هل سيتمكن العلم الحديث من إثبات نظرية تعدد الأكوان؟

 

د. جواد بشارة٭

 

كون واحد أم عدة أكوان؟

يحتاج الإنسان إلى مليارات المليارات المليارات من السنوات لكي ينجح في اختراق المجرة التي يعيش فيها في إطار مجموعته الشمسية، وينطلق إلى رحاب الكون الواسعة، أي اكتشاف ما يوجد في ما وراء المجرة من مليارات المليارات المليارات من المجرات القريبة والبعيدة المحيطة بمجرته. إن متوسط عمر الإنسان قصير جدًا بالنسبة لعمر الكوكب الذي يعيش فوقه فما بالك بعمر المجرة التي تأوي كوكبه أو الكون الذي يضم مجرته والذي يحسب بمليارات المليارات المليارات من السنين؟ وبالرغم من هذه الحقيقة المفجعة يدفع الفضول هذا الإنسان إلى التساؤل والتطاول للبحث عن أجوبة. ومهما كانت درجة الوعي البشري نجد كل الناس، بمختلف مستوياتهم الفكرية، يطرحون أسئلة وجودية وهم يتوجهون بأنظارهم إلى السماء، من قبيل: كيف نفهم العالم الذي نعيش فيه؟ وكيف يتصرف الكون؟ وما هي طبيعة وحقيقة الواقع؟ ومن أين جئنا ولماذا؟ وهل الكون الذي نعرفه بحاجة إلى خالق يخلقه، وإذا كنا وحيدين في هذا الكون كما يدَّعي بعض العلماء فما هي الحاجة لكل تلك المليارات المليارات من السدم وأكداس أو حشود المجرات في كوننا المرئي وحده؟

كانت هذه الأسئلة ومثيلاتها من اختصاص الفلسفة لقرون طويلة، إلا أن الفلسفة بمفهومها التقليدي شبه ميتة في النصف الأول من القرن الواحد والعشرين، لأنها لم تنجح في مواكبة التطورات العلمية والتكنولوجية التي حدثت في النصف الثاني من القرن العشرين والتي ستحدث في القرن الواحد والعشرين الذي ولجنا عقده الثاني قبل عامين. لقد تصدى العلماء لمهمة البحث عن المعرفة والإجابة على تلك التساؤلات الجوهرية على ضوء الاكتشافات العلمية الحديثة أو المعاصرة. وبفضل مساهمات العلماء تغيرت الصورة التي رسمها الإنسان عن الكون وموقعه ومكانته فيه لا سيما في السنوات العشرين الماضية، وتلخصت الرؤية العلمية الفيزيائية للكون في نظريتين رئيسيتين هما النسبية لآينشتين التي شرحناها في دراسات سابقة، والنظرية الكوانتية أو الكمومية، التي تفرعت عنها نظريات أحدث مثل نظرية الأوتار الفائقة والنظرية م.

فميكانيك الكم أو الكوانتا mécanique quantique يزودنا بوصف لعالم غريب يفلت من مخالب منطقنا العقلاني. وهو وصف أصاب الكثير من العلماء بالحيرة والاضطراب والرفض في بعض الأحيان، وذلك منذ صياغته في سنوات العشرينات من القرن العشرين. وأثار سجالاً بين العلماء بشأن تفسير الموضوع أو المادة الرياضية objet mathématique الذي يصف الكينونات على المستوى الذري وما دون الذري والمقصود به دالة الموجة fonction d’onde. وهذه الأخيرة تختلف من تفسير لآخر حسب المعطى الممنوح لعملية القياس، وجهاز القياس، والمراقب الذي يقوم بالقياس، حتى بلغ مجموع التفسيرات خمسة. أحدها تفسير إيفرت Everett. وكان العالم هوغ إيفرت Hugh Everett الأستاذ بجماعة برينستون princeton الأمريكية، قد اقترح سنة 1957 دالة موجة fonction d’onde تشرح تطور الكون المرئي على نحو متواصل أو ممتد ومستمر continue في سياق صيرورة لا تلعب فيها الصدفة أي دور. وكانت مختلف نتائج الحسابات والقياسات الرياضية الممكنة المتعايشة مع بعضها البعض، تشير إلى عدد لا متناهي من الواقع أو العوالم الواقعية المتوازية، أي أن كل العوالم تعيش جنبًا إلى جنب، ونحن لا نعرف إلا جانبًا لا يذكر من أحد هذه العوالم الذي نعيش فيه وندرسه، علمًا بأن مثل هذه المقاربة تطعن بمفهوم الاحتمالات probabilités وهو أحد أركان الفيزياء الكوانتية. التفسير الآخر عرف باسم تفسير كوبنهاغن Interprétation de Copenhague والذي تزعمه في سنوات العشرينات في القرن المنصرم نيلس بور Niel Bohr صاحب السجالات الشهيرة مع آينشتين. ويتلخص هذا التفسير بوضع حدود بين النظام الكوانتي système quantique الموسوم بسمة اللايقين incertitude ومبدأ اللاحتمية indéterminisme وما يتعلق به من خصائص proprietés من جهة، وبقية العالم من جهة أخرى، الذي تحكمه وتسيره قوانين الحتمية lois déterministes الموروثة عن قوانين نيوتن. فدالة الموجة، حسب تفسير غوبنهاغن، تصف حالة النظام الكوانتي ولكن ليس على نحو متواصل ومتسمر وممتد. فهي تتغير فجأة بمجرد أن يحصل المراقب على المعلومات بشأن النظام أي أنها تنهار. بعبارة أخرى، إن الخاصية الكوانتية propriété quantique مثل موقع الإلكترون، لا توجد بحد ذاتها إلا أثناء أو خلال عملية القياس. من هنا نشأت سمة الاحتمالية لهذا الوصف للعالم، وبالتالي، وحسب هذا التفسير، يستبعد وجود كون كوانتي univers quantique بمجمله وكلياته.

التفسير الثالث هو الميكانيك الكوانتي العلائقي أو العلاقاتي La mécanique quantique relationnelle وهو تفسير اقترحه في سنوات التسعينات من القرن العشرين العالم كارلو روفيللي Carlo Rovelli الأستاذ بجامعة المتوسط، ويقول هذا التفسير أن كافة تناقضات ومفارقات paradoxes الميكانيك الكوانتي تعود إلى الاستخدام الخاطئ والثابت لرؤية خاطئة لمفهوم الخاصية الكوانتية. فلا توجد خاصية مطلقة مستقلة عن المراقب. وكل الأشياء والمواد هي كوانتية أو كمومية، وإن خصائصها نسبية مرتبطة بجهاز القياس. ومن هنا فإن العالم حسب هذا التفسير يبدو وكأنه مجموع من العلاقات أكثر منه تجمع لكينونات مستقلة. بعبارة أخرى فإنه لا معنى لوجود كون كوانتي يفحصه مراقب من خارجه.

