاحات التي اقترحها سكرتيرُ الدولة لشؤون الهند، إيدوين مونتاغو Edwin Montagu، ونائبُ الملك اللورد تشيلمسفورد Lord Chelmsford. وبهذه المناسبة نشر الملكُ إعلانًا صرَّحَ فيه: أرغب بصدق أنْ يُمحى بقدر الإمكان كلُّ أثر لضغينة بين شعبي وبين من يترأَّسون حكومتي. وأنْ يحترمَ القوانينَ مستقبلاً من كانوا قد خالفوها برغبتهم الشديدة في التقدم السياسي. وأن يصبحَ في مقدور المكلَّفين بالحفاظ على حكومة سِلْمية وهادئة أنْ ينسَوِا الحماقاتِ التي كانوا مرغَمين على ردعِها. لقد بدأ عهدٌ جديد. فليبدأْ بتصميمٍ عام يقوم به شعبي والذين يمثِّـلونني على العمل معًا من أجل هدف مشترك[17]. في الواقع فإنَّ الإصلاحات التي خطَّطَ البريطانيون للقيام بها "كانت تهدف إلى تعزيز سيطرتهم على الهند من خلال توسيع حلقة المتعاونين مع الحكومة الاستعمارية[18]." إلاَّ أنَّ غاندي، نظرًا لإخلاصه لفلسفته السياسية، أراد أنْ يتقبَّـلَ بثقةٍ النيَّاتِ الحسنةَ التي تُظهِرُها السلطةُ البريطانية. فأكَّدَ قائلاً: الإصلاحاتُ ناقصة بالتأكيد: إنها لا تقدِّم لنا ما يكفي. ومن حقنا أكثر من ذلك ونستطيع تحمُّـلَ مسؤوليةِ ذلك؛ ولكنْ بوضعها الحالي لا يجوز لنا ازدراؤها. فهي ستتيح لنا أنْ نتطوَّرَ. وبالتالي ليس واجبُنا السعيَ إلى الحكم عليها، بل الشروع في العمل بهدوء لإنجاحها، وبذلك نُحَـضِّر أنفسَنا مسبقًا للمرحلة التي سنتحمَّـل فيها كاملَ المسؤولية. (...) إنَّ الإعلانَ يستعيض عن عدم الثقة بالثقة أكثرَ من الإصلاحات. بقيَ أنْ نرى إنْ كانت هذه الثقةُ ستخترق مجال المسؤولين. لنفترضْ ذلك ولنرحِّبْ به أفضلَ ترحيب ممكن. ولو تصرَّفْنا على هذا النحو فلن يكون في الإمكان أنْ نرتكبَ خطأً. الضعف يولِّد عدمَ الثقة[19]. خلال الأسبوع الأخير من كانون الأول/ديسمبر 1919، شاركَ غاندي مشاركةً فعَّـالةً في أعمال الدورة السنوية للمؤتمر الوطني الهندي والتي عُـقِـدَتْ في أمريتسار. هذه المشارَكة شكَّلَتْ "بداياتِه الحقيقيةَ في سياسة المؤتمرات[20]." فهو القائل: "لم يكنْ حضوري في الدورات السابقة، لو افترضنا على أكثر تقدير، إلاَّ تجديدًا سنويًا للولاء للمؤتمر. كما أنني لم أشعُرْ قط أنَّ مهمَّتي يمكن أنْ تكونَ غيرَ مهمة جندي بسيط، ولم أكنْ أرغبُ في أكثر من ذلك[21]." تأسَّسَ المؤتمرُ في عام 1885 بناءً على مبادرة بعض الأوروبيين الذين كانوا ينْوون جمْعَ القادة الهنود بصورة منتظمة لكي يتدارسوا معهم الإصلاحاتِ الإداريةَ والاجتماعيةَ التي يمكن أنْ تُساهِمَ في تقدُّم الهند. وكان أولُ أمين عام له موظَّفًا سابقًا رفيعَ المستوى إنكليزيَّ الجنسية، وهو ألان أوكتاﭭـيان هيوم Allan Octavian Hume. اجتمع المؤتمرُ لأول مرة في مومباي [بومباي] Bombay بتاريخ 28 كانون الأول/ديسمبر 1885 بحضور 73 شخصيةً. وكان المؤتمرُ في بداياته مواليًا تمامًا [للنظام القائم] ومعتدلاً جدًا في مَطالبه. وأصبحَت مواقفُه متشدِّدةً ابتداءً من عام 1907 تحت تأثير بال غانغَدار تيلاك Bal Gangadhar Tilak، وهو شخصية لامعة ذو نزاهة أخلاقية وفكرية كبيرة، كان يتمتَّع بشعبية واسعة في جميع أنحاء الهند. ولم يتردَّدْ في المطالبة بالاستقلال كحق طبيعي للهند وفي الإيصاء بالعمل المباشر للحصول