التفسير الرابع يحمل اسم نظرية التواريخ الجامدة la théorie des histoires consistantes المتماسكة والصلبة، وصاحبه هو العالم روبير غريفيث Robert Griffiths الأستاذ في جامعة كارنيجي ميللون carnegie ellon والذي اقترحه في سنوات الثمانينات من القرن الماضي، ومفاده، أنه ينبغي توسيع تفسير كوبنهاغن واعتبار أن اختزال وصف الكون بحساب أو قياس فردي غير كافي، وبناءً على ذلك من الضروري الاهتمام بما حدث قبل وما يحدث الآن وما سيحدث فيما بعد، ومن هنا جاءت فكرة المشهد séquence. وفي هذه المقاربة لا يمكننا منح خصيصة بناءً على قياس فردي بل نتيجة لجملة من المشاهد لقياسات متعاقبة، أو لعدة تواريخ، ولكي نكون مفهومين علينا أن لا ننسب تلك الاحتمالات إلا وفق جملة من التواريخ التي لا تتداخل ولا تتفاعل فيما بينها فتواريخ مختلفة تتطابق مع أوصاف تكميلية مختلفة وغير موائمة لحالة الكون.

والتفسير الأخير يحمل عنوان نظرية الموجة المرشدة أو النموذجية théorie de l’onde pilote. وهي نظرية صيغت في خمسينات القرن العشرين على يد العالم دافيد بوهم David Bohm الأستاذ في جامعة ساو باولو، وهي عبارة عن محاولة للتوفيق بين الميكانيك الكوانتي والمفهوم القديم للجسيم. فالجسيمات الكونية، وهي كيانات محددة بدقة، تنتقل في الكون في الفضاء حسب قانون حتمي ويقود حركتها ويرشدها دالة الموجة التي تربط بينها جميعًا. مثل الموجة المعتمدة على مواقع تلك الجسيمات، فهي تحملها كلها وتنقل إليها جميعًا، وفي آن واحد، المعلومات اللازمة لها. وإن الطابع العشوائي الذي يبدو عليه العالم الكوانتي ناجم عن المعرفة الناقصة وغير الكاملة لمواقع أو مواضع تلك الجسيمات. المشكلة في هذا التفسير أنه لا يتوائم مع نظرية النسبية لأنه أقرب للميكانيك النيوتني وأكثر تأثرًا به.

في المفهوم الكلاسيكي للكون تنتقل الأجسام وفق تطور ودورة évolution ومسارات trajectoires محددة بدقة إلى درجة أننا يمكن في أية لحظة تحديد مواقعها بدقة متناهية. ولكن حتى لو كان هذا المفهوم كافيًا لاحتياجاتنا اليومية، إلا أننا اكتشفنا في عشرينات القرن المنصرم أن هذه الصورة الكلاسيكية لا تسمح بإدراك التصرفات الغريبة التي يمكننا رصدها ومشاهدتها على المستوى الذري atomique وما دون الذري subatomique واحتاج الأمر البحث عن إطار علمي جديد تمثل بالفيزياء الكمومية أو الكوانتية physique quantique، وتبين أن توقعات وتنبؤات النظريات الكوانتية كانت دقيقة ومضبوطة جدًا في مستوى اللامتناهي في الصغر ولا تعترض على اللجوء إلى النظريات الكلاسيكية في المجال الماكروسكوبي macroscopique أي اللامتناهي في الكبر. والحال لايمكننا إخفاء حقيقة أن الفيزياء الكوانتية والفيزياء الكلاسيكية يستندان على مفاهيم متباينة ومختلفة بصورة راديكالية بشأن الواقع الفيزيائي أو المادي.

يمكننا صياغة محتويات ومضامين النظريات الكوانتية بعدة طرق إلا أن أفضل من قدمها بأوضح الصيغ هو ريشارد ديك فينمان Richard Dick Feynman الأستاذ في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا california Insitute of Technology. فهو يعتقد أن أي نظام يوجد له عدة تواريخ وليس تاريخ واحد ووحيد، بل كل التواريخ الممكنة. وبالاستناد إلى مقاربة فينمان نستطيع أن نؤكد أنه ليس للكون تاريخ واحد ووحيد ولا حتى وجود مستقل وهذا رأي يسير باتجاه معاكس للحس والفهم العام السائد لدى معظم العلماء الكلاسيكيين. فالشعور العام والمألوف يبنى على تجربتنا اليومية وليس على صورة الكون التي كشفتها لنا التكنولوجيات المذهلة والرائعة الحديثة التي تتيح سبر أغوار وأعماق الذرة والعودة إلى مرحلة الكون البدئي الأولي Univers primordial. كنا نعتقد قبل سطوع منجزات الفيزياء المعاصرة، أن المشاهدة المباشرة بالعين المجردة تكفي للوصول إلى معرفة شاملة للعالم وأن الأشياء هي بالضبط كما تبدو عليه حالها وكما نراها وكما تدركها حواسنا. لكن نجاحات الفيزياء المعاصرة المبهرة، المبنية على مفاهيم ثورية جريئة كتلك التي استخدمها فينمان، اثبتت لنا أن الحال يختلف عما كنا نتصور أو نعتقد في سالف الزمان. فرؤيتنا الساذجة عن الواقع لا تتوافق ولا تتلائم مع حقائق الأمور التي كشفتها الفيزياء المعاصرة. وكان لا بد من تجاوز هذه المفارقة. هناك مقاربة تستند على فكرة أن دماغنا يفسر الاشارات التي يستلمها أو يتلقاها بأعضائه الحسية والعصبية ليرسم إثرها نموذج للعالم الذي يحيط بنا. وعندما يسمح هذا النموذج بتفسير الحوادث التي نعزوها إليه، عندها ننحو إلى أن نوسمه، هو وعناصره ومفاهيمه المكونة له، أو ندمغه بصفة الواقع réalité، أو الحقيقة المطلقة vérité absolue. والحال توجد عدة طرق ومناهج نمذجة نفس الحالة الفيزيائية، وكل نموذج منها يستلهم عناصره ومفاهيمه الأساسية. وإذا تنبأت نظريتان أو نموذجان فيزيائيان بنفس الأحداث وبنفس الدقة سيكون من المستحيل علينا أن نميز أو نحدد أي منهما هو الواقعي أو الحقيقي وسنكون أحرارًا باختيار ما يلائمنا منها.

يقترح علينا تاريخ العلوم سلسلة من النظريات الراقية التي تطورت من المرحلة البدائية إلى المرحلة المعاصرة المتقدمة تكنولوجيًا، من أفلاطون Platon إلى آخر النظريات الكوانتية وبضمنها نظريات الأوتار، مرورًا بنظرية نيوتن Newton الكلاسيكية ونظرية آينشتين Einstein النسبية، ومن المشروع أن نتوقع وصول العلماء في نهاية المطاف إلى نظرية قصوى شاملة وجامعة وموحدة théorie Ultime هي النظرية النهائية عن الكون المرئي والتي تضم كل القوى والتنبؤات والتوقعات والمشاهدات الرصدية السابقة واللاحقة المنتظرة. وتوجد اليوم بادرة مهمة بهذا الصدد تتمثل بالنظرية م M- théorie أو نظرية كل شيء théorie du Tout التي تتمتع بزخم هائل من الخصائص والمزايا بحيث ينبغي تركيز تأملاتنا ودراساتنا وأبحاثنا وتجاربنا عليها. وهي ليست نظرية مألوفة أو مفهومة أو بسيطة، إنها عبارة عن عائلة موحدة لمجموعة من النظريات المختلفة التي تتيح كل منها الأخذ بالاعتبار أحد جوانب المعلومة الكونية الناجمة عن الرصد والمشاهدة ويمكننا اعتبار كل نظرية من النظريات المكونة لها عبارة عن ملمح أو جانب من جوانب الخريطة الكونية.

كان العالم البريطاني الفذ ستيفن هوكينغ Stephen Hawking هو الذي قدم هذا الاقتراح في كتابه الأخير التصميم أو المشروع العظيم: هل هناك مهندس كبير في الكون؟ The Great Design : y a – t-il un grand architecte dans l’univers بالتعاون مع العالم والأستاذ الجامعي ليونارد ملوديناو Leonard Mlodinow، والذي أثار لغطًا وسجالاً على مستوى الكوكب وفي كل أنحاء العالم، وردود أفعال غاضبة من قبل المؤسسات الدينية المهيمنة على المشهد الفكري العالمي، يهودية ومسيحية وإسلامية، التي أبدت امتعاضها وغضبها من عبارة وردت في الصفحة ما قبل الأخيرة للكتاب قال فيها المؤلفان: لا حاجة مطلقًا للتضرع والابتهال إلى إله لكي يشعل الفتيل كي يولد الكون.

لقد حدثت طفرة في النظرة إلى المكان والزمان وأبعادهما القياسية. فمنذ أفلاطون لم يتوقف الفلاسفة عن النقاش حول طبيعة الواقع. ثم جاء العلم الكلاسيكي بمفهوم يستند على الاعتقاد بوجود عالم خارجي حقيقي حددت بدقة خصائصه بعيدًا عن المراقب الذي يدرسه. فبعض الأشياء توجد وتتميز بخصائص وسمات فيزيائية كالسرعة والكتلة، وتمتلك قيمًا معروفة ومحددة، وحول تلك القيم تتمحور معظم نظرياتنا الكونية والفيزيائية وكذلك حساباتنا وقياساتنا ومداركنا عندما نحاول فهم تلك الأشياء وخصائصها. فالمراقب والشيء المراقب ينتميان لعالم موجود بصورة موضوعية مستقلة وهذا الأمر يسميه الفلاسفة الواقعية réalisme. وحتى لو بدا هذا الواقع جذابًا إلا أن معلوماتنا ومعرفتنا في الفيزياء المعاصرة تجعل من الصعوبة الدفاع عن هذا المفهوم. فمبادئ الفيزياء الكمومية أو الكوانتية، التي هي عبارة عن إدراك أمين للطبيعة، تعلمنا أن أي جسيم لا يمتلك موقع أو موضع ولا سرعة محددة إلا إذا كان هناك مراقب ما يقوم بعملية القياس، وليس دقيقًا القول إن قياسًا ما يعطي نتيجة معينة، إذ أن الكمية المحسوبة لا تمتلك قيمتها إلا في لحظة الحساب أو القياس. وفي الحقيقة لا تمتلك بعض الأشياء حتى ولا وجود مستقل، وليست أكثر من جزء من مجموعة مكونات لكل globale أكبر منها بكثير. ولو قيض للنظرية المعروفة بالمبدأ الهولوغرافي principe holographique أن تثبت صحتها فإننا، وعالمنا الرباعي الأبعاد، لسنا سوى ظلال على حدود الزمكان espace-temps بخمسة أبعاد.