عليه. في أمريتسار، يوصي غاندي بالتعاون مع الحكومة مستندًا إلى إعلان الملك بتاريخ 24 كانون الأول/ديسمبر 1919. غير أنه كان عليه أنْ يغيِّرَ لهجتَه سريعًا. ففي الرابع عشر من أيار/مايو 1920 عُرِفَـتْ الشروطُ التي فرضها المنتصرون على تركيا: لقد أكَّدَتْ جميعَ المخاوف التي كانت تُراوِد المسلمين. فأصبحَتْ القطيعةُ عندئذٍ محتومةً. وفي الثامن والعشرين من أيار/مايو اجتمعَتِ لجنةُ الخلافة في مومباي [بومباي] وتبَـنَّـتْ برنامجَ اللاتعاون الذي اقترحه غاندي. في العدد المؤرخ في الثاني عشر من أيار/مايو 1920 من مجلة الهند الفَـتيَّة Young India يجيب غاندي أحدَ الصحفيين الإنكليز الذي كان قد أخذَ على غاندي بأنه رجل سياسي بينما كان مشهورًا بأنه قدِّيس. واتَّهمَه بصورةٍ خاصة بأنه يُـعَـلِّم العملَ المباشرَ بينما لا يصلح العملُ المباشرُ لجمع الناس واعتبره متعارضًا مع تعاليم بوذا والمسيح اللَّذَينِ يوصيان بتكافُل symbiose أوسع يهدف إلى جمع البشر أجمعين. يجيب غاندي مُعارِضَه بهذه الكلمات: ما هو التكافُل الأوسع الذي أوصى به بوذا والمسيح؟ ولم يتردَّد البوذا في الدخول في صراع مفتوح مع المعسكر المعادي وقد أركعَ الكهنةَ المتكبِّرين. وطردَ المسيحُ التجارَ والصيارفةَ من هيكل أورشليمَ وأنزلَ على المتكبِّرين والمنافقين لعناتِ السماء. لقد كان الاثنانِ مؤيِّـدَينِ تأييدًا شديدًا للعمل المباشر. وبيَّـنَ غاندي أنَّ موقفَهما بكامله تُحرِّكُه الطيبةُ والرحمةُ بينما لم يكونا يتردَّدان في الدخول في نزاع مع خصومهما. وتابعَ قائلاً: ما كانا سيرفعان يدًا على عدوٍّ وكانا سيفضِّلان الاستسلامَ على التخلِّي عن الحقيقة التي كانا يعيشان لأجلها. وكان البوذا سيموت وهو يقاوم الكهنةَ لو لم يكن نُـبْـلُ حبِّه يكفي لمهمة إخضاعهم. ومات المسيحُ على الصليب مكلَّلاً بالشوك وهو يتحدَّى إمبراطوريةً بكاملها. فإذا نظَّـمْتُ عملياتِ مقاوَمةٍ لاعنفيةٍ فإنني لا أقوم بكل بساطة وتواضُع سوى باتِّـباع الطريق الذي رسمَه المعلِّـمَـينِ الكبيرَينِ اللَّذَينِ سمَّاهما مُعارضي[22]. في الثاني والعشرين من حزيران/يونيو 1920 كتبَ غاندي إلى نائب الملك، اللورد تشيلمسفورد Lord Chelmsford، ليطلبَ إليه أنْ يأخذَ بالحسبان مَطالبَ المسلمين التي أصبحَت مطالبَ الهنود أجمعين: سيادة نائب الملك، حيث أنكم إلى حد ما شرفتموني بثقتكم، ولَمَّـا أنني أتمنَّى بصدقٍ خيرَ الإمبراطورية البريطانية فإنني أرى بأنه يجب عليَّ أنْ أُوضِحَ لسعادتكم ولوزراء جلالته عن طريقكم موقفي من مسألة الخلافة. (...) إنَّ شروطَ السلام ودفاعَ سعادتكم عنها وجَّهَت لمسلمي الهند ضربةً لن يتخلَّصوا من آثارها بسهولة. فهذه الشروطُ تخرق جميعَ الوعود الوزارية ولا تقيم أيَّ وزن لمشاعر المسلمين. ولكوني هندوسيًا مخلصًا وأرغب في الحفاظ على أطيب العلاقات مع أبناء بلدي من المسلمين فإنني أعتبرُ أنني إذا لم أساندْهم وقت المحنة فلن أُصبحَ جديرًا بأنْ أكونَ ابنًا للهند. فقضيتهم عادلة برأيي المتواضع. إنهم يُعلِنون أنه من أجل احترام مشاعرهم ينبغي عدم "معاقبة" تركيا. فالجنود المسلمون لم يقاتلوا لكي يُنزَلَ الِعقابُ بخليفتهم ولا لكي يُحرَمَ من أراضيه. فخلال هذه السنوات الخمس