قادنا سعينا لاكتشاف قوانين تحكم وتسير الكون المرئي إلى صياغة مجموعة من النظريات أو النماذج، ونظرية العناصر الأربعة بما فيها نظرية الانفجار الكبير بغ بانغ، تعتبر واحدة منها. وفي كل مرة نغوص فيها في ثنايا تلك النظريات والنماذج، تتغير رؤيتنا ومداركنا ومفاهيمنا للواقع وللمكونات الجوهرية للكون التي تتعدل جذريًا في كل مرة. وكمثال على ذلك نظرية الضوء حيث اعتقد نيوتن أن الضوء يتكون من جزيئات صغيرة جدًا corpuscules وقد فسر ذلك سبب انتقالها في خط مستقيم وكذلك سبب انحناءها وانشطارها في حالة تغير الوسط الذي تنتقل فيه مثل انتقالها من الهواء إلى الزجاج أو من الهواء إلى الماء. والحال أن نظرية الجزئيات الضوئية لا تشرح أو تفسر ظاهرة عرفت في الفيزياء بظاهرة حلقات نيوتن anneaux de Newton والطريقة الوحيدة لتفسيرها هي باستخدام النظرية الموجية للضوء théorie ondulatoire de la lumière وبموجب هذه الأخيرة يعزى وجود حلقات نيوتن إلى ظاهرى تسمى ظاهرة التفاعل والتداخل interférence. والموجة كما هو معروف مكونة من ارتفاعات أو تكورات وتقعرات على غرار الموجة على سطح الماء. وفي حالة التقاء موجتين فإن الحدبتين أو التكورين المرتفعين والتقعرين المنخفضين اللذين يلتقيان يدعمان بعضهما مضخمين الموجة المتحدة من موجتين وهو الأمر الذي يصفه العلم بالتفاعل أو التداخل البناء interférence constructive وهو بالضبط ما ينتج عند تلاقي أطوال موجة longueurs d’onde يولد مثل هذا التداخل البناء، حيث أن طول الموجة هو المسافة الواقعة بين تقعرين وتكورين متعاقبين في الموجة. وبعد إثبات الطبيعة الموجية للضوء من قبل آينشتين في بدية القرن العشرين من خلال تحليله لتأثير الظاهرة الكهروضوئية photoélectrique، المستخدمة اليوم في تطبيقات مهمة في حياة الإنسان التلفزيونات وآلات التصوير الرقمية، على سبيل المثال لا الحصر. حيث يكمن التفسير بأن هذا التأثير الكهروضوئي ينجم عن تصادم جزئيتين ضوئيتين أو كوانتوم quantum ضد ذرة حيث خلال التصادم يفلت أو يتحرر إلكترون، مما يعني أن الضوء يتصرف في آن واحد كجسيم وكموجة مهما كانت هذه النتيجة غريبة وخارجة عن المألوف والشعور العام، وهو المبدأ المعروف بالتنافس الثنائي principe des dualités. وهكذا كل نظرية أو نموذج تفسر جانب من جوانب الظواهر الكونية وجزء من خصائصها لكنها تعجز عن تفسير جميع تلك الظواهر الغامضة والألغاز الدائمة في الكون المرئي. أظهر آينشتين، على غرار مفهوم حالة السكون repos، أنه لا يمكن أن يكون الزمان مطلقًا، وليس من الممكن وضع تاريخ لكل حدث يتفق بشأنه جميع المراقبين. بل على العكس، فكل مراقب لديه وسيلته الخاصة في قياس الزمان، وإن الأزمان المحسوبة من قبل مراقبين في حالة حركة بالنسبة لأحدهما الآخر، لن تتوافق، وبذلك صدم آينشتين بأفكاره حدسنا المألوف ومع ذلك تم إثبات أفكاره بالتجربة العلمية والمختبرية. فلو تصورنا ساعة ذرية دقيقة للغاية توضع في مركز الأرض وأخرى توضع على سطح الأرض وثالثة على طائرة تطير بإتجاه دوران الأرض ورابعة في طائرة تطير اتجاه معاكس لدوران الأرض، فالساعة الموجودة على طائرة تطير نحو الشرق باتجاه دوران الكرة الأرضية تنتقل بصورة أسرع من الساعة الموضوعة على سطح الأرض وبالتالي تدق بصورة أبطأ أو أقل سرعة، ونفس الشيء بالنسبة للساعة الموضوعة في مركز الأرض. أما الساعة في الطائرة المتجهة للغرب بعكس اتجاه دوران الكرة الأرضية، فهي تنتقل بسرعة أقل من تنقل الساعة الموضوعة على سطح الأرض أي تدق بصورة أسرع وهي تجربة حقيقية نفذت سنة 1971.

وبفضل أبحاث آينشتين استفاد العلماء من مسلمة أن سرعة الضوء هي نفسها واحدة وثابتة في جميع الاتجاهات. إلى ذلك فرضت نظرية ماكسويل théorie de Maxwell عن الكهرباء والمغناطيسية، بأنه علينا ألا نتعامل مع الزمان كبعد منفصل عن الأبعاد المكانية الثلاثة – الطول والعرض والارتفاع أو العمق – بل بمزج المكان بالزمان، أي كما لو إننا نضيف بعدًا رابعًا، وهو بعد المستقل/الماضي، إلى الأبعاد الكلاسيكية: يمين/يسار، وقبل/ بعد، وفوق/تحت. وقد أطلق العلماء وعلى رأسهم آينشتين على هذه الصيغة الجديدة الزمكان espace-temps أي أن الزمان لا يتميز عن الأبعاد المكانية الثلاثة ولا ينفصل عنها مما يعني أن الزمان يمكن أن يتحول إلى مكان والعكس صحيح. ومن هنا يمكننا القول أن اتجاه الزمن يمكن أن يتغير وفق سرعة المراقب.

في نظرية الأوتار théorie des cordes لا تكون الجسيمات عبارة عن نقاط بل بنى أو هيكليات متذبذبة تمتلك طولاً. لكنها تفتقد للسمك أو العرض كما لو أنها قطعة من وتر غاية في النحافة. وتوجد في هذه النظريات خاصية غير معتادة، وهي أنها لا تكون متسقة ومقنعة ومنسجمة إلا إذا كان لدى الزمكان عشرة أبعاد وليس فقط الأربعة المعروفة. والقول بعشرة أبعاد أمر مثير لكنه في نفس الوقت مصدر خفي لمشاكل حقيقية عصية، فتلك الأبعاد خفية وغير مرئية لأنها منطوية على نفسها في فضاء أو مكان لامتناهٍ في الصغر يدعى الفضاء الداخلي espace interne المناوئ للفضاء الثلاثي الأبعاد الذي نعرفه في الحياة العامة. إن هذه الحالات الداخلية ليست فقط أبعاد منطوية ومختفية فحسب فهي تمتلك معنى فيزيائيًا أو دلالة فيزيائية مهمة ولكن هناك ملايين الطرق لطوي الأبعاد الإضافية وهي كلها معروضة ومدروسة في خمس نظريات مختلفة كلها نظريات أوتار توجتها نظرية الأوتار الفائقة، وأغلب العلماء مقتنع أنها معالجات تقريبية لنفس النظرية الجوهرية التي عرفت بالنظرية م théorie – M وهي تخضع اليوم لتمحيص ولأبحاث معمقة ولكن هذا لا يمنع من الاعتقاد أنها هدف يمكن تشبيهه بمهمة سيزيف الأسطورية، أي أن سعي العلماء للتوصل إلى نظرية وحيدة جامعة وشاملة وموحدة سيكون بلا طائل.

ولو تم إثبات صحة هذه النظرية فإن فرضية تعدد الأكوان ستصبح حقيقة مبتذلة لدى العامة من الناس. فقبل بضعة قرون كان الإنسان يعتقد أن الأرض فريدة من نوعها ولا يوجد غيرها مأهول بالسكان وهي مركز الكون. في حين صار الجميع يعرف اليوم أن هناك مليارات المليارات من المجرات وفي كل مجرة مليارات المليارات من النجوم وهذه الأخيرة محاطة بمليارات المليارات من الكواكب الصلدة أو الغازية أو السائلة أو الثلجية، تدور حول شموسها في أنظمة شمسية على غرار نظامنا الشمسي، علمًا بأن كوننا المرئي ذاته ليس سوى جسيم صغير من بين عدد لا متناهي من الأكوان، لكل واحد منها قوانينه وثوابته وخصائصه المميزة مما يجعل من المستحيل لنظرية واحد أن تصف هذا الواقع الكوني التعددي اللامتناهي في الكبر والاتساع. ويبدو أننا وصلنا إلى نقطة حرجة في تاريخ العلوم يتوجب علينا عندها تعديل مفهومنا والأهداف والشروط التي تجعل نظرية ما مقبولة. فالكميات quantités الجوهرية، وشكل القوانين الظاهرة للطبيعة، تبدو وكأنها لا تتحدد، لا من خلال المنطق، ولا من خلال مبدأ فيزيائي. فالمشهد الكوني يبدو غير قابل للتصديق في شساعته، ومع ذلك يعتقد بعض العلماء أن الأكوان القابلة لاحتواء الحياة التي تشبه ما نعرفه ليست وفيرة، وإننا نحن البشر نعيش داخل أحد تلك الأكوان إلا أنها بمجموعها تشكل كوننا واحدًا مطلقًا حيًا وذكيًا بذاته وواعيًا لوجوده وكوننا من بعض أجزائه ومكوناته من الأكوان اللامتناهية في العدد، وفي هذا الكون المرئي بالذات تنبثق الحياة التي نعرفها إلى جانب أشكال أخرى لا تعد ولا تحصى من الأنواع الحياتية التي يمكن أن تنشأ في الأكوان الأخرى، فأي تعديل مهما كان طفيفًا في خصائص وثوابت كوننا المرئي، الذي نعرف الجزء اليسير منه، من شأنه أن يمنع ظهور الحياة في رحمه. فهل هذا دليل كافي أن كوننا المرئي صمم على يد خالق أم أن هناك تفسير علمي لم نتوصل إليه لحد الآن؟

يقول بعض العلماء، ومنهم ستيفن هوكينغ، إن الجاذبية تشوه الزمان والمكان وتسمح بتشكل الزمكان وتجعله مستقرًا محليًا localement ومضطربًا وغير مستقر إجمالاً. وعلى مستوى الكون المرئي يمكن تعويض الطاقة الموجبة للمادة بالطاقة السلبية الثقالية مما يزيل أي تقييد لخلق الكون برمته. ولأن قانون مثل الثقالة أو الجاذبية موجود، يمكن للكون أن يخلق نفسه عفويًا من لا شيء، وهو الأمر الذي يفسر لماذا يوجد شيء ما بدلاً من لاشيء، أي لماذا الكون موجود، ولماذا نحن موجودون، ولا داعي لدور خارجي أو عامل إلهي من خارج الكون ليقوم بدور القادح أو المشعل للفتيل الذي أطلق الانفجار الكبير البغ بانغ.

لماذا تكون القوانين الجوهرية على الحال التي وصفناها بها؟ والنظرية القصوى والنهائية يجب أن تكون متسقة cohérent وتتنبأ بالنتائج النهائية للكموميات quantités التي نحسبها ونقيسها. فقانون كالثقالة أو الجاذبية ضروري من أجل توقع كموميات محددة لذلك ينبغي أن تمتلك النظرية ما نسميه التماثل الفائق supersymétie بين التفاعلات الجوهرية والمادة التي يتعاطون معها لذلك أعتبر هؤلاء العلماء أن النظرية - م، هي الأعم من بين جميع نظريات التماثل الفائق للثقالة théories supersymétriques de la gravitation، لهذه الأسباب مجتمعة اعتبرت النظرية - م المرشحة الوحيدة لموقع النظرية لكاملة للكون. وبهذه الصفة تقدم تصورًا أو نموذجًا لكون خلق نفسه بنفسه ونحن بديهيًا جزء من هذا الكون ولا وجود لأي نموذج آخر متسق cohérent. النظرية - م هي النظرية الموحدة التي كان آينشتين يأمل بالتوصل إليها في حياته. وبمجرد أننا نحن البشر، الناتجين عن تجميع للجسيمات البدئية الأولية الجوهرية للطبيعة، تمكنا من التوصل إلى مثل هذا الفهم للقوانين التي تحكم وتسير الكون المرئي، فهذا يعتبر بحد ذاته انتصارًا مذهلاً. بيد أن المعجزة الحقيقية تكمن في أن اعتبارات تجريدية للمنطق آلت إلى صياغة نظرية توحيدية تتوقع وتتنبأ وتصف كونًا بهذه الشساعة هو كوننا المرئي الغني بالتنوعات التي نرصدها ونشاهدها فيه. ولو ثبتت صحة هذه النظرية بالمشاهدة والتجربة سنكون كمن حقق نجاحًا لسعي بدأ منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام وانتهى باكتشاف التصميم العظيم على حد تعبير ستيفن هوكينغ.

الكون حسب ليونارد سيسكند L'Univers selon Leonard Susskind

ليونارد سسكيند Leonard Susskind، وهو أستاذ في جامعة ستانفورد Stanford، هو واحد من آباء نظرية الأوتار، والتي تسعى لتوحيد ميكانيكا الكم la mécanique quantique مع الجاذبية la gravitation. كما نعلم، إن تطبيقات أبحاثه تتعلق، على حد سواء بالفيزياء المجهرية la physique microscopique وعلم الكونيات la cosmologie. وفي مقال له نشر في (NewScientist 2003/1/11) وكان "الرائد" groundbreaking حسب التعبير البريطاني، درس فيه العناصر والأدلة الحديثة لإضفاء الشرعية على فرضية الأنثروبية "الضعيفة" l'hypothèse anthropique faible. وقد حاول سسكيند في مقاله هذا شرح التلاقي والتقارب المدهش للقوانين ولثوابت الطبيعة التي مكنت من ظهور الإنسان والوعي. ولو حدثت بعض التغييرات الطفيفة في تلك الثوابت، ولو بنسبة العشور الكسرية décimales تحت رقم واحد، سيجعل ذلك من المستحيل ظهور الحياة. لماذا لم تحدث هذه التغييرات الطفيفة؟ لو استبعدنا فرضية الأنثروبي القوي l'hypothèse anthropique forte أو النهائي finaliste، والتي بموجبها بات العالم هو ما هو عليه، لأنه صمم منذ الأصل لكي يسمح بظهور الإنسان، فإننا يجب أن نعترف أننا نعيش في كون هو واحد من بين أكوان أخرى لا تعد ولا تحصى، والتي يمكن أن تسمح بظهور الحياة والوعي والذكاء فيها كما نعرفها في كوننا. يضاف إلى ذلك نقطة نادرًا ما ذكرت من قبل المدافعين عن مبدأ الأنثروبي الضعيف. إذا طبق هذا المبدأ على الكون برمته، ما يبرر ظهور الحياة على الأرض، فلن يكون هناك أي سبب للافتراض أن السبب نفسه لن يحبذ، وبالمثل، ظهور الحياة على مليارات مليارات مليارات الكواكب التي تتواجد في مليارات المليارات المليارات من المجرات في الكون المرئي l'univers visible. ما من شأنه القول أن الحياة والذكاء موجودين في كل مكان في الكون.