كلِّها كان موقفُ المسلمين منسجمًا مع ذاته. (...) نظرًا إلى هذه الظروف، ليس هناك من موقف يجب على رجل مثلي أنْ يتَّخذَه سوى قطع العلاقات مع الإدارة البريطانية أو تبَنِّي الوسائل التي ستتيح لي إصلاحَ الأذى الذي ارتُكِبَ فأعيد بذلك خلْقَ الثقة، إذا كنتُ مازلتُ أؤمن بتفوق دستورها على الوسائل الأخرى المعمول بها. (...) ولأنني إذًا أثق بالدستور البريطاني فقد أوصيتُ أصدقائي المسلمين بسحب مؤازرتهم لحكومة سعادتكم وأوصيتُ الهندوسَ بالانضمام إليهم إذا لم يُنظَرْ في شروط السلام. (...) مع أنني أُقِرُّ بوجود مخاطرَ جَـمَّةٍ عندما يشرع باللاتعاون الجماهيرُ. غير أنه في أزمةٍ كهذه الأزمة التي يمرُّ بها المسلمون ليس هناك من إجراء بلا مخاطرَ يمكنه أنْ يؤدِّيَ إلى النتيجة المنشودة. فعدمُ تجشُّـمِ مخاطرَ اليومَ يعني التسبُّبَ بمخاطرَ أكبر، إنْ لم يكنْ التدمير المحتمل للقانون والنظام[23]. وفي الرابع عشر من تموز/يوليو 1920، يعرض غاندي المرحلةَ الأولى من برنامج اللاتعاون: 1. التخلِّي عن جميع الألقاب والمناصب الفخرية. 2. رفض المشاركة في قروض الحكومة. 3. رفض المحامين ورجال القانون ممارسةَ مهنتِهم. وتسوية جميع الخلافات بالتحكيم الخاص. 4. مقاطعة الأهل للمدارس الحكومية. 5. مقاطعة المجالس الإصلاحية conseils réformés. 6. رفض المشاركة في حفلات الاستقبال الحكومية وأية حفلات أخرى من هذا القبيل. 7. رفض قبول أي منصب عسكري أو مدني في بلاد ما بين النهرين أو الانخراط في الخدمة في الجيش وخاصةً في الأراضي التركية التي يتم إدارتها بما يتعارضُ والوعودَ المقطوعة[24]. فضلاً عن ذلك، دعا غاندي الهنودَ إلى عدم استخدام أية منتَجات أخرى غير المنتَجات المصنَّعة في الهند. وأكَّدَ بصورة خاصة على ضرورة القيام بالغزل والنسيج اليدوي في جميع أنحاء الهند. فلا بد لهذا الإنتاج للنسيج المحلِّي (خادي [كهادي] khadi) أنْ يُـتيحَ للهنود التحرُّرَ من ضرورة شراء النسيج الأجنبي. كتبَ [جواهَرلال] نِهْرو Nehru يقول: لقد ساعدَ الخادي khadi من الناحية الاقتصادية في التخفيف من نسبة البطالة المرتفعة جدًا في الهند تخفيفًا جزئيًا، كما ساعدَ بصورة خاصة في إعادة ثقة كثير من الناس بأنفسهم واحترامهم لِذَاتهم. في الواقع، كان تأثيرُه الأساسيُّ ذا طابع نفساني. وسعى بنجاح إلى مد جسر بين المدينة والقرية، بين الطبقة المثقفة البرجوازية والفلاحين. (...) ففي الاجتماعات، اختلط الأغنياءُ بالفقراء تحت لواء الخادي، لصالح روح الزمالة. هذه الحركةُ ساهمَت بلا أدنى شك في تقريب الجماهير من حزب المؤتَمر Congrès. وأصبحَ الخادي اللباسَ الموحَّد للاستقلال الوطني[25]. ينبغي لحملة اللاتعاون أنْ تبدأَ في الأول من آب/أُغسطس مسبوقةً بـ هَرْتَـل [إضراب احتجاجي عام ليوم واحد] hartâl يبدأ في 31 تموز/يوليو. وفي الأول من آب/أُغسطس، ردَّ غاندي إلى نائب الملك الأوسمةَ الثلاثةَ التي كان قد حصلَ عليها لقاءَ خدماته الطيبة والمخلصة للحكومة البريطانية. وفي الرسالة التي وجَّهَها إلى نائب الملك بهذه المناسبة كتبَ ما يلي: إنَّ الطريقةَ الاعتياديةَ التي تقوم على إحداث بلبلة عن طريق رفع العرائض وإرسال الوفود وغير ذلك هي برأيي المتواضع علاج غير ناجع لحمل