لدينا سلسلة من المقالات التي تناقش الآثار الفلسفية من وجهات النظر هذه، والتي تم تجاهلها بشكل عام من قبل الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين. ولذلك فمن المثير للاهتمام أن نقوم بتحليل حجج ليونارد سسكيند، الخبير بلا منازع لصالح هذا المبدأ الأنثروبي الضعيف. كما سنناقش لاحقًا موضوعات قريبة لهذه الرؤية، نجمت عن أبحاث عالم فيزيائي آخر هو لي سمولين Lee Smolin، حول مواضيع تتصل اتصالاً وثيقًا بأبحاث سسكيند.

يبدأ مقال سسكيند باعادة النظر في الحكم الصادر عن عالم الفيزياء ستيفن واينبرغ Steven Weinberg في كتابه الحلم بنظرية نهائية Dreams of a Final Theory ناجحة، الصادر سنة 1994، والذي نستشف منه أننا لا يمكن أن نفهم الكون كما يظهر لنا دون أن نأخذ عامل الإنسان بعين الاعتبار. وكان هذا الحكم مفاجئًا أكثر لأنه جاء من عالم مادي غير قابل للاختزال، والذي يعتبر أن كل القوانين الطبيعية تنشأ عن التفاعل بين الجسيمات الأولية. في ذلك الوقت، كان عالم الفيزياء الأمريكي، واينبرغ Weinberg يأمل أن نظرية الأوتار، والذي هو أحد آبائها، من شأنها أن تؤدي إلى النظرية النهائية التي يمكن توقع كل ثوابت الطبيعة فيها بدقة، من دون اللجوء إلى وجود الإنسان كعامل تفسير. ولكن بوصفه عالم كونيات cosmologiste، يتعين على واينبرغ أن يأخذ في الاعتبار هذه الظاهرة التي قد يشتبه بكونها تقف وراء زيادة تسريع وتيرة توسع الكون.

الثابت الكوني La constante cosmologique

يعزى التسارع الكوني اليوم لتأثير ثابت يسمى بـ "الثابت الكوني La constante cosmologique". وقد اخترع هذا المفهوم من قبل آينشتاين لتفسير حقيقة أن الأجرام السماوية لا تنهار على بعضها البعض تحت تأثير الجاذبية (لنتذكر ما قاله آينشتاين من أن تبنيه لمفهوم الثابت الكوني هو أكبر خطأ علمي ارتكبه في حياته). لكن حماقة هذا العالم الفيزيائي الكبير أثبتت في وقت لاحق أنه كان متبصرًا، مع اكتشاف ظاهرة التوسع المتسارع، وأسرع من سرعة التوسع العادية التي اعتبرت حتى الآن قياسية بعد مراقبة هروب المجرات، وهي الحقيقة العلمية التي أعلنها هبل Hubble. واليوم، فإن مفهوم الثابت الكوني، والمعروف أيضًا بطاقة الفراغ، يشير إلى وجود قوة تبدو في النماذج الكونية المعاصرة أنها هي التي تسبب التوسع المتسارع.

ومع ذلك، فإن الثابت الكوني، الذي قدرت قيمته بفضل استخدام الأقمار الصناعية الحديثة، يبدو أنه صار يمتلك القيمة الدقيقة اللازمة لجميع القوانين الفيزيائية الأخرى التي تنجم عنه. إن هذه القوانين نفسها تبدو أنها عدلت أو ضبطت (صقلت) حتى بنسبة الكسور العشرية للسماح بتشكيل النظام الشمسي، والأرض، و الحياة الأرضية، وفي نهاية المطاف الذكاء البشري.

هل يمكننا التوفيق بين الملاحظات والمشاهدات الرصدية الكونية، التي تثبت بيديهة الثابت الكوني، مع أبحاث نظرية الأوتار؟ إن علماء فيزياء الجسيمات الذين يقومون بتطوير هذه الأخيرة لا ييأسون، كما يقول ليونارد سسكيند، ويجدون فيها الملجأ الأخير لتفسير أن الكون هو ما هو عليه، أو لماذا لا يمكن للكون أن يكون عكس ما هو عليه أو لا يمكنه إلا أن يكون على ماهو عليه. ويتلخص أمل العلماء في أن نظرية الأوتار، أو تلك التي من المحتمل خلافتها (نظرية كل شيء الافتراضية...)، يمكنها وصف الطبيعة بطريقة فريدة من نوعها. وهذا يفسر كل القوانين الفيزيائية، بما في ذلك الثابت الكوني المفترض، بحيث لن تكون هناك دهشة بوجود تسوية متبادلة بينهما، والثانية تنجم من الأولى. وبالمثل، كما هو الحال بعد الاطلاع على نظريات الوراثة، نحن لا نستغرب أن نرى أن تنتقل الصفات الوراثية من الأجداد إلى الأبناء وفقًا لبعض قوانين محددة جدًا.

ولكن يجب أن نعود إلى الثابت الكوني. ويبدو هذا الأخير اليوم وكأنه يحظر أو يمنع الأمل في ظهور نظرية الفيزياء الأساسية أو الجوهرية التي تفسر التوسع المتسارع الذي لا يتناقص مع مرور الوقت، على عكس الافتراضات السابقة التي بموجبها سيعقب الانفجار الكبير Big Bang تقلص أو انكماش كبير Big Crunch؟ نحن نعلم اليوم، أننا نوسم بالفراغ حالة كمومية معقدة تسمى بالفراغ الكوانتي، تكون متقلبة، والتي يتم بداخلها باستمرار تكوين الجسيمات التي تبيد أو تفني بعضها البعض بمعدل من السرعة بمكان أنها تفلت من رصد أكثر أجهزة الكشف حساسية. إن مثل هذا الفراغ هو الذي سبق (إذا جاز لنا القول، لأن البعد الزماني لم يكن له وجود بعد في ذلك الحين) الانفجار الكبير، أو هو ما يمكن العثور عليه في قلب بعض الثقوب السوداء. مثل كل الطاقات، فإن طاقة الفراغ تنشيء حقل ثقالي طارد أو نابذ، يتنامى مع زيادة المسافة. ولكن يجب أن يكون هذا التنافر منخفضًا أو حتى قريبًا جدًا من اللاشيء nulle. وإلا، فإن تأثيراته سوف تقوم بتعطيل التوازن بين الجاذبية التي نلاحظها بين الأجرام السماوية. ولا يمكن للمجال أو الحقل الثقالي أن يكون محسوسًا إلا على المستويات الكونية.

ولكن لماذا، حسب هذه الفرضية، تنتج طاقة الفراغ، أو تسفر عن عمليات خلق وإبادة annihilations بين الجزيئات ذات الشحنات الإيجابية والسلبية، فهل تم ضبطها وتعديلها بدقة كافية لتكون صفرًا من الناحية العملية؟ وإن لم يكن الأمر كذلك، لما كنا هنا موجودون للحديث عنها. يمكن للمرء أن يطرح السؤال بشكل آخر: لماذا تؤدي تقلبات الطاقة إلى نتيجة قريبة من الصفر، ما عدا شيئًا قليلاً إلى النسبة العشرية e120 التي تجعلها إيجابية في نهاية المطاف، بحيث يمكن أن يخضع توسع الكون لعملية تسارع مستمر؟

في عام 1961، كان روبرت ديك Robert Dicke عالم الكونيات من جامعة برينستون (1916-1997) قد أشار إلى ما ذكرناه سابقًا: لماذا، من بين طائفة لا حصر لها من الحلول الممكنة، فإن عمر الكون هو ما نفترضه؟ فأجاب أنه إذا كان للكون عمر مختلف جدًا، أصغر أو أكبر، فإن الحياة البشرية لا يمكن أن تنشأ أو تكون قد اختفت بالفعل. ولهذا اقترح المبدأ الأنثروبي. ومن ثم امتدت الفرضية الأنثروبية في وقت لاحق إلى جميع المعايير الضرورية أو اللازمة لظهور الإنسان ووعيه. وقد أظهرت واينبرغ أن نفس الشيء ينطبق على الثابت الكوني. وأي قيمة لهذا الثابت، حتى لو اختلفت بنسبة المائة بالنسبة العشرية la centaine de décimales، ستجعل الحياة غير محتملة، إن لم يكن مستحيلة الظهور. فما الذي قدم للثابت الكوني في هذه الحالة القيمة التي هي عليها؟

لو استبعنا إصبع الله عن ذلك، فإننا نأتي في الإجابة عن هذا السؤال، إلى فرضية الأكوان المتعددة، التي اقترحتها بالأساس أندريه ليند André Linde من جامعة ستانفورد. في كون أكبر بكثير مما يمكن أن نستكشفه ونرصده وندرسه، قد تكون هناك مناطق أو أماكن يأخذ فيها الثابت الكوني قيم أخرى، مما يؤدي إلى عواقب أخرى تتعلق بظهور النجوم ومحتوياتها. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يكون عدد تلك الأماكن أو الفضاءات الممكنة لانهائي تقريبًا، حتى أن احتمال العثور من بينها على كون يتكيف أو يلائم البشر ليس معدومًا.

موقف تصالحي Une position conciliatrice

في هذه المعارضة الكامنة بين المنظرين لنظرية الأوتار ومجموعة علماء الكون الكلاسيكيين، يحاول ليونارد سسكيند ايجاد موقف تصالحي أو تسووي. لكنه لا يخفي ارتباكه. فقد شارك في تطوير نظرية الأوتار والتي، كما قلنا، لن تكون متسقة أو متوائمة مع الفرضية القائلة بأن الكون بمجمله يمكن أن يعتمد أو يتبنى أشكالاً ليست وحيدة أو فريدة من نوعها. لكن سسكيند درس أيضًا مع علماء الكون من زملائه، الملاحظات والمشاهدات الأخيرة بشأن توسع وتمدد الكون وفقًا للثابت الكوني، الذي افترض البعض أنه يمكن أن يكون الطاقة السوداء أو المعتمة énergie sombre. فهو مقتنع بأن عملية البحث عن نظرية يمكنها أن تشرح كيف ينبغي النظر في القوانين الفيزيائية بطريقة وحيدة وفريدة، تعتبر ضربًا من الوهم، ما لم تتخلى عن الثابت الكوني. وفي الواقع، فإن نظرية تضفي الشرعية على مبدأ الأنثروبي تتطلب توفر شرطين: أن يكون هناك عدد لانهائي من الحلول، وأن يكون هناك شرح لماذا يؤدي تطور الفضاء الطبيعي إلى كون يحتوي كل تلك الحلول solutions.

إن نظرية الأوتار بعيدة عن الاكتمال أو الكمال. لكنها لا تترك أي أمل في الوقت الحاضر في تقديم حل وحيد من شأنه أن يفسر كل شيء. فهي تحتوي على مئات من المتغيرات de variables تكون فيها الاختيارات لقيمة ولترتيبات أو تركيبات يمكن أن تؤدي إلى حلول لكون أو حلول كونية solutions (أو بالأحرى فراغات) مختلفة جدًا. ومن بين هذه الحلول، وبأعداد كبيرة حقًا، سيكون من غير المحتمل جدًا عدم وجود فضاء مزود بهذا النوع من الفراغ (أي بثابت الكوني) يكون ملائمًا لظهور الحياة، وبالتالي ظهور الإنسان، مما يعني تبرير مبدأ الأنثروبي – الإنسي. ولكن لا يمكننا تطوير الفرضية إلا إذا تمكن منظرو نظرية الأوتار من إنتاج الرياضيات اللازمة لوضع نموذج لتنوع الفضاءات المتوافقة مع النظرية.

ومع أهمية التوصل إلى هذه النتيجة، فإن فرضية الأكوان المتعددة يمكن أن تتخذ هذا الاتساق. ويمكن للمرء أن يفترض أن التقلبات الكمومية أو الكوانتية لطاقة الفراغ يمكن أن تولد أو تنتج في أي وقت من الزمان الكوني، أكوان – جيبية univers de poche أو كون طفل bébé-univers، وبعضها ينمو في اتساق معين وتتوفر فيها الظروف القابلة لأن تأوي أشكالاً معينة من الوجود الذكي أو الواعي، يمكننا أن نصفها بشكل من أشكال الحياة، أو شيء يمكن تشبيهه بالحياة. وكوننا هو واحد من تلك الأكوان، الذي نشأ بتنظيم يسمح بظهور الحياة والإنسان فيه.

من المؤكد القول بأن الرياضيات الملائمة واللازمة لنظرية الأوتار، لم يتم تطويرها حتى الآن، في موازاة ذلك، لا أحد يتصور بأي من التكنولوجيات المتوفرة حاليًا تتم مراقبة عدد سكان الأكوان – الفقاعات des populations de bulles d'univers عند ولادتها، ناهيك عن الأكوان البالغة أو الراشدة des univers adultes مثل كوننا. ولكن لا شيء يقول إنه لن يتم التغلب على الصعوبات ويمكن حلها جزئيًا في المستقبل، وسنرى ذلك في المستقبل المنظور.