حكومةٍ على التغيير [والندم] إذا كانت لامباليةً إلى هذا الحد بممتلكات رعاياها. (...) ولذلك أجازفُ باقتراح علاج اللاتعاون الذي يتيح للراغبين قطعَ العلاقات مع الحكومة والذي يجبرها، إذا لم يترافقْ بعنفٍ وإذا جرى بناءً على منهج، على العودة إلى ذاتها وعلى إصلاح الأذى الذي ارتكبَتْه. ولكنْ عندما أواصل سياسةَ اللاتعاون هذه بمقدار ما أستطيع أنْ أَحْمِلَ الشعبَ عليها فلن أفقدَ الأملَ في أنْ تنظروا في إمكانية التصرف بعدالة[26]. ترجمة: محمد علي عبد الجليل *** *** *** [1] إيـﭪ ﭙوتي-دوتايِّـيْ Yves Petit-Dutaillis وماني مولاَّ Mani Mulla، L'Inde dans le monde [الهند في العالَم]، باريس، ﭙـايو Payot، 1951، ص 100. [2] وهي: أسام Assam، البنغال Bengale، بيهار Bihar، بومباي Bombaye، مادراس Madras، أوريسا Orissa، ﭙـاندجاب Pandjab، محافظة الشمال الغرب، المحافظات الوسطى، المحافظات المتحدة، السِّنْد Sind. [3] ذكَرَه كلود ماركويتس [ماركوﭭيتز] Claude Markowits، Histoire de l’Inde moderne [تاريخ الهند الحديث]، 1850-1950، باريس، فايار Fayard، 1994، ص 440. [4] غاندي، Autobiographie ou mes expériences de vérité [السيرة الذاتية أو خبراتي في الحقيقة]، سبق ذِكْرُه، ص 143. [5] ذكرَه د. ج. تيندولكار D. G. Tendulkar، Mahatma… [المهاتما...]، سبق ذكره، المجلَّد الأول، ص 37. [6] غاندي، Autobiographie [السيرة الذاتية]، سبق ذِكْرُه، ص 159. [7] ذكره ب. ر. ناندا B.R. Nanda، Gandhi, Sa vie, ses idées, son action politique en Afrique du Sud et en Inde [غاندي، حياته وأفكاره وعمله السياسي في جنوب أفريقيا والهند]، [مدينة] ﭭيرﭭييه [فيرفيرس] Verviers، [دار نشر] مَرَبوط [مُرابِط] Marabout، سلسلة مَرَبوط "الجامعة"، 1968، ص 85. [8] غاندي، Autobiographie [السيرة الذاتية]، سبق ذِكْرُه، ص 585. [9] المرجع نفسه. [10] المرجع نفسه، ص 589-590. [11] المرجع نفسه، ص 592. [12] ج.ت. ساندِرلاند J.T. Sunderland في كتابه L'Inde enchaînée [الهند المكبَّـلة بالسلاسل]، باريس، مطابع فرنسا الجامعية، 1931، ص 109-110. [13] المرجع نفسه، ص 603. [14] المرجع نفسه، ص 610. [15] المرجع نفسه، ص 612. [16] غاندي، La Jeune Inde [الهند الفتِـيَّـة]، باريس، [منشورات] ستوك Stock، 1924، ص 12-16. [17] ورَدَ في غاندي، La Jeune Inde [الهند الفتِـيَّـة]، سبقَ ذِكْرُه، ص 18. [18] ذكَرَه كلود ماركويتس [ماركوﭭيتز] Claude Markowits، Histoire de l’Inde moderne [تاريخ الهند الحديث]، 1880-1950، سبقَ ذِكْرُه، ص 441. [19] غاندي، La Jeune Inde [الهند الفتِـيَّـة]، سبقَ ذِكْرُه، ص 20-21. [20] غاندي، Autobiographie [السيرة الذاتية]، سبق ذِكْرُه، ص 624. [21] المرجع السابق. [22] غاندي، Satyagraha, Non-Violent Resistance [ساتياغراها، المقاوَمة اللاعنفية]، سبقَ ذِكرُه، ص 111-112. [23] غاندي، La Jeune Inde [الهند الفتِـيَّـة]، سبقَ ذِكْرُه، ص 80-83. [24] المرجع نفسه، ص 87. [25] الـﭙـانديت نِهْرو Pandit Nehru، Ma vie et mes prisons [حياتي وسجني]، سبقَ ذِكْرُه، ص 368. [26] غاندي، La Jeune Inde [الهند الفتِـيَّـة]، سبقَ ذِكْرُه، ص 99-100. |
|
|