على أي حال، يمكن أن نتفق على أن هذه الافتراضات حول الكون وقوانينه، جاءت من أناس جادين، منهم علماء في الفيزياء النظرية والتجريبية وعلماء الكونيات، والتي من شأنها أن تبدأ بزعزعة التصورات والمفاهيم التي باتت مقبولة إبان القسم الأكبر من القرن العشرين المنصرم. ويتوقع العديد من العلماء في السنوات المقبلة إحداث تغيير عميق جدًا في كيفية رؤيتنا للعالم، ورؤيتنا لأنفسنا. وفي هذا السياق يمكن أن سنتعرض مساهمة جون غريبان Gribbin John الكاتب العلمي الغزير العلم والإنتاج العلمي وهو صاحب كتابي: بحثًا عن البغ بانغ à la recherche du Big Bang وكتاب وحيدون في هذا الكون أو لماذا يكون كوكبنا فريداً من نوعه Alone in the universe : Why our Planet is Unique، الذي صدر سنة 2011، وهو أيضًا عالم فلك وفيزيائي مرموق. ولذلك من الضروري تحقيق المزيد من الاهتمام بكتاباته، حتى عندما يتناول القضايا التي تشكك في المعتقدات الأكثر شيوعًا، من بينها أن هذه الأكوان، القريبة والبعيدة، يمكن أن تضم أو تحتوي عددًا من الحضارات الكبرى المحتملة والتي يمكن أن تتمتع، بهذا القدر أو ذاك، بالذكاء، والتي يمكن أن تواصل معها. إن هذه الفرضية، التي بقيت لزمن طويل، وحتى في يومنا هذا، حقلاً من حقول الخيال العلمي، بدأت تتلقى حججًا وبراهين جديدة في السنوات القليلة الماضية مع ما تردد عن اكتشاف مئات الكواكب الخارجية exoplanètes من (خارج النظام الشمسي). يجعل التقدم السريع في علم الفلك والرصد والأقمار الصناعية من المؤمل في سنوات قليلة أنه سيكون من الممكن البدء بمراقبة مثل هذه الكواكب على نحو مباشر، بما في ذلك الكواكب، الأكثر إثارة للاهتمام وهي المعروفة بالكواكب الصخرية rocheuses والتي تقع في المنطقة المحيطة بنجمها والتي تعتبر صالحة لوجود الحياة فوقها. وربما سيكون هناك إمكانية في يتم الكشف عن هذه الكواكب أو رصد إشارة لحياة بيولوجية، مماثلة لتلك التي وجدت على الأرض قبل حوالي 3.5 مليار سنة.

وفيما يتعدى تلك المشاهدات التي لها ما يبررها تمامًا، هناك أموال كثيرة، تخصص لبرنامج ستي SETI بشأن التواصل مع الحياة الذكية خارج الأرض والبرامج المماثلة (البحث عن الذكاء خارج الأرض Search for Extra-Terrestrial Intelligence)، والاستماع إلى الرسائل القادمة من أي مكان خارج الأرض وحتى إرسال رسائل إلى تلك الكواكب المقصودة. البعض يعتبر هذا الجهد بمثابة الانحراف المذهل عن الروح العلمية، والاقتراب جدًا من الإيمان الديني. إلا إذا تصورنا أن جميع القوانين الفيزيائية المعروفة خاطئة أو ليست صحيحة، فالمسافات بين المجرات، بالنظر للتكنولوجيا الحالية القاصرة إن لم نقل العاجزة في مجال السفر في الفضاء خارج المنظومة الشمسية، وهي من الكبر والشساعة بمكان بحيث أنها تلغي أي أمل في التبادل والتواصل بين الحضارات الفضائية الأخرى والأرض مهما كانت فترة حياة الإنسان على الأرض. والمعروف أن أقرب نجم إلى الأرض هو بروكسيما سنتوري Proxima du Centaure (التي يعتقد باستحالة نشوء الحياة حولها)، وهي بعيدًا بما فيه الكفاية (4 سنوات ضوئية – أي أن نسافر بمركبة تطير بسرعة الضوء، أي 300000 كلم في الثانية الواحدة، لمدة أربع سنوات من السنوات الأرضية) مما يحد ولا يشجع على التواصل معها، ناهيك عن أي رحلة نحوها.

بقي أن نقول إن الحاجة للاعتقاد بأننا لسنا وحيدين في الكون المرئي، ولسنا وحدنا في مجرتنا درب التبانة la Voie lactée، متجذر في الأذهان البشرية وفي أذهان الكثير من العلماء تجعل هؤلاء الأخيرين يتخيلون أن التقنيات والتكنلوجيات المستقبلية وعلوم الغد ستضع البشرية حتمًا على الطريق الصحيح وتمكنها أن تغادر الأرض أو على الأقل أن تثبت وجود حضارات كونية أخرى متطورة بعيدة وقريبة منا.

أما بخصوص كتاب جون غريبين Gribbin John، المشار إليه أعلاه، فهو يحتوي على ما يكفي من المبررات والحجج لإظهار أن كل الحجج المتوافرة اليوم تؤكد بوضوح على أننا قد نكون وحيدين في هذا الكون وإن القول بخلاف ذلك لا يستند إلى أي أساس متين. ويؤيده في طرحه عالم الكونيات الفرنسي كريستيان مانيان Magnan Christian وقد نشر مؤخرًا كتابًا يستخدم نفس الحجة تحت عنوان نظرية الحديقة Le théorème du jardin.

إن منطق الكاتبين لا يتطابق تمامًا، ولكنهما عمومًا يستفيدان من حجج متقاربة، من النوع الاحتمالي. إن فرص العثور على حضارات كونية أو فضائية أخرى بأي مقياس من مقاييس الزمن الأرضي، هي متدنية جدًا برأي الكاتبين لذلك فمن الأفضل عدم التفكير بذلك. العالم الفرنسي يفكر على مستوى الكون المرئي برمته المكون من مئات المليارت من المجرات في حين يقتصر منطق غريبين على مجرتنا درب التبانة فحسب، التي يمكن أن تشمل مئات المليارات من النجوم أيضًا. ولكن في النهاية نجد أن النهجين متكاملان. والاثنين يعتقدان أن كثرة المجرات والنجوم سواء في المجرة أو في الكون المرئي كله لا يزيد من احتمالية عثور البشر على حضارات كونية ومخلوقات فضائية حية وذكية. فهي قد تكون موجودة ولكن الاتصال بهذا شبه مستحيل في الوقت الحاضر.

*** *** ***


 

horizontal rule

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود